بين مبادرتي عبد الله وعبد الله الثاني

القدس ليست عروس عروبتكم

خالد شبكشي

منذ أطلق الملك عبد الله (وكان ولياً للعهد حينذاك) مبادرته للسلام من بيروت في مارس 2002، وضع كثيرون من المحيط الى الخليج أيديهم على قلوبهم، ليس فقط لأن آل سعود لم يكونوا في يوم ما حريصين على القضية الفلسطينية، كما تكشف بوضوح سيرة الملك المؤسس وأبنائه من بعد، ولكن أيضاً لأن المبادرة تستهدف بيعاً جماعياً لقضية مقدّسة ناضل من أجلها الملايين من الشعبين العربي والإسلامي. ولنتذكر أن توقيت طرح المبادرة كان لإنقاذ صورة السعودية في الخارج بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تحوّلت فلسطين إلى مادة للمقايضة والمساومات السياسية، وكان ذلك إيذاناً ببداية مرحلة خطيرة يكون فيها العرب أمام معادلة جديدة نجد اليوم بعض تداعياتها الخطرة، منها ما يظهر في الاعلام السعودي بدرجة أساسية بتخفيض القضية الفلسطينية في قائمة القضايا العامة المتفق عليها بين العرب والمسلمين، بل هناك من الكتّاب من أخضعها إلى المقارنات المثيرة للجدل، رغبة في أقحامها في دورة المناقشات المفتوحة ما يؤدي إلى تحطيم الإجماع عليها، بعد نزع القداسة عنها.

على أية حال، فإن الصيغة الأولى من مبادرة عبد الله الأول لم يكتب لها النجاح لأن الجانب الاسرائيلي رفضها، وقال عنها آرئيل شارون، رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي، بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، ما لم يجر تعديل جوهري عليها، وخصوصاً فيما يرتبط بموضوعي عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ووضع القدس. وخلال سنوات، كان رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، المتواري عن الأنظار هذه الأيام، يجوب العواصم العربية والأوروبية، إلى جانب اللقاءات المكثّفة مع مسؤولين إسرائيليين وأميركيين بهدف تعديل المبادرة العربية كيما تكون مقبولة من الجانب الإسرائيلي.

إلتقطت القيادة الأردنية، ممثلة في الملك عبد الله الثاني الرفض الإسرائيلي كيما تكون محوراً لمبادرة سعودية مطوّرة. وفي اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجزائر في مارس 2005، للتمهيد للقمة العربية في نفس التاريخ، أطلق الأردن مقترحاً صادماً دعا فيه إلى إقامة علاقات رسمية بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي حتى قبل إقامة الدولة الفلسطينية. بل أكثر من ذلك، أن المقترح تضمن دعوة بعدم ربط التطبيع العربي مع الكيان إسرائيل بانسحاب الأخيرة بشكل كامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بل ربطه بدلاً من ذلك بالإنسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة في يوليو 2005.

وبالرغم من أن المقترح الأردني لم يجد طريقه الى القمة العربية في الجزائر في مارس 2005، بسبب إعتراض دول عربية كثيرة تعاملت ببرود شديد مع مقترح الأردن، باستثناء وزير خارجية مصر أحمد ابو الغيط الذي طلب بإعادة صياغة المقترح الأردني (حتى يكون مقبولاً من جميع الأطراف)، فإن المقترح لم يسحب بصورة نهائية من التداول، بل جرى تجميده مؤقتاً.

الرفض العربي حينذاك أطاح بحكومة أردنية، وحمّل الملك عبد الله الثاني فشل مقترحه لوزير خارجيته، ولكن المقترح بقي بانتظار الفرصة المناسبة لإعادة طرحه مجدداً. وفي 11 إبريل الماضي، عقد في العاصمة الأردنية، عمّان، إجتماع وزراء خارجية كل من مصر والاردن والسعودية وقطر وفلسطين ولبنان، بحضور الملك عبد الله الثاني، وأمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، فيما غاب وزير الخارجية السوري وليد المعلم. وكان الهدف من الإجتماع بلورة رؤية جديدة عن السلام في الشرق الأوسط وفق المقترح الأردني الذي تم تقديمه في الجزائر سنة 2005. وكان الملك عبد الله الثاني يهدف من وراء الإجتماع الحصول على غطاء عربي ولو جزئي قبل زيارته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتقديم المقترح الأردني للسلام باعتباره مقترحاً عربياً.

عبيدالله أم عبيد إسرائيل؟!

