بانوراما أكاذيب أبريل..

نايف يختزل فضائل الكون!

عبد الوهاب فقي

حتى اللحظة، لم تتوقف كتائب الأقلام الصحافية والأكاديمية (والأمنية) عن تسجيل حضور في محفل المديح لوزير الداخلية بعد تعيينه نائباً ثانياً لرئيس الوزراء..حتى النخبة التي يعوّل على قيادتها لتيار التغيير باتت هي الأخرى مرغمة على المشاركة في دورة النفاق السياسي الهابط، في مشهد مثير للاشمئزاز، حيث يكشف التصاهر الفاسد بين المثقف والسلطة عن نكبة الضمير، الذي يذوي أمام حملة مبايعة رخيصة على الاستبداد، ممثلاً في رمزه الأظهر، أي وزير الداخلية..

فلا يكاد يعثر القارىء والمراقب على دولة في العالم يمدح كتّابها وزارة الداخلية مالم يكن هؤلاء في الغالب يعيشون ضمن دولة مستبدّة شمولية تفرض عليهم تدبيج مقالات في مدح الوزير، أو أن شيئاً آخر يختفي وراء كومة المقالات التمجيدية الهابطة، أي ببساطة أن لوزارة الداخلية كتائب من الأقلام الجاهزة لتنظيم حفلات متنقلة في المناسبات..أو لا سمح الله ثمة لوثة حاقت بوعي المثقف لدينا.

مقالات الإطراء في نايف تشبه إلى حد كبير مجالس المديح التي يتسابق فيها الشعراء بتقديم ما تجود قرائحهم للحصول على صرّة أو صرر من الفضة والذهب..في دولة آل سعود، تصبح المهمة ليست مقتصرة على الشعراء، فقد طالت فئات عديدة، كتّاباً، وباحثين، وأكاديميين، وخبراء إقتصاديين، وحقوقيين، ومحامين، وعلاوة على ذلك زعماء عشائر..كل هؤلاء يخوضون ماراثون من نوع آخر، وتسجيل حضور سبقي في مجالس المديح لهذا الأمير أو ذاك، ممن يرجى منهم (شرهات) أو (مغلّف) يحوي بعض المال.

ما يبعث على السخرية، أن المادح والممدوح كلاهما يعلمان بأن الكذب هو حبل الوصل بينهما، فالمادح يكذب، والممدوح يدرك بأن مادحه كذّاب..فالدولة يحيط بها الكذب من كل جوانبها.

هل علمتم الآن لماذا استدعى آل سعود 500 ألف جندي أميركي في حرب الخليج الثانية للدفاع عن أراضي المملكة حيال احتمال وصول قوات صدام حسين الى قلب العاصمة الرياض؟!. لأن آل سعود يدركون بأنهم لا يعيشون إلا على الكذب المتبادل، ولكن حين تشتدّ المحن، ويصل الخطر إلى مقربة من الروح، يصبح شعار (ياروح مابعدك روح) هي الحكمة المتعالية، فلا ينفع ساعتئذ كذب ولا نفاق، إنها لحظة الصدق الوحيدة التي يعيشها كل الذين يمارسون الكذب على أصوله ا(لمالية طبعاً).

يقال لك بأنها كذبة بيضاء، أو بحسب التعبير (إني لا أكذب ولكني أتجمّل)، وطالما أن الجميع يمارس الكذب، فذلك من باب (لا تجتمع أمتي على ضلالة) أو أن (يد الله مع الجماعة)، وباقي الهرطقات التي يتغذى عليها المثقف المستلب..لقد أصبح للبلاط جيش من المثقفين، فلم يعد تصنيف مثقف البلاط حاسماً وكافياً للتمييز بينه وبين غيره من المثقفين، فقد غدا الأصل أن يكون المثقف بلاطياً..هل نتذكر الموقف الشرعي للمفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حين ردّ على توصيف العلماء بأنهم علماء بلاط، فقال كلنا علماء بلاط (ولا ضير في ذلك).

كذبة أبريل هذه المرة أخذت طابعاً جماعياً، ولابد أن الذين كتبوا عن وزير القمع نايف في الصحف السعودية المحلية قاطبة، يهمسون لبعضهم بأنهم حين يكيلون المديح في نايف إنما يشاركون في احتفالية (كذبة إبريل) رجاء مثوبة صفراء أو بيضاء بالعملة المحلية أو الأجنبية..وكثير منهم يرون بأن هذا النوع من الكذب مباح (لزوم الشغل)، والكذب حين يكون مفضوحاً لدى الكاذب والمكذوب عليه لا يعود كذباً، بل يصبح صدقاً ولكن في شكل آخر، إذ يفقد الكذب وظيفته..

تشابكت الأقلام في منازلة المدح الهابط، وتعالت أصوات المزايدات في سوق مفتوح على بضاعة كاسدة، يدرك الباعة قبل غيرهم بأنها ليست للبيع العام، بل هي تقدمة خاصة، يزجيها أصحابها إلى مشترٍ محدد سلفاً..وبئساً لبيعكم الذي بايعتم به، وتعساً لدولة تحيل من أهل العلم والفكر إلى مجرد مرتزقة.

