الرياض وبكين في معركة طهران وواشنطن

النفط السعودي Vs النووي الإيراني

محمد فلالي

استجابت السعودية لطلب وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بالتدخل لدى الصين من أجل المشاركة في الحلف الدولي المصمّم لتشديد العقوبات الاقتصادية على ايران، وطار الأمير سعود الفيصل في 4 مارس الجاري الى بكين لإيصال رسالة من الملك عبد الله الى نظيره الصيني. ليس هناك ما يتطلب كبير جهد لمعرفة فحوى الرسالة، فقد كانت تصريحات الوزيرة كلينتون كفيلة بالكشف عن موضوع الزيارة وهدفها.

تبدو السعودية اليوم مستعدة للدخول في كل المناجزات الأميركية والغربية ضد إيران، وإن أفضت تحرّكاتها الى زيادة التوتر ليس في العلاقات السعودية الإيرانية بل في المنطقة عموماً. تصريحات سعود الفيصل خلال زيارة كلينتون الى الرياض الشهر الفائت كانت واضحة من أن العقوبات الاقتصادية على ايران ليست كافية بمفردها، حتى وإن كانت ستترك تأثيرات على المدى البعيد، وطالب بتدابير أخرى أكثر نجاعة وفورية، في إشارة ضمنية الى التلويح بالخيار العسكري، وإن بدا موارباً في اقتراح الحل التفاوضي.

في ظل أجواء الإحتقان المتعاظم بين الرياض وطهران والتي تتأثر بما يجري في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والخليج عموماً، تتمسك السعودية بخيار السير في طريق التصعيد الاعلامي والسياسي ضد إيران، الأمر الذي يجعل الرياض ورقة قوية باليد الأميركية لمقارعة طهران في الموضوع النووي.

ليس لدى السعودية اليوم ما تستخدمه في سياستها الخارجية سوى النفط ومشتقاته، فهي توظّفه في السياسة لتحقيق نفوذ ما أو تعطيل نفوذ مضاد، هذا باختصار ما تملكه وليس ثمة شيء آخر. زيارة سعود الفيصل الى بكين تتعلق بصورة محدّدة بالملف النووي الإيراني، أي بكلام آخر تقديم بعض (الجزرات) للصين من أجل المشاركة في الضغوط الاقتصادية على طهران. زيارة الفيصل لم تستغرق سوى ساعات سلّم خلالها رسالة من الملك عبد الله الى الرئيس الصيني جين تاو وفيما رفض مصدر دبلوماسي سعودي الكشف عن فحوى الرسالة، وإن كانت تتعلق باستخدام الرياض نفوذها لدى الصين لحملها على التخلي عن تحفظها إزاء تشديد العقوبات على ايران، إكتفى بالقول أن الرسالة تتضمن (وجهة نظر الرياض تجاه الملف النووي الإيراني).

أن تكون السعودية جزءً من تحالف أميركي غربي ضد إيران فهذا لم يعد سراً، فقد بات واقعاً إلى الحد الذي لم تعد فيه الرياض تتحفظ على البوح به والعمل وفق املاءاته. بالنسبة لها لا يجب أن يقتصر التحالف على الموضوع النووي بل يستوعب كل القضايا الإقليمية التي تحاول الرياض الهيمنة عليها سواء في العراق وفلسطين ولبنان، والتي ترى بأن الدور الإيراني فيها قد أفضى إلى تآكل نفوذها في الوقت الذي تملك فيه امبراطورية مالية تمكّنها من بناء شبكة نفوذ واسعة. المشكلة تكمن، بحسب مراقبين كثر، في من يدير الامبراطورية، والأهداف المرسومة لها، فهذه الأمبراطورية لم تكسر إرادة قوى إقليمية مثل سورية، أو حتى المعارضة في لبنان، أو حركة حماس في فلسطين، وبقيت السعودية رهينة التحالف المرسوم أميركياً الذي لم يغادر مواقعه لتحقيق اختراقات سياسية لافتة.

عوداً الى الصين، التي زارها سعود الفيصل في وقت مازال التنين يغلي غضباً على استقبال الرئيس الأميركي باراك أوباما زعيم التيبت دالا لايما. لا شك أن لدى السعودية مصالح اقتصادية كبيرة مع الصين، وتعتمد الأخيرة على مايربو قليلاً عن نصف احتياجاتها من نفط منطقة الخليج، فيما تمثّل دول الخليج ثامن أكبر سوق، وثامن أكبر شريك تجاري للصين. بل إنها تستورد ما نسبته 32 بالمئة من حاجاتها من النفط من الخارج، حيث تشكل نسبة الواردات النفطية من الخليج 95 بالمئة. فقد كانت تستورد الصين 2.5 مليون برميل يومياً في العام 2000، حيث يقدّر أن تزداد الكمية الى 4 ملايين برميل هذا العام (2010). وتنتج الصين 3.5 مليون برميل يومياً بما يجعلها من كبار منتجي النفط في العالم، إلا أن ذلك لا يغطي احتياجاتها اليومية والصناعية.

