الأمير بندر بن بوش!

اختفاء صانع الأزمات

عمر المالكي

غياب الامير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني عن المشهد السياسي جاء كما هو حضوره على خلفية أزمة. في الولايات المتحددة يبدأ ربيع الرجل جمهورياً، وفي حال وصول الحزب الديمقراطي يكون الخريف حتمياً، حيث يدخل في سبات شتوي يحاول تبديل جلده الداكن سياسياً..

في حرب الخليج الثانية، كان جورج بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة، ولعب الأمير بندر بن سلطان ووزير الدفاع الأميركي آنذاك ديك تشيني، نائب الرئيس في إدارة بوش الإبن، دور مهندس استقدام القوات الاميركية الى السعودية وجنى مبالغ طائلة من صفقات التسليح والتموين لقوات التحالف الدولي.

نجح في تثبيت موقعه وسط النخبة الجمهورية في الولايات المتحدة، وكان يدير الملفات الشرق أوسطية من واشنطن مع فريق ديك تشيني والمحافظين الجدد، حتى بات عضواً غير رسمي في الحزب الجمهوري، الأمر الذي نظر اليه الديمقراطيون باعتباره خصماً سياسياً لهم.

أصيب الأمير بندر بخيبة أمل بعد خسارة الجمهوريين الانتخابات سنة 1992 رغم خروجهم منتصرين من حرب الخليج، وحقّق الديمقراطيون نصراً كاسحاً رغم الأموال التي أنفقها الامير بندر بن سلطان في الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي الجمهوري جورج بوش الاب. وهي خسارة تكرّرت في بريطانيا أيضاً حيث دفع الامير بندر بن سلطان 10 ملايين جنيه على حملة مرشح المحافظين.

اختفى الامير بندر طيلة عهدي الرئيس بيل كلينتون (1992 ـ 2000)، ولم يحظ بالاهتمام الذي عهده من الجمهوريين. سلسلة الحوادث التي شهدتها المملكة وخصوصاً تفجيري الرياض (1995) والخبر (1996) وتفجيرات السفارة الاميركية في كينيا وتنزانيا وما اعقبها من غارات جوية على مواقع عسكرية تابعة للقاعدة في السودان بما فيها قصف معمل للأدوية وغيرها من الحوادث كانت تخفي بصمات فريق ديك تشيني ـ بندر بن سلطان، وهو ما كشفت عنه تقارير لاحقة، فالخداع الذي مارسه هذا الفريق امتد الى الاجهزة الاستخبارية التي كانت تتلقى معلومات من مصادر الفريق، كما ظهر في ملف التحقيقات في تفجير الرياض والخبر، بل إن نشاط القاعدة نفسه في تلك المرحلة بدا كما لو أنه أفاد من انشغال الديمقراطيين في معالجة تداعيات السياسة الجمهورية السابقة على المستوى المحلي وخصوصاً فيما يرتبط بالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي.

حتى ذلك الحين، لم يكن أحد يدرك مخطط المحافظين الجدد في المرحلة المقبلة، رغم أن جذور اليمن المتطرف تعود الى الثلاثينات من القرن الماضي. كان الامير بندر أحد المشاركين الفاعلين في الاعداد لمرحلة يكون فيها الجمهوريون في البيت الأبيض.

الفوز المثير للجدل الذي حققه جورج بوش الابن في انتخابات 2000 أنعش مجدداً التطلعات الضامرة لدى الامير بندر الذي بات على قناعة بأن خلاصه من عقدة النقص داخل العائلة المالكة يعتمد بصورة رئيسية على قدرته في تثبيت دور له لدى البيت الأبيض الجمهوري، الذي سيفتح الطريق أمامه نحو موقع متميّز في معادلة الحكم السعودي.

بندر آل بوش

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 بقدر ما تخفي أسراراً سيطول الوقت قبل الكشف عن بعضها، قبل جلاء الحقيقة كاملة عن المخططين الحقيقيين لها، فإنها وهبت الأمير بندر بن سلطان فرصة العمر كيما يبرز كضامن ثابت في العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والرياض. ومن اللافت، أن تدهور العلاقات السعودية الأميركية على خلفية الهجمات الارهابية ومشاركة 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً شاركوا في تنفيذ العمليات الانتحارية في الهجمات، وحدها علاقة الأمير بندر بن سلطان بالبيت الأبيض وبالرئيس الأميركي جورج بوش الابن لم تتأثلر، فقد بقي السفير الوحيد في واشنطن الذي بامكانه أن يلتقي الرئيس دون سابق موعد، بالرغم من تلك الظروف الاستثنائية التي شهدتها الولايات المتحدة.