ندرك أن بعض من كتب، إختار من الكلمات المواربة ليشق درب التراجع في يوم ما، وقد يبرر ما قاله في زمن تتوقف فيه ماكينة (الكاش)، وهناك من خاض سباقاً في مضمار النفاق السياسي، حتى أسبغ على نايف من الأوصاف ما لا يحتمله عقل، بل جاءت الأوصاف بخلاف الواقع..ويقال إذا كبرت الكذبة بات الأمر متردداً بين إحتمالين: إما أن قائلها أراد إبلاغ من يسمعها بعدم تصديقها وحسب المثل (إذا كبر الحجر لن يُرمَى)، أو أن قائلها أراد التزلّف بطريقة مبالغة رجاء الحصول على مغنم أكبر. وفي كل الأحوال ليست هناك نتيجة إيجابية.

حين نقرأ كومة المقالات التي مازالت تنهال على الصحف المحلية من كل مناطق المملكة، لا تكاد اللغة المكتوبة تختلف في محتوياتها، فهناك بعد واحد يحكم كل المقالات، بمعنى آخر لن يجد القارىء تقييماً أو مراجعة أو حتى رؤية مستقبلية لما يجب أن تكونه وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية..

نايف..رجل القمع الأول

فلق جحفل من الكتّاب والصحافيين رؤوسنا بمقولة قالها نايف عن المواطن بأنه رجل الأمن الأول، فردّدها هؤلاء وأعادوا إنتاجها وردّوها إليه هدية مزجاة بأنه هو دون سواه رجل الأمن الأول. وبحسب د. سلطان العنقري في جريدة (المدينة) في 20 مارس الماضي فإن نايف (رجال الأمن في المملكة بجميع فئاتهم وقطاعاتهم)، وهو رجل أمن على جميع المواطنين سنة وشيعة وغيرهم، وأنه (سوف يحاسب سنياً كان مذهبه أم شيعياً) كل الخارجين عن النظام! ولم يغفل العنقري في حفلة المدح الأمير سلطان، المعروف لدى كل مواطني هذا البلد بأنه سلطان الحرامية، الذي لم يتذكّره سوى عبر مكرماته ويقول (فمازلنا ككتاب مقصرين بحق صاحب الأيادي البيضاء دائما حيث أمر سموه مؤخرا بمكرمة لكل طالب سعودي يدرس في أمريكا بمبلغ ثلاثة آلاف دولار..)..إنه يفصح عن مهنة الكاتب الذي يرجو (مكرمات سموه) حسب قوله.

أما الاستاذ الدكتور بكر بن عمر العمري، فلخّص في مقالته (نايف بن عبد العزيز يضع النقاط على الحروف) في صحيفة (الندوة) في 23 مارس الماضي حب الوطن والإنتماء إليه في إدارة الأمن (رسالة الأمير نايف تقول لنا ان الأمم والشعوب القوية الحية هي التي تجعل إدارة الأمن وكفته هي الكفة الأرجح في ميزان حب الوطن والانتماء إليه). عسى أن يكون العارض خيراً، لأننا لم نقرأ أو نتعلم ذلك في أي من اختصاصات العلوم السياسية بكل تفريعاتها، أو أن للمديح قوانينه الخاصة.

وحدهم كتّاب (الشرق الأوسط) الذين استعصت عليهم الحكمة في أن تشحذ أقلامهم للمشاركة المتميّزة في حفل المديح الهابط، ولكن خيبة الأمل بتعيين الأمير سلمان نائباً لسلطان لم تعفهم من مسؤولية إعلامية وأدبية وسلطوية المشاركة في الحفل ذاك. لابد من الإشارة إلى أن رهط الصحيفة تأخر في الوصول الى الحفل، بانتظار أمر ما لا نعرفه، ولكن تبيّن من فحوى مقالاته أنه كان مرغماً على فعل المشاركة، وبخلاف ما قاله عبد الرحمن الراشد في مقالته (الأمير نايف والمسؤولية) في 29 مارس الماضي بأن خبر تعيين نايف نائباً ثانياً لم يكن مفاجئاً له، فإن المضمر ينبىء عن حقيقة أخرى، وهي أن المفاجأة كانت متوقّعة، رغم أن المفاجأة دائماً تأتي بخلاف كل التوقّعات. إكتفى الراشد بسرد إجمالي يكتنفه الملل كقوله (والكفاءة بالنسبة للأمير نايف لا تحتاج إلى تفصيل لمن يتابع الشأن السعودي). عبارة تجمل استبطاناً من نوع ما. ومن الغريب أن يكون إعلامي حداثوي وليبرالي عاش في دول ديمقراطية أن يختم مقالته بالقول (بالنسبة للذين ينظرون إلى الكيان السياسي السعودي فسيجدون في التعيين تأكيداً على الاستمرارية والقوة للنظام).

ولم يحد طارق الحميد في مقالته (تعيين الأمير نايف..إستمرار لترتيب البيت السعودي) في 29 مارس الماضي، عن ذات الخط، فقد جاءت فكرة المقالة باهتة إلى حد أنه كتب كلاماً يخلو حتى من الحماسة المفتعلة، واصطنع جدلاً سطحياً حول خلفية قرار تعيين نايف نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. يقول الحميد بأن القرار (يعد استكمالاً للقرارات السعودية الواضحة في النظام الأساسي للحكم الذي يحظى بوضوح وشفافية تمنح السعوديين استقراراً واطمئناناً لمستقبلهم). ولا ندري أي علاقة لذلك القرار بالوضوح والشفافية فضلاً عن الاستقرار والاطمئنان، فهل الأربع سنوات الماضية، وتعيين هيئة البيعة كانت لغواً، وحرماناً مثلاً؟. ولم ينس الحميد عزف سمفونية الأمن ببساطة لأن (القضايا العالمية اليوم هي أمنية) حسب قوله، وإذا كانت كذلك فالمنطق العليل يقود الى النتيجة التالية (الأمير نايف هو رجل الأمن الأول)، حسب قوله أيضاً، ولم لا يكون المنطق ذاته دليلاً على نتيجة ثالثة ورابعة من قبيل أن اختيار نايف هو استكمال لترتيب البيت السعودي من الداخل. وسيكون الحال نفسه، لو تم تعيين غيره في منصب النائب الثاني، فلغة المدح عمياء دائماً.

