المال السعودي الناخب الأكبر

لبنان بعد فوز الموالاة

سعد الشريف

رغم ما قيل عن الانتخابات اللبنانية الأخيرة في 7 يونيو وبصرف النظر عن هوية الفائز والخاسر، فإن ما يدعو للتأمل هو طبيعة الدور السعودي في مجريات الإنتخابات، منذ بدء تحضيراتها قبل نحو عام، وحتى موعد إجرائها. ليس هناك من يدّع بأن لا مداخلات حصلت في الانتخابات اللبنانية، وهذا وحده كافٍ لوقفة تأمل، لأننا، وبخلاف النعوتات الصادرة من مؤسسات دولية شاركت في مراقبة سير الانتخابات اللبنانية، أمام حقائق بالصوت والصورة (حوالات بنكية من السعودية). ونستدعي هنا ما ذكرته صحيفة (نيويورك تايمز) في 24 إبريل الماضي، في تقرير لها من بيروت عن الانتخابات اللبنانية بأن مئات ملايين الدولارات تتدفق إلى لبنان من الخارج لشراء أصوات الناخبين، واصفة هذا الاستحقاق الانتخابي بأنه سيكون من بين الأعلى تكلفة في العالم. وقالت الصحيفة إن (لبنان يعتبر منذ فترة طويلة ساحة للنفوذ الإقليمي، واليوم وبغياب الجيوش الأجنبية عن أرضه، فإن السعودية وبلداناً أخرى تدعم حلفاءها بالمال بدلاً من السلاح). ونتيجة ذلك فإن (السباق سيكون الأكثر حرية والأكثر تنافساً خلال عقود، لكنه بالتأكيد سيكون السباق الأكثر فساداً). ونقلت الصحيفة عن مستشار للحكومة السعودية (إننا نضع الكثير (من المال) في هذا السباق)، وأن بعض الناخبين، وبخاصة في المناطق التي تشهد تنافساً كبيراً، يتلقون اتصالات تعرض المال مقابل الصوت.

وإذا كان المال الانتخابي في لبنان إرتبط بالسعودية بجدارة، فإن تجارب انتخابية في الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى ديمقراطية في العالم، تحدّثت منذ التسيعينات من القرن الماضي عن المال السعودي في دعم أحزاب محدّدة.

ما يذهل المراقبين في دولة ديكتاتورية مثل السعودية، التي تفتقر إلى مقوّمات الحياة الديمقراطية، أنها تحاول (تصدير) نموذجها الديكتاتوري للعالم بتخريب العملية الديمقراطية عبر المال الانتخابي، وإفساد البيئة السياسية التي تحيل من الممارسة الديمقراطية إلى ديكتاتورية بلون أخضر، أي بطعم الدولار! بكلمات أخرى، أن المال الإنتخابي بهويته السعودية قد صبغ السماء اللبنانية باللون الأخضر، وإن شعار السماء زرقاء قد يصدق على كل مكان آخر غير لبنان، وخصوصاً في الموسم الانتخابي السابق.

سلسلة انتكاسات واجهت السياسة السعودية في الخارج منذ بداية الألفية الثالثة، وكانت بحاجة إلى (منجز) ولو وهمي كيما يعيد ترميم صورتها، ولذلك ما إن أعلنت النتائج غير الرسمية، عشية السابع من حزيران حتى بادرت قناة (العربية) عن فرحة استباقية، ما لبث أن عكست نفسها في لغة انتقامية ظهرت في مانشيت صحيفة (الشرق الأوسط) المملوكة لأسرة الأمير سلمان، حاكم الرياض، في الثامن من يونيو، أي بعد إعلان النتائج الرسمية للإنتخابات، حيث جاء (إنكسروا..وانتصر لبنان)..مانشيت يفصح عن الاستبطان السياسي لدى العائلة المالكة وزلمانها، الذين شاركوا بكل الثقل الاعلامي والفضائي لدعم فريق 14 آذار، وتحوّلت قناة (العربية) السعودية إلى وسيلة إعلامية لبنانية تعمل لصالح ذاك الفريق. وبحسب بعض المتابعين الأجانب لردود الفعل السعودية على فوز فريق 14 آذار، فإن مانشيتات الصحف السعودية، وخصوصاً الموجودة في الخارج، تكشف عن لغة طائفية رافقت الحملة الانتخابية حتى موعد التصويت، بل إن الحديث عن صراع المشاريع والمحاور الذي ظل مهيمناً على لغة الصحافة السعودية يعكس التحدي الذي عاشته العائلة المالكة في السعودية ضد خصومها في لبنان وخارجه.

