الفساد.. دولة!

حين يفتح ملف للفساد في الدول الديكتاتورية، حيث لا مناص من تقليب أوراقه، وصولاً إلى حسمه، هناك دائماً (كبش فداء) يضع نهاية هادئة، وللحيلولة دون تجاوز ذلك الى الكبار..هذا كان في أوقات سابقة، حيث أن الفساد محصور في فئة صغيرة، وإن كانت متنفّذة في أجهزة الدولة، ولكن الحال تغيّر بصورة دراماتيكية في العقدين الأخيرين، وزاده سوءً تدفق الأموال مجدداً بكميات كبيرة وغير منضبطة، ما أعاد فتح شهية شريحة واسعة من الأمراء والحواشي، والوزراء، وموظفي الدرجة الممتازة وغير الممتازة، والقضاة، ورجال الدين، والكتّاب والصحافيين، والضباط ورجال الأمن والمباحث، وحتى الكتبة الصغار في المؤسسات الحكومية والإدارات العامة، وخصوصاً البلديات..

من الناحية النظرية، يرى صموئيل هنتجتون بأن الفساد جزء من الأجندة التحوّلية في الأنظمة التي تتحرك نحو الدمقرطة. وفق هذه العقيدة، لم يجد هنتجتون بأساً في المستويات غير المسبوقة من الفساد الذي شهدته انجلترا في القرن الثامن عشر، والعائد الى بدء الثورة الصناعية، والشيء ذاته يقال عن أميركا في القرن التاسع عشر. أكثر من ذلك، يعتقد هنتجتون بأن الفساد عند هذا المستوى من التطوّر قد يكون مفيداً، ولا يجب النظر إليه بازدراء، والسبب في ذلك، حسب رأيه، أن الفساد يوفّر وسيلة لاستيعاب مجموعات جديدة داخل النظام. فكان بيع المقاعد البرلمانية، على سبيل المثال، مألوفاً في أي ديمقراطية ناشئة، بل يكون راجحاً في مقابل الهجمّات المسلّحة ضد البرلمان نفسه. ويشير هنتجتون إلى أن الفساد هو شكل أقل حدّة من العنف، فالذي يفسد ضباط شرطة النظام قد يعترف بالنظأم أكثر من الذي يقوم بمهاجمة مراكز الشرطة.

ويضرب هنتجتون مثلين في العالم المتقدّم، الولايات المتحدة والهند، ففي أميركا أواخر القرن التاسع كانت السلطة التشريعة ومجالس المدينة قد تعرّضت للفساد بواسطة شركات الخدمات العامة وسكة القطار، وكذلك الشركات الصناعية الجديدة، وهي ذاتها التي دفعت بالنمو الاقتصادي الذي ساهم في تحويل الولايات المتحدة إلى قوة عالمية. وفي الهند، كان كثير من النشاطات الاقتصادية عرضة للشلل دون الرشاوى. ويخلص الى أن الفساد بجرعات معتدلة قد يتغلب على البيروقراطية الجامدة وقد يصبح أداة للتقدّم.

وفيما يبدو، فإن نموذج السعودية مختلف الى حد ما لناحية أن الفساد لم يرتبط بعملية تحوّل سياسي أو اقتصادي، أي ليس مرتبطاً بتغييرات في بنية النظام وتطويره، ولا هو وسيلة لتسريع عجلة التقدم. كل مافي الأمر، أن الفساد استوعب جماعات جديدة داخل النظام، وتزداد عملية الاحتواء كلما ازدادت (كمية المال) المتوفّر لدى أهل الحكم. في المستوى السياسي، الفساد عامل رئيسي في وأد فرص التحوّل نحو الديمقراطية، وفي المستوى الاقتصادي ، عمّق الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وخلق فرصاً جديدة لظهور أشكال جديدة ومتطوّرة من الفساد، وحرف مسار التنمية الحقيقية إلى مسارات أخرى غير ذات صلة سوى كونها تحقق أكبر عائد مالي للأفراد المنخرطين في دورة الفساد.

