لندن تزرع في موسكو وتحصد في الرياض

صفقة (سلام) مجدداً.. دورة فساد أخرى!

ضاعف السعوديون والبريطانيون من سماكة حاجز السرية حول الصفقات
العسكرية بعد تبعثر أسرار (اليمامة) المثيرة للإشمئزاز

محمد قستي

ما علاقة زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند إلى روسيا في الثاني من نوفمبر بالملف النووي الايراني؟، وماعلاقة زيارة وزير الدفاع البريطاني بوب انسورث إلى الرياض في 4 نوفمبر بزيارة زميله ميليباند الى موسكو؟

وهل هدف الزيارة كيما يقبض فيها الدفاع البريطاني ثمن التحرك الدبلوماسي، (سلام مثلاً) مقابل الدور البريطاني في اقناع روسيا للتخلي عن ايران.. المسعى البريطاني يأتي بعد مرور أكثر من عام على تحرّك سعودي قاده الأمين العام لمجلس الأمن الوطني بندر بن سلطان، الذي اختفى فجأة بعد هزيمة المحافظين في أمريكا، وفشل خطة الإطاحة بالملك عبد الله، إضافة إلى عوامل أخرى محلية ودولية.

لم يفشل التحرّك السعودي لإقناع روسيا بوقف تعاونها مع ايران، ونجحت موسكو في إقناع الرياض بجدوى العلاقة معها، بعد أن كشفت عن نوايا الامير بندر بن سلطان في مرحلة مبكّرة، فقرر الملك عبد الله تسهيل الصفقة العسكرية التي حملها الأمير بندر بن سلطان معه الى القيادة الروسية كثمن مقابل وقف التعاون مع طهران، فقد استلمت روسيا ثمن موقفها السلبي مع ايران بصفقة عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار.

وزيرالدفاع البريطاني مع خالد بن سلطان في الرياض

وكانت صحيفة (فاينانشيال تايمز) البريطانية نقلت في عددها الصادر في 30 سبتمبر الماضي عن مصادر دبلوماسية مطّلعة على سير المفاوضات بين الرياض وموسكو قولها (إن قيمة الصفقة السعودية المقترحة تصل إلى ملياري دولار، ويمكن أن تصل إلى سبعة مليارات دولار، وتشمل نظاماً يُعد الأكثر تطوراً من نوعه في أنظمة الدفاع الجوي الروسية وهو صواريخ (إس 400)، التي تحاكي نظام الدفاع الصاروخي الأميركي (باتريوت). وعلّقت الصحيفة حينذاك (إن روسيا تتعرض لضغوط شديدة من الولايات المتحدة ومن دول عدة في الشرق الأوسط بما فيها السعودية وإسرائيل كي لا تتم صفقة سابقة ببيع النسخة الأقدم من هذا النظام (إس 300) لطهران، والتي كانت إيران قد أعلنت عنها أول مرة عام 2007).

وسعى الرئيس الأميركي باراك أوباما حين زارموسكو في تموز/يوليو الماضي إلى الحصول على تأكيدات من المسؤولين الروس بعدم إتمام الصفقة. وتوقعت صحيفة (فاينانشيال تايمز) أن تكون روسيا قد قدمت للولايات المتحدة تأكيدات غير رسمية بعدم المضي في عقد نظام (إس 300). وقال رسلان بوخوف مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنية في موسكو للصحيفة البريطانية: (الصفقة السعودية مع روسيا حافز لقتل الصفقة الايرانية)، واصفاً الضغوط الأميركية على موسكو بالعصا، وشراء السعودية أسلحة ضخمة منها، هي الجزرة، كي لا تسلم نظام الدفاع الصاروخي إلى طهران). وأضاف بوخوف المتخصص في مجال صناعة الاسلحة (كلنا يعلم أن السعوديين يشترون الأسلحة كرشوة للقوى الكبرى للحصول على دعمها، لكن في حال امتنعت روسيا عن بيع نظام الدفاع الصاروخي إلى ايران، فإن ذلك سيضر بسمعتها في أسواق السلاح العالمية).

وفي الأول من أكتوبر الماضي، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية بأن السعودية تشتري نظام دفاعي جوي روسي لمواجهة ايران، ونقلت عن محللين ودبلوماسيين قولهم ان السعودية تسعى الى شراء نظام دفاع جوي روسي متطور بموازاة اقتراب الجار الايراني الشيعي من الحصول على تقنيات نووية يمكن أن تستخدم لغايات عسكرية. وقال المحللون والدبلوماسيون أن موسكو والرياض إقتربتا من ابرام الصفقة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات وتشمل مجموعة من الأسلحة يمكن أن تشمل نظام "اس 400" المتطور للدفاع الجوي. وذكر دبلوماسيون في المنطقة طالبين عدم الكشف عن هوياتهم أن ضغوطاً غربية وإسرائيلية قوية إضافة إلى عامل الربحية ربما، عوامل أقنعت موسكو بعدم بيع النظام لطهران.

