السعودية القائدة.. تبحث عن مجد ضائع!!

خالد شبكشي

لايزال الإعلام السعودي يصف السعودية كقائدة للعالمين العربي والإسلامي. ولازال بعض الأمراء السعوديين يعيشون أحلام العظمة القديمة، من أنهم وحدهم من يمثل جميع العرب والمسلمين وقضاياهم. كما أنهم من يمثل الإسلام الصحيح بالنيابة عن كل المسلمين، وهم من يجب أن يتحدث معه بشأن القضايا الكبرى التي تخص العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي عامة والعربي خاصة.

السعودية القائدة، لا تقود أحداً على الأرض. هي غائبة عن مسارات القضايا الكبرى التي عصفت بالعالمين العربي والإسلامي منذ عقدين على الأقل.

والسعودية القائدة، تتراجع مكانتها حتى في نشرات الأخبار منذ زمن. وهي تقود نفسها من خسارة الى أخرى في سلسلة متواصلة من الفشل لم تنته بعد، وآخرها الفشل الذريع والمزدوج في حربها على اليمن (عسكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، وأمنياً، وأخلاقياً، ودينياً).

والسعودية القائدة، لم تحلّ مشكلة عربية واحدة، بل أن مساهمتها في حل المشاكل العربية والإسلامية تكاد تكون صفراً، إن لم تكن الصفر بعينه. بل ظهرت بمظهر المسبب للفتن، أكثر من كونها حلالاً للمشاكل.

السعودية ليست نموذجاً يحتذى، ولا قيادة صالحة ترتجى.

لم تقدّم للعالمين العربي والإسلامي نموذج الدولة الحديثة، ولا نموذج نظام الحكم الحرّ والمنفتح والمتعدد، ولا قدّمت نموذجاً للدولة الطليعية المبادرة لحل مشاكل من تزعم قيادتهم بحيث يصبح لها رصيد إقليمي معتبر وفاعل.. ولا السعودية قدّمت نموذجاً صحيحاً للبلد النامي المتطلّع للإكتفاء الذاتي، بل هي بلد يرمز اليه بالفساد، ويعشعش في ربوعه الفقر والفاقة. وفوق هذا لم تقدم السعودية نموذجها الديني المغري، بل أن نموذجها الوهابي صار مخيفاً بسبب انغلاقه وعنفه ونزعته التكفيرية.

والسؤال كيف يمكن لدولة هذه مواصفاتها أن تصبح دولة قائدة؟

للدولة القائدة مواصفات لا تنطبق في معظمها على السعودية:

ـ الدولة القائدة، يفترض فيها أن تحوز أولاً على مواصفات ذات أهمية خاصة على الصعيدين البشري والجغرافي وعلى صعيد العمق الحضاري. لا أن تكون دولة طرفية، ولا أن تكون دولة قليلة السكان، ولا أن تكون بلا خلفية حضارية. والسعودية وإن حازت على بعض الصفات، إلاّ أنها تفتقد أكثرها.

ـ والدولة القائدة، يفترض فيها أن تكون دولة النموذج، على الأقل في بعض الأبعاد. كأن تكون دولة ناجحة إقتصادياً؛ أو أن تكون دولة ذات تجربة سياسية ناضجة؛ أو أن تكون دولة ذات خبرة في الوساطة والعمل السياسي؛ أو أن تكون قوّة عسكرية يحسب لها حساب؛ وغير ذلك. والسعودية لم تكن دولة نموذج البتة في أيٍ من هذه الأمور، أو على الأقل ليست هي كذلك منذ أكثر من عقدين من السنين.

ـ والدولة القائدة، هي الدولة التي تقف في المقدمة، تنافح عن مصالح من تزعم أنها تقودهم، ولديها قدرة على الحشد السياسي، وعلى تحمّل أثمان بقائها في الطليعة. عليها ان تكون طليعية في الدفاع عن قضايا الأمّة، وأن تكون الملجأ لمن يعاني من أزمة محلية أو خارجية.