ورغم ان كل المتورّطين السعوديين في الهجمات قد أمضوا سنوات في الولايات المتحدة، ولابد أنهم قد راجعوا أكثر من مرة السفارة السعودية في واشنطن أو احدى الممثليات التابعة لها في الولايات الاميركية، وبالرغم من الانتقادات المحمّلة باشارات اتهام الى مراكز ومدارس دينية ومساجد تشرف عليها السعودية، بطبيعة الحال عبر السفارة السعودية في واشنطن، فإن أياً من المسؤولين الأميركيين في ادارة الرئيس بوش الابن لم يشر ولو عن طريق الخطأ الى دور ما للأمير بندر بن سلطان، وكأن ثمة اتفاق داخلي على تجنب الاشارة اليه كيما لا تكر السبحه فتشمل مسؤولين آخرين في الادارة الجمهورية.

واذا ما أعدنا الى السنوات التي أمضاها الأمير بندر بن سلطان في واشنطن بعد الهجمات السبتمبرية، أنه كان يشتغل على ترميم العلاقات السعودية الأميركية في مسعى واضح لتسويق نفسه كشخصية محورية في هذه العلاقات. ولذلك لم تكن مكافأة عادية أن يتم استحداث منصب جديد مكافىء لمنصب مستشار الأمن القومي، والذي لا يناله في الولايات المتحدة الا المنظرين الاستراتيجيين وأصحاب الخبرة الطويلة في العمل السياسي والامني.

منصب رئيس مجلس الأمن الوطني لم يكن مألوفاً بالنسبة للأمراء، في ظل تقاسم جهازي المباجث والمخابرات العامة المهام الداخلية والخارجية، وفي ظل السلطات المفتوحة لدى وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة الأمير مقرن بن عبد العزيز. بقي الأمير بندر يمارس وظيفته دون مكان واضح، ولا حتى دور محدد فهو يصبح تارة وزيراً للخارجية فيثير تحفّظ سعود الفيصل، وحين يأتي الى واشنطن يصبح سفيراً فوق العادة وقد تجاوز حتى السفير الثابت آنذاك الامير تركي الفيصل، صانع تنظيم القاعدة الاصلي. يشعر الاخير بالغيرة من الدور الاستحواذي الذي يلعبه زوج اخته وابن عمه الامير بندر، ويدرك بأن الاخير يضمر شراً لا حدود له وهو على استعداد لأن يقترف كل جريمة متخيّلة ضد كل من يقف في طريقه.

ما إن تولى الامير بندر منصبه الجديد حتى بدأ عهد الأزمات، بدأت باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005 فتمزقت العلاقات السعودية السورية، وتواصل مسلسل الاغتيالات الغامضة، قبل أن

يشير سيمور هيرش في تقرير تفصيلي في يونيو 2007 بعنوان (اعادة توجيه) الى دور فريق ديك تشيني ـ الامير بندر بن سلطان في مخطط الاغتيالات التي كان ينفّذها جماعات سلفية مرتبطة بصورة مباشرة بالأمير بندر.

وفي اليوم الأول للحرب الاسرائيلية على لبنان في 12 تموز (يوليو) 2006 كان البيان السعودي مفاجئاً الذي اعتبر عملية اختطاف الجنود الاسرائيليين لمبادلتهم بأسرى لبنانيين وفلسطينيين وعرب بأنها (مغامرة) وحمّله مسؤولية تبعات العدوان، وهو ما نظر اليه الاسرائيليون بأنه ضوء أخضر وغطاء لعدوانهم على لبنان. في اليوم نفسه ايضاً تكشّفت هوية (المصدر المسؤول) الذي ورد في البيان، فلم يكن سوى الامير بندر بن سلطان الذي خرق عادة كانت متّبعة لدى الحكومة السعودية في التزام الصمت بانتظار جلاء الموقف الميداني. الا ان المفاجأة كانت كبيرة حين اخفق العدوان الاسرائيلي في تحقيق اهدافه، ما جعل لعنة البيان السعودي تلاحق آل سعود بعد الحرب ما جعل الرئيس السوري بشار الاسد ينعت قيادات عربية في معسكر الاعتدال في اشارة الى السعودية ومصر والاردن بأنهم (أشباه الرجال) بسبب وقوفهم الى جانب العدوان الاسرائيلي.

