صراع الصقور في زمن الحمائم

هل ينتهي الحصار على الملك؟

عمر المالكي

مرحلة جديدة بدأت منذ رحيل إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة في يناير الماضي، ووصول إدارة ديمقراطية تبشّر بالإنفتاح والحلول الدبلوماسية لمشكلات العالم، والشرق الأوسط في القلب منه. معسكر الاعتدال الذي نشأ لأهداف معلومة، يتفكك تدريجياً بعد أن اختفى الراعي الرسمي له، أي فريق بوش وديك تشيني.

صقر السياسة الخارجية بلا مرجعية

النشاط الدبلوماسي المحموم الذي قاده وزير الخارجية سعود الفيصل ورئيس مجلس الأمن الوطني بندر بن سلطان بعد عملية ترميم التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر، لم يحقق غاياته في تحطيم الخصوم، وتسجيل انتصارات ساحقة للذات أو للحلفاء سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو حتى في أفغانستان، دع عنك مخطط الحروب والإنقلابات ضد دول محددة مثل إيران وسوريا..

عادت السعودية إلى نقطة الصفر بعد أن أنفقت مليارات الدولارات في سبيل بناء تحالف دولي لضرب خصومها في منطقة الشرق الأوسط. وكان لابد أن تذعن للحقائق على الأرض، بعد قرار الكبار بإعادة تقييم سياساتهم في المنطقة، في ظل أزمة إقتصادية خانقة لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الكساد العظيم سنة 1929.

الصحوة الدبلوماسية السعودية التي بدأت بعد فترة شلل طويلة نسبياً، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحتى العام 2005، والذي شهد حدثين بارزين: اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الحليف القوي للسعودية في لبنان في فبراير 2005، ثم رحيل الملك فهد في أغسطس من العام، زخمت الماكينة الدبلوماسية السعودية بطاقة هائلة رغبة في الإنتقام. وسمح وصول ملك ضعيف الى العرش لفريق الدبلوماسية السعودية بالعمل بصورة مستقّلة، في غياب مرجعية قوية قادرة على ضبط إيقاع واتجاه السياسة الخارجية السعودية التي تقاسم إدارتها سعود الفيصل وبندر بن سلطان، في ظل ترهّل الفريق السياسي المحيط بالملك عبد الله، الذي بدا كما لو أنه هيئة إدارية تنظّم شؤون القصر وتتابع الملفات الحكومية بطريقة وظيفية محض.

بدا واضحاً من معطيات كثيرة أن السياسة الخارجية لم تكن واردة في أجندة الملك عبد الله، إلا ما يمليه عليه من معلومات الفريق المرتبط بوزير الخارجية أو الفريق السديري، ما جعل الملك يتبنى مواقف مؤسسة في أحياناً كثيرة على معلومات موجّهة أو مدسوسة، الأمر الذي أثار استغراب المراقبين لنهج إنقلابي قاده الملك دون وعي منه بخطورة تلك المواقف..

ونفس الشيء يقال عن الأطراف الخارجية من دول وزعامات سياسية والتي كانت تتابع بحذر إزدواجية المواقف الصادرة من المملكة السعودية، حيث كانوا يسمعون من وزير الخارجية سعود الفيصل كلاماً ويسمعون نقيضه من الملك عبد الله، خصوصاً حين تجري لقاءات مباشرة مع الأخير، ويتم استعراض قضية ما مورد اهتمام مشترك بكل أبعادها..

المشكلة لم تقف عند حد صنع أجواء ضاغطة تفرض على الملك تبني مواقف هي في الأصل خاصة بوزير الخارجية أو رئيس مجلس الأمن الوطني، ولكن ما هو أخطر أن الملك وجد نفسه أمام قائمة من خصوم قهريين فرضهم عليه سعود الفيصل وبندر بن سلطان. وحتى بعد أن يكتشف الملك بأن الخصومة القهرية حصلت نتيجة معلومات مضلّلة وصلت إليه من طريق أحدهما، لا يقطع أي منهما الأمل في معاودة استعمال ذات الأسلوب في توجيه الملك نحو مواقف مرسومة سلفاً..