ـ والدولة القائدة، دولة أبويّة، تترفّع عن الدخول في المنازعات، ولا تقبل أن تتزحزح عن موقع الحياد بين المتخاصمين الذين تمثلهم بنسبة أو بأخرى. لأن الخروج عن الحياد، يعني فقدان المصداقية، والاصطفاف مع طرف ضد آخر، يجعل الأخير خارجاً عن إطار الأبوية، رافضاً لمنطق الدولة القائدة. الدولة القائدة دولة متسامحة، لأن تسامحها يجعلها أبوية، وفوق الجدل والنقاش، لا تنزل الى الصغائر، ولا تغلب التكتيك على الإستراتيجيا.

ـ والدولة القائدة، ليست دولة مبادرة في السياسة فقط، بل هي مبادرة في العون والمساعدة المالية والإقتصادية والعسكرية إن تطلّب الأمر. ومبادرات الدولة القائدة محسوبة بالتوازنات السياسية، وتراعي مشاعر ومصالح الدول والشعوب. هي دولة حريصة على عدم مصادمة الرأي العام في مشاعره ومواقفه، ما يجعلها تهندس مبادراتها وتهيّء لها أرضية النجاح قبل أن تطلقها. لا أن تكون الدولة القائدة في جانب، والشارع الذي يفترض أن تقوده في جانب آخر.

ـ والدولة القائدة، دولة وطنيّة، حريصة على استقلالها عن الأجنبي بالذات، ليس فقط باعتبارها دولة النموذج، بل وأيضاً الدولة التي يُنظر اليها بأنها تغلّب مصالحها ومصالح من تقودهم على مصالح الأجانب.. هي الدولة التي تضع المصلحة الوطنية والإسلامية او العربية فوق مصالح الأجانب. هي دولة غير متهمة في ولاءاتها وأجنداتها السياسية. وهي دولة رصينة، واثقة من نفسها، واثقة من دعم شعبها والتفاف شعوب العالم العربي والإسلامي من حولها.

مثل هذه المواصفات للدولة القائدة، لا تنطبق على السعودية، وحتى لو رأى المؤيدون للأخيرة أن مواصفات الدولة القائدة تنطبق عليها، فإن المهم هو أن أكثر المواطنين العرب والمسلمين لا يرونها كذلك، ولا يلمسون من سياساتها ما يشير الى ذلك، كما أن الدول العربية والإسلامية بشكل عام، لا ترى صورة الدولة القائدة في تعاطيها مع السعودية، ولا السعودية نفسها تتمثّل في سلوكها ومواقفها السياسية الدولة القائدة. وليست الدولة السعودية بدعاً في هذا، فحتى مصر، الأكثر تأهيلاً لأن تقود العرب، لم تعد منذ أكثر من ثلاثة عقود دولة قائدة، وما شعار: مصر قلب العروبة النابض، إلا وهم.

وقد أدّى غياب الدولة القائدة في العالم العربي الى بروز الدور الإيراني، والى انطلاقة واسعة لتركيا باتجاه ممارسة دورها في الشرق الأوسط.. بل وأدّى ذلك الى بروز بعض الدول الصغيرة بعد غياب الكبار: قطر نموذجاً، لتمارس عمل الكبار الغائبين، والذين ساءهم منافستها لهم. هناك فراغ قيادي كبير في الشرق الأوسط، فجاءت إيران، وتركيا في الطريق، لتملآه.

مالذي يجعل السعودية غير قادرة على أن تصبح دولة قائدة؟

ابتداءً يعتقد السعوديون أن المال، والمركز الديني باعتبار وجود الأماكن المقدسة في الحجاز تحت رعايتهم، يمكن أن يصنعا لبلدهم مكانة، وربما انتفاخاً سياسياً الى حد أن يقودوا العالم العربي.

في الحقيقة فإن السعودية لم تكن في يوم من الأيام قائدة للعالم العربي. حتى في تلك الفترة التي أطلق هيكل فيها على الوضع العربي وصف (الحقبة السعودية). والسبب، أن السعودية كانت ولاتزال الى اليوم، ليست الأكثر تأهيلاً لقيادة العرب، اعتماداً على ما ذكرناه في الشروط الواجب توافرها في الدولة القائدة.

