ضد المرأة، والانتخابات، والإصلاح

نايف.. ملك الإستبداد

محمد قستي

تنطلق الرؤية السياسية لدى وزير الداخلية السعودي نايف بن عبد العزيز من منظور أمني، ما يجعل المجال العام خاضعاً تحت تأثير التفسيرات الأمنية لكل موقف، أو مطالب سياسية، أو دعوات إصلاحية..لا يؤمن بقوانين التغيير إلا ما كان منها مزموماً بحبال الأمن. ولذلك، تتساوى لديه الإتجاهات السياسية سلمياً كانت أم عنفية، معتدلة كانت أم متطرّفة، فالمقاييس واحدة في التقييم، ولا غرو أن تكون تهمة تهديد الوحدة الوطنية والإئتمار بأوامر من الخارج حكماً عاماً يشمل من ينادي بإصلاح نظام الحكم، أو يشهر السلاح، فالجميع في المنظور الأمني يشكّلون مصادر تهديد لوحدة الدولة، والخروج على ولاة الأمر، وإشاعة الفوضى والفتن والإفساد في الأرض..هكذا قيل عن الإصلاحيين بعد اعتقالهم في 15 مارس 2004، وهكذا قيل عن الجماعات التي أطلقت وزارة الداخلية عليهم مسمى (الفئات الضالة)..

ليس سوى وزير الداخلية من ثبّت هذه الرؤية، وفرضها على أركان النظام، فصارت سلوكاً وخطاباً يتبناه الملك ووزير الخارجية وباقي الأمراء..ولذلك، انطفأت مكائن الإصلاح، وبات الأمن وحده الصوت الذي يتردد في الفضاء الثقافي والسياسي والإعلامي، وصرنا نقرأ لكتّاب كانوا في يوم ما من بين الداعين للإصلاح، وإذا بهم صاروا يمجّدون دور وزارة الداخلية، ويكيلون الثناء للأمير نايف، بعد أن تمهّد الطريق لوصوله للعرش..

في الدورة الأخيرة للنشاط الإصلاحي الممتد من يناير 2003 وحتى اعتقال رموزه في 15 مارس 2004، كان وزير الداخلية الأمير نايف يرقب اللحظة المناسبة كيما ينقضّ على الإصلاحيين، وكان، حينذاك، مشغولاً بملف الجماعات المسلّحة التي هدّدت استقرار النظام ووحدة الدولة. وما إن بدا انكسار عناصر تنظيم القاعدة في المملكة وشيكاً، حتى بدأت لهجة القمع تنتعش مجدداً، حيث انطلقت تصريحات من أمراء كبار في العائلة المالكة مثل سعود الفيصل وتركي الفيصل ونايف بن عبد العزيز تنذر بعواقب وخيمة تنتظر الإصلاحيين، في وقت كمن فيه ولي العهد حينذاك والملك الحالي عبد الله، وترك لنايف أن يقوم بمهمة تسديد ضربة قاصمة للتيار الإصلاحي، باعتقال رموزه ومنعهم من السفر، وإرغامهم على كتابة تعهّدات خطيّة بعدم مزاولة أي نشاط إعلامي أو الظهور في قنوات فضائية خارجية..

وحده نايف الذي كان مسؤولاً عن تقويض أي فرص للإصلاح السياسي في هذا البلد، يوصف اليوم في الإعلام الرسمي بأنه رجل التطوير والاصلاح، وأنه يحظى بمحبة الجميع، ما يشير إلى أننا أمام مرحلة مسخ سياسي يشارك فيها الإعلامي والمثقف والسياسي ورجل الدين، وكل هؤلاء ينتمون إلى إقليم نجدي وبعض المنتفعين في الأقاليم الأخرى، بحيث يبدو المشهد كما لو أن المفاهيم القديمة الجديدة في الإصلاح السياسي قد تحوّلت إلى مايشبه خسوف ثقافي لا يتكرر إلا نادراً..