ويلزم الاذعان إلى حقيقة أن فريق الصقور في العائلة المالكة نجح في فرض طوق محكم على الملك ما جعله يمتثل لإملاءات هذا الفريق، بدا ذلك واضحاً في الملف الأمني حيث نجح وزير الداخلية الأمير نايف في تهويل أخطار أمنية مصطنعة تهدد العرش ووحدة الدولة، بما في ذلك قصة محاولة اغتيال الملك من قبل أشخاص مرتبطين بالرئيس الليبي، التي كان الأمير نايف يهدف الى تخريب أي تقارب بين الرياض وطرابلس، وتصنيف مطالب التيار الإصلاحي في عامي 2003 ـ 2004 على أنها مؤامرة خارجية، وتهديد للوحدة الوطنية، وتمويل الجماعات الإرهابية..آثر الملك حينذاك الصمت رغم استقباله لرموز التيار الاصلاحي وقبوله المبدئي بكل ما جاء في عريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله). لقد صدّق الملك كذبة نايف بأن الاصلاحيين يتآمرون مع الخارج لاسقاط نظام الحكم، ويتلقون أوامرهم من عواصم غربية..

المسؤول عن المؤامرات الخارجية

قصص كثيرة يتناقلها الذين زاروا الملك وفوجئوا بأن ليس لديه علم بما يقوم به وزير الخارجية ورئيس مجلس الأمن الوطني، بل ما هو باعث على السخرية أن يجهل الملك في حالات معينة إتفاقات جرت داخل المملكة بين أطراف عربية متخاصمة، ليتبين لاحقاً أن وزير الخارجية أو بندر بن سلطان لم يطلعا الملك عليها. فكان يسأل متى جرت، وأين، وإلى وين وصلت؟

تحدّث اللبنانيون عن لقاء جمع ممثلين من قوى 14 آذار و8 آذار في الرياض قبل أكثر من سنتين وأشرف عليه وزير الخارجية سعود الفيصل، وكان على وشك أن ينتهي إلى تفاهم بين تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري، وحزب الله بزعامة حسن نصر الله، ولكن لم يكتب له النجاح. وفي يناير 2007 التقى نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم مع الملك عبد الله في جدة، وكانت المفاجأة، حين أطلع قاسم الملك عبد الله على حقيقة اللقاء الذي جرى في المملكة قبل شهور بين ممثلين عن تيار المستقبل وحزب الله. فسأله الملك متى كان هذا اللقاء، ومن الذي أشرف عليه؟ فتفاجأ الشيخ قاسم من سؤال الملك، وقال أن الأمير سعود الفيصل هو من قاد المبادرة، وكان نعتقد بأنها مبادرة من الملك. فتوجّه الأخير الى سعود الفيصل ليتأكد من صحة الخبر، فلم يجد مناصاً سوى الرد بالإيجاب. وهنا اضطر وفد حزب الله الى شرح وجهة نظره كاملة في المسألة اللبنانية للحيلولة دون وقوع الملك تحت تأثير وجهة نظر مفروضة عليه من سعود الفيصل وفريق 14 آذار.

اللافت أيضاً إصرار رئيس مجلس النواب اللبناني قبل إتفاق الدوحة العام الماضي، وتبنيه خيار التوافق بين (سين سين = السعودية وسورية) على أن يكون أي توافق بين الفرقاء اللبنانيين المتخاصمين تحت رعاية الملك عبد الله شخصياً، ما يشي بمعرفة بري بالأطراف المحيطة بالملك والتي تمارس دوراً ضاغطاً من شأنه تخريب أي مبادرة تنتهي إلى توافق اللبنانيين..

