ناصر العمر.. صقر تكفيري

محمد السباعي

تبدأ السيرة العامة للشخصيات الصحوية عموماً من النشاط الاحتجاجي الذي بزغ فجأة في الأيام الأولى لأزمة الخليج الثانية، فيما يشبه إعادة تقويم شديد القسوة لأوضاع سابقة. وشأن مشايخ الصحوة، فإن الشيخ ناصر بن سليمان العمر (مواليد 1952) من قرية المريدسية التابعة لمدينة بريدة بمنطقة القصيم، والذي أنهى دراسته الجامعية من كلية الشريعة العام 1974م وأكمل دراساته العليا في كلية أصول الدين، قسم القرآن وعلومة العام 1984، كان منكّباً على علوم الشريعة الكلاسيكية في تفسير القرآن الكريم، وتحقيق كتب الحديث، وكان يتناول القضايا الاجتماعية لماماً وبطريقة شعبية، أما الموضوعات السياسية فغالباً ماجاءت المقاربة مكرورة وتنسج على منوال كتابات الإسلاميين في مصر مثل أنور الجندي، أو أدبيات الحركات الاسلامية في مصر وفلسطين والاردن. ولابد من الإشارة الى أن إهتمام العمر بالشأن السياسي جاء متأخراً، أي تقريباً إبان أزمة الخليج الثانية، حيث أزال احتلال صدام حسين للكويت الحاجز النفسي الذي كان يحول فيما مضى دون نقد الأوضاع الداخلية.

برز الشيخ العمر مع لدّاته في أجواء أزمة الخليج الثانية التي فتحت الباب لجميع التيارات والقوى السياسية والإجتماعية للتعبير عن مواقفها وتطلّعاتها السياسية والأيديولوجية. فكان نشأة تيار الصحوة على قاعدة أزمة محلية وإقليمية، عبّر من خلالها جيل من المشايخ السلفيين الذين انفتحوا على الثقافة الاسلامية الحركية وأعادوا إنتاجها محلياً دون أن يتخلوا عن نزعة التشدّد الديني، التي ورثوها من المرجعيات السلفية الوهابية، فشنّوا حملة تكفير واسعة النطاق ضد التيارات الفكرية والسياسية في الداخل مثل الليبراليين والحداثيين والعلمانيين والشيعة والصوفية، وبرز العمر كأحد صقور الحملة، من خلال إعداد التقارير وإلقاء الخطب والمحاضرات العامة التي تناول فيها تلك التيارات بالقدح والتشنيع، إلى جانب تحميل الحكومة مسؤولية تغلغل التيارات الليبرالية والحداثية في مؤسسات الدولة.

تعرّض للاعتقال في التسعينيات وبقي في سجن الحائر مدة أربع سنوات، يصفها العمر بأنها بمثابة (خلوة)، وأنها (قضاء وقدر)، في نبرة واضحة بأنه نادمٌ على تجربته السابقة، وخرج بعد كتابته تعهداً خطياً بعدم الخروج على الدولة، أو استعمال الخطابة العمومية للتحريض على الحكومة أو التعرّض بالقدح للأمراء.

بدا الشيخ العمر فيما بعد موارباً في مواقفه السياسية، ولكن الصورة بدأت تتّضح تدريجاً بعد تفجّر دوامة العنف الداخلي في العام 2003، حيث اضطلع الشيخ العمر، إلى جانب رفاق دربه مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ عايض القرني والشيخ سفر الحوالي، بمهمة مناصحة المتورّطين في أعمال العنف والارهاب، وكذلك العائدين من سجن غوانتانامو. وكان عنصراً أساسياً في مبادرة حوارية شجّعتها وزارة الداخلية ورعتها لناحية استيعاب مقاتلي تنظيم القاعدة الذي تم القبض عليهم. وقد نظّر العمر لهذه المبادرة بطريقة لافتة حيث اعتبر الحوار (سنة كوّنية ومبدأ شرعي) وأنه (معمول به على مستوى الأمم والجماعات والأديان والأفراد بل حدث الحوار في عالم الحشرات كما في قصة النمل عندما جاءت النملة ونصحت قومها) في قصة سليمان وجنوده. وعارض العمر الذين قالوا بأن الحوار مع حملة السلاح لا يجدي ويدعون الى الحلول الاستئصالية، فأجاب قائلاً: (مشكلتنا أننا لا ننتبه إلى مَن يتحدث، أي هؤلاء الذين يتكلمون ضد المبادرة: هل هم مؤهلون أنا أقصد الذين الآن يقدحون في الحوار أو يقولون إنه لا يجدي: ما هو رصيدهم من التجربة وما هو رصيدهم من العلم؟ بل وما هو رصيدهم من الإيمان؟ بل ما هو رصيدهم في الحقيقة من الوطنية وحماية الوطن؟).

ولكن ما هو مستغرب، أن الشيخ العمر لم يشارك في أي من جلسات الحوار الوطني منذ انعقاد جلساته الأولى في يونيو 2003 وحتى الجلسة الأخيرة. وقال كلاماً بالغ القسوة ضد الليبراليين والحداثيين والشيعة، ونفى إمكانية الحوار والتقارب بين الشيعة والسنة على عكس ما يقوله في مبدأ الحوار أعلاه.

