صيف سعودي ساخن في لبنان

عبد الوهاب فقي

بعد السابع من يونيو، أصبح واضحاً أن السعودية حقّقت لأول مرة فوزاً (بغير جدارة بطبيعة الحال) في لبنان، ونجح ما يربو عن المليار دولار بحسب المصادر اللبنانية أو 750 مليون دولار بحسب (نيويورك تايمز) في تغيير كفّة المعادلة الإنتخابية، وهو ما عجزت عن تحقيقه بالدبلوماسية، وبالحرب الإسرائيلية، أو الجماعات القاعدية المرتبطة بها، أو الفتنة المذهبية. وفور إعلان وزير الداخلية اللبنانية زياد بارود عن فوز فريق 14 آذار بالانتخابات بزعامة سعد الحريري، ومن ثم اعتراف الطرف الأكبر في المعارضة بزعامة حسن نصر الله بفوز الموالاة، بدأ مشهد جديد في لبنان يراد تأسيسه على قاعدة الإنفراج الداخلي والانفتاح على الأطراف كافة، وتبدّلت فجأة لهجة سعد الحريري المشحونة سعودياً، وطار بعدها الى الرياض كيما يؤكّد على (استقلال) و(سيادة) لبنان، وأن يتسلّم ورقة الإرشادات الجديدة في تشكيل الحكومة المقبلة بعنوان (لبنان أولاً)، التي عارضها بتهكم من كان يوماً ما المدافع العنيد عن شعارات 14 آذار، وليد بيك جنبلاط.

وما يثير السخرية، أن الحريري يمارس السعودة في لبنان بطريقة تخلو من أي ذكاء، وكأنه يقول (أولئك آبائي..)، حتى بات معلوماً بأن الحريري يتلقى تعليماته من الأمير مقرن بن عبد العزيز والأمير بندر بن سلطان وأمراء آخرين..ولا يجد في ذلك غضاضة، بل يعود الى بيروت ويقوم بمروحة لقاءات مع القادة السياسيين الذين يدركون سلفاً بأنه جاء إليهم من الرياض بنبأ يقين. فإن وافق على إعادة إنتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، فإنما يعبّر عن موافقة السعودية على ذلك، وإن وافق على أن يكون رئيس الحكومة فإنما يلبّي إرادة (الأعمام) في الرياض، وحتى إن عارض الثلث المعطّل أو قبله بشروط فهي إرادة سعودية تنطق على لسانه..

كل شيء يجري في لبنان له تفسير سعودي منفرد، وله أيضاً موقف منه، وبالمثل، فإن كل ما يصدر عن السعودية يعتبر موقفاً رسمياً. ومن الطريف، أن وسائل الإعلام اللبنانية تتعامل مع ما تنشره الصحف السعودية عن لبنان بأنه تعبير عن رؤية الحكومة السعودية، ولذلك يتسقّط الإعلام اللبناني الأخبار والتحليلات لفهم الموقف السعودي، حتى يبنى على الشيء مقتضاه.

في 30 يونيو الماضي، نشرت صحيفة (المدينة) في افتتاحيتها بعنوان (محاولات يائسة)، اعتبرت فيها الحوادث الأمنية التي شهدتها منطقة عائشة بكار في بيروت الغربية بعد يوم من تكليف رئيس الجمهورية اللبنانية ميشيل سليمان، سعد الحريري بتشكيل الحكومة، بأنها (عكست محاولات يائسة لدى البعض بهدف إعاقة جهود تشكيل هذه الحكومة التي يسعى سعد الحريري إلى أن تكون حكومة وحدة وطنية ، والعمل على عرقلة مسيرة الوفاق الوطني التي تقدمت خطوة أخرى على طريق التهدئة بهذا التكليف بعد النجاح الكبير الذي حققته الانتخابات النيابية التي جرت في أجواء من الهدوء والنظام والشفافية).

