إعجاب بالتجربة العراقية وخوف منها

السعودية.. وزمن العراق!

عبدالحميد قدس

(عسى أن يكون العراق بوابة العبور لشعوب هذه المنطقة الى عالم النور والحداثة السياسية والمجتمعية، من يدري، فالنور يأتي من مجاهيل الفضاء)(زمن العراق، مشاري الذايدي، الشرق الأوسط، 9/3/2010).

تنبّه عبدالرحمن الراشد، مدير قناة العربية، ورئيس تحرير الشرق الأوسط السابق، الى حقيقة أن التجربة الديمقراطية العراقية، والتي عكستها الإنتخابات العراقية مؤخراً، قد حصدت إعجاباً منقطع النظير، من قبل الأغلبية الساحقة من المراقبين لتلك الإنتخابات، ومن قبل السياسيين الذين راقبوا شفافيتها من بعد، خاصة أولئك العرب الذين اعتادوا على انتخابات التزوير، وعلى سواطير الأنظمة التي تمنع الناخبين من الإنتخاب، وعلى تزوير الإنتخابات ولو بجلب أسماء الموتى الى القوائم الإنتخابية، وهي حالات شهدتها (مصر) جميعها في الإنتخابات التشريعية الأخيرة!

الحدث العراقي مدهش في تحولاته، ونضج الشعب العراقي ديمقراطياً (وإن كان غير ثابت تماماً) حيّر حتى قادته، فضلاً عن أولئك العرب الذين خنقهم الإستبداد العربي الأصيل في شرانقه!، الذين هلوس الكثير منهم طائفياً، مفضلين العيش تحت كنف المستبدين.

لكن الراشد ـ آنف الذكر ـ والذي كتب مقالات سابقة على موعد إجراء الإنتخابات العراقية، ممتدحاً التحوّل بصورة او بأخرى، وخاصة في البعد عن الفئوية الطائفية، أبدى رأياً مخالفاً لما كتبه من قبل، ونشر مقالته (هل ديمقراطية العراق معدية) في نفس يوم مقالة الذايدي (زمن العراق)!

زمن العراق، يعني زمن الإنتخابات والحرية والتطلّع الى الحداثة. إنه يعني امتداد التجربة لتلقي بتأثيراتها على جيرانها.

وعدوى العراق، تعني الخوف منه، لا من عنفه، ولكن من حرياته. إنها ـ مقالة الراشد ـ سلبيّة تمجّد لحكم الفرد، في إسقاطه على الوضع السعودي، وكأن ما جرى في العراق من انتخابات نذير شؤم للحكم السعودي وأضرابه مثل حكم مصر شبه الميّت. هذا هو الهاجس السعودي الذي بدأ بسقوط نظام صدّام، فبُعث حيّاً في التجربة الأخيرة.

لكن السعوديين من الكتاب، مثل الراشد وغيره، والذين اعتادوا الفتوى في الشأن الديمقراطي، والسخرية من الإنتخابات في بلدان أخرى (خاصة إيران) يوحون للقارئ، وكأن بلدهم (السعودية/ أو مصر/ أو غيرها) تعيش واحة ديمقراطية عريقة تتضاءل أمامها تجربة العراق، أو على الأقل كأنهم ـ أي الكتاب والصحافيون ـ يؤمنون بالمثل الديمقراطية، والتغيير، والحداثة، وكل مفردات المشاركة الشعبية، وأنهم بسبب التصاقهم بتلك المعايير الديمقراطية، يستصغرون التجربة العراقية!

