تركي الحمد

تركي الحمد يسوّق النموذج السعودي

السعودية نموذج غير قابل للتصدير

عبد الوهاب فقي

السعودية لا تغري أحداً، لا على صعيد نظام الحكم ورموزه، ولا على صعيد النموذج الديني ورجاله بالمقارنة مع الأزهر في مصر وغيرها، ولا على مستوى التنمية الاقتصادية بالقياس الى الدول المجاورة، ولا على مستوى الحريات الشخصية، ولا على مستوى الأداء السياسي في المجالين الإقليمي والدولي، ولا على مستوى تجربة النظام السياسي الذي هو تسلّطي، فماذا في هذه الدولة ما يجعل البعض يقدّمها نموذجاً؟

الفارق بين المثقّف والإنسان العادي هو الأفق الذي ينظر فيه كل منهما، فيرى المثقف ما لا يراه غيره، فكيف إذا كان المثقف مراقباً أيضاً، بل ومناضلاً يتطلّع الى رؤية الشعارات التي يرفعها باتت موضع التنفيذ. لا ندري على وجه الدقة ما يرومه الكاتب والاكاديمي السابق تركي الحمد من وراء مقالات عديدة يكتبها دفاعاً عن نموذج الدولة السعودية، ولا ندرك مالذي يحمله النموذج من علامات فارقة قياساً إلى نماذج أخرى في مشرقنا الكئيب. بطبيعة الحال، بإمكانه العثور على نقاط مشعّة من وجهة نظره، وقد لا يتقاسم معه أحد رؤيتها، فقد تلبي حاجات شديدة الخصوصية، وبإمكانه أيضاً أن يقدّم نموذج السعودية باعتباره فريداً طالما أنه يعتمد مقاربة بأدوات محلية، أي ليست ذات طبيعة معيارية، من وجهة علمية. وفي كل الأحوال، يبقى خط التناظر بين رؤيته والرؤية الـ (يونيفرسال) كامناً في قدرة كل طرف على الاقتراب من الحقيقة.

الحمد، شأن كثير من المثقفين النرجسيين، ينظرون بحساسية مفرطة إلى الخارج المتقدّم، ما دفع بهم لتبني لغة دفاعية مفرطة في (مثلنة) الذات. يخوض هؤلاء حرب النماذج لناحية تصعيد نموذج فقد وفق المعطيات الواقعية قدرته على التميّز، على خلاف نماذج أخرى في المشرق العربي بدءً من دولة محمد علي باشا ومروراً بثورة يوليو 1952، وحركات التحرر العربي في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن وغيرها. حتى ذلك الوقت وبعده، كانت السعودية تمثّل نموذج الدولة الرجعية دينياً والعميلة للغرب سياسياً واستراتيجياً.

بالنسبة للمثقف، أي مثقف، يجد نفسه محكوماً بنموذج الدولة التي يعيش في ظلها، فإن كانت تتمتع بشعبية واسعة عابرة للحدود، نقلت معها ثقافتها وشعاراتها ومثلها كما قد تنقل عاداتها وقيمها. وبلا شك كانت مصر الدولة النموذج التي مثّلت نبض الأمة على امتداد ما يربو عن قرن من الزمن، وقد حصلت على هذه الصفة بجدارة، لأنها كانت تقود حروب التحرير ضد االاستعمار الأجنبي في الداخل، وهي من تحمّلت كل حروب تحرير فلسطين على امتداد نصف قرن قريباً وحتى إبرام اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978.

في المقابل، لم يحقق النموذج السعودي أي اختراق في الوعي القومي العربي، ليس فقط لكونه نموذجاً مؤسس على قاعدة أيديولوجية، ولكنه نموذج مصمّم لخدمة طائفة/أقلية/إقليم ما يجعل السعودية (جماعة من أجل ذاتها)، ولا شأن لها بالآخر، سواء كان قريباً أم بعيداً، ولا عجب أن تعجز السعودية عن أن تتحول نموذج الدولة الإسلامية أيضاً، رغم كونها تحتضن الحرمين الشريفين، وتستحضر الخطاب الديني بكثافة عالية، وتقدّم العلماء والمؤسسة الدينية باعتبارها راعية لهم، فليس هناك من يعتبر السعودية نموذجاً لدولة دينية متميّزة، فلا خطابها الديني يحظى بجاذبية في العالمين العربي والاسلامي، ولا سلوك العائلة المالكة ينظر إليه باعتباره سلوكاً إسلامياً أو قومياً، ولا سياسات الدولة وتحالفاتها الخارجية الغربية تعتبر في نظر العرب والمسلمين بأنها قائمة وفق إملاءات دينية محض، مهما شاءت لهجة العلماء ذلك.