لم يكن موقفه السلبي من الحوار الوطني تعبيراً احتجاجياً موجّهاً ضد الحكومة أو العائلة المالكة، ولكّنه امتثال أمين لموقف أيديولوجي خالص. فيما عدا ذلك، فإن علاقة الشيخ العمر مع الملك والأمراء متميّزة، فقد كان العمر في وفد العلماء الذي التقى الملك عبد الله في 22 ذي القعدة من العام 1430هـ بحضور الأمير نايف وكبار الأمراء والمسؤولين، وكان للعمر موقف واضح من المواجهات بين القوات السعودية والحوثيين، حيث عبّر عن دعم كل (ما من شأنه حماية البلاد وصد عدوان المعتدين).

ناصر العمر: صقر تكفيري

العمر بين التكفير والجهاد

ينظر كثير من قرأ أو استمع لمحاضرات ومقابلات وبيانات العمر أو التي شارك في التوقيع عليها الى أن الرجل متساهل في إطلاق أحكام التكفير ضد المخالفين لعقيدته السلفية، رغم ما يبديه من تسامح ظاهري. ولأن التكفير صنو ومقدمة لفعل قتالي غالباً، فإن العمر بقي في دائرة الإتهام باعتباره أحد المحرّضين الأيديولوجيين على العنف.

في مقابلة مع مجلة (العصر) على شبكة الانترنت بتاريخ 21 نوفمبر 2003 يقول العمر ما نصّه: (أما حَمَلة السلاح فهم ثلاثة أصناف: حمَلة السلاح من رجال الأمن وحمَلة السلاح المجاهدون وحمَلة السلاح ممن ليسوا من المجاهدين.

أما المجاهدون فأقول عليهم أن يتوجّهوا بسلاحهم إلى الأعداء الحقيقيين في فلسطين أي لليهود وللنصارى في العراق وللروس في الشيشان أعني لمواطن الجهاد الحقيقية. ميادين الجهاد قائمة في الأرض الآن في فلسطين و العراق وفي أفغانستان و الشيشان وفي الفلبين و كشمير قائمة إلى قيام الساعة.. الجهاد ماض إلى قيام الساعة).

يؤصّل الشيخ ناصر العمر لمبدأ التكفير في محاضرة نشرها في موقعه بتاريخ 24 محرم 1431هـ بعنوان (التكفير: ضبط وتحذير) اعتبر فيه (الحكم بكفر اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الأصليين الذين لا يدينون دين الحق ولم ينتسبق إليه) من موجبات إيمان المرء، وهذا النص كفيل بإباحة قتل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى بحسب فحوى الحكم الشرعي الذي يطلقه العمر. ورغم تحذيره المتكرر من خوض طلاب العلم في التكفير لأنه (حكم عظيم يحتاج إلى نظر دقيق وعلم عميق)، ولكن العمر لم يتردد في استعمال التكفير ضد أتباع الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية والسياسية الأخرى وبصورة جماعية، دون أن يأتي على ذكر الإحتياطات الإحترازية، أو تحقيق المناط، أو حتى تحرير الأعذار الشرعية التي غالباً ما تأتي متطابقة مع ميول الشيخ السلفي القائم على إصدار الحكم على المخالفين.

وشأن عدد كبير من مشايخ السلفية الذين يمثّل السماع قناة رئيسية للمعرفة العامة، فإن الشيخ العمر (أُذن) عالية الكفاءة جاهزة لتلقي القصص الخيالية أو في الحد الأدنى غير الموثّقة من مصادر محايدة والتي يجري توظيفها في المحاضرات العامة والبيانات والخطب الدعوية وتشكّل مادة إثارة جماهيرية تسري الى المجالس الشعبية وتصبح حديث الناس والعوام. وطالما أن تلك القصص جاءت مشفوعة بآية قرآنية وحديث نبوي وسيرة من تاريخ الصحابة الأوائل فإن القصص الأكثر خيالية تصبح حقائق في نظر الجمهور البسيط الواقع تحت سطوة أجواء دينية غامرة.

لا يكتفي العمر بسرد قصص لم تقع سوى في عالم الخيال، بل يطعّم محاضراته بلغة الأرقام لإثبات صحة المزاعم التي يسوقها، ففي محاضرة واحدة بعنوان (الأرقام الناطقة) يخرج كل من يستمع إليها بانطباع أن الولايات المتحدة وبريطانيا على وشك أن تغرق في فوضى عارمة وستصبح بين عشية أو ضحاها قاعاً صفصفاً بسبب الفقر والجرائم الإخلاقية والقتل والسرقة. ويعتمد في ذلك كله على مصادر مجهولة حتى للباحثين الإجتماعيين أو علماء الجريمة، بما ينبىء عن أن صورة نمطيّة مسيطرة على ذهن العمر ما تدفعه الى تصديق كل ما يسمع، وربما هذا ما يمنعه من اصطحاب عائلته خارج البلاد، رغم كثرة أسفاره للخارج، باستثناء الغرب الذي يتحدّث عنه بطريقة ازدرائية إلى الحد الذي دفعه لمعارضة تعلّم اللغة الإنجليزية أو قراءة روايات شكسبير.

