السعودية والانتخابات في لبنان

مال كثير ويأس كبير!

محمد فلالي

نقلت مصادر لبنانية من فريقي الموالاة والمعارضة أن السعودية خفّفت حجم تمويلها لقوى الموالاة لاقتناعها بأنها ستخسر الإنتخابات ولا تريد أن تؤسس لأزمة علاقات مع لبنان الذي ستحكمه القوى المعارضة المتحالفة مع سوريا..

ويقال بأن الأمير مقرن بن عبد العزيز المقرّب من الملك عبد الله قد أبلغ قادة في فريق الموالاة بأن المملكة ليست على استعداد لخسارة دولتين دفعة واحدة وهما سوريا ولبنان، وأن التجربة السابقة بما اشتملت عليه من إخفاقات في سبيل كسر سوريا وقوى المعارضة في لبنان لا يمكن تكرارها. ونقلت مصادر لبنانية مقرّبة من الموالاة بأن رسالة وصلت إلى قادة في الفريق بأن الأقطاب السعوديين الفاعلين في المرحلة الماضية بدأوا بالتواري تدريجاً مثل سعود الفيصل وبندر بن سلطان، لصالح فريق جديد مقرّب من الملك يقوده رئيس الاستخبارات السعودية الأمير مقرن بن عبد العزيز، الذي زار سوريا في الشهور القليلة الماضية ولأكثر من مرة من أجل إعادة العلاقات إلى وضعها السابق.

التزم الأمير سعود الفيصل، الذي يواجه انتقادات واسعة داخل العائلة المالكة وكذلك أطراف عربية، الصمت في ظل تصاعد حمى الحملات الانتخابية بين فريقي المعارضة والموالاة. ونقلت مصادر لبنانية بأن (دبلوماسية الهاتف) بين سعود الفيصل وبندر وسلطان من جهة وقادة فريق الموالاة، وخصوصاً تيار المستقبل برئاسة الشيخ سعد الحريري قد تراجعت، بعد أن تبدّت مؤشرات فشل سياسة المحاور التي قادها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ونائبه ديك تشيني.

إدارة أوباما التي قررت الانفتاح على سوريا، وتطبيق بعض بنود خطة بيكر ـ هاملتون الداعية للانفتاح على دول مثل سوريا وإيران، تسعى لإزالة آثار المرحلة الماضية، عن طريق إرسال الموفدين الى دمشق، ودعوة إيران للمشاركة في مؤتمرات حول أفغانستان والعراق بل وتقديم تنازلات لها كمقدمة لتسوية الأزمة العالقة بين إيران والغرب عموماً، وفي الوقت نفسه ترفض التعاطي بخفّة مع الشأن السياسي اللبناني.

وفيما يبدو، فإن الخسائر التي تكبّدتها السعودية في السنوات الماضية بفعل الإصرار على السير في طريق التوتير مع سوريا وايران وقوى الممانعة في المنطقة قد دفعت بها الى التخلي عن دورها كرأس حربة، وإعطاء أطراف أخرى مثل مصر والاردن زمام المبادرة، حيث تتولى الحكومة المصرية بأقطابها الأمنيين والسياسيين على السواء لقيادة حملة مضايقات على حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان، فيما تضطلع القيادة الأردنية بالترويج لمبادرة سلام تسقط منها حق العودة لللاجئين الفلسطينيين والتخلي عن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة.

وفي الشأن اللبناني، يراهن فريق الموالاة على أن تلعب مصر دوراً في الحملة الدعائية ضد المقاومة اللبنانية لناحية دعم الموقف الانتخابي للموالاة، وإن كان الأثر المرجو من تلك الحملة لم يكن كما أمّله المسؤولون المصريون وعرب الاعتدال عموماً، خصوصاً وأن القضية التي يراد توظيفها في الحملة الدعائية ضد حزب الله هي القضية الفلسطينية، فيما لا تزال صور الحصار المضروب على قطاع غزة حيّة، بل تعاد كلما طرحت منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني في العالم قضايا العدوان الاسرائيلي واستعمال الاسلحة المحرمة، وسياسة التجويع والحصار المفروض على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة. الأمر الآخر، أن اكتشاف الشبكات الأمنية الاسرائيلية في لبنان خفّف إلى حد كبير من وطأة أي حملة دعائية ضد حزب الله.