ليس غريباً، والحال هذه، أن تبدو الثقة المطرّزة بالسخرية والصرامة حاضرة في لغة الأمير نايف حين يتحدّث عن مسائل باتت محط إجماع سكان الداخل والخارج، مثل حقوق الإنسان، والمرأة، والانتخابات، وتوزيع الثروة، وصناعة القرار، والتناوب على العرش والصراع على السلطة. للأمير نايف، ومن ورائه المتطوّعون الذي يكتبون بلسان حاله، تفسيراته الخاصة التي تملى على الملأ، وتقدّم على أنها آخر ما أنتجه العقل البشري من أفكار إصلاحية، بل لم يخجل بعضهم في أن يخلع على الأمير نايف رداء العظماء والمصلحين والأنبياء والصالحين..ويكفي أن تغمر الصحافة المحلية عشرات المقالات عن نايف كيما نحدد على وجه التقريب درجة الاستبداد التي وصلت إليه هذه الدولة، حتى صار السباق نحو قلب الحقائق فضيلة وخيراً.

في ملف حقوق الإنسان الذي منحه تقرير الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان مساحة لتسجيل الانتهاكات التي طالت كثيراً من السجناء والمعتقلين الذين هدرت كرامتهم، وحرموا من حق التمثيل القانوني، والمحاكمات العلنية والنزيهة، وتعرّضهم للتعذيب على أيدي رجال المباحث، لا يتردد الأمير نايف ورجال أمنه من الكتّاب والإعلاميين في رسم صورة زاهرة عن أوضاع السجون، وقد يبلغ الفجور ببعضهم فيصوّروا حال السجون بأنها فنادق الخمس نجوم.. يقول نايف في مقابلة مع جريدة (الحياة) نشرت في الأول من إبريل (فتحنا السجون أمام منظمات حقوق الإنسان وزوار أجانب). صحيح أن (هيومان رايتس واتش) زارت عدداً من السجون السعودية في نوفمبر 2006، وزار بعدها وفد منظمة العفو الدولية، ولكن هل قرأ نايف ماذا قالت المنظّمتان بعد الزيارة، فضلاً عن السنوات اللاحقة، دع عنك تقارير حقوقية أخرى دولية مثل وزارة الخارجية الأميركية..

لنقرأ ما قالته المنظمة في تقريرها بعد زيارة السعودية والذي نشر في موقعها بتاريخ 16 فبراير 2007 (قالت هيومن رايتس ووتش اليوم أن الحكومة السعودية أبدت استعداداً جديداً لمناقشة حقوق الإنسان في البلاد من خلال دعوة هيومن رايتس ووتش لزيارة المملكة، إلا أن السلطات عمدت أيضاً إلى منع الوصول إلى المحاكمات وأماكن الاحتجاز).

كما أفردت المنظمة في 26 إبريل 2007 ملحقاً عن روايات السجناء الذين حجبت أسماءهم حفاظاً على سلامتهم. ومن بين ما ذكر السجين ج: (..ليس الجلد هو المشكلة، بل الضرب؛ فهم يضربوننا بالكابلات الكهربائية وبالأسلاك المعدنية، وعادةً ما يكون ذلك على الظهر، وعلى الوجه أحياناً، وذلك كلما اعتقدوا أننا ارتكبنا مخالفةً ما، أو كلما نظرنا إليهم بطريقةٍ لا تعجبهم). ما زالت المحاكم السعودية تفرض العقوبات الجسدية. ويقول السجين د: (إنهم يعلقوننا خارج الزنزانة ويضربوننا، وقد ضربوني مرة بعصا البلياردو، ولست أعرف من أين جاؤوا بها). ويقول السجين هـ (..يفتشوننا أحياناً ثم يضربوننا كالكلاب أو يرمون بنا في الحاجوز [زنزانة العقاب]، وهناك لا تكون لديك بطانيات؛ ومنذ حوالي أسبوعين قام مدير السجن شخصياً بضرب السجناء في الجناح 17).

