مذكّرة شجاعة، وملكٌ (خيخة)!

فريد أيهم

تقدمت جمعية الحقوق المدنية والسياسية، وهي جمعية غير مرخّصة، بمذكرة جديدة للملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود تطالبه بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول انتهاكات وزارة الداخلية السعودية، باعتبارها انتهاكات منهجية وصلت الى مستوى يمكن تصنيفها بأنها تدخل في خانة (الجرائم ضد الإنسانية). وقالت الجمعية في مقدمة المذكرة بأن تلك الإنتهاكات تحرف الشريعة وتؤصل للظلم والإستبداد والتعذيب والتخلف وقمع التعددية. والأهم من هذا اعتبرت المذكرة انتهاكات وزارة الداخلية التي يشرف عليها الأمير نايف وابنه محمد (من أهم أسباب الإرهاب العالمي والمحلي) بما فيها أحداث 9/11.

تستوقف الباحث في المذكرة المطولة والتي زادت صفحاتها عن الخمسين، والتي تم ارسالها ونشرها علناً في يناير الماضي، مجموعة من القضايا، من بينها مسألة التعويل على الملك في التغيير، ومدى إمكانية إصلاح النظام السياسي السعودي من داخله. فالمذكرة الجديدة تفترض، كما هي المذكرات السابقة، أن هناك جناحان في السلطة، وبالتحديد بين العائلة المالكة، أحدهما يقول بالإصلاح، وهو جناح الملك، والآخر متشدد وعدو الإصلاح ويمثله، الجناح السديري من الأشقاء الثلاثة: سلطان ـ وزير الدفاع، ونايف ـ وزير الداخلية، وسلمان ـ أمير الرياض.

عبدالله الحامد.. العرائض انتهى زمنها

وتفترض المذكرة الجديدة، كما سابقاتها، أن هناك أملٌ بأن يُصلح النظام السعودي نفسه، وأن العائلة المالكة التي تدير النظام بالكامل، يمكن أن توفّر على نفسها وعلى الجمهور السعودي الجهد والعذاب والألم، وتبدأ بإصلاح معتدل على طريقة: لا يجوع فيه الذئب، ولا تفنى الغنَم.

وتفترض المذكرة ـ ضمناً ـ أن خيارات الجمهور السعودي، وفي مقدمتهم الإصلاحيين أنفسهم، في طرق الموضوع الإصلاحي، محدودة وتكاد تكون معدومة، ولم يتبق منها سوى كلمة شجاعة يقولونها على رؤوس الأشهاد، ويتحمّلون دفع تكاليفها، سجناً وحرماناً من السفر وطرداً من الوظيفة، كما هو حال محرري العريضة، وفي مقدمهم الدكتور عبدالله الحامد.

كل هذا يفسر ابتداءً، لماذا يعلن القائمون على العريضة الإصطفاف المصطنع مع الملك عبدالله، وكيل المديح له، وتحفيزه والأمراء الآخرين الذين يؤمنون بالإصلاح ـ إن وجدوا! ـ لتدارك انهيار الدولة، وحسب رسالة المذكرة: (إننا ندعو الأمراء الراغبين في الإصلاح، إلى أن يتعاضدوا ويكونوا يداً واحدة، من أجل الشروع بالإصلاح السياسي، وبذل الجهود في سبيل إقناع إخوانهم المتحفظين والمحافظين، فالإصلاح يحتاج إلى مبادرات، وقدرة على الحركة والسعي، والرأي المجرد لا يغني ولا يشفي إلا إذا تجسد بأفعال). وبقدر ما في العريضة من توصيفات قاسية للأمراء ولمشايخ السلطة ووعاظ السلاطين، وبقدر ما حوت من شحنات شجاعة من التحدي والمسؤولية، فإنها كانت رقيقة ناعمة في خطابها للملك عبدالله.

هل الملك إصلاحي؟ كلا.. ولكن أصحاب العريضة يريدون خلق مساحة حريّة لهم للتحرّك، عبر التمييز بين طرفين في العائلة المالكة: معتدل ومتشدد تجاه الإصلاح.. وقد لا يكون هذا التمييز موجوداً على أرض الواقع. وهناك محاولة في العريضة لتقريب رؤية الملك أو شعاراته الى ما ينادون به، كما أن هناك محاولات إدانة للملك ولكن بصورة مؤدبة، تقول: لقد تحدثتم أكثر من غيركم عن الإصلاح ومكافحة الفقر والظلم، ولكن المواطنين لم يجدوا شيئاً على أرض الواقع. وزيادة على ذلك هناك محاولة لمحاصرة تيار التطرف في العائلة المالكة الذي يقوده الأمير نايف وتحريض المواطنين عليه، كما تحريض الملك نفسه وبعض الأمراء، خاصة وأنه من المعروف أن الملك عبدالله لا يطيق الأمير نايف.

