من وحي يوم القدس العالمي

السعودية وفلسطين.. خسارة النفوذ والمكانة

ناصر عنقاوي

حين تفجرت الصراعات بين الفلسطينيين والقوات البريطانية المحتلّة للأراضي المقدّسة، كان الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية في أطيب حال، وعلى علاقة وثيقة مع الإنجليز، وممثلهم في جدّة. وكان دائماً ما يشير الى حبّه لبريطانيا، والى ممثليها الذين يتقنون اللغة العربية وليسوا (يرطنون) كما كان المبعوثون الاميركيون يفعلون!

الملك عبدالعزيز لم تكن تعنيه قضية فلسطين كثيراً، لا من الزاوية الدينية، ولا من جهة أنها أرض مقدّسة محتلّة. نعم هو اهتم بها لأنه كان في صراع مع الهاشميين وخاصة أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين، وكان يرفض أن تتحرر فلسطين من المحتلين البريطانيين إن كان تحررها سيزيد من رصيد الأردن وأميرها (ملكها فيما بعد)، بل أن الوثائق البريطانية تشير الى أن عبدالعزيز حذّر البريطانيين من إنهاء احتلالهم لفلسطين!

بعض الباحثين رأى بأن سياسة السعودية تجاه فلسطين ومنذ العشرينيات الميلادية الماضية وحتى قيام الدولة الصهيونية، كان مدفوعاً بصراعه مع الهاشميين. لم يكن الملك يأبه بإسلامية القضيّة، وهو لم يقم بشيء في هذا السبيل، بل أنه منع الفلسطينيين حتى من توزيع منشورات فلسطينية وكتب على الحجاج، وأمر مستشاره يوسف ياسين بأن يـ (سنّعها) أي يحرقها. الإنجليز كانوا يقولون ـ حسب وثائقهم في الثلاثينيات ـ أن تلك كانت (منشورات شيوعية)! أي أنها تحوي قدراً من التحريض على حليف عبدالعزيز (انجلترا).. وتحوي الوثائق البريطانية السنوية قدراً كبيراً من التفاصيل في هذا الشأن لمن أراد الرجوع اليها، وكيف أنهم كانوا يراقبون الحجاج الفلسطينيين لمنعهم من تحصيل النصرة من إخوانهم المسلمين.

جنود سعوديون في حرب 1948م

لم يستخدم عبدالعزيز مكانته لدى الإنجليز للتخفيف من آلام الفلسطينيين تحت الإحتلال، حتى بعد تزايد المصادمات مع العصابات الصهيونية وتكاثر أعداد المهاجرين الى فلسطين، بناء على السياسة البريطانية في خلق وطن قومي لليهود. وإزاء هذا، كان طبيعياً أن يعرض حاييم وايزمن، على الملك عبدالعزيز ـ ومن خلال مستشاره جون فيلبي ـ أربعين مليون جنيه استرلينياً مقابل المساعدة في تحقيق الحلم الصهيوني. وكاد عبدالعزيز أن يقبل بالأمر فعلاً، خاصة وأنه كان في ضائقة مالية، لولا أن احد مستشاريه (فؤاد حمزة) نبّهه الى المخاطر الكامنة وراء موافقته والتي قد تستثير حتى رعيته.

القادة الفلسطينيون كانوا يرسلون الرسل الى عبدالعزيز طالبين الدعم والنصرة، وكانوا يشرحون له خطورة الوضع، وكيف أن أعداد اليهود في تزايد، وأن حكومة الإنتداب البريطانية تمهد الطريق في كل سياساتها لذلك. لكن ابن سعود (عبدالعزيز) كان يقابلهم بأذن صمّاء، وكان ينصحهم بعدم الصراع والإصطدام مع بريطانيا التي كان يصفها بالمحبّة للعرب. وذات مرّة أرسل ابنه سعود (الملك فيما بعد) وذلك قبل اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936ـ1939) ليطوف على الفلسطينيين للإطلاع والنصح، وكذلك للإلتقاء بالإنجليز هناك والذين رحّبوا به، وطلبوا اليه أن ينصح المتشددين الفلسطينيين ـ حسب رأيهم ـ بالهدوء. يومها أقيم احتفال في (عنبتا) حضره الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود، الذي وقف فقال:

يا ذا الأمير أمام عينك شاعرٌ

ضُمّت على الشكوى المريرة أضلُعُه

المسجد الأقصى أجئتَ تزوره

أم جئتَ من قبل الضياع تودّعُه؟

حرم تباع لكل أوكع آبقٍ

ولكلّ أفّاق شريد أربُعه

وغداً وما أدناه لا يبقى لنا

دمعٌ لنا يهمي وسنٌّ نقرعه

من الواضح أن فلسطين كانت تشكل عبئاً سياسياً على آل سعود منذ اليوم الأول وحتى الآن. هم لم يروا منها ـ حسب رأيهم ـ إلا مصدراً للمشاكل. فهي من جهة تجرّدهم من شرعيتهم إن لم ينصروها؛ وهي تستثير حتى رعيتهم الذين انطلقوا للمشاركة في حرب 1948م كمتطوعين خلاف رغبة الحكومة وقد كان عددهم يفوق عدد الجنود الذين أرسلهم ابن سعود! ليحاربوا بأسلحة من القرن الثامن عشر (إقرأ كتاب الهزيمة الكبرى لأحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية).