وتكرّ سبحة المديح في مجالس نايف السنيّة، وتستضيف المزيد من الشعراء الجدد، فقد بات الأمن وثيق الصلة بالثقافة السعودية حسب مقولة يحيى الأمير في مقالته (قراءة في السيرة الذاتية لسمو النائب الثاني) في الوطن بتاريخ 31 مارس الماضي (بات إسم نايف بن عبد العزيز مرتبطاً في الثقافة السعودية بالأمن). وزاد عليها بأن (الجانب الأمني والتاريخ الأمني الذي يمثله الأمير نايف في حياة السعوديين هو العلامة الأولى على موقعه في الحياة السعودية). أحدهم كتب في صحيفة (الشرق الأوسط) في 31 مارس الماضي تقريراً وصفه فيه نايف بأنه (قاهر الإرهاب) على غرار (قاهر الجلطات) التي لصقت بالملك فهد قبل أن يصرعه الموت البطىء بالتقسيط.

في صحيفة (اليوم) التي يندر أن تجد مساحة فيها للنقد، برع بعض أقلامها في المشاركة الفاعلة في حفل المديح في مجالس نايف السنيّة، فكتب فوزان الحمين في 31 مارس الماضي مقالاً بعنوان (الأمير نايف رجل الأمن والأمان)، إفتتحه بإشادة متأخرة عن حكمة الملك بتعيين نايف..حكمة تأخرت أربع سنوات تقريباً، وصمت خلالها الحمين وباقي المدّاحين. وبوحي من إحساس بضرورة تسجيل الحضور، وجد الحمين في تأكيد حالة الاصطفاف وراء نايف (فليهنأ المنصب به ويهنأ المواطنون بهذا التعيين..).

وعلى الطريق نفسها، سار علي مكي في جريدة (الوطن) في 31 مارس الماضي، حيث كتب مقالاً بعنوان (الأمير نايف..رجل المهمات الصعبة)، ولم يختلف من حيث المبتدأ والخبر عن سابقه في إطراء الحكمة الملكية المتأخرة في تعيين نايف نائباً ثانياً، وزاد على ذلك بأن قدّم دعوة مفتوحة لكل السكّان من كل أصقاع المملكة للمسيرة (رغم الحظر الرسمي) الشعبية العارمة (أناديهم كلهم وأقول لهم تعالوا جميعاً وبكامل أناقتنا وقيافتنا وهندامنا وعطرنا ننطلق في مسيرة واحدة باتجاه طريق الملك فهد "حي المعذر" حيث مقر وزارة الداخلية، نمشي الهوينى حتى نصل إلى حيث يجلس رجل الأمن الأول الأمير نايف بن عبدالعزيز نسلّم عليه ونطبعُ قُبلة شكر على جبينه الصارم في وجه الضلال والباطل..)، وتستمر القبلات الى بقية أفراد الوزارة..إنها براعة فريدة في التزلّف غير المسبوق الذي لم يعتدها إنسان هذه الأرض، فتنكيس الهامات، ومسح الجوخ، وتقبيل الأيدي والجباه لم تكن في يوم ما من عادات أهل هذه الأرض، ولكنه المال الذي يجرّ القيم بحبال رقيقة..ولكن مهلاً أيها الزميل العزيز، لابد لك من عودة للقوانين والتعليمات والتشريعات التي تحظر التجمّع وخصوصاً في الأماكن العامة، فأنت بدعوتك تحرّض على الفوضى وتهديد النظام والوحدة الوطنية..الخ

رجل الأمن والتطوير.. والقمع

وكتب عبد الله بن صالح العثيم في صحيفة (الرياض) مقالاً في 31 مارس الماضي بعنوان (أمير الأمن..عين الوطن الساهرة) بشّر فيها بنبأ وصول نايف الى العرش قبل رحيل الملك الحالي وولي عهده. وحين عجز صالح بن محمد الجاسر عن أن يجد من الصفات ما يكفي لتقديم وجبة مدح ساخنة، إختار أن يكون إسم نايف عنواناً لمقالته، وكتب في صحيفة (الاقتصادية) في 31 مارس الماضي عن نايف الإسم، كيما يكون محط فضائل الدنيا وشمائلها، ولكنه حين دخل في شرحها لم يجد غير الأمن ركيزة في توصيف الرجل فقد (عرف عنه الحزم ضد كل من يحاول المساس بأمن هذا البلد..)، وأراد أن يثبت نقيض الشيء الذي عناه حين نفي أن تكون وزارة الداخلية (جهاز قمع يتتبع خطوات الناس وما تلفظه أفواههم، كما هو الوضع في دول كثيرة)، وكان حريّ به إستذكار من استضافتهم سجون وزارة الداخلية من سجناء الرأي طيلة عهده الميمون والقمعي بامتياز، فهل يخبرنا ماذنب الإصلاحيين الذين التقطهم رجال المباحث من بيوتهم ومكاتبهم وسياراتهم، في 15مارس 2004، وما هي الجريمة الإرهابية التي اقترفها دعاة الملكية الدستورية الذين لا يزال أغلبهم يقبعون في معتقلات وزارة الداخلية..فماهو القمع إذاً؟ وهل يتذكر عشرات الأفراد الذين قضوا نحبهم بفتاوى (الفساد في الأرض)، والتي كانت تصدر بحسب الطلب من أمير القمع، نايف.