كلا.. عبدالرحمن الراشد ليس هكذا، فلا بلده ـ السعودية ـ نموذج الدولة الديمقراطية، بل هي في قعر التجارب العربية، بل في قعر تجارب العالم الثالث كافة. وهو ـ أي الراشد ـ لا يؤمن أصلاً بالديمقراطية في بلده، مثلما لا يؤمن بها أسياده من الأمراء. لهذا كانت مقالته المتخمّرة والتي نشرت في 9/3/2010 عن عدوى الإنتخابات العراقية، فاضحة لمبادئه، كما هي فاضحة في كشف المكنون السعودي الذي دمّر العراق تخريباً حتى لا تقوم للديمقراطية فيه قائمة (لا علاقة بما فعلته السعودية في العراق من تمويل العنف بموضوع الإحتلال الأميركي، وهي التي ساعدته في إنجاز مهمته، كما لا علاقة لموقفها بالمحاصصة الطائفية في العراق، لأن النظام السعودي في صميمه ومظهره طائفي هو الآخر، ولكنه لا يحاصص بل محتكر لأقلية، أي أنه أشدّ سوءً).

مدهش عبدالرحمن الراشد في جرأته. فاشل في تطمين جماعته من أن الديمقراطية العراقية (ليست معدية) لهم. بل هو يرى أن حكم الإستبداد أكثر إغراءً، وهو فيروس المرض الحقيقي الذي يعدي الديمقراطية ويدمّرها: (هل ديمقراطية العراق معدية؟ لا، أبداً، العكس هو الصحيح. فالنظام الفردي أكثر جاذبية وفعالية وقدرة على اختراق العقول والحدود، وهو اليوم المهيمن في المنطقة. إذن فلا خوف من انتخابات العراق، على الرغم من أن نسبة المصوتين تجاوزت الستين في المائة من المؤهلين للتصويت، وهي نسبة عالية جداً).

النظام الفردي أكثر جاذبية! أي أن الديكتاتورية والإستبداد أكثر جذباً للجمهور! أي أن شعوبنا مشوّهة حقّاً فترى المستبدّ أفضل من الديمقراطي. لم يعلمنا الراشد سرّ جاذبية الحكم الفردي (المستبد والطاغي) سواء في السعودية أو في غيرها، كما لا نعلم كيف قرّر زعمه وعلى أي أساس.

الإجابة عن هذا ليس غرض الكاتب من مقالته، إنما غرضه طمأنة دعاة الإستبداد من الأمراء السعوديين، ومن يعيش على موائدهم، وحثهم على الإستمرار في نهج ومسلك الطغيان والفساد الذي هم عليه. فالديمقراطية بعيدة، فالعبوا واهنأوا، إذ لديكم شعوب، أو شعب يفضل حكمكم وأشخاصكم على أن ينتخب من يريد. إقرأ للراشد قوله: (لهذا أرجو من الجميع ألا يهلعوا من مناظر الاقتراع وجحافل المصوتين، وإعلانات المرشحين، وبيانات التغيير الانتخابية، وسقوط وصعود القوى المحلية بيد المواطنين. هذه احتفالية استثنائية لن تتكرر في المنطقة)!

لن تتكرر!

حسنٌ لن تتكرر!

التبشير ببقاء الإستبداد، والقبض على بعض الآمال المتلصصة التي حركتها مشاهد الإنتخابات العراقية الحيّة على معظم شاشات تلفزة العالم، هدفٌ آخر من وراء المقالة، فبدل أن يبعث الكاتب الأمل بالتغيير والإصلاح في بلد منكوب كالسعودية أو كمصر، يأتي لهم إما ليقول لهم: (أنتم شعب غير!!) أو أن (الشعب العراقي غير!!).. فـ (مالكم إلا هيفاء/ آل سعود!).