الإبتهاج السعودي اللافت بفوز 14 آذار لفت إلى حجم الرهان السياسي عليه، وأيضاً حجم الاستثمار المالي الذي رصدته أجنحة الحكم في السعودية لناحية تدعيم موقف حلفائها في لبنان. ولم يخفِ الإعلام السعودي إنحيازه التام في هذه الانتخابات، تماماً كما هو المال الإنتخابي الذي انهمر بغزارة على المرشّحين في هذا الفريق.

نبرة الشماتة، كما وصفها بعض المراقبين الأجانب، في وسائل الإعلام العربية التي تسيطر عليها السعودية كانت تعبيراً عن (انتصار) المال السعودي على الديمقراطية اللبنانية، فقد كان المال الناخب الأكبر في الإنتخابات اللبنانية. لم تكن الزيارات المفاجئة التي قام بها السفير السابق ووزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجه الى لبنان في غضون شهرين قبل موعد الانتخابات لمجرد الحنين إلى مناخ لبنان أو طبيعته أو حتى حراكه الثقافي والأدبي، بل كان يصطحب معه حقائب مالية لتسوية الخلافات بين حلفاء فريق 14 آذار.

فالمزاد الإنتخابي الذي دشّنه المال السعودي أفضى إلى تسليع العملية الديمقراطية، وابتذال إرادة الناخبين، وصار الحديث عن أثمان متفاوتة للصوت الانتخابي محرّضاً على تزوير الوعي، حيث بلغ ثمن الصوت الواحد في منطقة زحلة، على سبيل المثال، 4000 دولار، فيما بلغ إجمالي حجم الانفاق السعودي على الحملة الانتخابية وشراء الأصوات نحو مليار ومائتي مليون دولار، شملت شراء وسائل إعلامية بصورة دائمة أو مؤقتة، إضافة إلى شراء ذمم شخصيات سياسية مسيحية وشيعية وسنيّة لبنانية.

مرحلة ما بعد الانتخابات

ضمنت السعودية بعد فوز فريقها نفوذها في لبنان، وبدت مرتاحة الآن كونها تعود مجدداً الى الساحة اللبنانية بتصميم أكبر بعد أن خسرت مواقعها في السابع من آيار من العام الماضي، وبروز الدور القطري التوفيقي، الذي كاد أن يهدد بزوال اتفاق الطائف نفسه.

فوز حلفاء السعودية في لبنان يأتي في مرحلة مختلفة، وبشروط مختلفة، وإن استمرار فريق 14 آذار في نهجه السابق المشاكس لن يؤدي سوى إلى بقاء الأزمة الداخلية، بما تحمله من تهديدات اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية. ولذلك، تنبّهت السعودية إلى أن نفوذها غير مضمون في حال تمسكّت برهانها على (كسر) الخصوم، بما يفتح الباب أمام أزمات داخلية، ولاسبيل أمامها سوى التخلي عن منطق التفرّد، والتهويل العلني ضد الفرقاء الآخرين. وهذا يتطلّب تبديل الوجوه والسياسات، التي ارتبطت في وعي كثير من اللبنانيين بفترة التأزيم السياسي والأمني.

من وجهة نظر بعض المتحايدين، أن ثمة اتفاقاً غير مكتوب بين دمشق والرياض على أن تحتكر الأخيرة النفوذ الاقتصادي، فيما تتمتع الأولى بنفوذ سياسي وأمني، ولكن ليس الأمر على هذا النحو من البساطة، فالرياض لن تكتفي بنفوذ إقتصادي بدون قوة سياسية وحتى أمنية تحمي بها هذا النفوذ، كما لن تسمح دمشق، في حال وثقت من عودة علاقاتها مع واشنطن، بأن يكون لبنان منطلقاً لتهديد الأمن السوري.