مهما بلغت طاقة المديح لدى أولئك الذين كتبوا لغاية في نفس نايف فلا تتجاوز القمع الذي يصفونه أمناً، فكتب الدكتور محمد بن عبد الرحمن المدني في صحيفة (اليوم) في 31 مارس الماضي مقالاً بعنوان (الأمير نايف رمز الأمن)، وكما الضحية التي تلتحم في طقوسية فاجرة مع جلادها، يشيد مثل هؤلاء بالأمن الذي نكّل بهم، ونصب حرّاساً على أقلامهم، حتى صارت الرقابة الذاتية تعمل بوحي من أجهزة وزارة الداخلية..فهل سأل أحدهم نفسه كيف تنشأ الرقابة الذاتية إن لم تكن قد أوجدها القمع، حتى صارت تعمل آلياً دون حاجة للاستعانة بصديق أو رقيب.

بل يكاد المرء أن يغوص عميقاً في نفوس أولئك الذين وجدوا أنفسهم مرغمين على الإطراء القبيح لتعيين نايف نائباً ثانياً، بأنهم وقعوا تحت وطأة مناخ رهابي، بحيث لو لم يسجّلوا حضوراً لبلغهم نبأ العتاب وربما التهديد المبطّن من القريبين قبل الأبعدين.

ولأن البعض لم يجد ما يذكره من فضائل نايف، فقام بسرد سيرته الأمنية، ليخلص منها بأن المنصب الجديد (غير مستغرب) كيف يكون ذلك؟ المهم أنه غير مستغرب وكفى، ليجعل من الخبرة الأمنية مفتاحاً لإدارة الدولة، بما يلمح إلى كونها دولة أمنية بامتياز، وطالما أنه (رجل الأمن الأول في المملكة)، فللمرء تخيّل صورة الدولة التي سيكون هو على رأسها في يوم ما، بل للمرء أن يتخيّل صورة الصحافة التي من المفترض أن تكون ضمير الشعب، تصبح أداة أمنية هي الأخرى.

نايف..الإنسان!

حاول البعض أن يكون (مختلفاً) عن غيره في حفلة المديح، فاختار من الصفات ما هو بدهي، كمقولة أن نايف إنسان، وهل قيل غير ذلك؟!، فهو بالتأكيد ينتمي إلى جنس البشر، وإن مجرد تأكيد الثابت ينطوي على حقيقة أن هناك من يشكّك في إنسانيته، سواء على المستوى التكويني أو المستوى الأخلاقي. الكاتب والأكاديمي علي سعد الموسى، اختار في مقالته بعنوان (نايف بن عبد العزيز: الإنسان) في الوطن بتاريخ 31 مارس أن ينوب عن نفسه والشعب بأسره بتقديم التهنئة لنايف بمنصبه الجديد. وقال ما قال في إنسانية الرجل (انتصر بنا نايف بن عبد العزيز لسبب بسيط: لأنه قادنا جميعاً بالإجماع فرداً فرداً، مواطناً مدنياً أو صاحب خوذة رسمية، مفكراً أو رجل أمن..). جمع المدح بالإعتذار رغم اختلافه معه في فكرة المناصحة ليخلص من ذلك إلى نتيجة محزنة (أن العلاقة بين الشعب والقيادة تقاس بترمومتر الأمن.. )، ويعتبر ذلك علامة إرشادية على كون نايف إنساناً، الذي يصبح بقدرة الأمن (قيمة بلد) حسب وصفه.

وزير الحج، فؤد بن عبد السلام الفارسي، كتب مقالاً مشابهاً في صحيفة (عكاظ) في 31 مارس الماضي بعنوان (رجل الأمن..والإنسانية)، وهي أيضاً عادة غير مألوفة في كل دول العالم أن يكتب وزيراً مديحاً في وزير آخر، ما لم يكن أحدهما أعلى رتبة من الآخر، بل حاكماً عليه. ولا أدري كيف أن نايف (أول من دعا إلى مقاومة الفكر المتطرف في آواخر التسعينيات الهجرية)، ولما يتوارى صدى تصريحاته قبل أيام من أن المملكة دولة سلفية، وأنه ضد الانتخاب، وضد تعيين المرأة في مجلس الشورى، وضد قيادته للسيارة، دع عنك دعمه لمشايخ الصحوة وتوظيفهم في حروبه في الداخل والخارج..واذا كانت كل تلك الفضائل في سموه لما لا يكون (أحد أركان هذه القيادة التي تليق بوطننا، ويليق بها وطننا). وبوركت أمة لا تلد إلا مثل هؤلاء وأولئك!

الحكمة في تعيين نايف!

