الشيخ سلمان العودة

من المعارضة العابرة إلى السلطة

محمد قستي

الشيخ سلمان بن فهد العودة، من مواليد قرية البصر بمنطقة القصيم سنة 1376هـ، إسم برز، شأن أسماء أخرى، إبان أزمة الخليج الثانية، بوصفه قطباً في التيار الصحوي السلفي. تميّز في بداية بزوغ نجمه بكونه ناقداً بشدّة لسياسات الحكومة السعودية في مجالات التعليم، والقضاء، والإعلام. لم يكن حتى ذلك الوقت معروفاً بنشاطات سياسية ذات طبيعة اعتراضية، شأن لدّاته من علماء المدرسة السلفية الوهابية الذين انخرطوا في النشاط الدعوي، وصنّفوا كتيّبات في الرد على تيارات وفرق إسلامية مخالفة. وكان إعجابه بالحركية الاسلامية الناشطة ممثلة في (جماعة الاخوان المسلمين)، و(حزب التحرير)، ورموز إسلامية مثل ابو الحسن الندوي، وإلى حد ما أبو الأعلى المودودي قد شكّل دافعاً لاستنساخ التجربة سلفياً، حيث بدأت نشريات شعبية تروج في الداخل لمؤلفين من تيار الصحوة السلفية، واستفاد الأخير من الدعم اللامحدود الذي قدّمه الملك فهد له كرد فعل على الثورة الإيرانية، في تحقيق أكبر انتشار كوني له.

وبفعل عوامل محلية وخارجية ثقافية وسياسية، خرقت الطبقة الثانية في التراتبية السلفية (تابو) أيديولوجي وسياسي في أزمة الخليج الثانية، حيث برز عدد من مشايخ الصحوة، من بينهم الشيخ سلمان العودة، وقادوا حملة انتقادات واسعة النطاق للحكومة السعودية وشملت من وصفوهم بـ (الحداثيين) و(العلمانيين) داخل مؤسسات الدولة، وشارك في حملة (مذكرة النصيحة) التي صدرت بعد إعلان الملك فهد عن الأنظمة الثلاثة (الأساسي، والشورى، والمناطق) في مارس 1992.

أنهى العودة دراسته في العلوم الشرعية بشرح باب الطهارة في كتاب (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) لإبن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، وقدّمه في أربع مجلدات لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام. ثم عمل محاضراً في الكلية، ومدرساً في المعهد العلمي في بريدة. وصدر قرار من وزارة الداخلية بإعفائه من عمله في ربيع الثاني سنة 1414هـ ومنع من مزاولة نشاطه الدعوي، وإمامة الجماعة في مسجد الراجحي ببريدة بعد انخراطه في النشاط السياسي الاحتجاجي، ثم أدخل السجن على إثره وبقي فيه مدة خمس سنوات في الفترة ما بين 1415 ـ 1420هـ.

تجربة السجن بالنسبة للشيخ العودة كانت نقطة حاسمة، حيث خاض مناقشات ثقافية مع زملاء له أدّت إلى تخفيف حدّة طرحه الفكري وبدأ يميل للإنفتاح على المدارس الفكرية الأخرى، بما فيها المدارس العلمانية والليبرالية التي كان يوصمها سابقاً بالكفر والبدعة. فخرج من السجن معتدلاً، ولكن اعتداله السياسي كان أشد وضوحاً من تسامحه الفكري، حيث أخذ عليه بعض من قرأ له أنه شديد الإضطراب في مواقفه الفكرية، بسبب إصراره على استرضاء طائفتين متقابلتين وهم التيار السلفي المحافظ، والإسلاميين المتنورين من ذوي الميول الليبرالية. ومالبث يميل إلى الخيار السلطوي، الذي زاد في اضطراب خطابه الفكري، ما جعله متصالحاً مع اللحظة التي يعيشها، والتي ينتج فيها ما يتناسب من أفكار، قد تتغير في لحظات أخرى.

حظي العودة بامتيازات لم تكن متوافرة له في التسعينيات، فقد أصبحت الأبواب مشرعة له في تحقيق ذاته الإعلامية والإجتماعية، وصار يشارك، بحماسة غير مسبوقة، في المؤتمرات المحلية والخارجية، كما تحوّل إلى أحد الوجوه الدينية الأبرز في الإعلام السعودي. وإضافة إلى إشرافه على موقع خاص به على شبكة الإنترنت (الاسلام اليوم)، أصبحت له برامج تلفزيونية في قنوات فضائية مصنّفة في المجتمع السلفي بكونها فاسدة أخلاقياً مثل إم بي سي، ولكن للعودة رؤية مختلفة تقوم على اعتبار أن هذه القنوات تمثّل فرصة لتحقيق اختراق ديني، وقد تحدّث في وقت ما عن أن انفتاحه على مثل هذه القنوات جعلته قادراً على التعرّف على مسائل مجهولة بالنسبة له سابقاً، وجوانب في المجتمع لم تكن مدركة في مشروعه الفكري.