حين تدّس الصحيفة كلمة (البعض) دون أن تسمّيهم، فذاك يعني (رسالة) سعودية إلى من يعنيهم الأمر، لأن (البعض) لا يعكس مجرد حصافة إعلامية، بل يتجاوز ذلك إلى حد أن ثمة (بعضاً) مقصوداً بعينه، له ملامح واضحة، وله أهداف واضحة أيضاً، ولا يمكن أن يطلق (البعض) على عواهنه خصوصاً وأنه يستهدف جهود الحريري في تشكيل الحكومة، وعرقلة مسيرة الوفاق الوطني..فهل لدى الحكومة هواجس ما من أن تكون سورية، مثلاً، تعمل على تخريب المنجز السعودي، أو أن الحكومة السعودية أبلغت رسالة مضادة بأن لا ضمانات أكيّدة بأن هذا الإحتفالية الإنتخابية قابلة للصمود طويلاً إذا ما تم تجاوز الحدود المرسومة بين (سين سين).

في ظل محاولات حسم الأمور بطريقة انفراجية، وإن بدت مواربة وفي أحيان أخرى مفتعلة، فإن ثمة رسائل ورسائل مضادة تصدر من السعودية وسورية، فيما لا زالت ايران تضمّد جراحها بعد خضّة الإنتخابات الرئاسية في 12 يونيو الماضي. بالنسبة للسعودية، تريد أن تستعيد نفوذها الذي ضاع في 7 أيار، فيما لا تزال مرارة الهروب الكبير للسفير خوجه، الذي اختار البحر سبيلاً للوصول الى قبرص ليس فاتحاً ولكن هارباً. إكتشفت السعودية بأن الرهان على القوة من أجل تثبيت النفوذ خاسر لا محالة، ولذلك اختارت طريق التهدئة، وإن تطلب ذلك المضي بعيداً في تقديم الضمانات وخصوصاً لـ (سلاح المقاومة) الذي أنفقت من أجل نزعه كميات كبيرة من الذهب الأسود. ليس من أجل عيون (حزب الله) يبدو سخاء الحريري غير مألوف، ولكن لأن العودة السعودية الى الساحة اللبنانية تتطلب رصفاً متقناً للطريق الى لبنان، وقد استوعبت قيادة (حزب الله) السريرة السياسية لدى الرياض، حين طلبت من الحريري نصّاً مكتوباً بالتزاماته إزاء المقاومة حتى لا ينقلب عليها بعد أن تحقق السعودية أغراضها في لبنان، كما فعلت في (التحالف الرباعي).

سعد الحريري.. سعودياً!

لفتت (المدينة) إلى كل شيء له علاقة بمشروع (لبنان أولاً)، حين تحدثت بلغة جازمة عن حكومة توافق وتضامن تحت سقف اتفاق الطائف، لتصل إلى نقطة الحسم في الحكومة المفترضة (بحيث يكون ارتباط المواطن اللبناني من خلال هذه الحكومة وولائه للوطن وليس للحزب أو الطائفة أو المنطقة لأن لبنان القادر على تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء للوطن والمواطن هو لبنان القوي الموحد الذي لا مكان فيه للطائفية والمحاصصة والمناطقية التي أثبتت حتى الآن أنها العدو الحقيقي لمفهوم الدولة بمعناه السيادي والوطني وهو ما يتطلب الاستفادة من دروس الماضي وأخطائه والعمل ضمن جبهة وطنية موحدة لإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس ثابتة وفاعلة).

لاشك أن الرؤية التي تقدّمها (المدينة) مقطوعة الصلة بأوضاع المملكة التي تجد فيه (الطائفية) و(المحاصصة) و(المناطقية) مرتعاً خصباً، وإن بحسابات سعودية مختلفة، أي أن الطائفية هي المعيار الرئيسي في تحديد المسافات قرباً وبعداً عن مركز السلطة، والمحاصصة القائمة على توزيع العائلة المالكة حصة لكل جماعة مذهبية أو إجتماعية، فيما تعني المناطقية سيادة نجد على بقية مناطق المملكة، والأولى فالأولى في البعد. لا بأس، فهذه المملكة ذات خصوصية مختلفة، فهي تملي على غيرها ما لا يجوز عليها، فتتحدث عن الشراكة في العراق والديمقراطية التوافقية في لبنان، وتحدد حصص القوى الفلسطينية في السلطة، وقد تشارك في إعداد مشروع الدمقرطة في أرجاء مختلفة من العالم.