وفي 21 إبريل إلتقى الملك الأردني عبد الله الثاني بالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي قدّم له مقترحاً حول عملية السلام في الشرق الأوسط، يقوم على أساس التطبيع في مقابل السلام، وليس الأرض مقابل السلام، وهي نفس الرؤية التي تتبناها حكومة الليكود. وفي 4 مايو الجاري ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلمته أمام مؤتمر إيباك وقال بأن هناك مقاربة جديدة لدى حكومته حيال عملية السلام.. ولم يتحدث عن مبدأ الدولتين، وبطبيعة الحال لم يشر إلى قضية اللاجئين، وإنما شدّد على رؤية الليكود التي تقوم على التمسّك بيهودية الأرض في مقابل رؤية العمل التي تتمسك بيهودية الشعب، ولذلك فإن ما طرحه الملك الأردني وتبنته السعودية ومصر يتوافق تماماً مع الرؤية الليكودية، أي القبول بالتطبيع مقابل السلام.

المعلم الذي زار عمّان في 4 مايو نقل رسالة شفهية إلى الملك الأردن تتناول الجهود العربية في عملية السلام. ونقلت مصادر عربية شبه رسمية بأن المعلم أبلغ القيادة الأردنية تحفظات سورية على مبادرة 2005، وأنها لن تشارك في أية مباحثات تستهدف المساس بحقوقها في الجولان أو قضية القدس وعودة اللاجئين، وأن ما رفضه أغلب القادة العرب في قمة الجزائر سنة 2005، لن يكون تغيّر الحكومة الاسرائيلية ذريعة للقبول به.

وفي 7 مايو الماضي عاد المعلم ليؤكّد في مؤتمر صحفي عقده مع نظيريه الفنلندي والأستوني، بأنه لا يوجد أي مبرر ولا يمكن تعديل المبادرة العربية التي أقرّتها قمة بيروت العربية عام 2002، والتي استندت إلى قرارات مجلس الأمن ومرجعية مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ القرار 194 لعودة اللاجئين الفلسطينيين.

حيال الرفض السوري للمقترح الأردني والرؤية الليكودية، تكثّفت الزيارات الأوروبية والأميركية الى دمشق في محاولة لإقناع الأخيرة بالقبول بمبدأ التفاوض مع الكيان الإسرائيلي إنطلاقاً من فكرة جديدة حول السلام. فقد زار سورية في الشهرين الأخيرين عدد من كبار المسؤولين من مختلف دول الاتحاد الاوروبي من بينهم نائب رئيس الوزراء وزير الشؤون الخارجية والهجرة في لوكسمبورغ ووزراء خارجية ايطاليا واسبانيا وايرلندا وبريطانيا ونائب رئيس الوزراء وزير الشؤون الخارجية المالطي والمنسق الاعلى للسياسة الخارجية والامن في الاتحاد الاوروبي ومفوضة الشؤون الخارجية وسياسة الجوار في الاتحاد. ‏

المسؤولون الأميركيون الذين ترددوا على دمشق خلال الشهرين الفائتين، وخصوصاً وكيل وزير الخارجية الأميركي فيلتمان حملوا رسالة واحدة بصيغ عدة: إقبلوا بتعديل المبادرة العربية وسنعيد العلاقات معكم، مع حوافز، ورفع إسم سوريا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب أو حلف الأشرار..ولكن حتى الآن، لم تثمر الزيارات تلك عن نتيجة حاسمة، في ظل رفض لمبادرة سلام تتجاوز الحقوق المشروعة للدول العربية التي تحتّل اسرائيل أجزاء من أراضيها، وكذلك رفض قوى الممانعة في فلسطين ولبنان لأي مبادرة تتجاوز موضوع الأرض، وعودة اللاجئين، والقدس.

الموقف السوري المعلن أحدث ردود فعل سلبية على الساحة العربية، الأمر الذي دفع الملك عبد الله الأردني إلى نفى أن يكون هناك تنازل عن الحقوق العربية المشروعة، وكذلك فعل رئيس الجامعة العربية عمرو موسى، ولكن المؤشرات جميعاً تفيد بأن هناك ضغوطات مكثّفة على سوريا بدرجة أساسية للقبول بتعديلات على المبادرة العربية..

ويبدو أن الاردن والسعودية ومصر ستخوض مرحلة جديدة من التجاذب في الداخل العربي في محاولة لكسر الموقف الممانع في المنطقة، مصحوباً بضغوطات أوروبية وأميركية. ولذلك لم يكن مفاجئاً هذا التحوّل الدراماتيكي في الموقف الأميركي من سورية، بعد صدور قرار أوباما في 9 مايو بتمديد العقوبات على سوريا بذريعة كونها مازلت تشكل تهديداً للمصالح الأميركية، والذي لم يكن سوى محاولة أخرى للضغط على دمشق من أجل الموافقة على الصيغة الأردنية للسلام والقبول بإلغاء حق العودة والتخلي عن القدس.