وفيما كانت كتابات العودة في فترة التسعينيات قد شكّلت مرجعية أيديولوجية لجماعات متشدّدة ظهرت في فترة لاحقة وكان من بينها تيار القاعدة، فإن العودة قد تخلى، لأمد غير معلوم، عن أفكاره المتشدّدة السابقة، دون أن يعلن صراحة بأنها لم تعد صالحة، بالرغم من مشاركته الفاعلة في (لجنة المناصحة) التي تم تأسيسها من قبل وزارة الداخلية خصيصاً لإقناع عناصر القاعدة في المعتقلات السعودية بعدم شرعية الخروج على النظام. نشير إلى أن (الخروج على النظام) من الأفكار التي تشرّبها هؤلاء من الشيخ العودة. يضاف إلى ذلك، أن الخسائر البشرية التي تكبّدها العراقيون من جراء الانتحاريين السعوديين وتزايد الانتقادات العراقية والدولية ضد التطرف السلفي بلونه العنفي قد دفع بالشيخ العودة إلى دعوة العناصر السلفية بعدم الهجرة الى العراق باعتبار أن لا مصلحة مرجوّة من ورائها. مع التذكير بأن الشيخ العودة شارك في التوقيع على بيان صدر سنة 2004 أي بعد سقوط النظام البعثي في العراق، والذي تضمّن دعوة صريحة بالجهاد، قبل أن يعدّل موقفه لاحقاً بحيث اقتصر ممارسة الجهاد على العراقيين.

هناك من يرى في تحوّل العودة الى الاعتدال بأنه غير حقيقي، أخذاً بنظر الاعتبار التقلّب المتكرّر في خطابه إزاء موضوعات دينية وسياسية ذات طبيعة خلافية، ما جعل البعض يتحفظ عن استعمال وصف (الاعتدال)، ما لم يكن المقصود به الموقف المعتدل من الحكومة. صحيح أن العودة قد خرج إلى حد ما عن الوهابية التقليدية التي تدعو الى التمسّك الحرفي بالجذور النقيّة للمذهب، إلا أنه، في الوقت نفسه، لم يكن مستعداً، على المستوى الفكري، لأن يعيد النظر في مواقفه العقدية من جماعات مصنّفة سلفياً في خانة الفرق الضالة والمبتدعة مثل الصوفية والشيعة والاسماعيلية.

المواقف الجديدة لدى الشيخ العودة من موضوعات إجتماعية مثل إحتفالات عيد الميلاد للأطفال وغيرها لم تصل إلى حد اعتبارها انقلاباً فكرياً، كما ذهب البعض. بل قد نجد مرونة العودة مصمّمة لاسترضاء السلطة كوصفه تعيين أول إمرأة في منصب نائب وزير التعليم، بأنه (قرار حكيم)، أو حتى موقفه المتسامح إزاء قيادة المرأة للسيارة واعتباره شأناً عرفياً أكثر من كونه حكماً دينياً، وكذلك موقفه من الزواج من القاصرات، أو سماحه لأحد لاعبي كرة القدم المحليين بتقديم دعاية لشفرة الحلاقة، باعتبار أن حلق الحلية حرام. ولكنه في المقابل، ينفرد بمواقف مثيرة للجدل كدعوته لنصب كاميرات في الأسواق العامة لمراقبة المخالفات الشرعية والاخلاقية، حسب ما جاء في جريدة المدينة في 7 مايو الماضي، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة في المجتمع باعتبار أن هذا التدبير يمثّل انتهاكاً للخصوصية، بحسب الكاتبة أسماء محمد ، وخرقاً لحقوق الإنسان بحسب عبد الله أبو السمح في صحيفة (عكاظ) في 8 يونيو.