هناك من المثقفين السعوديين (النجديين على وجه الخصوص والحصر) من يحاول أن (يصنّع) من السعودية نموذجاً، على أساس معطيات مصعّدة بعد إعادة تفسيرها، أو في ظل حرب نموذجين في العالم العربي: ممانعة واعتدال. ولأن مصر التي خسرت مركز جاذبيتها وموقعها في جبهة الممانعة، فقد برزت نماذج حركات ممانعة في فلسطين ولبنان بوجه خاص، والتي تحظى بدعم إيران وسورية، فيما دخلت مصر والسعودية والأردن وعدد آخر من الدول العربية في معسكر الإعتدال، منذ أعلنت عن تشكيله وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في 13 تموز (يوليو) 2006، على أساس أن خارطة شرق أوسط جديد قد بدأت في التشكّل وستكون دول الإعتدال قلب العالم العربي.

خروج مصر عن كونها نموذجاً، لم يفسح في المجال أمام السعودية كيما تتحوّل إلى مركز الجاذبية السياسية والأيديولوجية البديل، فقد تعامل معها من هم خارج الحدود من مثقفين وإعلاميين ومناضلين على أنها مجرد جهاز (صرّاف آلي) ضخم، ينفق بسخاء وببلاهة أحياناً. بالنسبة لبعض المثقفين السعوديين (النجديين)، فإن ما يسؤوهم هو أن لا يروا أثراً لـ (نعمة) آل سعود على من يلوذون بهم، بحيث لم ينظر إليهم باعتبارهم ممثلين لنموذج، بل مجرد ملاّك بنك ضخم. هؤلاء المثقفون ينظرون إلى أنفسهم بتميّز تبعاً للتميّز الإفتراضي لدولتهم، فيتعاملوا مع الأشياء من حولهم باعتبارها ملحقات بنموذج الدولة التي ينتمون إليها.

في ضوء ما سبق، نضع مقالة تركي الحمد (في سبيل صحوة حقيقية: السعودية نموذجاً) والذي نشرته صحيفة (الشرق الأوسط) في 3 يناير الجاري. والمقالة ببساطة تنزع نحو إثبات حقيقة واحدة أن السعودية تملك خصائص الفرادة بما يجعلها مؤهّلة لأن تكون نموذجاً يحتذى. هذه النيّة المبيّتة بدت ترسم خط سيرها منذ السطور الأولى، فقد كانت المسلّمات الجديدة التي استهّل بها الحمد مقالته تنبىء عن المبتغى الذي يروم وصوله. يقول عن السعودية مثلاً بأنها (الدولة التي إذا تغير فيها شيء تغيّر كل شيء من حولها). وأحسب أن هذه الفكرة مستمّد من التراث القومي العربي، ولا يستبعد أن تكون رد فعل على النموذج الناصري، أو مصر (الدولة ـ النموذج). وتاريخياً، كانت الأخيرة هي من يصدق عليها بأنه إذا تغير فيها شيء تغيّر كل شي من حولها، ولم نقرأ في الأدبيات القومية أو الدينية ما يجعل السعودية نموذجا عابراً للحدود.

ينطلق الحمد في بناء نموذجه عن الدولة السعودية من صورة إفتراضية تقوم على اعتبار السعودية (جغرافية جناحي الهوية العربية أي العروبة والإسلام)، على أساس أن (كل تاريخ العرب إنما يبدأ وينتهي في جزيرة العرب). ما يلفت الإنتباه هنا، أن الحمد يعيد إحياء فكرة دخلت في (الإرشيف)، ولم يعد يرجع إليها حتى أشد القوميين تطرّفاً، فالتاريخ الذي يتحدث عنه الحمد أصبح جزءً من الذاكرة القديمة غير المفعّلة، حتى وإن كان حقيقة. ما هو أشد غرابة أن يحاول الحمد ربط تاريخ العرب بالسعودية، لمجرد أن الأخيرة أقامت دولتها على جزيرة العرب، فيما لم نسمع قومياً عربياً أو إسلامياً، عقد مثل هذه الرابطة، ما لم يكن متحالفاً مع آل سعود الذين ينزعون إلى تأكيد مشروعيتهم الدينية من خلال التاريخ والجغرافيا.