في السياق نفسه أيضاً، جاء قرار حكومة نتنياهو وعلى لسان متطرفها وزير الخارجية ليبرلمان في 9 مايو بأن الحكومة الإسرائيلية لن تعيد الجولان لسوريا، وهذا من شأنه تعطيل الدور التركي الذي عمل في فترات سابقة من أجل رعاية مفاوضات سورية إسرائيلية.

المسؤولون السوريون الذين خرجوا من امتحان عسير في فترة إدارة المحافظين الجدد السابقة، بما تخلله من حربين كبريين على لبنان وفلسطين، إضافة إلى الحصار السياسي الخانق الذي فرضته إدارة بوش، بدعم من دول الاعتدال العربي، يشعرون باطمئنان أكبر إلى أن نجاحهم في مواجهة تحديات كبيرة من هذا القبيل يجعلهم أقدر على خوض امتحانات أخرى، بالتمسّك بمواقفهم السابقة، وخصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بموضوعات سيادية مثل الجولان، والقدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين.

وفيما يبدو، أن قادة الاعتدال ليسوا على قناعة مؤكّدة بإمكانية تسويق مبادرة جديدة تقتصر على التطبيع مقابل السلام دون ارتدادات حادة من الشارع العربي والاسلامي. ولهذا السبب، يحاول بعضهم استرضاء القيادة السورية كيما تخفف من انتقاداتها للمقترح الأردني بصورة علنية، لأن ذلك سيتسبب في إفشال الجهود الأردنية التي تحظى بغطاء سعودي مصري.

لا يبدو أن رسالة الرئيس بشار الأسد الى الملك الأردني عبد الله الثاني في وقت سابق قد حسمت أي مناقشة مستقبلية في موضوع السلام، ولذلك قام في 10 مايو بزيارة دمشق في محاولة ثانية لشرح وجهة النظر الأردنية في موضوع مقترح السلام الجديد، وإقناع القيادة السورية بمقترحات التعديل على المبادرة العربية قبل أن يتولى مهمة تسويقها وزراء دول الاعتدال مصر والسعودية والاردن. لم يسمع الملك الأردني من الجانب السوري ما يصلح أساساً لقيادة مبادرة عربية تتجاوز حقوق سوريا في الجولان، وحقوق العرب والفلسطينيين..في اليوم التالي، أي العاشر من مايو، أطلق الملك الأردني تصريحاً مشتركاً مع الرئيس السوري تمسّك فيه بمبدأ الأرض مقابل السلام، وحذّر من ان إدارة أوباما ما لم تلتقط هذه الفرصة للسلام فإن حرباً أخرى قد تندلع في المنطقة. ولكن في الوقت نفسه، بشّر الملك الأردني الكيان الإسرائيلي بـ (تطبيع إسلامي)، في حال قبل بمبادرة السلام العربية، وهو ذات الوعد الذي اطلقه الملك السعودي عبد الله سابقاً.

ما يلفت الإنتباه حقاً أن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، الذي كان حاضراً في اجتماع عمان في إبريل الماضي قبل سفر الملك الأردني الى واشنطن، كان قد أبدى موافقته على مقترح السلام الإردني، على أساس أن المقترح لا يمسّ بأصل المبادرة العربية، ولكنّه يشكّل مرحلة انتقالية لحين تهيئة الظروف المناسبة لتطبيقها. ولذلك نفى عمرو موسى أن تكون هناك تعديلات على المبادرة، ولكنه يتذّكر جيداً ما جرى في قمة الرياض في مارس 2007، حيث أن تخفيضاً متعمداً لملفي اللاجئين والقدس قد جرى، وأوكلت للجنة عربية من الدول التي لها علاقات مع الدولة الصهيونية من أجل متابعة المشاورات مع الأخيرة، فيما يرتبط بتطبيق المبادرة.

اليوم، نحن أمام منحى خطير يدفع به قادة دول الاعتدال وإذا ما نجحوا في إقناع دول عربية أخرى بالمقترح الأردني فإن ذلك يعني تحقيق مطالب التيارات الاسرائيلية كافة، أي القبول بيهودية الأرض الفلسطينية ويهودية الدولة الإسرائيلية، وليس في ذلك فقط رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، بل وتهجير الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من أراضي 48.

إننا، بكلمات أخرى، ندخل مرحلة إنحطاط سياسي بفعل مزايدات المعتدلين منذ قمة بيروت 2002، وما يزيد الأمر سوءً أن المقترح الأردني الذي يتضمن تنازلاً شاملاً عن كل الحقوق العربية والفلسطينية يتم طرحه في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة، يسخر قادتها من العرب بمن فيهم قادة الاعتدال، كما فعل ليبرمان بالرئيس المصري حسني مبارك، بمعنى آخر إنها مبادرة ذليلة، رغم أن ليس هناك ما يدعو لذلك كله، ولكن حسبنا قول الشاعر (من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرح بميت إيلام).

الصفحة السابقة