مقالات كتبّة البلاط عن حكمة تعيين نايف نائباً ثانياً جاءت متأخرة كحكمة تعيينه، التي جاءت بعد سنوات من الصراع الخفي بين رؤوس السلطة، والتي على إثرها تشكّلت هيئة البيعة لتتولى هي إدارة (حكمة) التعيين بعد موت الملك. لم نسمع أو نقرأ عن تلك الحكمة قبل ذلك، ولم يطالب أحد بولادة الحكمة في وقت مبكّر بدلاً من أن تولد بعملية قيصرية. ولكن حتى الحكمة في هذا البلد لا يمكن إدراكها إلا بقرار رسمي، فمتى صدر مرسوم ملكي بتعيين فلان في هذا المنصب أو ذاك، فإن دماء الحكمة تسيل في أقلام كتبة البلاط.

نعذر اللواء الباش مهندس الدكتور علي بن فايز الجحني، عميد كلية التدريب في جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية حين وصف من وحي خلفيته الأمنية مقالاً في جريدة (البلاد) في 2 أبريل الجاري بعنوان (تعيين الأمير نايف نائبا ثانيا قرار حكيم)، التي حشد فيها من إنجازات وزارة الداخلية (ففتح نوافذ الابتعاث في وزارته داخلياً وخارجياً وأسس الكليات والاكاديميات ومدن التدريب والمعاهد والمراكز لدرجة انها لا تضاهي وزارته وزارة عربياً واقليمياً في انجازاتها..) ليكثّف النتيحة في عبارة (أليس للأمن وعلومه جامعة..)، وعلاوة على ذلك، له العذر بأن يعتبر (المشروع الأمني السعودي.. إنموذجا يحتذى..). فأي صناعة وتقدّم إقتصادي وعلمي يرتجى إن كان أقصى ما تنجزه الدولة لا يخرج عن نطاق الضبط الأمني؟

وتوقفنا في مقالة اللواء الباش مهندس الدكتور عند عبارة (لم تلجأ الأجهزة الأمنية في أي وقت من الأوقات الحرجة الى الاعتقالات العشوائية كما تفعل بعض الدول..). وليت شعري هل سمع بالعشرات الذين قضوا أعمارهم في حملة اعتقالات عشوائية، حتى تقلّب بعضهم في معتقلات نايف مع تناوب ملوك ثلاثة على العرش. هل سمع عن اعتقال الأحداث، أو المرضى، وكبار السن..وهل قرأ قصص المعتقلين الذين خرجوا من سجون نايف بعد سنوات ولم يعرفوا ماهي التهم الموجّهة إليهم، ولم يحصلوا على حق التمثيل القانوني، ولم يخضعوا لمحاكمات عادلة..ليقرأ اللواء تقارير المنظمات الحقوقية الدولية..بل ليقرأ تقرير الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان رغم تحفّظها عن ذكر الأسماء..

أما أن الملك (يعرف الرجال ويعرف قدراتهم وكفاءتهم وإخلاصهم حين عينه نائباً ثانياً..) فذاك مدح في مقام الذم، لأن المعرفة إن حصلت متأخرة فتلك مصيبة، خصوصاً وأن الشخص الذي عينه هو أخاه وليس شخصاً آخر، دع عنك المعرفة الطويلة الممتدة بعمر الصراع بين جناحين كبيرين..فقل غيرها أيها اللواء! ولأن الشمولية تقليد أمني، فقد اختار اللواء الحديث بإسم أبناء منطقة عسير خاصة والشعب السعودي عامة كي يزفّ التهاني لوزيره، ورأس العمل الذي ينتسب إليه.

وفي 2 أبريل أيضاً، كتب راشد الراشد في صحيفة (الرياض) مقالاً بعنوان (رجل الدولة، إنسان الحكمة..ّ!؟)، ولم ندرك المغزى من علامتي التعجّب والإستفهام، فلعله يضمر حكمة لم تصلنا بعض آياتها. اللافت في المقالة أنها افتتحت بكذبة كقوله ( الاحتفائية المبهرة والصادقة إلى حد الانتشاء التي استقبل بها الناس على امتداد جغرافيا الوطن تعيين الأمير نايف بن عبدالعزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء..)، فكيف لم يشعر بتلك الإحتفائية المبهرة والصادقة غير زمرة كتّاب البلاط، ولم نر أي شكل حتى لو كان باهتاً لتلك الاحتفائية فضلاً عن لونه المبهر. يبدو أن الأحكام العمومية سيطرت على المقالة بأكملها، فقد استوعبت الحكمة كل ذرة في هذا الكون حتى صارت مزايا نايف تشمل (القرار، والحكمة، والشجاعة ، والحرص على مستقبلات الوطن، وأمن الجغرافيا، والتاريخ، والإرث الحضاري والقومي، وأمن الإنسان..)، بل أكثر من ذلك فقد أصبح نايف بقدرة مرسوم ملكي (صانع تاريخ)، وصحيح ذلك، فقد صنع تاريخاً من القمع لا ينساه له التاريخ..أما حب الناس وفرحهم بمقدمه، وتعليقهم آمالاً عليه، فلا سبيل إلى ذلك كله إلا عبر إستفتاء شعبي حر ونزيه تحت رعاية الأمم المتحدة وكل المراقبين الدوليين وضمانات من كل المؤسسات الدولية والقوى الكبرى.. أما قولته (عرف الناس نايف بن عبد العزيز وعايشوه..) فذاك صحيح، ولكنه لم يتعرفوا لا على وعيه ولا فهمه ولا حكمته ولكنهم تعرّفوا على قمعه، وتلك كفيلة بأن تهبه الفضل كله!