المديح للملك يبدأ من أول الرسالة: (نشكر لكم سعيكم إلى الإصلاح، و ما تبذلونه في رفعة هذا الوطن وتنميته، ولاسيما حرصكم على حفظ المال العام. ونشكركم على مناداتكم بالحوار والمشاركة الشعبية، وهو اتجاه يدل على وعي بمفهوم الدولة العادلة، التي ليست الحكومة فيها أدرى من الناس بمصالحهم. ونشكركم على حسن استقبالكم (رؤية) المثقفين للحاضر والمستقبل.. ونشكر لكم شفافيتكم وصراحتكم وسعيكم إلى تعزيز استقلال القضاء، وشعوركم بحاجة البلاد إلى مزيد من حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتجمع المسئولة).

وأطنبت الرسالة التي شكلت ديباجة للمذكرة في المديح الكثير الذي لا يستحقه الملك بالفعل. تقول: إن القلوب تتطلع اليه، وانه نموذج للشفافية والشجاعة وبعد النظر، وأنه مخلص ويقرن القول بالعمل.. لتصل الى الكتابة بصراحة متناهية في الإجابة على سؤال: لماذا نخاطبك علانية؟ وأجابت: لأنك تحمل مفتاح الحل؛ ولأن الرسائل السابقة (الخاصة والسرية) ربما لم تصل الى الملك، ثم (أنت في الأسرة ذو تاريخ إصلاحي... الناس يثقون بوطنيتك، فأنت من الطراز الأول في العائلة الحاكمة.. ومن خلال تصريحاتك أدرك الناس أنك لا تنافق... وأنت طموح، مستقل التفكير، ومستقلو التفكير، يطمحون إلى القيام بأدوار جديدة، لا يكونون فيها، عالة على تراث أب أو أخ... أنت أقرب الناس لتفهم جدوى مثل هذا الخطاب، وأهمية توقيته، وأهمية الجهر به رغم ثمنه الباهظ).

هل يرجى الإصلاح من ملك خيخة؟

وقالت رسالة المذكرة، بأن دعاة الإصلاح (لا يجدون أذنا صاغية غيرك، فالآخرون الذين نتحدث عنهم، لا يريدون أن يسمعوا من أحد، ويعتبرون أنفسهم أوصياء على الشعب، ويظنون أن العصا والسيف والسجون والتعذيب، هي علاج كل من يطالب بحقوق الأمة، ومن يرفض انتهاك كرامته).

هذا المديح الكثير، لا يغيّر من حقيقة أن الملك عبدالله لم يكن إصلاحياً يوماً، ولا هو قادر بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً أن يكون كذلك، وما الكلام القديم عن الإصلاح قبل أن يصبح ملكاً، إلا للإستهلاك المحلي.. قاله هو وغيره من الأمراء، ولكن لم ينفذ منه شيء. نعم الملك أفضل من الجناح السديري ورجاله، ولكنه أضعف في المبادرة والإدارة، وحاشيته أضعف أيضاً وليست بمستوى التحدّي. وها قد مضت سنوات تقترب من الخمس على وصوله الى العرش ولكنه لم يثبت أية خطوة سياسية على طريق الإصلاح، بل حتى الانتخابات البلدية جرى تأجيلها عامين كاملين!