لا نعلم على وجه الدقة مغزى التلاوة المدرسية لحقائق تاريخية وثقافية (لغة العرب الفصحى هي لغة قريش، وديانتهم هي إسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأول وحدة عربية بعد عقود من تجاهلها هي وحدة الدولة السعودية، والأسرة المالكة الوحيدة التي انبثقت من الشعب المحلي هي الأسرة السعودية، فيما معظم الأسر الأخرى هي فرض استعماري، أو ورقة سياسية في اللعبة الدولية، والدعوة إلى صحوة دينية حقيقية كانت على يد محمد بن عبد الوهاب، الذي رغم الاختلاف معه في أمور معينة، فإنه ما كان لجزيرة العرب أن تتوحد سياسيا لولا حركته وميثاقه مع ابن سعود..).

رصف ممل لحقائق تاريخية، وتشويه مقصود لمفاهيم سياسية وكيانات جيوسياسية وأحلاف استراتيجية. كون لغة العرب الفصحى ماذا سيغيّر في صورة السعودية، ومالربط بينهما، ما لم يكن ثمة نسب بين آل سعود وقريش، وكذلك ديانة العرب، أي الإسلام، ومادخل آل سعود أيضاً فيه، إن لم يكن الحمد قد خضع تحت تأثير من يرى في حقبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمثابة عصر الرسالة الثاني، كما ذهب إلى ذلك بعض الكتاب الوهابيين. في أحسن الفروض، أن الحمد يحاول صوغ ذاكرة الدولة ـ النموذج وتعميمها، عبر توشيج مفاهيم وحقائق تاريخية موجّهة من أجل إثبات أولاً تاريخانية الدولة السعودية وكذلك نموذجيتها.

ما يقوله الحمد عن أن الدولة السعودية هي أول وحدة عربية، لم يندمج في وعي السكّان المحليين ولا العرب ولا المسلمين على أنها مشروع وحدوي بالمعنى القومي والديني. فالحمد يدرك تماماً بأنها لم تكن وحدة طوعية بل قهرية، وقامت على سفك الدماء، ونهب الممتلكات، والسيطرة الغاشمة على المناطق، ولم يكن يدر في ذهن عبد العزيز بن سعود بأنه كان يناضل بوحي من تطلعات وحدوية عربية أو إسلامية، بل كان شعاره استعادة (ملك الآباء والأجداد)، وحتى لا يعاد تفسير الشعار فلم يقصد بـ (الآباء والأجداد) سوى آل سعود.

لو كان الحمد يكتفي بالقول بأن عائلة آل سعود تنتمي للسكان المحليين وليست طارئة، لكان الأمر مقبولاً، ولكن ما جاء بعد ذلك يجنح بالغاية الى مكان آخر حين قال (فيما معظم الأسر الأخرى هي فرض استعماري أو ورقة سياسية في اللعبة الدولية). ولا يبدو أن الحمد مدرك لما كتبه بصورة دقيقة، فالأسر الحاكمة في المنطقة معروفة، ولكل منها تاريخها المكتوب، وأغلبها على علاقة وطيدة بآل سعود منذ البداية، سواء في اليمن، أو مصر، أو مشيخات الخليج، ما لم يكن القصد من ذلك (الأشراف) في الحجاز وبلاد الشام والعراق. ومع ذلك، فإن مسألة (الفرض الاستعماري والورقة في اللعبة الدولية) بحاجة الى تأمّل قليلاً، لأن مذكّرات المبعوثين الأجانب، والمقيمين الإنجليز في منطقة الخليج أمثال ديكسون، وجون فيلبي، وشكسبير والذين كانوا على صلة مباشرة بابن سعود، ويقدّمون له الاستشارات والمعونات الانجليزية مالية وعينية (عسكرية)، وكان يتلقى أثناء الحرب العالمية الاولى معونة إنجليزية عبر الشريف حسين تقدم إليه من مصر، ثم أصرّ عبد العزيز أن تصله المعونة بصورة مباشرة من الانجليز (أنظر جلال كشك، السعوديون والحل الإسلامي)، وقد استمرت المساعدات المالية الانجليزية لابن سعود حتى منتصف العشرينيات. وكان عبد العزيز يهدّد الانجليز بأنه سيتوجّه الى الروس في حال تأخروا في دفع المعونات له، وخصوصاً بعد احتلاله الحجاز ونقص المداخيل، وفعلاً قام ابن سعود باللجوء الى الروس وطلب من إبنه فيصل بزيارة موسكو بحثاً عن حل للمشكلة المالية لدولة ابن سعود. إشارة سريعة هنا: يحتفظ مركز الوثائق البريطانية بوصولات استسلام المعونات البريطانية لابن سعود التي كان يوقّع عليها ممثله في البحرين عبد العزيز القصيبي. الغرض من ذلك كله، أن العبث بالذاكرة التاريخية وتقسيم العوائل الحاكمة على أساس العلاقة مع الاستعمار لا يشكلان خياراً انقاذياً لآل سعود. ترصد وثائق الدول الاستعمارية، ومذكّرات مقيميها، وحتى الضحايا من القريبين والبعيدين يذكرون ذلك، ما حققه إبن سعود من خلال صلاته الوثيقة بالانجليز ثم الاميركيين، بل كان على استعداد للتعامل مع الشيطان من أجل ملكه، وقد استعان بقوات وعتاد من انجلترا للقضاء على الاخوان في معركة السبله سنة 1929، بل أن الحدود الدولية للسعودية رسمت بأيدي بريطانية، وتحديداً بيد بيرسي كوكس، وهو الذي احتل العراق قبل ذلك. والحديث يطول هنا أيضاً، ولكن لمجرد التوضيح حتى نبقي على نقاء الذاكرة.