يتجنّب العمر استعراض المشكلات الاجتماعية والاخلاقية في بلاده أو حتى بلاد المسلمين، ويعتقد بأن ذلك من باب (إشاعة الفاحشة) ولذلك فهو ينأى عن البوح بها أمام العامة بل يفضّل حصرها في (المجالس الخاصة) أي بمحضر العلماء وطلبة العلم الشرعي للبحث عن العلاج. تذكّر مقاربة العمر لمشكلات الغرب ونظيرتها في الشرق، وخصوصاً الإسلامي منه، بما قاله أحد الباحثين بأن الغرب تقدّم لأنه عرض مشكلاته بجرأة وعالجها بشجاعة، فيما خجل الشرق من مشكلاته فتراكمت حتى فاقت مشكلات الغرب.

الشيخ العمر لا يأتي بحلول حقيقية لمشكلات واقعية سواء اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وهو يميل إلى تشخيص واقع الأمة بطريقة مبتسرة وعمومية تتعامل مع الأمة باعتبارها كياناً مأزوماً نابعاً من أزمة الهوية الإسلامية، رغم أنه لا يقول ذلك بالحرف، ولكن إذا ما أحسنا الظن في مقاصده، فإنه لا يلبث أن يعيد رصف أعداء الأمة من يهود ونصارى وعلمانيين وليبرالين ومنافقين ورافضة وصوفية وأخيراً حوثية باعتبارهم اعداءً لهذا الدين وهذه الأمة، المختزلة في المجتمع السلفي، وكل ما يأتي بعد ذلك يعدّ تفاصيل مملة داخل مسوّرة الاعداء.

في المقابل، يرى العمر بأن للعلماء دوراً محوّرياً في قيادة الأمة وحل مشكلاتها كافة، فهو ممن يرون ولاية الأمر التي تعلو على ولاية الأمراء، وأن الآية القرآنية (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) دليل ـ في مقطعها الأخير ـ على ولاية العلماء دون سواهم، وأن الأمراء ـ الحكّام هم تبع لولاية العلماء يأتمرون بأوامرهم. بل يزيد العمر على ذلك بأن جعل العلماء الأقدر على معالجة مشكلات الأمة عامة، سواء كانت إجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو فكرية أو سياسية.

برز العمر كأحد الصقور البيانات التكفيرية منذ سقوط بغداد في إبريل 2003، وكان ينبري مع آخرين لإصدار بيان لاهب قبل أو بعد جولة من جولات الحوار الوطني أو حوار علماء المسلمين في مكة المكرمة أو حوار الأديان، ولم يتعرّض لنقد أو مسائلة من أي جهة قضائية أو سياسية في الدولة. وكان آخر البيانات التي مثّل فيها قطب الرحى بياناً دافع فيه العمر وأربعون آخرون من المشايخ المتشدّدين عن الشيخ محمد العريفي الذي وصف في خطبة صلاة الجمعة الشيخ علي السيستاني في النجف بأنه (شيخ زنديق وفاجر).

في محاضرة له بعنوان (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) في محافظة البدائع بمنطقة القصيم في محرم الماضي اعتبر فيها فرعون (سلف العلمانية) واعتبر حمل الليبراليين والعلمانيين لواء الإصلاح كما حمله المنافقون والفراعنة. ونال من القنوات الفضائية التي تموّل من مصادر محلية وتشيع الفساد. ونال من الذي يكتب في الصحف المحلية (أن اليهود والنصاري دينهم صحيح الا المحارب). وانتقد من طالب إصلاح المناهج، وتساءل هل كانت المناهج فاسدة حتى يتم إصلاحها، ولكنهم يريدون عقيدة الولاء والبراء وعقيدة التوحيد. وعبّر عن أسفه لمن قال بأن (حاجتنا لكليات البيطرة أكبر من حاجتنا كليات الشريعة). وانتقد العمر تحالف الليبراليين والرافضة في وجه العريفي، وسخروا منه. ووصف السيستاني بأنه (ضالٌّ من ضلاّلهم). هناك تحالف من الليبرالية والرافضة واليهود والنصارى، تحالف رباعي. وقال أن تحالف الرافضة واليهود والنصارى بأنها (قضية بديهية)، وشبّه حرب تموز 2006 بين حزب الله واسرائيل بمشكلة (النزاع بين الحرامية).

ما هو ملاحظ أن العمر، بخلاف رفاق دربه، لم يرسم لنفسه خطاً سياسياً واضحاً، فهو في الظاهر يعبّر عن مواقف فكرية وعقدية مناهضة لتوجّهات الملك عبد الله، أو هكذا يبدو، ويتبنى مواقف ذات طبيعة احتجاجية على سياسات الحكومة، ولكنه في الوقت نفسه يبدو مقاتلاً شرساً في الدفاع عن العائلة المالكة وعن الدولة السعودية.

الصفحة السابقة