في تقديرنا، أن فوز حلفاء السعودية في لبنان بقدر ما أراحها من هاجس انتصار المعارضة بقيادة حزب الله، فإنه أيضاً فرض عليها اعتماد لغة ونهج مختلفين عن السابق. ربما، كانت إشارات دمشق بليغة قبل الإنتخابات وبعدها، فقد أظهرت الحكومة السورية إهتماماً باهتاً بالانتخابات اللبنانية، واعتبرته شأناً داخلياً، وحين فازت الموالاة لم تتردد دمشق في اعتبار ما حصل في السابع من يونيو بأنه تعبير عن الروح التوافقية في لبنان، والتي تتمنى أن تنعكس في تأليف الحكومة الجديدة. لم يتردد الرئيس السوري في الاتصال بالملك عبد الله، لابلاغه تهانيه بفوز حليفه، وهذا من عجائب الشرق عموماً، ولبنان خصوصاً، كما هي من مفارقات سيادة لبنان واستقلاله وحريته. على أية حال، فإن جواً من الإنفراج بدأ يتسلل تدريجاً إلى العلاقات بين عواصم عربية بقيت متخاصمة على لبنان، وإن (التعويض عن الخسارة) بالنسبة للسعودية كان كافياً لأن تعيد الأخيرة ترتيب أوراقها لا على قاعدة خصومة جديدة وإنما على قاعدة انفتاح مدروس على مختلف الفرقاء. وهذا ما تنبّهت له الأطراف السعودية المتخصّصة في الشأن اللبناني، فبينما كان المال الانتخابي يغمر الفضاء السياسي اللبناني، كان خيار الإنفتاح على (الآخر) ساري المفعول، كما عبّرت عنه أول مرة زيارة السفير السعودي الجديد في بيروت علي عسيري لنائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وأعاد عسيري العبّارة المعلّبة (نحن على مسافة واحدة من كل الأفرقاء في لبنان). بل أن عسيري تجاوز، وعلى غير العقلية الكيدية والانتقامية للسعودية، ما حصل لسلفه خوجه الذي هرب عن طريق البحر، بعد إحراق مبنى (تلفزيون المستقبل) من قبل الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقرر زيارة قيادة الأخير.

وفيما يبدو فإن الخارج اللبناني سبق داخله في ترتيبات ما بعد الانتخابات اللبنانية، فقد فتحت فجأة قنوات التواصل بين أكثر من عاصمة عربية على بعضها، وبدأ طريق دمشق ـ القاهرة ـ الرياض، يستعّد لمرور عجلة العلاقات العربية مرحلة الأزمة وتدشين زيارات متبادلة وصولاً إلى القمة الثلاثية. لا شك أن السعودية مازالت تأمل في فك الإرتباط بين دمشق وطهران، من أجل تأمين نفوذها في لبنان، والمنطقة عموماً، ولكن لا يبدو أنها ستصرّ على موقفها، في ظل مناخ يسوده التبدّل السريع، سواء على خط الإنفتاح الأميركي والأوروبي على إيران، أو حتى على مستوى التحفّظ الإيراني عن الإنخراط الكثيف وغير المحسوب في معادلات المنطقة. وبخلاف تصوير الدبلوماسية السعودية للدور الإيراني، فإنه بدا أكثر نضجاً بالقياس إلى (الشيطنة المفتعلة) التي تقوم بها الماكينة الإعلامية السعودية، وهو ما يدركه الأميركي والأوروبي بصورة شبه كاملة، وقد جرّب الكفاءة الدبلوماسية الإيرانية في ملفات مثل أفغانستان وباكستان وحتى العراق، الذي ماكان له أن يشهد تحسّناً في أوضاعه الأمنية لولا التدخّل الإيراني.