يعتقد الحمد بأن ثمة ما يعاد النظر فيه في هذا البلد من مفاهيم كانت في وقت سابق قريب من (المحرّمات)، ولكن ما يلفت هنا عبارته (ومناقشتها خير مؤشر على ما يجري في عالم إسلامي بأسره)، وكأنه يعيد إنتاج مفهوم التمركز الأوروبي، بما يعزّز عقيدته بأن ما يتغير في الداخل يعكس نفسه أمواجاً في الخارج. وهذا من أفدح الأخطاء، لأن العالم في الخارج قد تغيّر من زمان، وتجاوز العقل السلفي السعودي منذ أمد بعيد، بل أن سلفيي الخارج صاروا جزء من الحراك السياسي والفكري المتقدّم في بلدانهم. إن محاولة افتعال (محورة سعودية) لا يصنع حقائقة جديدة، ولا يبدّل حقائق قائمة. وغاية ما يحققه مثل هذا العرض، أنه ينبىء عن صورة تحولات تجري في هذا البلد، وليست بالضرورة متقدّمة على خارجه، ولذلك فإن ما يرجو الحمد وقوعه من أن أي تغيير في السعودية سينعكس على ماحوله، هو مجرد توقّع لشيء مضى، فقد تغيير هذا الـ (ماحول) قبل أن ينجز الداخل السعودي تغييره، بل إن ما يتغير في الداخل هو نتاج تغييرات في الخارج وليس في الداخل، وهل (الفضائيات) و(الانترنت)، وكل أدوات العولمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية منتجات سعودية؟!

وكذلك المفاهيم التي يتحدّث عنها الحمد والتي باتت موضع أخذ ورد مثل الاختلاط، فقد حسمت في كل أنحاء العالم باستثناء هذا البلد ومن هو على شاكلته والمتأثرة به وبفكره، بل انفردت السعودية بقضايا ليست مورد نزاع مثل (الخلوة غير الشرعية)، و(عدم تكافؤ النسب)، وغيرها من القضايا التي هي من مخلّفات الماضي، فهل ينتظر العالم في الخارج ما يتغيّرفي الداخل كيما يواكب عصر الانتقال الحضاري لدولة آل سعود؟

المفاهيم الأخرى التي تخضع للنقاش في السعودية مثل الجهاد ومتوالياته شبه محسومة بالنسبة لمن هم خارج الحدود، لولا أن جاء من هذه الديار وقام بتشويه المفاهيم تلك، وفرض نموذجه التأويلي الخاص والمتأخر على الخارج، ولم يكن الأخير يعيش إرباكاً مفاهيمياً، ولم يخض محنة الثنائية بين الحياة والموت، والخير والشر، والحق والباطل، والمؤمن والكافر كيما يقسم العالم الى من هم في الجنة ومن هم في السعير، ومن هم في عداد القتلى ومن هم في عداد الشهداء وفق معتقداتهم. إن تركيب الصورة النمطية الداخلية ومدّها الى خارج الحدود يمثل تجاوزاً على الواقع، والحقيقة التاريخية. نعم، قد يكون التغيير الذي يراد أن ينعكس خارجياً ماهو مرتبط منه بفعل داخلي، كما هو الحال بالنسبة لتصدير الفكر العنفي والسلفية القتالية الى افغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال وغيرها، وهي انعكاسات كارثية.