بطبيعة الحال، فإن السعودية لن تكون فرحة بفشل حليفها في الموالاة في الانتخابات المقبلة، وهي التي رفعت قميص الحريري لسنوات من أجل أن تبقي على نفوذها في لبنان بعد أن خرجت القوات السورية منه.

بعد 7 مايو من العام الماضي إكتشفت السعودية أنها غير قادرة على البقاء طويلاً هناك، وأن نفوذها لا يستند على مصادر قوة حقيقية، بل أن اتفاق الدوحة الذي تم في مايو من العام الماضي قد عنى فيما عنى أن السعودية لم تعد اللاعب الأكبر في لبنان، بدليل أن قطر وليست السعودية هي من تولت رعاية الإتفاق، وإن بدت الدوحة متواضعة في إخراج دورها في الإتفاق.

سلسلة الخسائر التي تكبّدتها السعودية في لبنان تواصلت إلى النهاية، أي حتى التفجيرات التي طالت الجيش اللبناني في طرابلس وانتقلت لاحقاً إلى دمشق، حيث بدأت الأخيرة تحصد المكاسب، بغطاء أوروبي وأحياناً أميركي تحت الشعار نفسه الذي حاربت الرياض به دمشق في سنوات لاحقة، أي محاربة التطرف وملاحقة الجماعات الإرهابية.

وكان متوقعاً أن لا تخرج السعودية من لبنان بسهولة، ولذلك مثّلت الإنتخابات البرلمانية بالنسبة لها معركة فاصلة، بل ومصيرية لأنها تخوض سباقاً مع زمن لم يعد بالإمكان إبطاء دورته، وما يصحبه من تغييرات جوهرية. ولأن الخارطة اللبنانية خاضعة لقانون الاستقطاب الطائفي والسياسي الحاد، فإن هامش المناورة فيها يبدو ضئيلاً، وقد يكون من السهّل أحياناً التهكّن بنتائج الانتخابات، باستثناء مفاجئات محدود قد تقع في هذه الدائرة أو تلك. ولذلك، فإن أقصى ما يمكن للحكومة السعودية أن تملكه في لبنان هو توظيف المال السياسي في الانتخابات لدعم قوى 14 آذار الحليفة لها.

في تقرير الصحافي الأميركي روبرت ويرث من بيروت والذي نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) في 24 إبريل الماضي حول دور المال السياسي في الانتخابات اللبنانية ما يلفت إلى دلالات هامة. ويبدأ التقرير من حقيقة أن الإنتخابات النيابية في لبنان في يونيو المقبل تتجه لأن تكون الأكثر كلفة على الإطلاق من أي مكان آخر مع تدفق مئات الملايين من الدولارات من كافة أرجاء المعمورة إلى هذه الدولة الصغيرة. ويرى ويرث بأن السعودية ودولا أخرى في المنطقة شرعت في تزويد الأطراف المتحالفة معها هناك بالأموال لدعم حملاتها الانتخابية بدلا من السلاح، بعد أن خلت البلاد من وجود الجيوش الأجنبية على أراضيها.

ويصف الكاتب صورة الإنتخابات البرلمانية في لبنان هذه المرة بأنها الأكثر حرية وتنافساً بما لا نظير له خلال عقود من الزمن، وفي الوقت نفسه قد تكون هذه الانتخابات الأكثر فساداً كذلك. ويعلّق على ذلك قائلاً: فالأصوات تُشترى نقدا أو عيناً في شكل خدمات، والمرشحون يغرون منافسيهم بمبالغ طائلة للإنسحاب من حلبة السباق، وتكلفة التغطية الإخبارية التلفزيونية للحملات الانتخابية آخذة في الارتفاع، وآلاف المغتربين اللبنانيين يجري نقلهم مجاناً بالطائرات إلى مواطنهم للتصويت في الدوائر التي تشهد تنافساً محموماً. وينقل ويرث عن عدد من الناخبين ومراقبي انتخابات ومرشحين سابقين وحاليين قولهم، إن عمليات دفع الأموال تضفي نزعة من الشك عميقة على الممارسة السياسية في لبنان، الذي ربما يعتبر ظاهرياً الدولة العربية الأكثر ديمقراطية، لكنه في الواقع يدار إلى حد كبير بالمحسوبية والطائفية والولاء للعشيرة.

