كيف يشتري آل سعود الذمم

دبلوماسية (فنجان القهوة)

محمد السباعي

المال السعودي لعب دوراً سحرياً في تغيير قناعات بعض القادة السياسيين بمن فيهم مناضلين ورموز جهادية وبعض علماء الدين من مختلف الطيف الاسلامي وربما المسيحي وخصوصاً في لبنان ومصر وفلسطين والعراق.. فقد تبدّلت القناعات حول هذه الدولة بمجرد زيارات معدّة سلفاً.

ينقل محمد جلال كشك في كتابه (السعودية والحل الاسلامي) أن أحد قادة الاحزاب اليسارية في مصر زار السعودية في الستينيات فعاد الى مصر أكثر إلحاداً، بينما كتب لطفي الخولي في جريدة (الحياة) السعودية خلاصة تجربة زيارة قام به الى المملكة في مطلع التسعينيات، وكتب بقلم تنبعث منه رائحة النفط عن انطباعات انفرد بها دون بقية المواطنين فضلاً عن الخبراء في الشأن السعودي.

ونقل عن زعيم ديني عراقي قضى نحبه في اغتيال دبّره له وهابيون أنه التقى في التسعينيات بالملك فهد وعاد بانطباع مدهش، ونقل عنه قوله بأنه مؤمن ويخاف الله، ولربما سمع البعض عن انطباعات مماثلة نقلها قادة اخرون في ارجاء مختلفة من المنطقة عن الملك عبد الله الذي نال من النعوت يفوق ما قيل في الملك فيصل. يعلّق أحد الناشطين السياسيين على تلك المواقف بالقول (لابد أنهم شربوا من فنجان القهوة السحري) في إشارة الى الأموال التي يغدقها آل سعود على ضيوفهم.

هذه الدبلوماسية تعود الى فترة مؤسس دولة ال سعود الملك عبد العزيز الذي كان يخصص جزءا من النفقات على شراء ذمم خصومه من زعماء القبائل، وقد أصبح نظام (الشرهات) الذي فرضه إبن سعود ثابتاً في العهود اللاحقة، وتم تطويره بحيث يشمل علماء دين وزعماء سياسيين في الخارج. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تجد انقلاباً دراماتيكياً في مواقف هؤلاء من آل سعود، فبعد أن كانوا يصفونهم بأبشع النعوت، فإذا بأحدهم يعتبر الملك عبد العزيز بأنه خامس الخلفاء الراشدين، ويصفه آخر بأنه قائد الأمة الاسلامية وزعيمها المؤمن. وقد تكررت هذه المواقف مع الملوك اللاحقين، الى حد أن بعضهم كان على استعداد لمخالفة ما يعرفه القاصي والداني عن مجون الأمراء لينفي عنهم كل رذيلة ويسبغ عليهم من الفضائل برائحة النفط والقهوة الملكية ما يضعهم في صفوف الحواريين.

تنقل مصادر غربية أن العائلة المالكة تخصص ما يقرب من مليار ونصف المليار دولار لشراء ذمم علماء الدين والسياسيين في الخارج، وتقول المصادر بأن لجنة تشكلت من وزارة الاعلام ووزارة الداخلية والخارجية لرصد نشاطات هؤلاء وسبل اختراقها عن طريق تقديم الهبات المالية. وتؤكد هذه المصادر بأنه غالباً ما يدعى هؤلاء الى زيارة المملكة ليخضعوا تحت وطأة (حفاوة) متقنة بعناية، فيعودوا الى ديارهم بكثير من المال ثمناً لمواقف يأمل الأمراء أن تنعكس في تصريحاتهم وخطبهم ومواقفهم.

كل خصوم السعودية من العلماء والسياسيين هم في مركز الاستهداف المالي، ويسعى الأمراء ان يتجرّع هؤلاء (فنجان القهوة) السحري في قصر الملك او أي من قصور الأمراء. وقد شرب كثيرون من هذا الفنجان، الذي شرب منه ملوك ورؤوساء عرب فصاروا حلفاء وربما أولاد مطيعين للعائلة المالكة، وهناك من قابل الفنجان بالفنجان كما فعل صدام الذي سقى زعماء واعلاميين وأدباء من فنجانه النفطي، ولكن بعد 9 ابريل 2003 انتقل ضحايا (القهوة العراقية) التي كان يقدّمها (زلم) صدام حسين الى المجالس السعودية، فبدّلوا على وجه السرعة جلدتهم الايديولوجية، وكانوا على استعداد لأن يكونوا سلفيين بعد ان كانوا بعثيين، وأن يطيلوا اللحية ويقصروا الثوب طمعاً في الحصول على مزيد من (القهوة البدوية) برائحة النفط.