ولدى الإيرانيين تجربة خاصة مع الملك عبد الله والصقور المحيطة به، ولطالما عبّروا عنها في مناسبات عديدة. يتذكّر الإيرانيون أول محاولة قام بها الأمير نايف لتخريب زيارة الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني الى المملكة في ذي القعدة سنة 1418هـ، حيث سمع كلاماً نابياً ضد السيد الخميني من خطيب المسجد النبوي في صلاة الجمعة، واضطر رفسنجاني مغادرة المسجد، وأصدر ولي العهد حينذاك عبد الله قراراً بعزل إمام الحرم النبوي الشيخ الحذيفي. وقال رفسنجاني آنذاك بأن لدينا مجانين كما لديكم مجانين..وغالباً ما يشار بأصابع الإتهام الى وزير الداخلية في بيانات الطائفية التي كانت تصدر خلال مؤتمرات: الحوار الوطني، وحوار علماء المسلمين، والحوار بين الأديان..

أدرك الإيرانيون في مرحلة مبكرة بأن القنوات الموصلة الى الملك غير آمنة، بل قد تسهم في تخريب العلاقات بين البلدين، ولذلك فضّل المسؤولون الإيرانيون اللقاءات المباشرة مع الملك لإطلاعه على حقيق موقفهم دون دخالة من أطراف أخرى في العائلة المالكة، وهذا ما يظهر من الزيارات المتكررة التي قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمد نجاد الى الرياض، وكذلك وزير خارجيته، منوشهر متكي. في 13 مايو 2008 أعلن نجاد بأنه يفضّل (عدم) الرد على تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بشأن احتمال دعم إيران لما اعتبره (إنقلاباً) في لبنان. وقال نجاد (لن نرد احتراماً للملك عبد الله)، ووصف تصريح الفيصل بأنه (تحت تأثير الغضب)، وقال (لقد أدلى بوجهة نظره ولا أدري إلى أي حد تتطابق مع وجهة نظر الملك).

لم يكف سعود الفيصل عن اطلاق مثل تلك التصريحات الاستفزازية، بل جاءت في سياق تحرّكات دبلوماسية قام بها على عواصم أوروبية وأميركية لتعبئة أجواء الحرب على إيران، وأبلغت الأخيرة ذلك إلى الملك عبد الله في زيارة نجاد الأخيرة للرياض. وبصورة إجمالية، سعى المسؤولون الإيرانيون في إيصال رسالة واضحة الى الملك عبد الله بأن وزير خارجيته لا يلتزم بالتفاهمات التي توصلوا إليها، وأنه يعمل على خلافها، بل إنه بات يشكّل خطاً متعارضاً مع الخط الذي رسمه الملك عبد الله في إقامة علاقات مستقرة في عهد الشيخ رفسنجاني وتواصلت مع الرئيس السابق محمد خاتمي.

تهويل الخطر الأمني لإفشال مشروع الملك

في زيارة وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي الأخير الى الرياض كانت الرسالة الإيرانية واضحة الى القيادة السعودية بأن تصريحات سعود الفيصل التي أطلقها ضد إيران ومطالبته إيران بأنها إذا أرادت أن تخدم القضية الفلسطينية فلا بد من دخولها عبر بوابة الشرعية العربية الممثلة في السعودية ومصر، وهو أمر ترفضه القيادة الإيرانية كونه يأتي في سياق الإملاءات، ونقل متكي رسالة نجاد الى الملك عبد الله التي لم يكشف عن فحواها، ولكن مصادر سعودية مقرّبة من الملك عبد الله ذكرت بأن الرسالة تتعلق بانزعاجهم من التصريحات المتكرّرة لوزير الخارجية سعود الفيصل التي لا تخدم مصلحة البلدين، وتضمنّت الرسالة عتاباً له من أن تصريحات سعود الفيصل الأخيرة ضد إيران لا تسهم سوى في توتير العلاقات بين البلدين ولا تخدم المصالح المتبادلة بين الرياض وطهران.