ـ لا تستطيع السعودية أن تكون دولة قائدة بوجود مصر فاعلة. انكسار مصر، مع فاعلية سعودية يمكن ان يرفع الأخيرة. فمصر هي وسط العرب جغرافياً، والأكثر عراقة حضارياً، كما أنها أكثر سكاناً وخبرة وطموحاً، وتواصلاً مع محيط المشاكل العربي. كما أن مصر، والى وقت قريب، ومن خلال الأزهر، الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي من السعودية، على الأقل من ناحية المنهج المعتدل، وقبول المسلمين به. فضلاً عن أن مصر أثبتت في الماضي رياديتها من خلال التصدّي للقضايا العربية سواء في فلسطين أو في الجزائر وغيرهما.

ـ وتلاقي السعودية منافسة في الزعامة من آخرين، العراق الذي هو طرفي، ولكنه غنيّ اقتصادياً وبشرياً وله تراث حضاري وتطلّع للزعامة؛ كما تلقى السعودية منافسة من سوريا، ومن الجزائر ومن آخرين. وبالتالي فإن السعودية، إن كانت تريد الزعامة، فعلى هذه الدول ابتداءً ان تنحني لها وتسلّم لها الأمر، مقابل تنازلات اقتصادية وسياسية، وهو أمرٌ لم تكن تقبل به كثيراً.

السعودية تستطيع أن تشارك في قيادة العالم العربي بصورة فاعلة، في حال كانت لديها الرؤية والمشروع السياسي لجذب أكثرية العرب، وتستطيع تهميش دولة مثل العراق وحتى الجزائر، إن كان المشروع السعودي مقنعاً طلائعياً يستقطب الشارع العربي قبل قياداته. وفي هذا السياق، على السعودية ايضاً ان تدفع ثمناً ما، لمصر، فالسعودية لا تكون زعيمة بدون رضا الكبار، والكبار لا يرضون بالتهميش ما لم تكن هناك مصلحة مجزية: إنها المساعدات المالية والإقتصادية.

والسعودية اعتمدت على ذلك كثيراً، ولكن هناك دول ليست بحاجة الى أن تشحذ الدعم السعودي المالي، مثل العراق قبل أن يغوص حالياً في متاعبه الخاصة بعد سقوط صدام حسين. ولكن السعودية التي كانت كريمة سخيّة في الدفع، تقلّص دعمها للأقربين والأبعدين، وبالتالي ليس هناك ما يغري للإلتحاق بمشاريعها السياسية أو الرضوخ لقيادتها، ورأيها. هذا ما حدث مع سوريا، ومع السودان، ومع آخرين.

المال لم يوظّف جيّداً لخدمة (الزعامة الإقليمية السعودية) رغم أن مفعول المال ليس نهائياً. وقد حدث هذا خاصة منذ بداية التسعينيات الميلادية الماضية وحتى الآن.

والسعودية ليست مخيفة عسكرياً، ولا مخيفة سياسياً، حتى يرضخ لمشاريعها الآخرون، ويقبلون بزعامتها. نعم كان هناك شعور في الماضي بأن السعودية تمثل بوابة الرضا الأميركي، فمن يريد علاقة حسنة بواشنطن عليه ان يتجه الى الرياض. ولكن الرياض لم تعد أثيرة كثيراً لدى واشنطن مثلما كانت في السابق، فضلاً عن أن اسرائيل أغرت بعض الحكام العرب لتكون بوابتهم وأقنعتهم بأن علاقة جيدة معها تمنحهم حصانة من الاعتداء من أميركا ومن الغرب عامة.

ثم ان السعودية وانتعاش دورها في السبعينيات جاء تحت مظلة إجماع عربي ولو لم يكن صلباً، وفي ظرف كانت فيه أميركا أثيرة لدى البعض، وفي غاية قوتها وانتعاشها. أما الدور الأميركي اليوم فضعيف، والآمال منه محدودة للغاية، وضعف الدور الأميركي في المنطقة تبعه ضعف وضمور في الدور السعودي نفسه، بل يمكن القول بأن تبعات الضعف الأميركي مثل خسارة كبيرة للنفوذ السعودي نفسه. ذلك أن كل من اقترب من الولايات المتحدة المكروهة من العرب، صار مكروهاً ومصنّفاً، وإن الإنغماس في الأجندة الأميركية أفقد السعودية هامش الإستقلال الصغير الذي كانت تتمتع به، ما جعل أجندتها السياسية متواطئة مع المشروع الأميركي، وغير مفيدة لدول عربية، وصار سهلاً عليها تهميش الدور السعودي وعدم الإنصياع له.