في لبنان، كما يقول ميشيل عون، تصنع الحكومة في خارجه، وكما تدخّلت السفيرة الأميركية ميشيل سيسون، والسفير السعودي في تحديد قوائم المرشّحين في 14 آذار، فإن سيسون والأمراء السعوديون هم المكلّفون الحقيقيون بتأليف الحكومة، فلم يعد سعد الحريري الى بيروت من الرياض والقاهرة إلا بعد أن حسم الأحجام والأسماء، على الأقل أسماء المرشّحين للتوزير في الموالاة، كما تلقى أيضاً (فيتوات) على مرشّحين في المعارضة.

وكونها خرجت منتصرة في منازلة الإنتخابات اللبنانية، فالسعودية ترى بأنها الطرف الذي يملي شروطه على الخاسر، والسوري في مقدمهم.

أن يزور الحريري والسنيورة الرياض والقاهرة فذاك أمر اعتيادي في السياسة اللبنانية غير العادية، وأن يعقد الرئيس مبارك والملك عبد الله قمّة في الرياض في 29 يونيو الماضي لمناقشة الملفات اللبنانية والفلسطينية، ولا ننسى هنا الملف الجديد وهو الإسرائيلي باعتبار أن (إسرائيل) باتت عضواً فاعلاً في (حلف المعتدلين)، فذاك أيضاً بات أمراً اعتيادياً، ولكن ما هو غير عادي حتى الآن، ولكنه في طريقه الى العادية قريباً، أن يطير مستشار الملك عبد الله، الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز الى دمشق برفقة وزير الإعلام والثقافة والسفير السعودي السابق في لبنان الدكتور عبد العزيز خوجه ليبلغ القيادة السورية قرارات القيادتين السعودية والمصرية بشأن الملف اللبناني، ثم يعقب ذلك، قمة ثلاثية في شرم الشيخ يحضرها ملكا السعودية والبحرين إضافة الى الرئيس المصري حسني مبارك لمناقشة الموضوعات الساخنة، ومن أبرزها الموضوعين اللبناني والفلسطيني، إضافة الى ما تحدّث الأميركيون عنه من استعداد دول إقليمية للدخول في مشروع عسكري لمواجهة إيران.

تم استبعاد الجانب السوري من أي تشاورات تكون فيها السعودية طرفاً أساسياً، وهي تومىء الى سلوك سعودي عدواني، وإن حملته دمشق على محمل المناورة السياسية السعودية لناحية إفراغ شحنة الإنتقام المختزنة لديها منذ سنوات طويلة، قبل أن تعاود الإتصال بدمشق مجدداً بعد أن حصلت على (تعويض) سياسي لافت بفوز حليفها سعد الحريري، يعيد به إحياء الدور التاريخي لوالده رفيق الحريري، باعتباره الحليف الإستراتيجي للرياض في للبنان. ولكن ثمة أمر آخر في القمة السعودية المصرية في جدة الشهر الفائت والتي تناول فيها الطرفان شؤون لبنان وخصوصاً مسألة تأليف الحكومة، حيث بدا واضحاً أن هاجس التدخل السوري في المسألة اللبنانية كان حاضراً وخصوصاً فيما يرتبط بتشكيل الحكومة، ولذلك إتفق الطرفان على تقديم قائمة مطالب الى دمشق من اجل إنجاز الحوافز السعودية والمصرية لسورية، وتتعلق أولاً بموقفها من تشكيل الحكومة، أي بسلوكها إزاء التركيبة الوزارية وتوزيع الحصص.

عشية انتهاء سعد الحريري من مشاوارته، كانت صحيفة (عكاظ) تعدّ افتتاحية حول (مشكلة التشكيل) الحكومي التي اعتبرت بأن لها أكثر من بعد، ولفتت الى (فيتوات) على أشخاص محددين حتى لا يدخلوا التشكيلة الحكومية، سواء من قبل المعارضة والموالاة، وتوصلت الى أن منسوب التفاؤل ينحسر بسرعة. ويحتمل رأي (عكاظ) القريبة من دوائر (الداخلية) أكثر من بعد، خصوصاً إذا ما تم النظر الى التشكيلة الحكومية بأنها غير توافقية، ليس لبنانياً، وإنما (سعودياً وسورياً)، ما يجعل احتمالات اندلاع أزمات لاحقة من وسط الإنفراج المفتعل قوية، خصوصاً وأن السعودية تصرّ على تخفيض حصة ميشيل عون في الحكومة، فيما يتمسّك الطرف المسيحي في المعارضة بمبدأ النسبية.