في المستوى السياسي، بدا العودة جريئاً بصورة لافتة خصوصاً فيما يرتبط بالجماعات القاعدية، كونه يواجه انتقادات بتزويدها بأفكار تشجّع على العنف. وفي رد فعل على اعتباره (مرشداً روحياً) لزعيم تنظيم القاعدة، قام العودة بتوجيه رسالة للأخير في سبتمبر 2007، أي في الذكرى السنوية السابقة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، نصحه فيه بوقف استعمال العنف بإسم الإسلام، مستحضراً لهجة دينية تحذيرية من مغبة وقوع الأبرياء قتلى. وتجاوز انتقادات العودة إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث بدا معارضاً لذهاب الشباب الى فلسطين لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي أيضاً.

في مقابلة مع قناة (العربية) في برنامج (إضاءات) بتاريخ 29 سبتمبر 2004، حاول الشيخ العودة أن يقدّم رؤية لتحوّله الفكري/السياسي، وأجاب عن سؤال عما إذا كان تحوّله حقيقياً، وظهر موارباً إلى حد ما بقوله (هذا الوضع ـ أي الوضع الذي يعيشه الآن ـ هو الذي يحقق الأهداف فيجب أن نحافظ عليه)، ويعلل ذلك (من طبيعة الإنسان أن يكبر، وأن تزداد معلوماته ومعرفته ورؤيته إتساعاً). ولذلك كان مشروعاً السؤال عما إذا كان تغيّر العودة إستراتيجياً أم ظرفياً؟ رجع العودة إلى الخمس سنوات التي قضاها في السجن، ولكنه دافع عما أسماه بـ (الإنكار العلني) في التسعينيات، الذي بات البعض يستعمله، وحتى الإعلام الذي كان ينتقده على خيار المواجهة صار هو الآخر يردده (الإعلام الرسمي أصبح يقول الكلام الذي بسببه دخلنا السجن، ربما الكل أو الكثيرون شاهدوا مثلاً بعض المسلسلات اللّي تُعرض في التلفزيون السعودي وبعض القنوات الأخرى، وتُقدم جرعات من النقد مثلاً نقد الأجهزة الأمنية نقد الأجهزة الاجتماعية إلى غيرها..).

رغم ذلك، فما يلحظ على منهج الشيخ العودة، أنه أخفى بعض الأفكار المدوّنة في كتيبات ومحاضرات نشرها في التسعينيات، باعتبارها ظهرت في ظروف مختلفة. لم تكن إذاً مراجعة فكرية لتجربته السابقة، بل إخفاء لما يمكن أن يشكّل عائقاً أمام حركته الراهنية، ودفعاً لعدم الإنسجام الفكري بين معتنقات الأمس واليوم، وأيضاً في الغد، فالأفكار، كما الأوراق، تطوى وتحفظ في مستودع التجربة، فقد يستدعي الرجوع إليها في وقت ما.

كيما يتجاوز تحفّظات العلماء على موضوعات محددة مثل الجهاد والوطن، فإن الشيخ العودة يبتكر تفسيرات غير واردة لا في كتب الفقهاء ولا في المعاجم السياسية، فمثلاً يرى في الوطن مكافئاً للإنسان، بطريقة اختزالية، بما يستبعد مكوّنات أخرى تعارف عليها علماء السياسة والقوميات. ولكنه الانفتاح بشكل مختلف كما يقدّمه العودة في هيئة مواكبة مفتعلة لتطوّر العصر، الذي يعبره العودة بكمية أفكار غير عصرية، ولكنها معصرنة، وكأنه يعي إنتاج الماضي بلغة جديدة.

في مقابلة ثانية مع برنامج (إضاءات) على قناة (العربية) في 7 ديسمبر 2005، أعاد تبرير انفتاحه على الفضائيات المصنّفة سلفياً بالمنحلّة مثل إم بي سي، وقال عن برنامجه (حجر الزاوية) الذي كان يبثّ في شهر رمضان بأنه عرّفه على جمهور واسع وبالعكس.

في الإطلالة الثالثة للشيخ العودة في برنامج (إضاءات) على قناة (العربية) في 29 مايو الماضي، بدت جوانب أخرى تبرز في أدائه السياسي، وبات أميل إلى الشيخ السلطوي، خصوصاً بعد مقاله (الاسلام والحركات) الذي نشره في 11 إبريل الماضي، والذي أثار ردود فعل احتجاجية من قبل الاسلاميين وغيرهم، وخصوصاً أنصار التيار الاسلامي في تونس.

