دولة السماسرة

يقال بأن السمسار الناجح هو من يمتلك قدرة فريدة على (تصفيط) أي ترتيب الأكاذيب، وإخراجها في هيئة حقائق مغرية، ويكرّس كل طاقته الذهنية وخبرته في تسويقها..فما يتفق العالم كله على انعدامه في هذا البلد، يصبح بقدرة قادر موجوداً ومشهوداً بفعل الجهود الجبّارة التي يقوم بها سماسرة الدولة.

هناك كثر في الخارج، من سياسيين وإعلاميين عرب وقليل من الأجانب، من أبدوا استعدادهم للعب دور السمسرة في مقابل (صرّة) من ذهب أو فضة أو (الكاش موني)، ولذلك صكوّا من النعوت في الملوك والأمراء الكبار من آل سعود ما تنوء بحمله الجبال، وقالوا فيهم ما لم يقله مالك في الخمر..أسرّ صحافي عربي بحادثة كان بطلاً فيها قائلاً: كنت في زيارة لإحدى الدول الخليجية، لإجراء لقاء مع رأس الدولة، فبدأت أطرح عليه أسئلتي، ومن بينها سؤال عن قضية الوحدة العربية، وما هو رأيه فيها. فقال بلهجته الخليجية بنكهة صحراوية وبدوية خاصة (وليست سعودية حتى لا ينصرف الذهن): اللي يحبنا نحبه، واللي يريدنا حنا نريده، ومن هذا الكلام الذي (لا يودي ولا يجيب)..يقول هذا الصحافي: كان عليَّ أن أعيد تركيب المفردات ووضعها في مانشيت عريض على الصفحة الأولى، فجاءت كلمات ذلك الزعيم الخليجي بهذه الصورة التقريبية (درءً لأي جوجلة تفضي إلى كشف السر): الوحدة العربية قدرنا، وفلسطين عنوان وحدتنا ومصيرنا..

هذه الحادثة تمثّل الصورة المكثّفة لما يجري اليوم في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية (أي التي تتلقى أموالاً في مقابل السمسرة السياسية والإعلامية). بالأمس كانت العائلة المالكة تخوّل عرباً (والشاميين على وجه الخصوص) وأجانب للقيام بمهمة السمسرة، لغياب كفاءات محلية قادرة على لعب هذا الدور، ولكن اليوم صار الإختلاط (غير النوعي) بين سماسرة الأمس ونظرائهم في الفساد من سماسرة اليوم، قناة لانتقال الخبرة، فقد تعلّم الجيل الجديد من السماسرة المحليين الدرس جيداً، فلماذا يحتكر الخارج مهمة السمسرة الإعلامية، فيما الأقربون هم أولى بالمعروف (في اعتقادهم وليس بمقاييس شرائع السماء والمبادىء الأخلاقية لحضارة الإنسان).

وبالرغم من أن فروع السمسرة الخارجية مازالت فاعلة، ويمارس العاملون فيها عبر قنوات فضائية مرتبطة مالياً وإدارياً بمركز المال والسلطة دوراً سماسرياً راقياً، إلا أن دور سماسرة الداخل لم يعد هو الآخر خافياً، فقد اكتسب كثير منهم خبرة في صناعة الكذب بعد أن أتقن بعض المهارات والشروط الضرورية للنجاح، ونزع كثير منهم رداء الحياء، فلا يشعر وهو يمارس الكذب بأنه يقترف عملاً مشيناً، بل يراه من زاوية مختلفة على أنه الصدق، إن لم يكن أسمى تجليات الحقيقة الصادقة..!

يخوض السماسرة في الأعلام السعودي سباقاً مفتوحاً، لا مسافة ولا زمن له، وثمة لهاث تنبعث منه رائحة الذل، نحو الوصول الى حيث يستقر (المظروف، الظرف، المغلّف..إن هي إلا أسماء متعدّدة والمحتوى واحد)..بالأمس كان يشارك في السباق شرذمة قليون من السماسرة، ويشار إليهم بالبنان في بيروت والقاهرة وعمان ودمشق والكويت وعواصم أخرى في الشرق والغرب، وكان للملوك سماسرة خاصّون يجرون معهم لقاءات، ويثقون بقدرتهم في تصميم وإعداد وإخراج الكذب بحيث يأخذ شكل النص المقدّس، والشعار الذي يتردد أصداؤه بين أهل الأرض..