لا يعتقد أيضاً أن هناك جناحاً إصلاحياً بين الأمراء، من الصعب ذكر ثلاثة أسماء من آلاف الأمراء يمكن الإشارة اليهم بأنهم يريدون الإصلاح أو يسعون إليه أو يدعمون الإصلاحيين. وبالتالي فإن الرهان على تشكيل جبهة موازية للجناح السديري تتبنّى مشروع الإصلاح السياسي، إنما هو رهان خاسر، وقد يكون وهماً محضاً. الحكم في السعودية عائلي، وهناك قناعة لدى جميع الأمراء بأن هذا الحكم يجب أن يبقى شأناً عائلياً، وفي أفضل الظروف يمكن أن تستخدم مصطلحات الإصلاح والإعتدال السياسي كلاماً وفي التصريحات العامة لتقوية فريق من الفرقاء مقابل الآخر. هذا بالضبط ما فعله جناح عبدالله، حين أوهم المثقفين بأنه يحمل رؤيتهم وقال: (رؤيتكم مشروعي)! كل هذا لم يظهر له أثر البتة. وهذا أمرٌ يعرفه أصحاب العريضة الحالية، وقد أشاروا الى حقيقة (أن الناس كانوا يتوقعون إصلاحات سياسية - في بداية عهدكم - من ضمنها تقدم الأمراء الإصلاحيين الدستوريين المعتدلين، فإذا بهم يرون تقدماً لتيار الظلم والقمع والبطش من المسئولين عن إنتاج الأزمات المتتالية الذين يسوقون البلاد إلى مزيد من التأزيم). وطالبوا في مذكرتهم التي نحن بصددها بأن يشكل (لجنة تقصي الحقائق) عن الإنتهاكات، ليفصل نفسه عن الخط المتشدد في العائلة المالكة، وذكّروا الملك بأنكم قلتم (أنكم ستقطعون رأس الظلم بسيف العدل) محذرينه إن لم يفعل فإن ذلك (يعني إن لم تكونوا ملاذاً للإصلاحيين ودعاة حقوق الإنسان، أن فقه الضرورة الذي سوغ للحكومة الاستعانة بالقوات الدولية، يسوغ للإصلاحيين التظلّم إلى المجلس العالمي لحقوق الإنسان)!

يفترض أن تكون هذه الرسالة أو المذكرة الأخيرة للملك. فقد أرسلت له العديد من المذكرات السابقة، وكلّها نشرت فيما بعد، ولكنه لم يتخذ ولو خطوة صغيرة في سبيل التغيير وكبح جماح قمع وانتهاكات وزارة الداخلية. لا يمكن أن يستمر دعاة الإصلاح في الكتابة والتنظير، ولا التعويل على موقف من الملك بشأن الإصلاح. لقد مضت سنوات وستمضي أخرى. ويجب على الإصلاحيين أن لا يوهموا الناس ـ في حال لم يستجب الملك لمطالبهم ويتخذ الخطوات اللازمة ـ بأن الملك مختلف عن الآخرين، وأنه إصلاحي وما أشبه، أو بأن نظام آل سعود قابل للإصلاح من داخله وعبر رموزه من الأمراء. هذه كذبة اكتشفت منذ زمن، ولا يجب على الإصلاحيين أن يغالطوا أنفسهم، ويضللوا جمهورهم، ولا أن يجمدوا عند وسائل العرائض التي من الواضح أنها ـ رغم شجاعتها وتقدير أصحابها ـ لم تحل المشكلة، فقد انتهى عصر العرائض، لم يعد لها تلك الفاعلية ولا التأثير على سياسات الحكم. لا بد من ابتداع وسائل أخرى للضغط على كامل الأسرة المالكة. ومع هذا، يفترض أن تكون نتائج المذكرة الأخيرة محدداً لبوصلة العاملين السياسيين، إصلاحيين أو غيرهم.

ليس هناك من أملٍ بتاتاً، أن يصلح النظام نفسه، فهؤلاء الحكام مضى عليهم في الحكم عشرات السنين، خاصة الجناح السديري (نايف وزيراً للداخلية منذ 35 سنة، وسلمان أميراً للرياض منذ أكثر من خمسين سنة، وسلطان وزيراً للدفاع منذ 48 سنة فقط). ومن العبث بمكان افتراض أن هناك أمراء إصلاحيين، عدا (طقطقات طلال!) بل والرهان عليهم، أي الرهان على شيء متوهم بل غير موجود أساساً.

ننتظر من الإصلاحيين حديثاً موجهاً الى الشعب، لنقل إنها عريضة موجهة للشعب المسعود، يشرحون فيها جهودهم للإصلاح السياسي، وينوّرون الناس فيما يجب عليهم القيام به من احتجاجات وتظاهرات لانتزاع حقوقهم. الجمهور بحاجة الى توجيه، وليس العائلة المالكة، فقد كبرت هذه الأخيرة على النصح، لو كان النصح مجدياً.. إننا نرى الأمور عكس ذلك حيث يزداد الفساد والإستبداد والإستئثار وانتهاكات الحقوق البديهية للبشر فضلاً عن المواطنين.

لا بدّ من صرخة يطلقها دعاة الإصلاح، ولا بدّ من حشد الجمهور ليدافع هو عن حقوقه، فالإصلاحيون ليسوا بديلاً عن المواطنين، وطلب (فرض) الإصلاح عبر تحرك شعبي هو السياسة الصحيحة.

الصفحة السابقة