قدّم العودة انطباعات عن زيارته لتونس تتناقض تماماً مع وقائع طالما قدّمها الإسلاميون التونسيون لنحو ثلاث عقود، خصوصاً فيما يتعلق بنزعة العلمنة المتطرّفة لدى النظام التونسي، وتدابيره الصارمة إزاء الحجاب والمظاهر الدينية بصورة عامة. وتحفّظ العودة على ما قرأه عن الإسلام المضطهد في تونس وقال بأن ماشاهده مختلفاً تماماً عما سمع عنه غير مرة (أنه يضطهد الحجاب، ويحاكم صورياً، ويسجن ويقتل..)، يعلّق على ذلك بالقول (فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه). واعتبر ما كان يسمعه وما يقال عن الوضع الديني في تونس مجرد شائعات، والتي شقّت بالنسبة له درباً للتمييز بين الإسلام والحركات الإسلامية. ولذلك فهو يتطلع لأن يتكرّس الاسلام للفرد دون الحركات الاسلامية، أي الاشتغال على تنمية الفرد وسلوكه وعقله وليس الصراع على الكراسي والمناصب، على أساس أن هذا الجانب مركز اشتغال الحركات الاسلامية!

ورد خالد حسن على مقالة العودة في 14 إبريل الماضي، وتساءل هل صنع العودة وهمه في زيارته لتونس سمع عنه أن يضهد الحجاب، ثم اكتشف عكس ذلك، ويريد أن يصدقه الآخرون، أم أنه ضحية سلطة معينة..ضحية الابتسار والسطحية والاختزال في الرؤية..إختزال ما هو واسع ومركّب ومعقد، وتسطيح ما هو عميق.. أحل الأمنية والحلم محل الواقع..رسم صورة زاهية عن وضع مختل، موارياً تناقضاته ونقاط ضعفه ومشكلاته التاريخية، ووضع تصوراً ذهنياً يغير مجرى التاريخ. إذ الواقع التاريخي يقول كلمة مغايرة ومختلفة عمّا كتبه الشيخ بعد زيارته إلى هذا البلد العربي الذي سمع أنه يضطهد الحجاب، وتبين له خلاف ذلك. هل وقع الشيخ سلمان ضحية قراءات مبتسرة، ذات شحنة سحرية تحقن القارئ بالهدوء، وتوهمه أنها تعطيه الأجوبة كلها دفعة واحدة؟ لا أعلم، وهذا النمط من الثقافة والتثقيف مسؤول، في ظني، عن جفاف الإبداع الفكري لمدة طويلة عندنا. وبخصوص الحريات كتب خالد حسن في رده على العودة (والشيخ يدرك، سواء في بلده أو في سائر الأمصار، أنه في أجواء الحريات، لا مكان للمكبوتين والتنظيمات السرية، ولا مجال للعمل تحت الأرض ولا لانتعاش الأفكار السرية الميتة المميتة، ورفع المظالم يشيع حالة من الأمن النفسي والفكري، وهذا مطلب مشروع تستقيم به حياة الناس.)

ربما أغرى العودة ما لحظه من تسامح رسمي إزاء كتبه التي وجدها في المكتبات العامة في تونس، كيما يطلق مواقف جدلية مثيرة. رسالة المقالة كما يقول العودة تتمثل في (دعوة إلى الانفتاح بين البلاد العربية والإسلامية..).