كان للملك فهد، على سبيل المثال، مجلة وجريدة خارج الحدود أثيرتين على قلبه، وتحظيان بثقته، وإذا ما أراد إبلاغ أمر أو الرد على أمر آخرين أوحى إلى سماسرة المجلة والجريدة فيأتون طائعين غير مكرهين ليسمعوا الحكم وهي تتدفق بين جوانبه، ثم يعودوا إلى ديارهم بطاناً..بالمناسبة تعلّم بعضهم السر، فإذا تأخر المدد عنهم أياماً، قاموا بنشر (خبر تذكيري)، وفي الغالب يكون سلبياً، حتى ينبّه إلى أن موعد (المقابل) قد حان.

اليوم، وفي ظل العولمة الإتصالية، إنهارت الحدود الإعلامية بين الداخل والخارج، وليس الملك ولا الأمراء الكبار بحاجة إلى الاتكال على سماسرة في الخارج، إلا بما يلجمهم عن الكلام، أو يبقيهم ضمن دائرة (ضغط الحاجة)، فقد تأهّل جيل من سماسرة الداخل ما يفوق في أكاذيبه أحياناً أكاذيب الشيطان نفسه، بل يرون بأنهم أحق بالكذب من غيرهم، على الأقل هم يكذبون من أجل مصلحة وطنهم ومليكهم..ألا ترون كيف يضاهي الكذب أكبر صدق حين يلجأ للاستعارة من منظومة القيم العليا ما يسوّغ وجوده.

ونحن إذ نتابع ما تكتبه الصحف المحلية سواء عن الملك أو عن نائبه الثاني الجديد وزير الداخلية، لا نكاد نصدّق ما نقرأ حيث يزدحم السماسرة بأقلامهم وأصواتهم من أجل تقديم آخر مبتكرات الإطراء الكاذب، للحد الذي يخبرك فحوى كلام بعضهم ما مفاده (إسمحوا لي أنا أكذب لأني أريد أعيش)، أو (لا تصدقوني فأنا أكذب طلباً للمال)..

تعلمون ما قيمة أن يشارك الصحافيون في حملة السمسرة السياسية والإعلامية لصالح هذا الأمير أو ذاك.. وتأكّدوا بأن أغلب من كتب في إطراء نايف يعلم بأنها الوسيلة الوحيدة للحصول على المال مدسوساً في ظروف مغلقة. وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن هناك من ينظر إليهم على أنهم أعمدة أو رؤوس السماسرة، وهم يديرون قنوات ومواقع إلكترونية وصحف، ويكتبون ويعبّئون ويضعون الكرامة تلو الكرامة في خدمة السلطان، فهؤلاء يحصدون نصيبهم الأوفر من المال، كل بحسب ما أوتي من دهاء ونفاق.

حين تتعثر بعناوين من قبيل أن الملك عبد الله يقرأ المستقبل (وهو يكاد يتقن قراءة سطر واحد على ورقة مكتوبة بعناية)، وأن حكمته تجعله مصدر استقرار في العالم، أو أنه أحد صنّاع الإزدهار في الاقتصادي العالمي (بناء على إطروحة الملك الواردة في مقالة كتبها بخط يده دون سواها ونشرتها مجلة فيرست المتخصّصة في 6 أبريل)، أو حسب أحدهم بأن أنظار العالم تتجه إلى الملك عبد الله، أو أن الأمير نايف عبقري وفذك وحكيم، وأن العالم يتطلع إليه كقائد عالمي..فاعلم يارعاك الله أنك تقرأ لجيل جديد من السماسرة، الذين يعيشون على مائدة المستبّدين.

الصفحة السابقة