المهم في تقرير ويرث أنه ينسب إلى مستشار للحكومة السعودية ـ لم يذكر إسمه ـ القول إن بلاده تراهن كثيراً على هذه الانتخابات، مضيفاً أن مساهمتها في هذا الصدد قد تناهز مئات الملايين من الدولارات في بلد لا يربو تعداد سكانه عن أربعة ملايين نسمة. وأضاف المستشار أن السعودية تدعم مرشحين ضد حزب الله، (وسنجعل إيران تشعر بوطأة الضغط عليها). وأشار ويرث إلى أن هذه الأموال التي تدفع للناخبين تعد مصدر دعم كبيرا للعديد من الطوائف والجماعات. ولأن كل مقعد في البرلمان يرمز إلى طائفة دينية فإن الانتخابات المقبلة تنزع إلى تعزيز البنية السياسية في لبنان القائمة أساسا على النفوذ الطائفي.

لقد بدت السعودية في الشهرين الأخيرين قبل موعد الإنتخابات النيابية غير راضية تماماً عن سير التحضيرات والإعلان عن قوائم المرشّحين في تحالف 14 آذار. وفهم البعض من إحجام نسيب لحود عن ترشيح نفسه، وهو المقرّب من السعودية، دلالة على ضعف حماسة الأخيرة لدعم فريق الموالاة، وكذا الحال بالنسبة لعدد آخر من المرشّحين المحسوبين على السعودية. في وقت بدت فيه بنية الموالاة هشّة وأقرب إلى التفكك بعد صدور إشارات من بعض قادة 14 آذار مثل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بأنه سيعيد النظر في خارطة تحالفاته المستقبلية، وبات أقرب إلى تشكيل تحالف إستراتيجي مع رئيس حركة أمل نبيه بري، فضلاً عن انفتاحه على حزب الله ورغبته في ترميم روابطه معه.

أمام تحديّات خطيرة من هذا النوع تواجه تحالف 14 آذار، طار السفير السعودي السابق في بيروت ووزير الإعلام الحالي الدكتور عبد العزيز خوجة إلى بيروت في 26 إبريل الماضي بهدف إعادة تنسيج لحمة الموالاة، ووضع حد للخلافات المتصاعدة بين قوى 14 آذار قبل أيام من موعد الإنتخابات. وفيما كانت تتجه المعارضة الى ترميم الطريق بين الرابية ـ عين التينة، الذي حسم باتفاق مبادىء بعد لقاء ثلاثي جمع قيادات كل من حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل في 8 مايو، كان خوجه يواجه صعوبة بالغة في تسوية خلافات معقّدة يعاني منها فريق الموالاة، خصوصاً بعد اطلاق سراح الضباط الأربعة والذي أحدث هزّة عنيفة في قواعد 14 آذار، ووهب الفريق المنافس ورقة إنتخابية قوية.

التدخّل السعودي عبر خوجة لم يحقق اختراقات لافتة في خلافات الموالاة، بالرغم من أن موقف جنبلاط فهم على أنه مناورة سياسية أو استدراج لتدخّل مالي سعودي، ولكن الزحزحة في أداء جنبلاط جاء عقب اطلاق الضباط الأربعة، الذي هدّد عوائلهم في مرحلة التجييش السياسي بتعليقهم على المشانق، حيث شعر جنبلاط بأنه معني دون سواه بالرد على قرار الإفراج، فالتقى بسعد الحريري وأطلق تصريحات متفائلة، بأن الموالاة ستكسب الإنتخابات القادمة.

كان أهم ما تحرّك عليه خوجه، إضافة الى وقف مسلسل الخلافات بين جنبلاط وفريقه ووضع حد لتداعيات قرار نسيب لحود بسحب ترشيحه بالرغم من أنه فسّره بطريقة غامضة معتبراً قراره لدواعي شخصية محضة، هو إقناع فؤاد السنيورة لترشيح نفسه في صيدا، وتسوية الخلاف المتعاظم بين تيار الحريري والجماعة الإسلامية.