كرّر الامير بندر بن سلطان الموقف ذاته في حرب غزة الثانية في يسمبر 2008 ـ يناير 2009، وشارك في الموقف الامير سعود الفيصل الذي دخل في سجال غاضب داخل أروقة الجامعة العربية مع الممثل السوري في الجامعة، وبدا فيها الجانب السعودي ساخراً رافضاً الخروج بموقف عربي موحد من العدوان الاسرائيلي على غزة رغم أن لا (مغامرة) بحسب التعبير السعودي يستدعي عدواناً وحشياً وعلى الهواء مباشرة وبكل الاسلحة المحرّمة.

كانت نهاية الحرب على غزة نهاية مرحلة بندر بن سلطان، فكما دخل بأزمة فإنه خرج من السياسة بأزمة. واذا كان دور الامير بندر قدّر له أن ينتهي بعد وصول إدارة ديمقراطية الى البيت الأبيض فإن مصادر مقرّبة من الأمراء تتحدث عن انقلاب كان قد خطط له الامير بندر بن سلطان ضد عمه الملك بعد ان بدا واضحاً ان لا مستقبل لوالده في الحكم بسبب مرضه الذي سيخرجه فعلياً وبيولوجياً من الحياة السياسية. كان هدف الامير بندر بن سلطان من الانقلاب هو وصول والده الى العرش ولو ليوم واحد كيما يصدر قرارات تسهّل مهمته في الوصول الى العرش، ولكن الجهاز الأمني التابع للملك عبد الله كشف عن المخطط قبل وقوعه ما دفع الامير بندر بن سلطان للاختفاء.

وفيما لاتزال الفضائح المالية والأمنية تلاحق الامير بندر بن سلطان سواء في الولايات المتحدة وبريطانيا أو حتى على مستوى العلاقات السرية المشبوهة مع رئيس الموساد مائير داغان، وهو ما كان يحاول معالجتها عن طريق الهدايا النفيسه للمسؤولين وزوجاتهم في هذه الدول، فإن ثمة خشية لدى الأمير بندر بأن المال قد يعجز في مرحلة ما في حل مشكلاته حين تضع السياسة يدها على المال.

تلقى الامير بندر أولى اشارات الحرب عليه حين وجهت جهات رسمية وحزبية واعلامية وازنة اتهامات لزوجته الاميرة هيفاء بتمويل الارهابيين، ما دفع به لاتخاذ قرار مباشر لعرض قصره في ولايه كولورادو للبيع بمبلغ 135 مليون دولار. وبحسب شبكة (إيه بي سي) الإخبارية الأمريكية في يوليو الماضي أن قيمة قصر الأمير بندر الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي، والذي وصفته بـ(أحد أكثر الرجال تأثيرًا على وجه الأرض)، قد تراجعت من 135 مليون دولار في 2006 إلى 62 مليون دولار هذا العام. وذكرت الشبكة أن مفتش ضرائب المقاطعة التي يوجد بها القصر قدر مؤخرا القيمة الإجمالية للقصر بـ113 مليون دولار، لكن المحامي نجح في إقناعه بخفض هذا الرقم إلى 88 مليون دولار، برغم اقتناع المحامي بأن قيمته (لا تساوي اليوم سوى 62 مليون دولار).

لا يبدو أن الامير بندر يرغب في مغادرة الولايات المتحدة التي يرى فيها المكان الذي يمكن منه الانطلاق الى طموحاته السياسية في بلده أو حتى على المستوى العالمي. ولكن هناك من يرى في أن طموحاته لا تخلو من أخطاء فادحة وربما قاتلة، فالرجل تحوّل الى آلة دمار بدون توقف ما جعله يخسر حتى حلفاء في الشرق الأوسط، فالصورة المشوّهة التي هو عليها لا تجعله قادراً على العمل في العلن، فسيمضي بقية حياته يدير معاركه في الظلام، وهناك فحسب يمكن له ان يعوض بعض ما يستحيل عليه تحقيقه في النور.

فبالرغم من كل نجاحاته الملطّخة بالدم والعار، فإن فشلاً محدقاً بكل محاولاته في العمل بصورة علنية فضلاً عن التفكير في الاضطلاع بمهام علنية على مستوى الشرق الأوسط. ما هو واضح في هذه المرحلة أن صانع الازمات لا دور له، فقد تعرّف عليه العالم بأنه مسؤول عن مناخات التأزيم، وسيبقى عاطلاً عن العمل حتى اشعار آخر، ولكن مجونه الفارط قد يفقده حتى الاستمتاع بحياة هانئة فإدمانه على الخمر قد أخضعه أكثر من مرة لفترات علاجية قاسية وطويلة، ويخشى ان يضع الادمان في فترة البطالة حداً لحياته.

الصفحة السابقة