ويقول السجين و: (قامت إدارة السجن بإخلاء ثلاث من الزنزانات ونقلت السجناء إلى مركزٍ آخر ضمن هذا المجمع... وفي شهر رمضان، كان الحرس يعاقبوننا عشوائياً بالضرب، وذلك وقت العصر؛ وهم لا يطرحون أسئلة عند وجود حالة فوضى أو شجار، فهم يختارون بعض الأشخاص ويضربونهم بالعصي الكهربائية ويجلدونهم بالكابلات). ويقول السجين ز:( في الشهر الماضي ثار جدلٌ بين سجين وأحد الحراس؛ فقام الحارس بإخراج الجميع من الجناح وضربهم؛ وفي الجناح 16 تلقى سجينٌ ضربةً على عينه سببت حدوث نزيف داخلي..).

ويضيف الملحق: وقد أبلغ كثيرٌ من السجناء هيومن رايتس ووتش بأن الحرس كثيراً ما يشاركون في عقوباتٍ جماعية، وقبل عدة أسابيع من زيارة هيومن رايتس ووتش، قيل إن سجيناً ضرب أحد الحراس، فأخرجوا جميع السجناء إلى الباحة وضربوهم بالهراوات وجلدوهم. وقد رصدت المنظمة عدداً من حالات الوفاة التي حصلت في السجون السعودية. كما نشرت المنظمة في نفس اليوم تسجيلات فيديو تؤكّد وجود التعذيب في السجون السعودية.

في ملف الإصلاحات السياسية، بدا الأمير نايف أكثر تشدّداً من ذي قبل في موضوع الانتخابات البرلمانية ومشاركة المرأة في مجلس الشورى المعيّن. وقال في مقابلة مع صحيفة (الجزيرة) في 25 مارس الماضي (لا حاجة في السعودية لانتخابات برلمانية كما ليس هناك حاجة لدخول النساء الى مجلس الشورى). بل وعلى خلاف كل التقاليد الديمقراطية في العالم التي تعتمد آلية الانتخابات لاختيار المرشّحين، يقول نايف بأن (تعيين أعضاء مجلس الشورى يضمن اختيار أفضل الشخصيات) مضيفاً بأن (اعتماد الانتخابات قد يسمح لمن ليست فيهم الكفاءة بدخول مجلس الشورى). وحين سئل عن إمكانية تعيين نساء في المجلس قال نايف (لا أرى حاجة لذلك).

وبصرف النظر عن الانقسام داخل العائلة المالكة حيال مسألة الإصلاحات، فإن تصريحات نايف حول الانتخابات والمرأة، وتأكيده على آلية التعيين، إضافة إلى تعطيله للإنتخابات البلدية بعد انتهاء الدورة الأولى، تجعل من الحديث عن كونه رجل التطوير في زمن الإصلاح، بحسب عنوان مقالة لرئيس تحرير صحيفة (الوطن) السعودية جمال خاشقجي مجرد نكتة سخيفة، إذ كيف يمكن لرجل بهكذا تصريحات تعود إلى القرون الوسطى أن يصبح رجل تطوير، فضلاً عن أن يكون في زمن الإصلاح.

لم يعد خافياً على المراقبين أن نايف يمثّل معارضاً عنيداً للإصلاحات، وليس ذلك جديداً ولا سراً، وهناك من يعتبره معيقاً لأي نوايا إصلاحية، بل إن بعض الذين يتطلعون الى أن يلعب الملك عبد الله دور إصلاحياً يوجّهون أصابع الإتهام لنايف بأنه المسؤول عن تعطيل مشروع الإصلاح الذي بدأه الملك، حتى أن منهم أشار الى معارضة نايف تعيين إمرأة في منصب نائب وزير، بالرغم من كونها نجدية وتقتصر على تعليم البنات. وللأمير نايف موقف معلن من قيادة المرأة للسيارة وقال بأن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية.