هذا كلّه، أدّى ايضاً الى أن تتحول السعودية من دورها المتوازن والوسطي الى لعب دور غير محايد، فصارت شريكة في قيادة بضع دول سميت بدول الإعتدال العربي، وهذه الدول مكروهة على الصعيد العربي، كما هو الحال في مصر والأردن. أما الجسد العربي الأكبر، فهو خارج التغطية السياسية السعودية، وخارج الإهتمام السعودي أصلاً، كما هو الحال بشأن الصومال والصحراء الغربية وحتى السودان نفسه. السعودية التي دخلت في صراع مباشر مع العراق وسوريا وحتى دول خليجية فضلاً عن السودان وغيرها، لا يمكنها أن تصبح زعيمة عربية، ولا يمكن لمبادراتها بشأن السلام مع اسرائيل أن تنجح ليس فقط لأن المعنيين الأصليين بالملف غير راضين عن تلك المبادرات، بل وأيضاً لأن السعودية في عداء مباشر معها، كما هو الحال مع حماس وحزب الله، ومع سوريا (حيث هناك محاولات لترطيب العلاقات مع هذه الأخيرة، وآخرها زيارة الأسد في 13 من هذا الشهر الى الرياض).

والسعودية المثقلة بهمومها الداخلية وخسائرها السياسية المتواصلة على الصعيد الإسلامي والإقليمي العربي (أفغانستان، العراق، لبنان، فلسطين، وحديثاً اليمن) لا يمكنها مع وجود قيادة هرمة على حافة القبر أن تنعش زعامتها المنتكسة يوماً بعد آخر، ولا أن تغيّر من المعادلات الأخرى في ظروف تنافس شديد من لاعبين جدد: إيران وتركيا تحديداً، هم أكثر تمرّساً ونشاطاً وقدرة وجاذبية.

لهذا، يمكن القول بأن مزاعم الدولة السعودية القائدة ليست صحيحة حتى وإن كانت على الورق!، فضلاً عن أن الواقع السعودي والإقليمي العربي لا يمكن أن يتوّج السعوديين بأدائهم البائس، وسياساتهم المنحازة، وعدائهم الشديد للمخالف، أن يتوّجهم قادة بين ليلة وضحاها. السعودية خسرت مكانتها تدريجياً، ويصعب في الظروف المنظورة أن تستعيدها، اللهم إلا بإحداث تغييرات جذرية في مساراتها وخياراتها السياسية ومسلكها في علاقاتها الإستعلائية مع الآخرين.

سنشهد المزيد من الإنحطاط في الدور السعودي الإقليمي، والمزيد من الإستهجان لطبيعة النظام السياسي القائم، ولخياره المذهبي الطائفي التكفيري، وحتى لنهجه الخاص فيما يزعم بشأن التنمية الإقتصادية. فهناك دول خليجية سبقت السعودية بمراحل. والسعودية اليوم غائبة عن الأحداث السياسية الكبرى، وقوّة مزعومة ليس لها على أرض الواقع من تجليّات ملموسة.

والحركة السياسية التي شهدناها في بداية العام الحالي بشأن إعادة الحياة للمسار التفاوضي مع اسرائيل وما تبع ذلك من بعض الحراك من قبل وزير الخارجية السعودي الذي طاف شرم الشيخ والكويت ودمشق واستقبل في الرياض خالد مشعل، هي مجرد نصف صحوة لنائم مضى عليه عقدان على الأقل لا يعي ما حوله، وإن وعى فإنه لا يريد الإعتراف لا بضعفه ولا بالأمر الواقع، ولا هو مستعدّ للتنافس عبر العمل والعطاء وتغيير المنهج الخاطئ.

باختصار.. السعودية كقوة مزعومة صارت تاريخاً.

الصفحة السابقة