اللافت ان طموح ال سعود في الطوفان بفنجان القهوة يصل أحياناً الى من لا يتوقع منهم قبول الدعوة، مثل زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله، وقد دعي مراراً من قبل الملك عبد الله لزيارة القصر الملكي. لم يقبل الاخير عذر نصر الله في عدم قبول الدعوة بسبب الترتيبات الأمنية، ولكنه يعلم بأن زيارته يعني تآكل مصداقيته كزعيم للمقاومة، فيما سيزهو الملك والعائلة المالكة عموماً بأنهم جاءوا بـ (الاسد) الى القفص الذهبي، وأسقوه من فنجان القهوة. ربما فهم نصر الله ذلك، فقرر وهو الذي شعر بجرح كبير من بيان (المغامرة) السعودي الذي أصدره بندر بن سلطان في اليوم الأول للحرب الاسرائيلية على لبنان في 12 يوليو 2006، ألا يقدّم ما يمكن استغلاله سعودياً ويكون تنازلاً مجانياً.

نشير هنا الى ان مؤسس حركة أمل موسى الصدر كان يحتفظ بعلاقات جيدة مع الملك فيصل وزار الرياض والتقى بالاخير، وقد اقتفى خلفه في رئاسة المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في لبنان الشيخ محمد مهدي شمس الدين سيرته وكان يتردد على المملكة كثيراً في زيارات معلنة واخرى نصف أو ربع معلنة، واحتفظ بعلاقات وثيقة مع الملك عبد الله. وتنتشر في الاوساط اللبنانية وحتى الشيعية أن المجلس كان يتلقى، على الأقل الى حين رحيل الشيخ شمس الدين، مخصصات مالية مقطوعة من المملكة. وقد جرّب الأمراء مع الزعيم الديني البارز محمد حسين فضل الله أن يدعوه الى فنجان القهوة ولكنه رفض ذلك. وتنقل مصادر لبنانية بأن وفداً سعودياً جاء الى فضل الله وقدّم عرضاً سخياً من أجل اغلاق ملف تفجير بئر العبد في منتصف الثمانينات بعد أن كشفت روبن رايت في كتابها (الجهاد المقدّس) وكذا بوب وودورد في كتابه الحجاب عن تورط الأمير بندر بن سلطان في تمويل عملية التفجير حيث دفع الى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية 10 ملايين دولار لتغطية نفقات تنفيذ الاغتيال، ولكن العملية فشلت بفعل فارق التوقيت فيما وقع العشرات ضحايا مؤامرة سعودية ـ اميركية. على أية حال، لم يغفر فضل الله للسعوديين مخططهم، وكان يرفض كل وساطة تؤول الى مجلس (فنجان القهوة)، رغم زياراته المتكررة الى الديار المقدّسة من اجل العمرة والحج في السنوات التي اعقبت الحادثة.

في كمين آخر نصبه الأمراء وشياطينهم من المحسوبين على فريق الـ (ثينك تانك) لاستدراج الزعيم الديني الشيعي في النجف السيد السيستاني، الذي تلقى دعوات متكررة من الملك للمشاركة في مؤتمر حول المصالحة في العراق والذي عقد في الحجاز في 2004 وماتلاها، ولكنه أيضاً رفض الدعوة.. ويبدو من إصرار الأمراء على مشاركة السيستاني أن لا هدف للمؤتمر سوى لاستدراج الرجل الى مجلس (فنجان القهوة). وبحسب مقرّبين من بيت هذا الزعيم أن السعودية كانت تستهدف التقليل من شأن المكانة الروحية والسياسية للسيستاني حين تضعه في مرتبة سواء مع شخصيات أخرى لا تملك حيثية شعبية ولا روحية كالتي يحوز عليها هذا الرجل.

في المقابل، هناك من صغار السياسيين ورجال الدين وبعض المنتفعين والمستنفعين من جاء مطئطئاً رأسه وجيبه لفنجان القهوة، الذي ما ان يشربوا منه أول مرة حتى يطلبوا مزيداً منه. أحد رجال الدين اللبنانيين جاء الى لندن بقليل من العلم والقليل القليل من الايمان وكان يبحث عن السبيل الى (فنجان قهوة) في أي من السفارات الخليجية، وحين بدأت جولة التحضيرات للانتخابات اللبنانية فتحت طاقة القدر السعودي له، فملأوا ركابه فضة وذهباً وصار يبيع آل سعود أوهاماً بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من زعامة لبنان الدينية والسياسية والتاريخية. ولكن حين أسفرت الانتخابات عن نتائجها بدا الرجل وحيداً فريداً بلا صوت ولا صورة.