مقالة العودة فجّرت جدلاً واسعاً بين الاسلاميين في تونس، فكتب عبد السلام الناجي رداً بعنوان (سلمان العودة..في حفلة العشاء الأخير) وصف فيه مقاله (الاسلام والحركات) بأنه (أشبه بمانفيستو سياسي في مسيرة الدكتور سلمان السياسية، ولكنه مانفيستو بالمقلوب طبعاً). ويقول (بكل صراحة ووضوح يعلن الدكتور العودة إنتقاله من أن يكون (صوت المعارضة) إلى أن يكون (صوت النظام)، وأن العودة في مقالته يعلن بصورة نهائية طلاقه (الإنتساب للإسلاميين، ووضع الذات بشكل واضح ضمن منظومة النظم الرسمية). ويخلص الناجي من قراءته لمقالة العودة بأنه يتحدث (عن الحكومات العربية المعاصرة وأنها حكومات مظلومة شوهها الإسلاميون بينما هي في حقيقتها نظم عربية إسلامية متدينة، ويغمز من قناة الحركات الدعوية والإصلاحية بأنهم طلاب سلطة يفترون على هذه النظم المظلومة). وفي مثال تونس، يحتجّ الناجي على العودة دفاعه عن أسوأ نظام عربي، أي النظام التونسي (لم يترك الدكتور العودة لنا مهمة القياس والإستنتاج..بل صرّح بتعميم النتيجة على كافة الحكومات العربية، وأن كافة الحكومات العربية هي نظم متدينة حريصة على الإسلام، لكن المشكلة أن الدعاة الإسلاميين في هذه البلدان طلاب سلطة يثيرون القلاقل ويعكرون على مسار الدعوة والخير). وسرد الناجي بعض الوقائع التي تمثّل إدانات صريحة للنظام التونسي في مجال الاضطهاد الديني منها قانون 108 الصادر 1981 والذي اعتبر الحجاب (زي طائفي) وتم منعه في المؤسسات الرسمية كالجامعات والمعاهد، وقد وصف الشيخ يوسف القرضاوي في خطبة يوم الجمعة في 12 شوال 1427هـ (الحرب التي يشعلها النظام التونسي ليست ضد الحجاب فقط، وإنما ضد الله ورسوله). وذكّر الناجي الشيخ العودة بمعتقلات النظام التونسي مثل سجن تونس، وسجن برج الرومي، وسجن المهدية، (فحدث عن الشهادات التي كتبها السجناء في التضييق عليهم في الصلوات اليومية، وخصوصاً صلاة الجماعة، وتحديد مرات الاغتسال حتى لو كان الغسل لعذر شرعي، فيبقى الشاب المسكين على جنابة أياماً معدودة! وقدمت منظمات حقوق الإنسان العالمية مئات التقارير التي شرحت أزمة (التعذيب) في السجون التونسية. أما الشريعة فصارت مخطوطة في الزيتونة لا أكثر..فالقانون المدني ألغى أحكام الربا والغرر، وقانون العقوبات ألغى أحكام الزنا والقصاص والجلد، وتم التدخل في كثير من أحكام المواريث الخ). وسخر الناجي من اختزالية العودة وقال بأنه (زار تونس لمدة يومين في زيارة مرتبة سلفاً بين الفنادق الفارهة والشخصيات الدبلوماسية الرفيعة، وجاء ينتقد نزلاء المعتقلات والمؤرخين والشهود التونسيين ذاتهم بكونهم يعتمدون صورة جزئية لتكوين صورة كلية!).

أما الشيخ الهادي بريك، فسجّل في ردّه على العودة بعض الحقائق الموثّقة بقوانين يخالف فيها النظام التونسي الشريعة الاسلامية بصورة صريحة منها ما جاء في منشور عدد 98 بتاريخ 30 اكتوبر 1992 حول هندام أعوان الصحة العمومية بإمضاء وزير الصحة الحبيب مبارك، والذي جاء فيه:

وبَعْدُ لُوحِظَ أَنَّ عَدَداً مِنَ الأَعْوَانِ العَامِلِينَ بِالهَيَاكِلِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الرَّاجِعَةِ بِالنَّظَرِ إِلى وزَارَةِ الصَّحَّةِ العُمُومِيَّةِ يُبَاشِرُونَ عَمَلَهُمْ مُلْتَحِينَ أَوْ حَامِلِينَ لأَزْيَاءٍ طَائِفِيَّةٍ وَذَلِكَ خِلاَفاً لمُقْتَضَيَاتِ المَنَاشِيرِ الوَارِدَةِ بِالمَرْجِعِ وَالمتَعَلِّقَةِ بهِنْدَامِ الأَعْوَانِ العُمُومِيِّينَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَأَعْوَانِ الصَّحَّةِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ. لِذَا وَنَظَراً لِمَا يَكْتَسِبُهُ المَوْضُوعُ مِنْ أَهمِيَّةٍ فَإِني أَدْعُو كَافَّةَ المَسْئُولِينَ عَنِ الهَيَاكِلِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الرَّاجِعَةِ بِالنَّظَرِ إِلى وزَارَةِ الصِحَّةِ العُمُومِيَةِ إِلى العَمَلِ عَلَى حمْلِ مَنْظُورِيهِمْ مِنَ الأَعْوَانِ علَى الالْتِزَامِ بِالمُقْتَضَيَاتِ الوَارِدَةِ بِالمَنَاشِيرِ المَذْكُورَةِ. وَإِلى اتخَاذِ مَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الإجْرَاءَاتِ لِمَنْعِ دُخُولِ المُؤَسَّسَاتِ الصِّحِيَّةِ عَلَى المُلْتَحِينَ وَحَامِلِي الأَزْيَاءِ الطَّائِفِيَّةِ. الموجه إليهم: الإدارات والمصالح المركزية، الإدارات الجهوية، مصالح التفقد، المؤسسات الراجعة بالنظر إلى وزارة الصحة العمومية.