على أية حال، فإن الإرتياح السعودي في لبنان، والذي انعكس في تصريحات حلفائه مازال موضع ترقّب حذر من قبل المعارضة اللبنانية، والتي ستضبط إيقاعها السياسي بحسب ما تقرره الموالاة في المرحلة المقبلة. وقد يفهم المراقب من تريّث قيادة حزب الله في إبداء موقفها من تصريح زعيم تيار المستقبل سعد الحريري بخصوص سلاح المقاومة، والذي اتسّم بالإيجابية غير المسبوقة، إلى حد أنه أبدى استعداداه لتقديم شيك على بياض لقيادة المقاومة بكتابة ما تشاء في البيان الوزاري، بأن ذلك التريّث يومىء إلى الحريري بتحويل موقفه إلى فعل.

الهدوء الذي كسى المشهد السياسي اللبناني في الأيام الأولى التي تلت الانتخابات، عكسته ابتداءً تصريحات سعد الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، والذين خفّفا من النبرة الابتهاجية، على خلاف النبرة الانتقامية التي انفجرت في الإعلام السعودي، وكان التأكيد لدى أقطاب الموالاة الكبار على إهداء فوزهم للبنان، تماماً كما فعل حزب الله في عيد التحرير وبعد حرب تموز، الذي أهدى منجزيه إلى لبنان بكل قواه وطوائفه. لغة توافقية كهذه لا شك أنها ستطوي جزءً كبيراً من التراث الخصامي الذي تراكم خلال سنوات، حيث كان التخوين المتبادل سمة العلاقة السائدة بين المعارضة والموالاة، وتم استدراج القوى الإقليمية والدولية بمن فيها الولايات المتحدة كيما تصبح فريقاً محلياً. سعد الحريري الذي تصرّف بعد الانتخابات باعتباره رئيس الحكومة المقبل أطلق إشارات طمأنة في جميع الإتجاهات، بما فيها الاتجاه إلى سورية، حيث أكّد هذه المرة على ضرورة أن تكون العلاقات مع سورية إيجابية، وقد تكون هذه إحدى الرسائل السعودية التي أبلغوها للحريري، إذا ما أراد تولي رئاسة الحكومة. ويذكر السوريون جيداً ما نقله رئيس الاستخبارات العامة السعودي الأمير مقرن بن عبد العزيز، حين قاد مبادرة ترميم العلاقات بين الرياض ودمشق قبل عدّة شهور. وبطبيعة الحال، لم يكن بإمكان الحريري أن يحظى بتأييد سعودي لولا مباركة سورية تفتح الطريق بين بيروت ودمشق.

ولكن، يحسب للزعيم الدرزي دوره المتميّز هذه المرة في امتصاص مفاعيل التوتر المحتملة، من خلال إشاعة أجواء طمأنة سبقت موعد الانتخابات بكثير، بل تعود بدرجة أساسية إلى مابعد حوادث السابع من أيار العام الماضي، حيث فرض جنبلاط لغة جديدة على حلفائه في الموالاة، لغة تتميز بالاعتدال والانفتاح، وضرورة تجاوز الماضي لناحية استيعاب القوى السياسية كافة موالاة ومعارضة ضمن النظام اللبناني الجديد. ولم يكن غريباً أن يتصدى جنبلاط لاتهامات (دير شبيغل) الألمانية لحزب الله بمقتل رفيق الحريري، ويوجّه انتقادات شديدة اللهجة للكيان الإسرائيلي، ويحذّر من الأدوار الشريرة التي يمكن أن يلعبها هذا الكيان في إشعال فتنة داخل لبنان.

وقد يذهب البعض إلى أن جنبلاط وحده الذي تفرّد هذه المرة من إرغام السعودية وحليفها تيار المستقبل في تغيير اتجاه سيره التصادمي، وتبني لغة تصالحية. والسبب ببساطة أنه يملك قوة الترجيح في الميزان السياسي اللبناني، فبإمكانه إن قرر قلب المعادلة أن ينتقل بكتلته النيابية إلى جبهة المعارضة ليتبدّل الواقع اللبناني برمته. في الواقع أن قوة الترجيج هذه ستبقى قائمة على الدوام في ظل أحاديث مطوّلة ومتواصلة عن تبدّلات دراماتيكية محتملة في خارطة التحالفات.

الصفحة السابقة