يقال الشيء ذاته عن سوريا، بعد سنوات من القطيعة والتوّتر الذي بلغ حد التآمر على إسقاط نظام بشار الأسد بالتعاون مع أطراف لبنانية من فريق 14 آذار وأطراف أوروبية وأميركية. أدرك السوريون بعد عام من توتّر العلاقات بين دمشق والرياض بأن الملك عبد الله لم يعد هو صانع السياسة الخارجية السعودية، وأن تعدّد الأقطاب في العائلة المالكة يجعل من الصعب التوصّل الى تفاهم قابل للصمود طويلاً، ما لم ينجح أي من الطرفين السوري أو السعودي في إزالة العقبات التي تقف في طريق اللقاء المباشر بين القيادتين..لم يكتب لمحاولات القيادة السورية النجاح طيلة السنوات الماضية، بسبب العزلة الدولية، والدعم الأميركي للصقور في العائلة المالكة من أجل تكثيف الضغوط على سوريا لإرغامها على فك تحالفها الاستراتيجي مع ايران، أو مواجهة قدرها.

على أية حال، أخفق مخطط عزل سوريا فضلاً عن إسقاط النظام فيها، ونجح بشار الأسد في استعادة دور بلاده كلاعب أساسي في ملفات المنطقة. وبالرغم من الحربين الطاحنتين في لبنان 2006 وغزة 2009 اللتين أريد عبرهما توجيه ضربة غير مباشرة للدور السوري، إلا أن النتائج جاءت لصالح تعزيز هذا الدور. وكان خطاب الملك عبد الله في قمة الكويت الاقتصادية في يناير الماضي، بمثابة اعلان هزيمة ونهاية مرحلة القطيعة مع سوريا.

الجديد في العودة الباردة للعلاقات السعودية السورية ماقاله الرئيس السوري بشار الأسد خلال لقاء القمة الثلاثية التي جرت في الرياض في 11 مارس الماضي، حيث استغل الأسد لقائه بالملك عبد الله لإطلاعه على معلومات عن دور سعود الفيصل وإثارة نخوته العربية، حين أخبره بأن سعود الفيصل تآمر مع أطراف أجنبية لإسقاط نظام الحكم في بلاده، وإشاعة الفوضى عبر موظفين في سفارة المملكة في دمشق حيث كانت تصل أموال الى شخصيات وقيادات عسكرية للتخطيط لإنقلاب عسكري وأنه كان يوصل معلومات خاطئة عن سوريا الى قيادته، وأنه قام بالعمل مع شخصيات سياسية لبنانية وسورية معارضة للتحريض على سوريا وإيصال معلومات مضلّة الى القيادة السعودية. كما أطلع الأسد عبد الله على معلومات خطيرة لم يكن يتوقّع صدورها من أمير..لقد أصيب الملك بصدمة وهو يستمع الى الأسد، وشعر بالحرج بما يقوم به وزير خارجيته، الذي كان يرقب عبر قنواته الخاصة ما يقوله الأسد لملك عبد الله.

مصادر لبنانية ذكرت بأن سعود الفيصل الذي بقي رغم كل ذلك متمسّكاً بخياره الصدامي أبلغ فريق 14 آذار في لبنان بأن لا يتوقفوا طويلاً عند عودة العلاقات السورية ـ السعودية، وعليهم السير في خياراتهم كما لو أن شيئاً لم يتغيّر.

بات كثير من المراقبين المحليين والأجانب يؤمنون برواية أن الملك خاضع تحت تأثير تجاذبات داخل العائلة المالكة تفرض عليه مواقف غير نابعة من قناعة ذاتية بل بفعل توجيهات من القوى الفاعلة فيها. ولا يستبعد بعض طيبي النوايا أن أمراء مثل نايف وسعود الفيصل وبندر بن سلطان، يعملون على تخريب المشروع الإصلاحي للملك. ولكن يبقى السؤال الكبير قائماً: إذا كان الملك بهذا الضعف بحيث تجري المؤامرات من تحته دون وعي منه، هل يمكن له أن يقود مشروعاً بحجم دولة؟

الصفحة السابقة