ماذا بعد المصافحة؟

الحبال المشدودة بين الرياض ودمشق

محمد فلالي

هل كان مؤملاً أن يلعب لبنان دوراً بنائياً أو ترميمياً للعلاقات السعودية السورية؟ وهل أثمرت الجولات التي قام به موفد الملك الأمير عبد العزيز بن عبد الله والوزير خوجه في قلب صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة؟ ولماذا يرتاب السوريون من عروض السعوديين؟

المصادر السورية واللبنانية تؤكد بأن نفق العلاقات بين دمشق والرياض مازال مظلماً وليس هناك ما يدعو للتفاؤل بسبب شروط الرياض وغطرستها، في المقابل لن تفرّط دمشق في تحالفها مع ايران ولا المقاومة في لبنان وفلسطين من أجل عروض يرجح فيها الوهم على الحقيقة.

حتى الآن، لم تسفر تحركات الموفد السعودي ولا التصريحات الودية التي اطلقها رئيس الوزراء المكلف في لبنان سعد الحريري في إقناع دمشق بأن عهداً جديداً بدأ بهذه السرعة والانقلابية في العلاقات بين دمشق والرياض.

الملك عبد الله يرفض زيارة دمشق قبل تشكيل الرئيس المكلف سعد الحريري الحكومة في لبنان. فالملك بحسب مصادره السعودية واللبنانية يرفض ان يأتي الى دمشق تحت ضغط الورقة اللبنانية، فضلا عن أن يصطحب معه رئيس لم يخلص من مهمته ويبقى مجرد رئيس وزراء مكلف وليس وزراء فعلي ما يخضعه، حقا وباطلا، تحت ضغط نفسي وسياسي.

السعودية حين قررت الحوار مع سوريا كانت تدرك ما تملكه الأخيره من أوراق (حزب الله وحماس) والعلاقات الاستراتيجية مع ايران ومشروع الممانعة ، واذا ما ارادت الرياض الوصول الى حماس فلا بد أن تمر عبر دمشق وليس عبر القاهرة الراعي الرسمي لسلطة محمود عباس. واذا ما أرادت الوصول الى لبنان فلا بد ان تمر عبر بوابة دمشق، بل حتى العراق بات لدمشق مسار خاص يفرض على الرياض أن تسلكه، خصوصاً مع قرار ادارة اوباما مغادرة القوات الاميركية العراق في الفترة القادمة.

الصورة التي جمعت الملك عبد الله والرئيس بشار الاسد في قمة الكويت بعد عدوان غزة في ديسمبر ـ يناير الماضي لم تنجح في تبديد الصورة الواقعية حول الخلافات العميقة التي مازالت قائمة والتي تعكس البون الشاسع الذي يفصل نهجين متناقضين. بعيدلً عن لقطات الصور الباسمة فإن حنقاً متعاظما يسيطر على سلوك السعوديين والسوريين على السواء، خصوصا بعد خيبة امل الرياض من اداء دمشق.

مازالت صحف سعودية ومواقعها على شبكة الانترنت محجوبة في سورية شأن كثير من المواقع السعودية التي تمارس النقد الفاحش ضد النظام السوري الى حد باتت تضعه على محك الديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن هذه الصحف وكذلك القنوات السعودية لا تفعل الشيء ذاته مع أسوأ نظام شمولي عرفه العالم، أي النظام السعودي، الذي حارب في السر والعلن أي اصلاحات وان كانت على مستوى مجالس بلدية.

ورغم الحديث السوري عن عدم وجود خلافات مع الرياض ولا حاجة الى مصالحة بل مصارحة، وأن التنسيق السوري والسعودي قائم ولم يتوقف هو حديث يغيب في المداولات المباشرة التي يفصح فيها السوري عن غضبه من سلوك بعض الأمراء وخصوصاً وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل الذي يتهمه الرئيس السوري بأنه عمل مع أطراف أوروبية واميركية وربما اسرائيلية لزعزعة الاستقرار في سورية واسقاط النظام.

اعتقد الأمراء السعوديون بأن مجرد فوز حليفهم في لبنان (وقد أبلى المال النفطي بلاءً حسناً فيه) سيجعلهم صانع المعادلة الأوحد، فهو يقرر الحصص كما يقرر مناخ التهدئة والتوتير. ولذلك صار رئيس كتلة تيار المستقبل سعد الحريري يوزّع الحلويات السياسية بعد اللحظات الأولى من اعلان نتائج الانتخابات اعتقاداً منه بأنه بات يمسك بكل خيوط اللعبة ولا خوف على النفوذ السعودي بعد الآن.