لم تتوقف الفيتوات عند حدود الاسماء والأحجام بل انتقلت أيضاً إلى البرامج السياسية والاقتصادية.. وقد وجّه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط نقداً لاذعاً إلى مبدأ الخصخصة التي ستعتمده الحكومة القادمة، واشترط مشاركته فيها بالتخلي عن هذا المبلدأ. ومن الواضح، أن السعودية قررت استئناف سياسة السيطرة على لبنان من خلال تحقيق أكبر تغلغل مالي فيه، بحيث يمكنها الإمساك بكل مفاصل الدولة وإملاء سياساتها عليه، تماماً كما كانت هي سياسة الحريري الأب قبل اغتياله.

من وجهة نظر لبنانية، فإن ماجرى قبل الانتخابات وبعدها وحتى الآن لا يعدو أن يكون في سياق التجاذبات الخارجية على الساحة اللبنانية. وتشير مصادر إعلامية لبنانية إلى أن التدخلات السعودية المصرية بغطاء أميركي هي الأبرز بين كل أشكال التدخل في تفاصيل الشأن اللبناني.

الحوادث الأمنية في لبنان تحمل دائماً رسائل سياسية، وازدادت سرعة الرسائل مع تسارع وتيرة التجاذب على تشكيل الحكومة، وقد يضيف إليها البارانويا الإعلامية اللبنانية بعداً آخر، وخصوصاً في ظل تشابك أطراف عدّة على الشأن اللبناني. مواجهات بيروت بين (أمل) و(المستقبل) فهمت مباشرة على أنها بداية معركة الحصص الوزارية، بعد أن أمسك بري والحريري بالرئاستين الثانية والثالثة، فيما خيّب فريق 14 آذار آمال رئيس الجمهورية ميشيل سليمان بالحصول على حصّة وزارية وازنة، تشمل الدفاع والداخلية والعدل، ولم يجد في المعارضة من يسنده بعد أن خذلها في الانتخابات، ولم تعد تقبل به (ضامناً).

فالمعركة إذن تدور بين طرفين هما الموالاة والمعارضة، وحول آلية وحجم المشاركة، فيما تتفق المعارضة على الثلث الضامن. كان الرهان خاسراً على استقطاب بري إلى جانب الحريري بإعادة انتخابه رئيساً للمجلس، بعد أن اكتشف بري بأن الثمن الذي عليه دفعه باهظ جداً، فقد تمت محاصرته بهئة مكتب مؤلف من فريق الموالاة، إضافة إلى القيود التي فرضت على تعيين وزراء من كتلته، وصولاً إلى الالتزمات المطلوبة منه إزاء التأييد الواسع الذي حظي به من قبل قوى المعارضة، فتولى هو مبادرة الإعلان عن موقف المعارضة من صيغة المشاركة في الحكومة، وقال بأن المعارضة لن تشارك إلإ بالثلث الضامن كحد أدنى.

بالنسبة لسعد الحريري، فإن الأمر ليس محسوماً، ببساطة لأنه ليس صانع القرار الفعلي، فلا بد من تسويات خارج الحدود تحسم الخلاف. وهذا ما دفع الملك عبد الله لأن يوفد مستشاره الخاص الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق في 29 يونيو الماضي ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد، في زيارة لم يعلن عنها سابقاً، قبل أن ينتقل بعدها مباشرة إلى بيروت لعقد اجتماع مع أركان في فريق 14 آذار.

سعد الحريري ونصر الله، لن يتفقا حتى ترضى السعودية!