وقضية فلسطين بالنسبة لآل سعود أصبحت مشكلة داخلية رغماً عنهم، حين انطلقت المظاهرات في مدن عديدة خاصة الشرقية تندد بالإنجليز والإحتلال والأمريكان وغيرهم، بل زاد الأمر ووصل الى حدّ الإضراب عن العمل في حقول النفط في الأربعينيات والخمسينيات الميلادية الماضية. وأيضاً، فإن آل سعود نظروا الى الفلسطينيين في تلك الفترة، والذين جاؤوا للعمل أو للتدريس، كمصدر خطر (لازالوا ينظرون اليهم كذلك) ولهذا تلقى هؤلاء الاعتقال والطرد، واتهموا بالتحريض على اصدقاء المملكة من امريكان وإنجليز!، وهو ما كشفت عنه الوثائق البريطانية أيضاً وبصورة واضحة (أرشيف وزارة الخارجية).

كلّما اشتدّت المشكلة الفلسطينية، انزعج آل سعود، وكأنهم هم من يعاني من المقاومة الفلسطينية للمحتل البريطاني أو الصهيوني. وحين اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في الثلاثينيات الميلادية الماضية، لم يساهم ابن سعود إلا في قتلها، حين ضغط على الثوار بأن يتوقفوا عن الإضراب الكبير، في وقت علّق فيه المناضلون على أعواد المشانق أو قتلوا بالرصاص. مجرد أربعة أسطر، كانت كافية لقتل الثورة تلك. والغريب أن أرشيف تلك الثورة موجود في قسم الوثائق البريطانية المتعلق بالسعودية، ما يكشف عن الدور الذي لعبه الملك عبد العزيز في إخمادها (يمكن مراجعة كتاب بيان نويهض الحوت لقراءة تلك المرحلة بوثائقها البريطانية).

لا نستطيع الإلمام بتفاصيل المواقف السعودية المخزية تجاه فلسطين في مقالة، ولكن يمكن القول بأن السعوديين لم يكونوا صادقين في الدفاع عن القضية، ومشايخ الوهابية لم يكونوا إلاّ تبعاً لاسيادهم، ولازلنا نتذكر فتوى الشيخ ابن باز حول الصلح مع اسرائيل، وتحريم العمليات الفدائية.. ومثل هذه المواقف انعكست على منتج الوهابية: (القاعدة) التي عيّرها الكثيرون بأنها مستعدّة للذهاب الى أفغانستان والشيشان والبوسنة والصومال وكينيا وأندونيسيا، ولكنها لم تستثمر أي جهد في مواجهة الصهاينة في فلسطين، على الأقل من الأراضي السعودية، حيث لا يوجد سوى بضعة أميال بحرية فاصلة عن الأراضي المحتلّة (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة). الصحوة من الغفلة جاءت متأخرة بسبب النقد؛ فوجهت القاعدة سهام نقدها لحزب الله ولحماس، وكل الإستثمار السعودي الوهابي كان معداً في نهر البارد وبضعة صواريخ تطلق من الجنوب اللبناني لتقول (نحن نقاتل اسرائيل) ومثلها الإمارة الإسلامية الوهابية التي صنّعها السعوديون في رفح وانفجرت على شكل مواجهة قبل نحو شهرين!

من الجهاد المقدس الذي أعلنه فهد، تمخّض عنه مبادرة الملك فهد في فاس، ثم المبادرة العربية التي أطلقت من بيروت عام 2003.

السعوديون لم يخلقوا لقتال، ولا يريدون لقضية فلسطين أن تؤثر على علاقاتهم مع أميركا، أو تؤثر في سياساتهم. قيل لهم دونكم النفط: قالوا بأن العرب أقوى بالنفط من استخدامه كسلاح سياسي. قيل لهم كيف يمكن للفلسطينيين ان يعيشوا على معونات الغرب بأكثر من معوناتكم، قالوا نحن ندفع ولا نمنّ. لماذا السلاح إذن الذي تشترونه، ولأي عدو توجهونه؟ يقولون إنه سلاح للدفاع عن النفس، وليس للتحرير. قيل لهم اضغطوا على أميركا، أوروبا، أو حتى على أصدقائكم حكام المغرب الذين يقابلون المسؤولين الإسرائيليين في وضح النهار. إن لم تكونوا فاعلين هذا، فكفّوا أذاكم عن المجاهدين. أخرسوا إعلامكم المتصهين. أوقفوا اتصالاتكم باسرائيل ومسؤوليها.

لا حياة لمن تنادي. والآن وإزاء هذه السياسة يموت أهل غزة جوعاً، وتحاصرهم مصر بأمر من أميركا والسعودية، ويشن الإعلام السعودي حملاته على حماس، ويتم الترويج للسلام المأزوم بالمزيد من التنازلات.