وما يقال عن حقوق الإنسان وملف الحقوق السياسية، يقال أيضاً عن الحرية التي خضعت لقيود صارمة سواء في مجال التعبير، أو الإجتماع، أو الاعتقاد..فالأمير نايف مثلاً وبخلاف ما يصوّره الدكتور حمد الماجد، عضو هيئة حقوق الإنسان، على التزامه بمبدأ احترام عقائد الطوائف الأخرى، بحسب توضيحات للماجد نشرتها صحيفة عكاظ في 26 مارس الماضي، فإن لا الدولة قامت على منهج من هذا القبيل منذ تأسيسها، بدليل أن فتاوى التكفير لكل طوائف المسلمين غير الوهابيين مثبّتة في كتب ومواقع العلماء من المؤسسة الرسمية، وبعضهم كان يدرّس في المدارس الرسمية، والآخر مثل الدرر السنيّة طبع على نفقة الأمير سلمان، حاكم الرياض، ولم نسمع في يوم ما أن تم تجريم أي من تلك الفتاوى التكفيرية، أو معاقبة الجهات التي تقف وراءها. وكان مثيراً للاستغرب أن يقول الماجد، وهو عضو في هيئة حقوق الإنسان الذي يفترض فيه أن يدافع عن الحقوق والحريات لا أن يبرر لمن ينتهكها، بأنه (يجب ألا يستغل مبدأ الحريات واختلاف وجهات النظر في إشعال فتن طائفية تضر بالمجتمع..). وحسب القاعدة المنطقية (ثبّت العرش ثم انقش)، فأين هو مبدأ الحريات واختلاف وجهات النظر، حتى يتم استغلاله، فيما يسمح لطائفة من أتباع المذهب الوهابي الرسمي بالعمل بحرية مطلقة تكفيراً وتبديعاً وتضليلاً لغالبية المسلمين في هذا البلد، ثم يصبح الحديث عن استغلال الحرية كما يزعم نايف.

على أية حال، بات من السهل التمييز بين يعتنق مبادىء حقوق الإنسان بصدق ويدافع عنها بصرف النظر عن هوية وانتماء وعقيدة الشخص الذي تقع عليه الإنتهاكات، وبين من دخل متطفّلاً على عالم حقوق الإٌنسان، أو نقل معه إرثه العقدي كيما يفرض معاييره الخاصة في مجال حقوق الإنسان، بل صار يتحدّث بنفس اللغة التي يستعملها وزير الداخلية مثل الحفاظ على النظام العام، واحترام العقيدة، ومصلحة الوطن فوق كل المصالح، ولا ندري فقد يأتي زمان يطالب فيه أعضاء هيئة حقوق الإٌنسان بالتزام الصمت من أجل ضمان لقمة عيشهم أو بقائهم على قيد الحياة، ويحسبون ذلك جزءً صميمياً من حقوق الإنسان!

لم يعرف عن الرجل سوى إيمانه بلغة التهويل والقوة، فيما كان العارفون في هذا الوطن يؤكّدون باستمرار على أن الحل الأمني ليس حاسماً ولا يقضي على المشكلة، بل هناك حاجة إلى معالجة شاملة فكرية وسياسية واقتصادية تسبق كل ذلك، حتى إذا ثبتت الأدلة صحة كلامهم صار هو رائد الفكرة وصانعها بل ومصدّرها للعالم.

هذا نايف الذي نعرفه، لم يكن في يوم ما لا إصلاحياً، ولا مطوّراً، بل إن كل الذين يكتبون عن صفات ليس فيها ذرة تطابق مع واقعه إنما يكشفون عن حقيقة مرّة، بأنهم قد وقعوا، بالقوة أو بالفعل، في حبائل المال..فقد عرفته الأغلبية الساحقة في هذا البلد بأنه وزير القمع، وإن كل مساحيق العالم لن تغيّر بشاعة الصورة التي رسمتها أجهزته القمعية، وإذا ما استمر الحال على ماهو عليه فلا ينتظر هذا البلد سوى الويل والثبور وعظائم الأمور.

الصفحة السابقة