النشوة التي صاحبت الأمراء بعد فوز حليفهم في لبنان لم تدم طويلاً، خصوصاً وأنهم اعتقدوا بأن ثأرهم لما جرى في 7 آيار 2008 قد يجعلهم في موقع المملي على الخاسرين في الانتخابات ما يشاؤون. وبدأت لعبة المساومات في اللحظات الاولى من اعلان النتائج، حين أطلق سعد الحريري تصريحات تنطوي على تطمين لحزب الله في موضوع سلاح المقاومة، وفي السر كان الحديث عن تطمينات فيما يرتبط بالمحكمة الدولية. وقد نقل الموفد السعودي الى دمشق ذات التطمينات الى القيادة السورية بشأن المحكمة الدولية.

وقد تنبّهت المعارضة اللبنانية وخصوصاً حزب الله وكذلك القيادة السورية الى التطمينات السعودية الملغومة، الأمر الذي دفع بها الى إسقاط تلك الأوراق التي بقيت حاضرة لسنوات في لعبة ما يشاؤون. وبدأت لعبة المساومات في اللحظات الاولى من اعلان النتائج، حين أطلق سعد الحريري تصريحات تنطوي على المساومات. الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بدا واضحاً في خطابه في ذكرى تحرير الاسرى في 14 يوليو الماضي بأنه لا يريد تطمينات من أحد في هذا العالم فيما يرتبط بسلاحه ولا بخصوص المحكمة الدولية، في إشارة واضحة الى ان استعمال هاتين الورقتين في المساومة على حصة المعارضة في الحكومة الوطنية اللبنانية أصبح بلا طائل. وكذلك فعلت دمشق التي عبّرت على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم بصورة قاطعة بأن موضوع المحكمة الدولية أصبح وراءنا وهو شأن لبناني ولا يعني سورية من قريب أو بعيد.

هذه المواقف المعلنة من جانب المعارضة اللبنانية والقيادة السورية كبحت جماح السعوديين وتوقّفت حركة الموفدين السعوديين الى دمشق وبيروت، وصار الكلام عن قمة سعودية سورية بعد زيارة الملك عبد الله الى واشنطن وربما أبعد من ذلك اذا لم ينجح الوسطاء في تعبيد الطريق بين الرياض ودمشق.

في الجانب السعودي ثمة أحاديث عن خلافات داخلية بين الملك ووزير خارجيته سعود الفيصل حول مقاربة المسألتين اللبنانية والسورية، وقد فهم السوريون من ايفاد الملك نجله الأمير عبد العزيز بن عبد الله الى دمشق في مهمة يفترض ان يقوم بها وزير الخارجية على أن ثمة استجابة لرغبة القيادة السورية في أن يأتي الى دمشق من يمثّل فعلياً رؤية الملك، خصوصاً بعد أن أبلغ الرئيس السوري بشار الأسد

الأخير ما قام به سعود الفيصل في السنوات الماضية من نشاطات تحريضية على النظام في سورية. المشكلة بقيت في أن موفد الملك لم يكن وحده فقد كان مصحوباً بوزير الاعلام والثقافة والسفير السعودي السابق في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجه، المقرّب من سعود الفيصل. قيل في بداية تعيينه بأنه من رجال الملك عبد الله، ولكنه أصبح لاحقاً من رجال سعود الفيصل، وخصوصاً بعد احتدام الصراعات على الساحة اللبنانية وهروب خوجه عبر البحار الى قبرص عائداً الى الديار بعد أحداث 7 آيار ولسان حال البعض يقول يكاد المريب ان يقول خذوني. فهناك ثأر يضمره خوجه للمعارضة اللبنانية لما فعلته به وبحلفاء دولته.

لم يخف السوريون انزعاجهم من الادوار التخريبية لرجل سعود الفيصل خلال زيارات الوفد السعودي الى دمشق، وعبّر دبلوماسي سوري عن ذلك بقوله ان عبد العزيز خوجه كان يضطلع بمهمة تعطيل اي تفاهم بخصوص ترتيبات العلاقة السورية السعودية على قاعدة تسوية المسائل الخلافية في لبنان وفي مقدمها حكومة الوحدة الوطنية.