خلاصة ما يلزم قوله، رغم أن الكثير ما يزال بحاجة الى البوح به، أن السعودية ليست نموذجاً ولن تكون، ولا تملك خصائص النموذجية حتى وهي تهيمن على مواطن هوية وتاريخ وجغرافية الأمة، لأنها دولة خاصة غير قابلة للتعميم، ودولة فئة، لا تشترك مع باقي الفئات التي تقطن هذه الأرض، ودولة طائفة لا تتقاسم مع باقي طوائف المسلمين الأخرى في هذه الأرض، وإن التغييرات التي تحصل فيها ليست بالضرورة تغييرات جماعية بل هي تغييرات في حدود الجماعة الغالبة والحاكمة، وهي المسؤولة عن كوارث الداخل والخارج، وهو ما أسهب الحمد في الحديث عن منجزاتها الدموية حين رسم صورة الصحوة المأمولة مقابل الصحوة العنفية المسؤولة عن غزوات مانهاتن ودار السلام والرياض والرباط، وليبشّر بنموذجه الذي لا يلد إلا نكدا.

ما يطمح العالم الخارجي الى رؤيته في السعودية هو ليس أن تنتج نموذجاً يحتذى، فقد توصّل كثيرون الى حقيقة الإمكانية المعدومة في هذا البلد، ولكن ما يرجوه من السعودية هو أن تقفل صندوق (باندورا) الخاص بها، فلم يعد يعني أحدا أن تكون السعودية غنية أو ملتزمة بتطبيق أحكام الشريعة، بل يكفيهم منها ألا تنقل أمراضها الثقافية والايديولوجية والاجتماعية الى أراضيها. ما يجهله الحمد، ربما، هو صورة السعودية لدى الآخر، في الخارج، فلا يكاد يتذكّر أحد في مغرب العرب ومشرقهم السعودية إلا ويتذكر البذخ الباعث على الإزدراء والشذوذ الأخلاقي المثير للإشمئزاز والتآمر على قضايا الأمة بإسم الدين والعروبة. فليذهب الحمد الى كل عواصم العرب، وليسأل عن صورة الداخل لدى الخارج. ليست المسألة ذات طبيعية إثنولوجية، ولا شوفينية متولّدة من حميم الخلافات السياسية، فهي صورة قديمة ترافقت مع النفط، وانتقلت مع الذين يجوبون العالم بحثاً عن متع محرّمة وحيوانية.

كانت الحياة بالنسبة لشعوب الخارج قيمة إنسانية ودينية وحضارية، وتحوّلت بعد تسرّب أمواج الصحوة الى الخارج إلى مفسدة للدين والدنيا، فأصبح الموت سلاحاً لمواجهة الحياة، وخياراً وحيداً يسير فيه اليائسون من إصلاح الدنيا. هذه الحياة التي كان يجهلها شعوب الخارج قبل أن يأتونهم المنذرون الجدد، فتلوا عليهم قائمة مفتوحة من المحرّمات، وأغلقوا أبواب الحياة عليهم، وقالوا لهم إن الموت سبيلكم فاختاروا الوسيلة المناسبة للوصول إليه. أليس هذا ما كان يجري بالقرب من مجالس مثقفينا، الذين كانوا يسمعون خطب المساجد والدورات الدينية، وحتى صالات الجامعات كانت تمتص أصداء أولئك المبشّرين بحياة لا حياة فيها، وبموت لا نجاة منه.

هل هذا هو النموذج الذي ينتظره الخارج، وهل هي الصحوة التي يمكن أن تنشق منها صحوة أخرى تبشّر بعصر جديد، حيث لا يمكن توقّع أن يولد النور من الظلمة، والخصب من الجدب، والحب من الكره، والسلام من الحرب، ما لم تتم بعثرة شاملة لكل الإرث المسؤول عن توليد العنف، والحقد والبغضاء والدمار وغزوات سبتمبر وما تلاها. بمعنى آخر إعادة خلق مجتمع جديد لا ينتمي فكرياً ولا عقلياً الى المجتمع الديني الوهابي الحالي، وكذلك تبديل أسس الدولة السعودية ومبادئها وتحويلها الى دولة وطنية وديمقراطية كاملة حتى تصبح نموذجاً، ولا نظنهم فاعلين!

الصفحة السابقة