وهناك ما يلفت في مقالة عبد الرحمن مغربي بعنوان (رسالة حب وتقدير لسمو الأمير نايف) التي نشرت في جريدة (المدينة) في 2 أبريل حيث جاءت متوازنة في توزيع عادل للمدح والتقويم، فقد بدأ، بحسب التقليد الاعلامي الرسمي، بالملك مدحاً ووصفه بأنه (رائد الإصلاح والتطوير) كالجمع بين الأختين في زواج واحد، فقد ظهرت لفظة (تطوير) بعد أن نبذ نايف لفظة (إصلاح)، ولكن لأن الأخيرة من المبتكرات المتأخرة للملك عبد الله، فأراد الكاتب أن يحقق التراضي والمساواة، ولأن العدالة في التوزيع تحقق وفرة في الانتاج، فإن الحكمة تقتضي أن يبدأ المدح بالتسلسل المراتبي، لتحط الحكمة رحلها عند (رجل الأمن الأول)، وليس في ذلك (زيف أو مزايدة)، فصوت نايف (يلامس كبد الحقيقة) حسب قوله. ولأن اللغة تعجز عن سرد فضائل نايف إكتفى بالإقرار بالعجز لأن (الخطيب لو طلب أن يعدد تلك الإنجازات.. لن يستطيع أن يقول أكثر من.. لك كل الحب والتقدير يا نايف ..)، وهنيئاً لنايف رجاله الذين ينبرون في الرخاء لتسديد فاتورة الشدّة.

مائدة الكذب!

الحكمة أيضاً ظهرت في مقالة عدنان كامل صلاح في صحيفة (المدينة) في 2 أبريل بعنوان (نايف بن عبد العزيز..كفاءة وحكمة) وقال بأن قرار التعيين (أثار ارتياحاً واسعاً في مختلف الأوساط)، بل زاد عليها بأن القرار يحقق (النقلة النوعية التي تستهدفها تطلعات خادم الحرمين لهذه البلاد، وتحقيق الانتقال من مرحلة إلى أخرى بسلاسة وسهولة..)، فأي انتقال نوعي ذاك المأمول من رجل يرفض التغيير ويناهضه ويعتقل كل من يبوح به..فقد جاء من بلد الديمقراطية بعقلية أشد إستبداداً، وكأنه سوّق نفسه للإدارة الأميركية فلما حظي بالقبول، إزداد شراسة ضد أي مطلب إصلاحي فرفض الانتخاب، وتمكين المرأة سياسياً، وعارض حتى ما ورد في محتويات تقرير الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان التي مازالت تعيش على أجهزة التنفّس الاصطناعي.

وهل فضيلة تلك التي يذكرها صلاح لنايف في رئاسته للجنة التي وضعت النظام الأساسي للحكم ونظامي مجلس الشورى والمناطق، وهل نكبة هذا البلد إلا هذه الأنظمة، أولم يسمع عن ردود الفعل عليها من مختلف الطيف السياسي والاجتماعي، ولو كان فيها خير يذكر لما تقدّم الإصلاحيون من كل المناطق بعرائض تطالب بالإصلاحات السياسية الجوهرية والفورية..وهل فضيلة تلك أيضاً التي يذكرها صلاح لنايف في رعاية وزير الداخلية للإعلام، متى توافقت أجهزة الأمن والإعلام، أليس من نكبات هذا البلد أن يتولى وزير الداخلية منصب رئيس المجلس الأعلى للإعلام، إلى جانب مجالس أخرى عديدة منها الحج والدفاع والقوى العاملة..

محمد عبد الواحد، الذي بلغ من العمر الصحافي عتيّاً، كتب في صحيفة (اليوم) مقالاً في 2 إبريل بعنوان (نـايف والأمان والإرث الذي لا ينسى)، ويذكّرنا بذلك الصحابي الذي عمّر طويلاً وطلب الخليفة الأموي أن يؤتى بكل صحابي عاش في زمن المصطفى (عليه الصلاة والسلام)، ليسمع منه حديثاً ويكافأه عليه، فجيء به محمولاً، وسأله إن كان يحفظ من الأحاديث النبوية شيئاً، فأبلغه بأنه لم يعد تسعفه الذاكرة، ولكنه مازال يتذكّر حديثاً جاء فيه (يشبّ ابن آدم وتشبّ معه خصلتان الحرص وطول الأمل)، فكافأه على ذلك، وكان مصداقاً للحديث النبوي. فالرجل بعد هذا العمر لم تفته لحظة تسجيل موقف (وعاودتني رغبتي القديمة لاقفز من الطاجن من جديد وأقف امام سيدي النائب الثاني ووزير الداخلية الامير نايف بن عبدالعزيز لأقول له بكل شرف الصحو والعرفان مبروك لهذا الوطن بك.. ) لعله يفوز بأكثر من (500) ريالاً كان قد حصل عليها من خبر نقله عن وزير الداخلية السابق والملك لاحقاً فهد بن عبد العزيز..