بات واضحاً بعد توقف زيارات الوفد السعودي الى دمشق وصمت الجانبين السوري والسعودي عن الزيارة المرتقبة للملك عبد الله برفقة رئيس الوزراء اللبناني المكلّف سعد الحريري الى دمشق بأن المساعي السعودي لجني ثمار فوز حلفاء الرياض في لبنان قد باءت بالفشل على الأقل بحسب ما كان يخطط له الأمراء. وفيما تتحدث بعض الأطراف اللبنانية المتشائمة عن أزمة جديدة سيشهدها لبنان على خلفية الخلاف السوري السعودي، وإصرار المعارضة اللبنانية على المشاركة الفعلية، التي تشتمل على مبدأ الثلث الضامن أو المعطّل، فإن إطرافاً أخرى ترى بأن السعوديين سيواصلون حشد أوراق ضغط جديدة لبنانياً وإقليمياً ودولياً من أجل فرض واقع يرغم السوريين وحلفاءهم للقبول بالشروط السعودية الأميركية.

ولأن قراراً أميركياً بضرورة التهدئة في لبنان من أجل تهيئة مناخ التسوية في المنطقة تكون سورية طرفاً أساسياً فيه، فإن خيار التفجير الأمني لم يعد راجحاً ما لم تصل ترتيبات عملية التسوية الى طريق مسدود، وهو أمر وارد أيضاً في ظل تعنّت اسرائيلي على مواصلة بناء المستوطنات وتوسعتها وتهويد القدس وترحيل فلسطينيي 48 الى خارج حدود الكيان الاسرائيلي. بالنسبة للأميركيين، فإن ثمة رغبة واضحة في التوصل الى عملية سلام شامله بين العرب والكيان الاسرائيلي مهما كانت الظروف والشروط، ولذلك يعمل الاسرائيليون بأقصى طاقتهم من أجل فرض واقع تفاوضي يحصر هامش الخيارات بالنسبة للفلسطينيين والحكومات العربية في نطاق الحديث عن مجرد وقف بناء مستوطنات وتناسي القضايا الكبرى وهي الاحتلال واللاجئين والقدس.

هذا المشهد هو ما يجعل السعوديين عاجزين عن اعتماد بدائل أخرى في الساحة اللبنانية الى جانب خيار المساومات، وهي بالتأكيد لا تريد أن يكرر سعد الحريري تجربة فؤاد السنيورة الذي مثّل رأس الأزمة في لبنان، واذا ما أرادت السعودية ان تحكم لبنان على طريقة حليفها السابق رفيق الحريري عبر المشاريع الاقتصادية وتمديد أفق المال الانتخابي بحيث يخترق التحصينات السياسية والحزبية والطائفية فإنها بحاجة الى رئيس حكومة توافقي، أي يحظى بقبول غالبية القوى السياسية في لبنان، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

بالنسبة للسوريين، فإن لا شيء مستعجل يجبرهم على القبول بالشروط السعودية، فإن نتائج الانتخابات البرلمانية في لبنان لن تغيّر حقائق السياسة والجغرافيا، فمازالت المعارضة تحظى بغالبية شعبية ومتحصّنة بقوة في معاقلها وخصوصاً في المناطق التي تمثل الثقل الأمني والسياسي بالنسبة لسورية. من جهة ثانية، فإن سورية تبقى الرئة الكبرى للسياسة والاقتصاد في لبنان، ولا ترتيبات مهما كانت ستتم على حساب هذه الحقائق. ما يزيد الأمر سهولة بالنسبة للجانب السوري أن التفاهم الاستراتيجي بين دمشق وطهران يجعلها في موقف قوي حيال أي مداولات في الشأن اللبناني.

وبعد أن هدأت العاصفة السياسية التي واجهت سورية من الغرب ومن أطراف لبنانية حليفة للسعودية، فإن دمشق لا تجد نفسها في المرحلة الحالية مرغمة على القبول بمعادلة قد تضمر شرا لها في وقت ما، فقد عاد بعض خصومها إليها وهم يحاولون الآن طرق بوابة دمشق مجدداً. بكلمات أخرى، لم تعد القيادة السورية خاضعة تحت ضغوط لا محلية ولا عربية ولا دولية، بل ان مجرد مبادرة السعوديين بالحوار مع دمشق في المسألة اللبنانية إقرار عملي بأن لا إمكانية قائمة في أي حال كان عليه خصومها تجاوزها.

ما يريده الملك عبد الله من القيادة السورية على قاعدة القبول بالواقع الذي تصنعه الانتخابات في لبنان لا يمكن أن يتحقق بسهولة ما لم يقبل الأمراء بأن لبنان لا يحكمه طرف وأن مبدأ الشراكة الوطنية المتكافئة خيار انقاذي.

ما يتجاهله السعوديون دائماً أن مصادر القوة التي بحوزتهم غير كافية لصنع معادلة دائمة في لبنان، وقد جرّبوا ذلك مراراً ولكن فيما يبدو فإن نشوة الانتصارات الجزئية والمؤقتة تنسيهم في الغالب ما يجب فعله في المنظور الاستراتيجي.

الصفحة السابقة