وقال ثيودور كاراسيك مدير الابحاث في معهد الشرق الادنى والخليج للتحليلات العسكرية "السعوديون يفضّلون ألا يباع هذا النظام الى ايران أو سوريا" التي أشارت تقارير الى أنها أيضاً زبون محتمل لنظام الدفاع الجوي الروسي. ويمكن أن يكون نظام (اي 400) جزء من صفقة أكبر بكثير تتيح للمملكة تنويع مصادر أسلحتها لدرجة كبيرة علماً أن سلاحها حالياً يتكون بشكل أساسي من أسلحة أميركية وبريطانية وفرنسية.

على أية حال، فإن الذاكرة الايرانية مازالت ناشطة فيما يرتبط بالإرث الاستعماري بطرفيه البريطاني والروسي، ما يجعل التحفّز الايراني حيال أي أدوار مريبة روسية كانت أم بريطانية عامل استباقي لأي تحوّلات دراماتيكية في الموقف الروسي.

بدا التنسيق السعودي البريطاني في الضغط على روسيا لوقف تعاونها النووي والعسكري مع إيران كما لو أنه مشروع استثماري ثنائي ومتعدد الأطراف. فبعد أن كسبت روسيا الصفقة السسعودية لقاء وقف تزويد إيران بصواريخ مضادة للطائرات، جاءت بريطانيا لتدخل على خط التوتر العالي في التجاذبات بين إيران والغرب، وتطمع هي الأخرى في أن تجني بعض الثمار من الحديقة السعودية..

وهذا ما حصل بالفعل في زيارة وزير الدفاع البريطاني الى الرياض في 3 نوفمبر الجاري ولقائه بالملك عبد الله. لا شيء، بطبيعة الحال، يمكن الكشف عنه في الزيارة سوى الجمل المحنّطة (مناقشة الموضوعات التي تهّم البلدين) حسب وكالة الأنباء السعودية. وكلما ازدادت العبارات عمومية وغموضاً، بدا الأمر بالغ الحساسية والأهمية، وخصوصاً حين يكون طرفا اللقاء من نوع الملك عبد الله ووزير الدفاع البريطاني. وللمراقب أن يستدعي ما بين الشخصين من (الموضوعات التي تهم البلدين). أول ما يظهر من الموضوعات صفقة (سلام) بين الرياض ولندن التي بدأت ترتيباتها منذ العام 2007، وتتألف الصفقة من 72 طائرة مقاتلة من طراز يوروفايتر تايفون بقيمة 4.4 مليار جنيه إسترليني (نحو 8 مليار دولار) بحسب المرحلة الاولى من الصفقة. وكانت صحيفة (الجارديان) قد ذكرت في 21 يونيو 2008 بأن قيمة الصفقة قد تصل إلى 20 مليار جنيه إسترليني (نحو 33 مليار دولار) على مدى سنوات عدة.

ورغم الأنباء المتعاقبة عن دخول المرحلة الاولى من صفقة سلام حيز التنفيذ، إلا أنه ولأسباب عدة فنية وسياسية وأخرى متعلّقة بترتيبات العمولات (في ظل ضغوطات تواجه شركة الصناعات الدفاعية البريطانية من قبل القضاء البريطاني في أعقاب فضيحة رشاوى اليمامة)، يتم تأجيل تاريخ البداية، حيث من المقرر أن تتم عملية شراء الطائرات على مرحلتين، وتتسلّم السعودية في المرحلة الاولى 36 طائرة، في حال عدم زيادة عدد الطائرات الى 100 طائرة.

ويلتقي الملك أيضاً

وفيما تواجه شركة الصناعات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع البريطانية ضغوطات من القضاء البريطاني وأخرى من الاوضاع الاقتصادية الداخلية، حيث لا مؤشرات عملية ولا رسمية عن قرب خروج بريطانيا من نفق الكساد، فإن المسؤولين البريطانيين يتحرّكون بوتيرة متسارعة من أجل تخصيب فرص الإسراع بتنفيذ الصفقة العسكرية (سلام)، خصوصاً وأن الأخيرة تمّت هذه المرة بعيداً عن الأمير سلطان، صاحب الشروط التعجيزية المتعلّقة بالعمولات.

السعودية لم تشأ المضي في تنفيذ المرحلة الاولى من أجل تحسين شروطها التفاوضية، وتخفيض الاسعار، وتأمين طرق آمنة للعمولات المقررة في الصفقة، في ظل وجود عروض بيع بأسعار تنافسية، الأمر الذي دفع بمسؤولي الحكومة البريطانية الى تكثيف نشاطهم السياسي دولياً. وجاءت المفاوضات الغربية مع ايران للضغط على الأخيرة في الملف النووي، لتقدّم فرصة ذهبية للبريطانيين للتحرّك على الجانب الروسي، لإقناعه بوقف التعاون النووي مع طهران، والقبول باتفاقية فيينا كما هي دون تغيير، ما يعني تجريد ايران من مادة اليورانيوم الضرورية لتشغيل أجهزة الطرد المركزي في مفاعلاتها النووية.