لكن الراشد، ولحسن الحظ، يعترف بأن الدول العربية وفي مقدمها السعودية (دون أن يسمّها) كانت وراء العنف في العراق، وأنها ضد الديمقراطية المخيفة والمكروهة والتي يتفق الحكام العرب (مصر والسعودية بنحو خاص) على مقاتلتها. هنيئاً لكم ذلك. لنقرأ الراشد: (من قرأ الحدث العراقي في السنوات الست الماضية يدرك أن معظم العنف الذي أصاب العراق تم تصديره من الخارج، من الجوار، لهذا السبب بعينه ـ يقصد الإنتخابات الديمقراطية ـ، وليس محاربة للاحتلال العسكري الأميركي أو كرها في القيادات السياسية العراقية. فكرة فرض الديمقراطية مسألة مخيفة ومكروهة، وهناك إجماع إقليمي على مقاتلتها). ويضيف: (لا أعتقد أن دول المنطقة تهتم كثيرا بإسقاطها ـ يقصد التجربة الإنتخابية العراقية ـ بعد أن أثبتت أنها قادرة على تخريبها، وكلفت راعيتها الكثير من الدم والدولارات)!

وبالطبع فإن الراشد لا يشذّ عن (الإجماع العربي)! خاصة (الإجماع داخل آل سعود). وإن الدم العراقي الذي سال طيلة السنوات الماضية بمسميات طائفية ودعم للقاعدة والبعثيين، لم يكن يستهدف أكثر من إجهاض التجربة وتخريبها.

ويقول الراشد أخيراً، بأن العراقيين يرتعبون حين يقال لهم اخرجوا للتصويت غداً!

ماذا سيقول المواطن السعودي إذا قيل له إنتخب غداً مرشحك بل حاكمك أيضاً؟!

أقطع، بأنه سيطير من الفرح! كما فعل الشعب العراقي في عرسين انتخابيين. لكن هل يجرؤ آل سعود على القيام بذلك، بدل أن يتغنّوا لنا بأن الشعب المسعود بدوي جاهل فرداني أناني غير متحضر ولا يقبل بالإنتخابات؟

إعجاب بالتجربة العراقية وخوف منها

لم تكن وسائل الإعلام السعودية الخارجية قادرة ـ أو راغبة أيضاً ـ في معاكسة الإعلام العالمي الجارف المتابع بحيوية للإنتخابات العراقية، والمهتم بأخذ آراء المراقبين الدوليين والمحليين، ومتابعة الأيام الأخيرة للحملات الإنتخابية. يومها كتب عبدالرحمن الراشد، وقبل ثمانية أيام من الإنتخابات العراقية، وبالتحديد في 28/3/2010، مقالاً تحت عنوان (ضجيج الإنتخابات العراقية) رأى فيها أن الإنتخابات حاسمة إما لتكون بداية تاريخ جديد للعراق، أو أن تكون الأخيرة في تاريخه! في المقالة إشارة الى تراجع التأثير الأميركي على العراقيين، خاصة وأن القوات الأميركية ستبدأ في الإنسحاب، واعتبر ذلك تطوراً من جهة تعزيز قوة الدولة العراقية، وإن كانت هناك خشية من أن تشغل ايران الفراغ الأميركي. أيضاً في المقالة إشارة الى أن (الإنتخابات تؤذن بتاريخ جديد) رغم الصعاب التي عددها والأسئلة التي طرحها الراشد، لكنه خلص الى نتيجة: (علينا ألا نقلل من التطور الذي ظهر في المجتمع العراقي، فالإنخراط الشعبي الهائل في النشاط الإنتخابي والمشاركة الشعبية لن يكون سهلاً إلغاؤهما، كما أننا رأينا تطوراً حقيقياً في مهارات البرلمانيين، والعاملين عموماً في الساحة السياسية، وقدرة على التعايش والإنخراط والأداء النيابي الجيد) وأمل (ربما تجربة السنوات الصعبة الماضية ستعين العراق على تجاوز محنة السنوات الأربع المقبلة. إن النجاح الإنتخابي مهما كانت القيادة التي تفوز بأغلبية الأصوات، يعطي أملاً في أن يكون القارب الذي يحمل البلاد الى اليابسة، ويعبر بها بسلام من الإعصار المقبل).