ورصد الشيخ بريك بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان في تونس بخصوص الحرية الفردية والحريات العامة والسياسية والدينية، بما فيها منع الصلاة بالقانون في أماكن العمل بحسب القانون المعروف بقانون 29 الصادر في 3 مايو 1988 والذي ينص على اغلاق كافة المصليات والمساجد الصغيرة في المعاهد الثانوية والكليات والادارات والمؤسسات الخاصة والعمومية في القطر التونسي، وإغلاق المسجد الجامع الكائن بالمركب الجامعي بتونس العاصمة. وسرد بريك قصصاً عن معاناة الناشطين السياسيين في تونس، وخطة تجفيف منابع التدين خير شاهد على ذلك.

أما سيف الدين عابد فجاء رده على العودة في الأول من مايو الماضي في هيئة سؤال (لماذا قلت هذا عن تونس يا شيخ سلمان؟) وذكّر العودة بحقائق على النحو التالي: أيها الشيخ سلمان العودة، لقد زرت بلداً يعلم القاصي والداني ممن يهتم بأمر الإسلام والمسلمين أنه بلد ضاعت فيه الحقوق ولم تسلم فيه أعراض المسلمين، ولم تراعى فيه ذممهم، ولا تُصان فيه شريعة الله، فهي منتهكة جهاراً نهاراً، لا يخفون تعديهم على الله ودين الله وعباد الله، لقد زرت بلدا أيها الشيخ ضُربت فيه الأعناق، وامتُهنت فيه الحرائر من المسلمات، واعتدي فيه على كلّ مظهر من مظاهر القرب من الله (بمنهجية ممنهجة) وبقوانين لا يخفى فيها العداء لله ولدين الله ومحاربته!! وسأله (ألم تسمع أيها الشيخ بمحاربة ومطاردة المحجبات العفيفات ومنعهن من الدخول إلى حرم الجامعات والمعاهد والمدارس إلا بعد أن يبدين الطاعة (لولي الأمر) فيتكشّفن ويبدين ما حرّم الله أن يبدين؟ ألم يعطوك أيها الشيخ (بطاقة المصلّي) ويحددوا لك المسجد الذي تعبد الله فيه وتمنع من غيره أم أنهم رأوا أن ذلك لا ينطبق عليك كما ينطبق على كلّ أهل تونس من المسلمين؟! ألم يقل لك أحد من البشر أن العُهر في تونس مقنّن تقنين رعاية لا تقنين منع وتجريم؟ وفوق ذلك وقبله وبعده، هل أوصلك علمك وعظيم اطّلاعك على شرع الله أن زين العابدين حاكم مسلم واجب الطاعة؟! أم أنه علماني لا يقيم وزنا لله ولا لدين الله، ويحاربه محاربة قذرة في كل سكناته وحركاته، وفي كلّ قوانينه وأنظمته؟ أم أنك لا ترى من يقرّ بالربا أنه قد آذن بحرب من الله؟ ثم خاطبه بالقول: أيها الشيخ سلمان العودة: لقد قلت كلاما ناقض وعاكس كلّ ما هو عليه حال تونس وحكّام تونس والسؤال: لماذا قلته؟ رهبة؟ أم طمعا؟ أم خوفا؟ إن لم تكن تعلم ما تقول أيها الشيخ فاعلم أنك بما قلته عن تونس في مقالك هو تسويغ للحكم فيها

وتلميع للحاكم ونظامه، وتجميل لوجه بشع بشاعة من جاهر بمحاربة الله ورسوله والمؤمنين وإعطاء كل المسوغات لذاك النظام أن يوغل في محاربته للمسلمين ولشريعة الله، ذلك أنه سيعتمد الآن على قولك وقول من هم مثلك حين مدحتموه).

لا يبدو أن الشيخ العودة قرأ كثيراً من الردود، رغم أنه سمع عنها، وبدا وكأنه يتعامل مع أفكار مجرّدة، وليس مع تجارب مصبوغة بالدم، ومليئة بألوان الألم والقهر والعذاب. لقد أظهر العودة تعالياً على ما سمع، وكأن مشاهداته الموجّهة لتونس غلبت ما شهده هذا البلد من انتهاكات أقل ما فيها أن يذبح بإسم السماء خلق الله على الأرض، ويستعمل المقدّس في تدنيس الوعي.

الصفحة السابقة