وفيما بدا أن الدبلوماسية البريطانية نجحت في إقناع روسيا بتصليب موقفها في المفاوضات الجارية مع طهران، لإجبارها على القبول باتفاقية فيينا، تحرّك وزير الدفاع البريطاني لتثمير نجاح مليباند في تسريع وتيرة صفقة (سلام) مع الرياض، بعد أن حقّقت لندن ما عجزت عنه الرياض في إقناع موسكو في لعب دور مؤثر في الملف النووي الايراني.

لقاء وزير الدفاع البريطاني بصحبة فريق من وزارة الدفاع وشركات الصناعات العسكرية مع الملك عبد الله ومساعد وزير الدفاع السعودي خالد بن سلطان، بصفته ممثّلاً عن والده الأمير سلطان الذي فوّض شؤون الدفاع لولده الأمير خالد، وبحضور السفير البريطاني في الرياض وليم باتي، بدا وكأن ظروف إتمام الصفقة باتت مؤاتية، وأنها دخلت عملياً حيز التنفيذ بحضور الفرق الفنية من وزارتي الدفاع السعودية والبريطانية.

وفي هذا السياق جرى اللقاء بين الأمير خالد بن سلطان مع وزير الدفاع البريطاني بوب انسورث، ولم يدلِ أي منهما تصريحات عن طبيعة (الأحاديث الودية ومناقشة عدد من المواضيع ذات الاهتمام المشترك). لقد ضاعف الجانبان من سماكة حاجز السرية المحيط بأي ترتيبات خاصة بصفقات عسكرية بعد أن فتحت (اليمامة) ثغرة واسعة في جدار الصمت، وتبعثر أسرارها المثيرة للإشمئزاز، الى حد أن القضاء البريطاني لم يعد قادراً على تجاوز ما أصابه من جروح في مصداقيته بفعل الضغوطات التي واجهها من حكومة توني بلير التي أوقفت التحقيق لأسباب متعلّقة بـ (المصلحة القومية)، فيما كان ملف الفساد يبعث روائح نتنة في فضاء الديمقراطية البريطانية.

قد تتغيّر وجوه الفساد في صفقة (سلام)، في الجانب السعودي على الأٌقل، وستختفي أخرى مثل الأمير بندر بن سلطان، والأمير محمد بن فهد، والأمير عبد العزيز بن فهد، وقد تقتصر العمولات هذه المرة على أبناء الملك عبد الله والأمير سلطان، إضافة إلى بعض الوسطاء العرب والأجانب، وهم من غير حاشية وندماء الأمراء المستبعدين.

لم يشأ الجانب البريطاني أن يتجاهل المشكلات التي واجهتها الصناعات الدفاعية البريطانية في السنتين الماضيتين بعد افتضاح قضية الرشى، وهو ما تفهّمه المفاوضون السعوديون هذه المرة، ما جعل الطرفين يتفقان على إيجاد آليات ضبط صارمة حيال أية معلومات خاصة بالصفقة ومراحل تنفيذها.

الأسماء التي كشف عنها لقاء خالد بن سلطان ونظيره البريطاني أنسورث قد تقتصر على الجانب التقني من الصفقة فحسب. ومن بين الاسماء رئيس هيئة الاركان العامة الفريق الأول الركن صالح بن علي المحيا وقائد القوات الجوية الفريق الركن الأمير عبدالرحمن الفيصل والسفير البريطاني لدى المملكة وليام باتي، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة اللواء الركن حسين حبتر ورئيس هيئة استخبارات القوات المسلحة اللواء الطيار الركن احمد عبيد القحطاني والملحق العسكري البريطاني لدى المملكة العميد جريمي موريسوث.

لقد بدا واضحاً أن التنسيق السعودي البريطاني في السنوات الثلاث الأخيرة بلغ مستويات عالية جداً، وخصوصاً فيما يرتبط بملفات إقليمية مثل العراق، وإيران، والقضية الفلسطينية، فكل اجتماعات التنسيق بين مسؤولين سعوديين (وفي الغالب أمراء يعملون في أجهزة أمنية)، وشخصيات عراقية أو إيرانية (من المعارضة) أو حتى مسؤولين إسرائيليين تنطلق من لندن. فهناك إتفاق بين البريطانيين والسعوديين على دعم توجّه سياسي محدد في العراق، وهما على توافق تام فيما يرتبط بتيار الاصلاحيين في إيران. سلسلة التوافقات السياسية بين الحكومتين تجعل، دون أدنى ريب، وجهة السخاء السعودي الى لندن ثابتة، فالتجربة العريقة من التعاون بينهما جعلتهما أقدر على التفاهم في كل الملفات الإقليمية تقريباً. وهناك مؤشرات كثيرة على أن بريطانيا والسعودية واسرائيل تشكّل جبهة دولية ناشطة لهندسة التوجّهات الأميركية بل الغربية عموماً.

الصفحة السابقة