رغم التكتّم على أهداف زيارة المستشار السعودي الى دمشق ومن ثم إلى بيروت، إلا أن مصادر في تيار الموالاة ذكرت بأن السعودية تسعى الى تثبيت أسس (المقايضة) بين السعودية وسوريا من جهة و(المستقبل) و(حزب الله) من جهة ثانية. بمعنى آخر، أن السعودية قدّمت ضمانات فيما يرتبط بسلاح المقاومة على أن يتم تسوية مشكلة الحصص في الحكومة اللبنانية الجديدة، عبر معادلة 15 وزيراً للموالاة، و10 للمعارضة و5 لرئيس الجمهورية على أن يبقى أحد وزراء الرئيس بمثابة (وديعة) لفريق المعارضة، بحسب جريدة (السفير). وقد يكون (المخرج السعودي) هو ما كان ينتظره الحريري قبل الإعلان عن انتهائه من المشاورات الخاصة بتأليف الحكومة. وهذا يشير أيضاً إلى أن حديث الحريري عن (الضمانات الشخصية) لم يكن يحظى بقبولة المعارضة التي ترى بأن التجارب لا تساعد على ذلك، بحسب النائب اللبناني عن حزب الله نواف الموسوي.

على أية حال، لم تدم طويلاً أجواء الإنفراج، ودعوى سياسة اليد الممدودة والانفتاح على كل الأطراف، ليست مؤسسة على قناعات بقدر ما كانت استهلاكاً للوقت من أجل الرهان على اختراق خطوط المعارضة وتوظيفها في استحقاقات المرحلة المقبلة. ولكن المعارضة تنبّهت الى ذلك محثوثة بحزمة هواجس كبيرة من تحركات مريبة يقوم بها أطراف في الموالاة، مدعومين من أطراف خارجية عربية ودولية، ولذلك ازداد تمسّكها بخيار الثلث الضامن، وعادت المعارضة لتثبيت ميشيل عون ناطقاً باسمها في التفاوض بشأن التمثيل السياسي للمعارضة في الحكومة، وقد سمع الحريري كلاماً مباشراً من عون في هذا الصدد خلال فترة المشاورات مع رؤوساء الحكومة السابقين.

أثار نقولا ناصيف في مقال نشرته جريدة (النهار) البيروتية في 29 يونيو الماضي سؤالاً حول لائحة المطالب السعودية من القيادة السورية، وماهي ردود فعل الأخيرة على تلك اللائحة. ويقول ناصيف بأن اللقاء الذي عقده الأمير عبد العزيز بن عبد الله في 24 حزيران مع المسؤولين السوريين كان في سياق إتصالات غير معلنة بدأت منذ قمة الكويت في 19 يناير الماضي، وأفضت الى اتفاق على عدم التدخل المباشر في الانتخابات النيابية، وتوفير أجواء تشكيل حكومة وحدة وطنية، لتثبيت الاستقرار، وإقامة علاقات دبلوماسية علنية بين بيروت ودمشق. ولذلك مضت الانتخابات في 7 يونيو بلا خضّات أمنية.

ولابد من الإشارة هنا الى أن التقارير الدولية الإعلامية التي تحدّثت عن مال سعودي، وتدخّل أميركي فج، لم يشمل سورية التي نأت عملياً عن التدخّل في الشأن الإنتخابي ضمن سياسة سحب الذرائع. ولكن الاستحقاقات اللاحقة والتي تجاوزت حدود الجغرافية اللبنانية، والتي بدأت بجولة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة والرئيس المكلّف سعد الحريري بجولة على السعودية ومصر، أملت إشراك الجانب السوري في ترتيبات ما بعد الانتخابات.

على أية حال، نقل ناصيف عن مصادر دبلوماسية رفيعة ما دار في لقاء الأمير عبد العزيز بن عبد الله والمسؤولين السوريين: يبدأ الحديث بين الجانبين بسؤال سعودي عن الموقف السوري من ترؤس الحكومة الجديدة، فردّت دمشق: لا مانع. هذا شان لبناني داخلي. وسأل ماهو موقف دمشق؟ فأجابت المصادر الدبلوماسية بأن دمشق ردّت: الأمر يتعلق بطريقة تعامله مع العلاقات السورية ـ اللبنانية، وفق الأسس الجديدة التي أرساها الرئيسان الأسد وسليمان. وهو ما يعني سوريا. كيف سيتعامل معنا؟ فقال الموفد السعودي: بمرونة. ردّت دمشق: سوف نرى كيف سيتعامل معنا. أما ما هو سوى ذلك، فليحكِ مع المعارضة في الشؤون اللبنانية.