أحد الذين أدمنوا على شرب فنجان القهوة البدوية يقول مازحاً: طالما ان لدى السعوديين شهية الانفاق فلماذا لا نقابلها بشهية الاستيعاب، فهم ينفقون بلا حساب وقد ينسون هوية من أنفقوا عليهم، ولذلك لا تتفاجئوا حين تكثر (تلفونات العملة) في أرجاء متفرقة ليس في لبنان وحده بل في أرجاء عالمنا العربي بل والعالم بأسره، فالذين يحبون المال السعودي حباً جماً يدركون سلفاً بأنهم يقبضون ثمن مواقفهم، وهم على استعداد لأن يقولوا في (النهار) ما عارضوه في (الديار) أو كتموه في (الحياة) أو أفحشوا بالقول في (الشرق الأوسط)، فهو عالم يخضع لمنطق، حسب قوله، (بزنس إز بزنس).

في حرب الخليج الثانية، تفاجأ السعوديون بأن الأموال التي أنفقوها على علماء وزعماء سياسيين واعلاميين كانت عليهم حسرة، بحسب منطق الآية الكريمة (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة). فقد كانت العائلة المالكة تبحث عن الذين شربوا من (فنجان القهوة) كيما يقابلوه بموقف مؤيد للعائلة المالكة في الاحتلال العراقي للكويت والتهديد المحتمل بمواصلة القوات العراقية الصدامية زحفها نحو الجنوب والغرب من الجزيرة العربية. أجرى العلماء والأمراء اتصالاتهم لعقد مؤتمر في مكة المكرمة من أجل إدانة الغزو العراقي للكويت وشرعنة استقدام القوات الأميركية للجزيرة العربية، فلم يستجب العلماء الكبار في الخارج، فاضطر المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز أن يناقض رأيه السابق الذي عبّر عن في كتابه (نقد القومية العربية) والذي حرّم فيه الاستعانة بالمشركين، وأصدر فتوى تجيز استعانة المسلمين بقوات من المشركين لدفع خطر قوات غازية من المسلمين. وجاءت خيبة الأمل الأخرى من موقف قيادات عربية أدمنت على شرب (فنجان القهوة) السعودية حتى الثمالة مثل ملك الأردن السابق والرئيس اليمني علي عبد الله صالح ورئيس منظمة التحرير الزعيم ياسر عرفات، الذين وقفوا الى جانب الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

تدرك العائلة المالكة بأن وجودها واستقرار حكمها مرتبط بقدرته على إبقاء خيار (فنجان القهوة) حاضراً على الدوام، وبه وحده يمكن لها أن تحافظ على تحالفاتها وتدرء الأخطار عنها. وقد اختبرت في الشدائد كيف أنها تخسر سريعاً كل ماتبنيه في عقود بمجرد أن يصبح (فنجان القوة) فارغاً، وهذا الحال لا يقتصر على الخارج بل حتى في الداخل، فهيبة الدولة لم تتصدع الا بعد ان توقف الأمراء عن دفع الشرهات لحلفائهم الذين سرعان ما إن يجهروا بالعداء لآل سعود، فشعار (الله يخلي آل سعود) يبقى صالحاً طالما أن (دلة) القهوة تطوف على مرتادي مجالس الأمراء وتختتم بـ (شرهات) ثابتة ومرضية.

تدرك العائلة المالكة بأن وجودها واستقرار حكمها مرتبط بقدرته على إبقاء خيار (فنجان القهوة) حاضراً على الدوام، وبه وحده يمكن لها أن تحافظ على تحالفاتها وتدرء الأخطار عنها. وقد اختبرت في الشدائد كيف أنها تخسر سريعاً كل ماتبنيه في عقود بمجرد أن يصبح (فنجان القوة) فارغاً، وهذا الحال لا يقتصر على الخارج بل حتى في الداخل، فهيبة الدولة لم تتصدع الا بعد ان توقف الأمراء عن دفع الشرهات لحلفائهم الذين سرعان ما إن يجهروا بالعداء لآل سعود، فشعار (الله يخلي آل سعود) يبقى صالحاً طالما أن (دلة) القهوة تطوف على مرتادي مجالس الأمراء وتختتم بـ (شرهات) ثابتة ومرضية.

الصفحة السابقة