بعد هذا يأتي الملك عبدالله ومسؤولي السعودية، ليقولوا بأن قضية فلسطين تخص العرب! وكان آل سعود فيما مضى يشتمون عبدالناصر حين أكد على عروبة القضية، وقالوا ـ من باب المناكفة ـ بأنها قضية إسلامية. أما اليوم، فحين أحرجتهم إيران بمواقفها، وكسبت لها نفوذاً في نفوس العرب وغير العرب، لدفاعها عن قضية فلسطين، جاؤوا ليقولوا: وما دخل إيران في ذلك!

ولأنهم لا يستطيعون مجاراتها في مواقفها، فإنهم يريدون التخلّص من القضية الفلسطينية برمّتها.

قال الملك عبدالله لخالد مشعل ذات مرّة، في فترة محاولة المصالحة بين حماس وفتح في الرياض: عدوكم هو إيران!

لا بدّ من تضخيم خطر العدو الإيراني لينجو آل سعود من سؤال العرب أجمعين: ماذا تفعلون أنتم لتحرير الأراضي المقدسة؟ ما فائدة أموالكم وأسلحتكم وعلاقاتكم مع القوى الكبرى إن لم ترفع الضيم عن الشعب الفلسطيني؟ لماذا تضعون أنفسكم على رأس قيادة المسلمين وحماية الأراضي المقدسة وتتناسون القدس التي تبتلع أمام ناظريكم؟

الخطر الإيراني يجري تضخيمه في الإعلام السعودي، فهو الخطر الأول وليس إسرائيل. هذا ما يؤكد عليه الإعلام المسعود، ومشايخ الوهابية الجهلة. أما الخطر الإسرائيلي فالعرب والفلسطينيون بشكل خاص كما السعوديين بمنأى عنه!

لكن هذا لا يحلّ القضية.. إن انكشاف موقف السعودية بسبب السياسة الإيرانية تجاه فلسطين، هو الذي يحرّضها على التخلّص منها والى الأبد. فلسطين كانت عبئاً سياسياً ولاتزال، وآل سعود يريدون التخلّص من القضية بأية صورة، وحتى في ظل متطرف كنتنياهو ووزير خارجيته ليبرمان. كل العاقلين يرون استحالة في تحقيق السلام مع العدو، لكن آل سعود يرون بأنه ممكن مع مزيد من التنازلات من الجانب الفلسطيني. فالهدف النهائي، هو إيجاد اتفاقية كيفما اتفق مع اسرائيل للتفرغ لحرب إيران، وبالتعاون مع إسرائيل كما هو واضح اليوم من تنسيق المواقف والضغط على البيت الأبيض باتجاه الذهاب بعيداً الى حد الحرب ضد ايران.

لقد باع آل سعود فلسطين بثمن بخس وكانوا فيها من الزاهدين.

أما الدعم القليل الذي يأتي الفلسطينيين من السعودية، فهدفه القول بأن ال سعود لم يتخلّوا عن القضية، وأنهم ينافحون عنها. اي ان الدعم القليل هذا يعود بالنفع على آل سعود في تأكيد شرعية حكمهم داخلياً، وفي أحقيتهم بإدارة الأماكن المقدسة، وتثبيت جدارتهم بأنهم الرأس المدافع عن المسلمين!

وهناك سبب آخر إزاء هذا الدعم الذي لا يكفي حتى أن يبقي الناس أحياء في أرض الرباط.. وهو أن السعودية تخشى من انتقام الفصائل الفلسطينية، وبعضها سبق له وأن هدد السعودية بأعمال عنف، كما أن لسان الفلسطينيين سيطول على آل سعود ويحرجهم إن هم فتحوه منتقدين. فالمال ـ من أحد أوجهه ـ يدفع بحساب هنا لكفّ الأذى، وليس للتحرير، ولا هو يقيم الأود حتى.

من يخسر فلسطين يخسر الشرعية الدينية والوطنية.. وال سعود لا يريدون أن يظهروا كذلك، ولكن مواقفهم في السنوات الأخيرة كشفت حقيقتهم، وأماطت اللثام عن مخبرهم. وصارت فلسطين والموقف منها عامل تهديد للنفوذ والمكانة السعودية على الصعيد الإسلامي، وحتى على الصعيد المحلّي.

السعوديون حين تخلّوا عن فلسطين، فإنها تخلّت عنهم وجرّدتهم من سمعتهم ومكانتهم ومن رجولتهم ونخوتهم، وحتى من ديانتهم المزعومة.

لهذا ففلسطين اليوم سكينة في خاصرة آل سعود، وسوف تبقى كذلك الى أن تحلّ. ولن يكون حلّها على يد آل سعود ووفق مبادراتهم التي تعطي اسرائيل ما تشتهيه، بل وفق ما يريده أهلها وناسها، الذين قرروا حين انتخبوا حماس الوجهة التي يرون فيها مصيرهم ومصير وطنهم، ولكن الحماقة السعودية واجهت هؤلاء فكشف حكامها بذلك عن سوءتهم وتسببوا في إلحاق الخزي والعار بذواتهم.

الصفحة السابقة