ثم أعقب ذلك تقديم السعودية لائحة مطالب:

ـ إنهاء ظاهرة المعسكرات الفلسطينية خارج المخيمات، وخصوصاً في أطراف البقاع كقوسايا وحلوة.

ـ ترسيم سوريا حدودها مع لبنان، وتحديداً في مزارع شبعا.

ـ الضغط على المعارضة للتخلّي عن المطالبة بالثلث الزائد واحداً في حكومة الوحدة الوطنية، شرطاً لمشاركتها فيها.

ـ إلغاء المجلس الأعلى السوري ـ اللبناني.

كان جواب دمشق على المطالب:

ـ السلاح الفلسطيني خارج المخيمات سلاح فلسطيني وليس سورياً، فلتجرِ الحكومة اللبنانية حواراً مع المنظمات الفلسطينية المعنية لإنهاء الموضوع، وخصوصاً أن طاولة الحوار الوطني أقرّت في أول انعقادها في آذار 2006 مبدأ وضع حدّ لهذه المعسكرات. الأمر إذاً شأن لبناني ـ فلسطيني لا دخل لسوريا فيه.

ـ يتعيّن أن يعرف المنادون بترسيم الحدود في مزارع شبعا أن هذا المطلب يخدم إسرائيل أكثر منه لبنان وسوريا، لأن المزارع محتلة، ومشكلتها ليست مع سوريا وانما مع الدولة التي تحتلها. وأبدت دمشق استعدادها لترسيم الحدود ما إن تُحرّر المزارع كي لا تكون الدولة العبرية هي المستفيدة منها. في كل حال، قالت دمشق، حلّ مشكلة المزارع هو ضمن التسوية الشاملة غير المجتزأة في المنطقة.

ـ معالجة مشكلة الثلث الزائد واحداً تكون مع المعارضة اللبنانية لا مع سوريا، لأنها هي المعنية بدعوتها إلى المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، ولأنها تطلب ضمانات تحمي هذه المشاركة. ولم يتردّد المحاور السوري في القول إن حكومته ليست على اتصال بكل أفرقاء المعارضة، وخصّ بالذكر الرئيس ميشال عون الذي لا يجري اتصالات بدمشق التي تعرف بدورها أنها لا تستطيع الضغط عليه للتخلي عن الثلث الزائد واحداً إذا كان مصراً عليه.

ـ كان ردّ دمشق على المطالبة بإلغاء المجلس الأعلى، أن من غير المفهوم إلغاء مجلس ينظّم علاقات البلدين قبل أن يصار إلى تطبيع هذه العلاقات على نحو سليم. قالت دمشق إن على الحكومتين اللبنانية والسورية أن تجتمعا وتناقشا الموضوع، وخصوصاً ما يتصل بالاتفاقات المعقودة بينهما والمشكو منها، ويصار عندئذ إلى البحث في خيارات إلغاء ما يُتفق على إلغائه، وتعديل ما يتفق على تعديله. وأوضحت أيضاً أن العلاقات الديبلوماسية بينهما لا تزال في طورها الأول، ولم تنضج أو تختبر كفاية، وتعقد للمرة الأولى بين بلدين يتحمّلان وزر ملفات كثيرة ومتشعّبة عالقة بينهما، ولا يسعها أن تستبدل للفور المجلس الأعلى الذي هو ثمرة معاهدة كان البلدان قد أبرماها. تالياً لا يمكن النظر باجتزاء إلى موضوع المجلس الأعلى أو الاتفاقات المشكو منها، وخصوصاً أن المعاهدة هي التي تنظم الآن، وحتى إشعار آخر، العلاقات السورية ـ اللبنانية.

وفي كل الاحوال، فإن السعودية سعت إلى اقتطاف أكبر الثمار وليس بالضرورة أنضجها في المرحلة الراهنة، على أمل أن يتم تنضيجها في مرحلة لاحقة يكون فيها سعد الحريري قد ثبّت قدماً راسخة في السراي الحكومي.

الصفحة السابقة