في صيدا، كان موقف السنيورة بالغ الصعوبة، كونه يأتي إليها بعد غياب طويل مصحوب بالإهمال، وكان لابد للمال السعودي أن يتدخل على وجه السرعة لتعويض قصور وتقصير فادح من جانب العائد إلى المدينة بقليل من الحظوظ. أدرك منافسه، أسامة سعد، الذي ينتمي إلى فريق المعارضة بأن مالاً سعودياً بدأ يتحرّك في شوارع المدينة، وحذّر من نتائجه الوخيمة على الوضع الصيداوي، لأنه جاء لفترة محدودة ولأغراض إنتخابية محضة.

أما على مستوى التجاذب بين الحريري والجماعة الإسلامية، فبقي الخلاف متردداً صعوداً وهبوطاً، مع إصرار تيار الحريري على الإمساك بالورقة الطرابلسية بصورة شبه كاملة، وكذلك الورقة الصيداوية حيث كانت تناضل الجماعة الاسلامية لأن تسجّل حضوراً لافتاً يحسب لها في تاريخ المدينة لولا أن تحالف السنيورة والوزيرة بهية الحريري قد أدى إلى انسحاب الجماعة الاسلامية من المنافسة في صيدا . في المقابل، واجهت جهود خوجة تحفظات مصرية غير مجهولة، وخصوصاً إزاء أي تفوّق إنتخابي لصالح الجماعة الإسلامية لانعكاس ذلك على مصر، في الوقت الذي تحاول حكومة مبارك وضع العراقيل أمام حركة (الإخوان المسلمين).

يبقى أن رهان السعودية على تيار المستقبل بقي ناقصاً مالم يجتذب الورقة الإسلامية السنيّة، بالنظر إلى أن أغلب الجماعات الدينية السنيّة بقيت خارج مجال التأثير السعودي، مثل رئيس جبهة العمل الإسلامي الدكتور الداعية فتحي يكن، وحركة التوحيد الإسلامي برئاسة الشيخ بلال شعبان، فضلاً عن رموز سياسية سنيّة مثل رئيس الوزراء الأسبق الدكتور سليم الحص، ورئيس الوزراء السابق عمر كرامي وآخرين غير متوافقين مع الرؤية السعودية، ولذلك فإن الرهان هو على الجماعة الإسلامية المرتبطة أيديولوجياً وتنظيمياً بجماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها سنة 1964. وبطبيعة الحال، فإن تكوين الجماعة الإسلامية، الإيديولوجي والتنظيمي غير المنسجم مع التوجّه الديني السلفي لدى السعودية رسم مسافة فاصلة بينهما، ولهذا فإن النفوذ المأمول الذي كان خوجه يطمع في تحقيقه هو أن يوفّر رعاية معنوية رمزية ورعاية مادية عالية. ولكن الجماعة التي تحاول الإنسجام مع إيديولوجيتها لا ترغب في خسارة صورتها التاريخية عبر تقديم تنازلات قاتلة، فاكتفت باتفاقات جزئية.

أما على المستوى المسيحي، فإن السعودية ألقت بثقل مالي لافت في المناطق المسيحية عبر حليفيها، أي حزب الكتائب والقوات اللبنانية. وبالرغم من استمالة ميشيل المر، الذي يحاول تقديم نفسه باعتباره قطباً موازياً لأمين الجميل وسمير جعجع، فإن التصدّعات في الجناح المسيحي من فريق 14 آذار ليس أفضل حظاً من أجنحة أخرى تعاني من خلافات حادة ليس على مستوى الجناح المسيحي بصورة عامة، بل وفي داخل مكوّناته أيضاً، فمازالت التبدّلات الدراماتيكية في هوية المرشّحين من الكتائب أو القوات تثير مخاوف من خسارة فادحة.

مهما يكن، فإن السعودية تتحرك بقدر كبير من اليأس وبقليل من التفاؤل في أن تسفر نتائج الإنتخابات عن شيء مفاجىء، بالرغم من تواصل الدعم الدولي وتقاطر فرق المراقبين والداعمين على لبنان قبل موعد الإنتخابات لتوفير كل أشكال الدعم لفريق الموالاة.

الصفحة السابقة