والحكمة لا تنقطع، ولكن التوقيت وحده الكاشف عن جدارتها ولحظة ظهورها، هكذا ما تخبر به مقالة نور الخاطر في جريدة (اليوم) في 2 أبريل بعنوان (الرجل المناسب في الوقت المناسب)، وإذا كنا ندرك من مقالات من سبقها بأنه الرجل المناسب، فماهو يا ترى الوقت المناسب؟ تجيب الخاطر بأن ذلك الوقت مناسب لأنه يدحر من (تسول له نفسه التفكير بأن ثمة ضعفاً ما قد حدث. ويعتقد أن الميدان خلا له ليجول ويصول ويطير ويصفر من غير رادع). فهل كان ذلك حقاً الهدف من وراء تعيين نايف نائباً ثانياً، أم أن ذلك التعيين أملته التسوية بين جناحي الملك عبد الله والسديريين الثلاثة وربما الإثنين (سلمان ونايف) مع قرب خروج سلطان من معادلة السلطة. ما يزرع الإبتسامة على الشفاه قول الخاطر بعد ذلك كله (لا أحب الخوض في غياهب السياسة ولا في حيثياتها القاسية والعارية من الحقيقة..)، وتذكّرنا بمقولة سعيد صالح في (مدرسة المشاغبين) حين يتحدث عن أحاديث النساء ومن بينهم أمه وهن يخضن في شؤون الآخرين، ليختمن مجالسهن بعبارة (مالناش دعوة.. دع الخلق للخالق).

واختار محمد عبد العزيز السماعيل في مقالته التي نشرتها صحيفة (اليوم) في 2 أبريل، عنواناً متوازناً نسبياً (الأمير نايف ساهراً على حماية الوطن) وإن كان الأجدى أن يستبدل السلطة بالوطن حتى يستقيم الدور، لأنه بحق كان ساهراً طيلة تلك السنوات حتى يفوز بالسلطة، وقد إقترب فعلاً منها ما لم يتدخّل عزرائيل عليه السلام فيخلط أوراق السلطة.

وشأن كل الحكم التي تأتي متأخرة ومتوقّعة أيضاً، في هذا البلد يتكافىء قرارا التعيين وعدم التعيين في ميزان الحكمة، ولأنه تعيّن إذاً فهو (قرار متوقع لأنه يتوافق مع السياسة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين في ترتيب هياكل الدولة..الخ الخ)..ولأن الكاتب (من المحظوظين الذين تتلمذوا وتخرجوا من مدرسة الأمير نايف الأمنية برتبة عقيد..) حسب قوله، فلابد أن تكون للفريضة الأمنية طقوسها الخاصة، حيث يجب أن يعقد مجلساً خاصاً في الإطراء والطلاء. وبالمناسبة، فإن كل الذين تحدّثوا عن المنجز الأمني للأمير نايف يقفون عند موضوعة (الحرب على الإرهاب)، أي المواجهة مع الجماعات المسلّحة المرتبطة بتنظيم القاعدة أو تنظيمات خرجت من عباءة الداخلية ثم عادت إليها كرهاً أو طوعاً.

وحين يكتب رجل أمن عن نايف فهو يتطلع إلى تعزيز دور أو ترقية، ولذلك يسرف في المبالغة في دور وزارة الداخلية والقائم عليها.. من لطائف المقالة أن الكاتب يتوقّع بعد التعيين أن يشهد مجلس الوزراء (عملية تطوير أكبر تتناسب والمرحلة المقبلة، حيث تتجه بلادنا الى آفاق جديدة من النهضة تحتاج لخبرات سمو الأمير نايف وقدراته الإدارية والفكرية التي أصبحت تلهم الآخرين..)..بصراحة شديدة، أن الفكرة بلغت من العمق ما يصعب فهم أبعادها، فما عسى نايف أن يضيف أكثر مما أضاف للإصلاح والتطوير في هذا البلد.. والمصيبة أن الكاتب ينوي تصدير نموذج نايف للخارج أيضاً (فهو ليس قياديا وطنيا وحسب، وإنما قيادي على الصعيدين الإقليمي والعالمي، لأن عطاءه أصبح نبراسا لمن حولنا وفي محيطنا يسترشدون به في حفظ الأمن والاستقرار وحماية الأوطان). اللهم اكفنا وساوس الإنسان، ونزعات الشيطان، ودسائس الجان..هل بلغ العشق بالعالم للإستبداد حتى يطمع في إحياء ما اندثر منه في أقاصي الأرض، فمثل نايف له مكان مميز في متاحف القرون الوسطى، حيث يخصص مكان فيه لزنزانات الأبرياء.

ـ نايف عظيم.. مصلح.. وطن..الخ

لم يكتف بعضهم بإسباغ صفة (الحكمة) بل زاد عليها صفات (ليس عليها جمارك)، وربما أراد أن يتنافس مع المتنافسين، كما نجد ذلك عندك عزيز بن بكر ردنه في صحيفة (الندوة) في 2 إبريل الذي كتب مقالاً بعنوان (نايف بن عبدالعزيز..رجل حكيم فذ محنك)، الذي أمضى وقتاً وصرف جهداً لاختيار من الألفاظ أعذبها، ومن الأوصاف أجملها حتى يكون إبريل بداية ربيع الحكمة، فالمواطن هو الشغل الشاغل للملك، وبالأمس ينثر بذور التجديد بـ (تمديد) خدمة نخبة من أصحاب السمو الملكي الأمراء، حسب قوله..كيف يجتمع التجديد مع التمديد.. وحدها مملكة الإصلاح والتطوير التي تنفرد بهذه الفضيلة النادرة..وبعد سلسلة من عمليات التجديد تتوّج بتجديد آخر (أبا المليك المفدى عبدالله بن عبدالعزيز الأب المحب لشعبه ووطنه أن تمر ظاهرة الاعجاب بالتجديد مروراً عادياً .. إلا ويضيف رعاه الله لهذا الشعب الشغوف المفاخر بمليكه.. ليعيش أبناؤه عصر التجديد ويجعل للوطن والمواطن مفاخرة كبيرة وعزة..)، ليخلص إلى قرار التعيين لرجل الأمن الأول..ليكون الأمر الملكي والوقت أسعد الأوقات للأسرة الملكية الكريمة والشعب السعودي النبيل..).

