الدولة الباهتة

إعتقد مؤسس الدولة السعودية بأن تحقيق التوافق الداخلي يتم عبر محو الهويات الفرعية، وتقويض الانتماءات الخاصة، وإزالة الأنظمة التشريعية والقضائية في المناطق التي خضعت تحت سلطانه، مصحوبة بتنظيم حملات تعبئة مذهبية واسعة النطاق لناحية تحويل المجتمعات الأخرى في مملكته الناشئة الى المذهب الوهابي..ومالبث أن اكتشف بأن الاستجابة كانت سالبة، رغم التدابير القهرية التي فرضها على الأنظمة التشريعية والقضائية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية بكل جماعة، بل إن التحول الذي شهدته الدولة فرض عليها القبول بشروطها، إذا ما أرادت أن تكون دولة مؤسسية وحديثة. ولذلك، خفّض من شأن رسالته الدعوية لحساب مشروع الدولة وما يمليه عليه من تجديد في هياكلها الإدارية وخطابها استجابة لحاجات الدولة العصرية.

كان الطابع الأيديولوجي للدولة باهتاً الى حد كبير حتى نهاية السبعينيات، ماعدا نزعة المحافظة التي حكمت بعض فئات المجتمع وخصوصاً في نجد، ولذلك كانت الدولة تواجه في مشوار تحولها عنتاً من حليفها الديني أكثر من أي غيره، والسبب في ذلك أن هذا الحليف شعر بأنه الخاسر الأكبر من تخلي الدولة عن رسالتها الدعوية وهويتها الدينية/المذهبية. ولأن الطبقة الحاكمة كانت بحاجة الى مشروعية دينية تكفل استمرار سلطانها ورسوخه، لجأت الى خيار الموازنة بين متطلبات الدولة العصرية ومطالب حليفها الديني، وهذا ما ظهر في التعليم والقضاء على وجه الخصوص.

بالنسبة للفئات الحديثة التي تشكّل وعيها في ظل برامج التحديث، فإنها وجدت نفسها أمام عبء الأيديولوجية الدينية الصارمة التي أبطأت بشدّة مسيرة تحوّل الدولة، فعاشت في خضم تجاذب بين تيارين، الأول يبحث عن دولة وطنية تتحقق فيها شروط المواطنة الكاملة، وتيار يريد أن يبقي على صيغة التحالف التاريخي بين الوهابية وآل سعود، بما يحفظ امتيازات طرفي التحالف، أي أن تبقى الشؤون الزمنية في آل سعود والشؤون الدينية في آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

ولأن الفئات الحديثة غير منظّمة ولا تملك قنوات تعبير عن ذاتها وتطلعاتها، لم يكن أمامها سوى انتظار ما تسفر عنه عمليات التحوّل في الدولة السعودية، على أمل أن تصل الى مرحلة تكون فيها مرغمة على القبول بصيغة الدولة الوطنية باعتبارها السبيل القهري الذي ستسلكه في نهاية المطاف.

وفيما يبدو، أن الطبقة الحاكمة أدركت في مرحلة مبكرة المآلات النهائية لمسيرة الدولة، فحاولت الحد من تأثيرات الحداثة على برامج التحديث، فيما أعادت تأهيل العامل الديني في دعم قرارها ذاك. ففي الوقت الذي كانت تسمح فيه لبعض منتجات التحديث بالدخول الى جسد الدولة، كانت تستحضر العامل الديني كيما يكون حارساً على بوابة دخول تلك المنتجات للحيلولة دون تسرّب أفكار تحررية وحداثية الى السكان. فقد تم توظيف العلماء ورجال الدين في المدرسة السلفية من أجل كبح تطلعات الفئات الحديثة نحو دولة وطنية، وكانت الذريعة على الدوام هو محاربة الانفتاح والميوعة والخلاعة.

حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، حيث عاشت السلفية الوهابية أحلى أيامها عبر تحقيق انتشارها الكوني على وقع مشروع الجهاد الافغاني الذي شكّل مجالاً تعبوياً خصباً لدى الدعاة، وحداثة الثورة الإيرانية الذي مثّل عاملاً تحريضياً نشطاً. في ذلك العقد، جرى استعمال العامل الديني بإسراف غير مسبوق، وأصبح السكّان يسمعون بعقوبات إعدام أو (حد الحرابة) وتحت عناوين لم يسمعوا بها من قبل مثل (الإفساد في الأرض)، و(محاربة الله ورسوله)..

في التسعينيات حدث الانشقاق الكبير في المجتمع الديني السلفي، وخرج تيار الصحوة شاهراً سيفه ضد الحكومة والقوى الاجتماعية المناوئة له، ما أدى الى تهافت خطاب الدولة الديني، خصوصاً بعد أن أصبح هذا الخطاب منقسماً بين الحكومة ومن ورائها علماء المؤسسة الدينية ومعارضيها من مشايخ الصحوة.

في العقد الأخير، كان لابد أن تخضِع الدولة خطابها الديني الى عملية مراجعة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فقد أصبحت الأيديولوجية الدينية المشرعنة للدولة موضع تهمة على نطاق دولي، وأصبح من غير الممكن أن تتمسك بالأيديولوجية هذه كمصدر أساسي لهويتها، وصورتها الخارجية.

اعتقدت الطبقة الحاكمة بأن تنشئة خطاب وطني وتعميمه بات ضرورياً في الداخل، فيما عملت على تقديم نموذج ديني بنكهة معتدلة وعصرية للخارج. ولكن النتائج لم تبعث على التفاؤل بنجاح هكذا خطاب، ببساطة لأن الخطاب الوطني لم يؤسس على مراجعة ونقد للذات ولم يستوعب مكوّنات الخطاب الوطني بدرجة علمية ودقيقة، فضلاً عن كون الخطاب لم يتزامن مع تغييرات في بنية الدولة نفسها بما يجعلها دولة وطنية. أما على مستوى النموذج الوهابي المعدّل والمعد للتصدير، فإنه لم يقنع الضحايا في الخارج، فقد شهدوا الآثار المتواصلة للنموذج الأصلي في بقاع مختلفة من العالم.

مهما يكن، فإن الخطاب الوطني، شأن الخطاب الديني، واجه تحديات مباشرة، ولم يخرج منها بنجاح، هكذا تنبىء حوادث اليوم الوطني في سبتمبر الماضي، حيث عبّرت فئات عديدة عن ذواتها بعيداً عن احتفالية المناسبة. وآخر التحديات كان التدخّل العسكري السعودي في اليمن لمواجهة المقاتلين الحوثيين، والذي فشل الخطاب الوطني في أن يعكس نفسه في تفاعل السكان عاطفياً وثقافياً، وقد يفسّر ذلك عودة العائلة المالكة الى خطابها الديني بنبرته الطائفية، والذي بدا كارثياً هذه المرة..وفي ظل تهافت الخطابين الديني والوطني، لا تملك الطبقة الحاكمة من أمرها سوى أن تتعامل مع الأشياء كما هي، وأن تقدّم نفسها باعتبارها دولة فئوية طائفية في نجد.. ولكنها حين توضع على محك الدولة تصبح باهتة، في هويتها، وخطابها، ووظائفها.

الصفحة السابقة