ما يجعل الفساد دولة، أنه يغمر كل مفاصل الجهاز البيروقراطي، إلى درجة أن كل مسؤول في دائرته يصبح أميناً على الفساد وحارساً على وجوده. وما يبعث على السخرية والأسى، أن النزاهة صارت موضع ريبة، إذ لا يتخيّل في دولة يكسوها الفساد وجود أفراد يلتزمون بتطبيق القانون، ويرفضون المساس بالمال العام، ويحاربون الرشى.

الفساد المالي والإداري في الدولة قديم، وتفجّر أول مرة في عهد الملك سعود الذي كان ينفق من خزينة الدولة بلا حدود، حتى أثار غضب أخوانه، وحين تسلّم فيصل الحكم لم يجد في الخزينة سوى خمسمائة ريال فقط، حسب ما ينقل. وما إن ارتفعت مداخيل الدولة في الطفرة النفطية الأولى سنة 1974، حتى بدأ صراع الأمراء على تقاسم الثروة فيما بينهم، وطار كل منهم شرقاً وغرباً بحثاً عن استثمارات مع الشركات الأجنبية، تحت عناوين شتى مدنية وعسكرية، وعمد كل أمير إلى تشكيل فريق يسهّل مهماته في حصد الأموال والأراضي، فتمّت مصادرة الممتلكات العامة وحتى الخاصة، ولحظ الناس في الثمانينات لافتات مكتوب عليها أسماء أمراء في أراض لم يطأوها ولم يسمعوا بها تقع في غرب البلاد وشرقها.

ومنذ بدأ العجز في ميزانية الدولة سنة 1983 وحتى 2004، حصد الأمراء ما يقرب من تريليون ريال، وكان نصيب الملك فهد وحده 450 مليار ريال، فيما كان يزداد الدين العام فبلغ 720 مليار ريال. ولم يكن نصيب الأمراء الباقين بقليل، ففي الثمانينات بدأت النعوت تلتصق بالأمراء الكبار، فأصبح ولي العهد الحالي (سلطان الحرامية)، وقيل عن أمير المنطقة الشرقية محمد بن فهد بأنه شبيه جمال مبارك، في مشاركته حتى صغار الكسبة في أرزاقهم، وما أولاد الأمراء سلطان ونايف وسلمان بأحسن حال منه.

لقد بنى كل أمير نافذ إمبراطورية مالية، يعمل فيها جيش من الأفراد، حتى صار الفساد دولة بكل مافي الكلمة من معنى. في حقيقة الأمر، أن الفساد أدى إلى نشوء دويلات صغيرة يقودها أمراء، لا يخضعون لقانون من أي نوع، ولا لسلطة من أحد، وحتى الملك نفسه بات عاجزاً عن مجرد السؤال عما يجري داخل هذه الدويلات الصغيرة.

هل يتذكّر أحد دوراً لـ (الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد)؟ وهل يجرؤ الملك على الاستفسار عن الاتهامات التي طالت أمراء بتهمة الفساد المالي، بالرغم من وجود ثائق دامغة تؤكّد ذلك، كما حصل بالنسبة للأمير بندر بن سلطان، وأبيه وأخيه. وهل من يسمع عن (هيئة الرقابة والتحقيق) أنها حققت في دعاوى الرشاوى على الأمراء، أم أنها تكتفي بتزيين صورتها بتقديم قرابين من صغار الفاسدين، الذين تربوا في أحضان الأمراء السمان.

ليس دفاعاً عن معن الصانع ولا أحمد حمد القصيبي القول بأنهما ليسا وحدهما من غرق في الفساد، وغسيل الأموال، بل هناك شكوك في أنهما ذهبا ضحية رفضهما مقاسمة الأمير محمد بن فهد أملاكهما. وكان الأخير يهدد كل من يرفض خيار المناصفة بحرق مستودعاته، واستصدار بحقه قراراً بمصادرة الممتلكات..

ونختم بالقول أن الفساد بات دولة، ليس لأنه أدّى الى تدني الانتاجية، وتبدّد فرص التنمية الشاملة، بل إنه شق درب ضياع الآمال بالإصلاح. بمعنى آخر، أن انتشار رقعة الفساد داخل الجهاز البيروقراطي، خلق شريحة واسعة تدافع عن النظام الفاسد، وترفض تغييره، لأنها تحقق باستمراره مصالحها، ولا تكترث بمسائل التنمية والتحديث والإصلاح.

الصفحة السابقة