وألطف من كل ما تقرأ مقالة رئيس تحرير (الوطن) جمال خاشقجي في 31 مارس الماضي بعنوان (رجل التطوير في زمن الإصلاح) فمسك الحكمة من طرفيها، في عملية ترضية للملك ونائبه الثاني الجديد..ألفاظ تتراقص في مواقعها على مقالات لم تكتب إلا كي تتشكّل في هيئة وشايات حسنة، وكأن من يكتب يستحضر أمامه رد فعل شخصيتين فحسب: الملك ووزير الداخلية، لأنهما المعنيان بهكذا مقالات. أراد خاشقجي أن يجترح درباً غير الذي سلكّه أكثر المدّاحين، فثبّت فضيلة (رجل الأمن الأول) لنايف، ليبني عليها فضائل أخرى، لأن الأمن (جزء واحد من شخصية أكمل) حسب قوله، ليسرد قائمة من الفضائل التي يدرك وندرك معه بأنها للبيع في المزاد الإعلامي، ولذلك يصبح الموضوع الأمني قطب الرحي لكل مجالات الدولة من التنمية إلى الإعلام والفكر..لتكون النتيجة على النحو التالي: (عملية النهضة مضت خلال العقود الماضية يدفعها رجال، ويسهر على حمايتها رجل، وفي نفس الوقت كان يدفع بالإصلاح والتطوير في أجهزة الداخلية لتواكب التحولات العديدة في مختلف دوائر الدولة والمجتمع).

بل حتى سلفية نايف صارت مورد فخر مع أنه يتحدث عن سياق التطوير والمواكبة، وكيف يكون الاعتدال سلفياً؟!، لا نعلم ذلك ولكن هي هكذا الحكمة السعودية الفريدة..صورة وردية رسمها خاشقجي عن نايف، تبطن مأمولاً أكثر منها واقعاً، ولكن لضرورات المدح أحكام، وخصوصاً قصة (التدرّج) التي سمعها خاشقجي في هيئة نصيحة شخصية له، فقد انعكست في الانتخابات البلدية التي تعطّلت، وانعكست في رفضه انتخابات أعضاء مجلس الشورى، ومقته الشديد للإصلاح، وتراجع هامش حرية التعبير في الإعلام، حتى باتت الصحف المحلية مسرحاً لإقامة منتديات المديح لسموه!

يسير موكب الصحافيين قدماً ويختار الشعراء الجدد من قصائد الإطراء ما يثري.. فقد أصبح نايف بعد التعيين الرجل العظيم، حسب مقبول بن فرج الجهني في في صحيفة (البلاد) في 2 أبريل، الذي هنأ نفسه وجميع المواطين بـ (القرار الحكيم)، الذي حسب قوله (أثلج صدور الجميع) والذي أيضاً له (محبة في قلوب الجميع)..والجميع هنا اختزالية، لأن هناك قطاعات واسعة حتى لا نقول الأغلبية لا تحمل في قلبها ذرة حب له، ولم يثلج قرار التعيين صدروها.

ويبدو أن فايروس مصادرة الإرادة الجماعية قد تسلل الى كتبة البلاط، ومن شابه نايف فما ظلم.

وتتصاعد التوصيفات لتصل ذورتها عند الدكتور جاسم الياقوت الذي كتب مقالاً في 3 أبريل بعنوان (نايف الوطن والوطن نايف) وبهذا التوصيف يكون قد أغلق الباب بإحكام على كل من يريد المزايدة بأكثر من الوطن، إلا أن يخرجه من صفته البشرية وينزله في خانة الملائكة أو الأنبياء..ولهذا الشعب أن يقرأ معي العبارة التالية (مع إشراقة كل صباح يطالعنا رائد الاصلاح والتطوير خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ بقرارات وتوجيهات تصب في خدمة ديننا ووطننا الغالي وشعبنا الوفي). ولو صدق ذلك، وحسبنا منذ يوم نشر المقال الى تاريخ وصول عبد الله العرش تكون الجردة الحسابية العاجلة أن هناك أكثر من ألف وخمسمائة قراراً وتوجيهاً قد صدر من الملك لخدمة الدين والوطن، فهل دلّنا أحد متى صدرت وما هو مصيرها، لعلنا نتقي شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا! حتى نردد مع الياقوت (إفرح وافتخر ياوطن بنايف الوطن)..وليت الياقوت لم يهمس في خاتمة مقالته حين وصف نايف بأنه من السابقين لزمانهم، ما لم يكن من يصدر التصريحات الرجعية شخصية أخرى وهمية..

في الأخير، لابد من التذكير بأن ماكينة المديح مستمرة، ونحتاج إلى مواكبة مستمرة لمن يعمل وظيفياً أو معاشياً مع وزارة الداخلية أو من يندغم في حفلة رعوية تجمع بين التقاليد القبلية والسلطة الحديثة، أو من يشارك مرغماً حتى لا يطاله العقاب أو العتاب، ومن يسوقها في شكل كذبة أبريل..وفي كل الأحوال الكذبة مستمرة، ونترك للقارىء الكريم متابعة مسلسل إبريل في الصحف المحلية وهي تجود علينا مع إشراقة شمس كل يوم بتحفة نادرة من المديح الرخيص..وكأسك ياوطن.

الصفحة السابقة