في مقالته التالية التي نشرت يوم الإنتخابات العراقية 7/3/2010، جاءت تحت عنوان: (سنّة على شيعة على علمانيين) وهو يحكي خروج العراق من دائرة الإستقطاب الطائفي، وقدّم الراشد نماذج مدهشة في كل الكيانات التي ضمّت تنوعاً غير طائفي، اعتبر أنها (تظهر بوضوح طبيعة التطور السياسي الذي حصل في الساحة السياسية العراقية) وهو (تطور طبيعي وضروري وصحي لو سمح له أن ينمو من دون تدخل عسكري أو تعطيل أو تزوير هائل).

بعدها يقرر الراشد حقيقة أن (الديمقراطية مفيدة لبلد متعدد الإثنيات والمذاهب مثل العراق. المصالح، لا المذاهب، هي التي تجمع المواطنين، حاجاتهم والخدمات المحلية وتحسين معيشتهم وتوفير الأمن لهم أهم لهم من الثارات التاريخية أو الدينية. ولا نريد أن نقول، حتى الآن، إن المواطن العراقي نضج سياسيا، إلا بعد أن نرى تاريخا من الممارسة... لكننا نستطيع أن نلاحظ أن تجربته الثانية تتم اليوم بامتياز، من خلال لوائح المرشحين والبرامج الانتخابية ولغة الخطاب السياسي. تطور يستحق العراقيون أن نهنئهم عليه).

لكن هذه الديمقراطية المفيدة في بلد متنوّع أثنياً، أو طائفياً، لماذا لا تنسحب على السعودية مثلاً، فالسعودية ليست دولة واحدية الثقافة والمذهب والمنطق والقبيلة ما يجعلها تشبه الأثنيات المغلقة على نفسها.. إنها بلد الأقليات؟ ولماذا الديمقراطية غير مفيدة في مصر، حيث التنوع الديني، ولماذا هي ليست مفيدة في سوريا وغيرها حيث التنوع العرقي والمذهبي؟ لا يمكن حصر التجربة العراقية في محيطها، وما دام ثبتت فائدتها في حل المعضلات الطائفية، فلماذا تصبح مخيفة مكروهة ومعدية في بلدان أخرى تتشابه في النسيج الإجتماعي؟

كانت مقالة الراشد هذه والتي سبقت عدوى الديمقراطية العراقية، تقول بأنه: (لا يوجد مبرر للقلق اليوم ممن يفوز أو يخسر، فإن كل الائتلافات والأحزاب، بأسمائها وبرامجها، تستحق أن تتبوأ المنصب القيادي الذي هو محل السباق اليوم. وإذا كان هناك من سبب للتخوف، فهو التنازع الإقليمي على العراق، حتى بعد ظهور النتائج). ونصح بطريقة مهذّبة تلك الدول العربية (السعودية في مقدمها كونها الوحيدة في المشرق العربي التي لم تفتتح لها سفارة في بغداد) التي أحكمت الحصار السياسي على العراق بـ (أن تتقبل دول الإقليم حقيقة أن العراق في طريقه إلى الاستقلال الكامل، وأن العراقيين نضجوا سياسياً، ومن مصلحة الجميع التعامل معه بناء على ذلك، لا اعتباره جمهورية موز يخوف بالإرهاب، أو يبتز بالعواطف الدينية، أو الجوائز المالية).

القراءة هذه تفيد بأن عبدالرحمن الراشد ـ والذي يمثل الرأي الرسمي في كثير مما يكتب ـ كان معجباً بالتجربة العراقية حتى انتهاء الإنتخابات.. على أن تبقى في محيطها العراقي، لا أن تنتقل عدواها الإيجابية الى البلد الوحيد الذي لا تجربة ديمقراطية له بين كل جيران العراق وفي كل الدول العربية، وهي السعودية (الدولة الوحيدة التي لا يوجد بها انتخابات تشريعية، صحيحة كانت أم مزورة، ولا انتخابات مناطق/ محافظات، ولا انتخابات بلدية/ جرّبت مرّة ثم جمّدت)!

من هنا انقلب الإعجاب الى خوف من التجربة.

الصفحة السابقة