وكونها ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، فإن هذا يجعلها في قلب التحديات التي تشهدها منطقة الخليج، في ظل تحرّكات أميركية للحصول على مناطق نفوذ دائمة في الممرات المائية الممتدة من الصين إلى الخليج في سبيل التحكّم في الاقتصاد العالمي وممارسة الضغط على الصين لتحقيق مآرب سياسية واستراتيجية جمّة.

الملك مع الرئيس الصيني في الرياض

الصين تعتمد في الجزء الأكبر من استيراداتها النفطية على إيران، وهذا ما يجعل العلاقة بين بكين وطهران ذات أهمية بالغة، وهذا أيضاً ما دفع بالوزيرة كلينتون للطلب من نظيرها السعودي لاستعمال نفوذ دولته لدى الصين عبر تقديم عرض بزيادة الصادرات السعودية من النفط الى الصين في مقابل أن تتخلى الصين عن تحفّظها إزاء العقوبات الاقتصادية على إيران. وفي الوقت الحالي لا تتجاوز كمية النفط المصدّر للصين حدود 300 ألف برميل يومياً، إلى جانب المشاريع الاستثمارية في الغاز وإنشاء المصافي وتخزين النفط في الصين. وتسعى الرياض إلى تعزيز روابطها الاقتصادية والتجارية مع الصين من أجل إضعاف العلاقة المتميّزة التي تربط بكين وطهران.

وقد طوّرت الرياض علاقاتها مع الصين على قاعدة مصالح اقتصادية ونفطية، وخصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر حين شعرت بأن تحالفها مع الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية باتت عرضة للتدهور. وحتى بعد إعادة ترميم علاقاتها مع واشنطن، وجدت الرياض بان العلاقة مع بكين يمكن أن تسهم في لعب دور نافذ في ظل التطوّرات الإقليمية والدولية وبروز قوى إقليمية منافسة لها، وها هي تحاول توظيف تلك العلاقة في معركتها مع طهران، التي لم تعد ترى غيرها خصماً في المنطقة، وتحاول من خلال المعركة هذه إرضاء حلفائها في الغرب، وكسر خصومها في الشرق.

ليس انخفاض الطلب على النفط في الولايات المتحدة والغرب هو ما يدفع الى تحسّن العلاقات النفطية بين الصين والسعودية. صحيح أن العلاقات النفطية الوثيقة بين السعودية والولايات المتحدة أكبر مستهلك للنفط في العالم شهدت تغيّراً، ويمكن أن يعود ذلك الى تقلص الطلب على الطاقة في الغرب، بما يتيح للسعودية فرصة التوجّه الى وربما الهيمنة على سوق آسيا المتنامية خصوصا في الصين.

استغلت واشنطن تنامي الطلب الصيني على النفط والقدرة السعودية على توفير احتياجات الصين من النفط لتكون جزءً من الحملة الأميركية على إيران. زار ستيفن تشو وزير الطاقة الأميركية الرياض الشهر الماضي، ليبلغ رسالة مفادها أنه حان الوقت لاستغلال حاجة الصين من النفط لاستدراجها الى (الحلبة) الأميركية في مقابل طهران.

الرياض ردّت بالإيجاب على الطلب الأميركي، فعزّزت الصادرات الى الصين، بعد أن انخفض تدفق النفط الخام من السعودية الى الولايات المتحدة، حيث انخفضت الصادرات إلى أقل مستوياته في 22 عاما خلال 2009 اذ تسبب الكساد في هبوط استهلاك الوقود وقادت السعودية تخفيضات منظمة أوبك لامدادات المعروض حتى يتناسب الطلب مع المعروض. فثمة قناعة راسخة، بأن ما يجعل السعودية مؤثّرة في القرار الصيني هو ليس فقط الصادرات النفطية بل قدرتها على التحكم في سوق النفط العالمية، باعتبارها أكبر منتج يحوز على أكبر فائض من الطاقة الانتاجية، وهي الملاذ الأقوى لتغطية أي نقص تعاني من الاسواق العالمية.

يرى ديفيد كيرش مدير استخبارات السوق لدى بي.اف.سي انرجي في واشنطن (كان النموذج القديم يتمثل في أن السعودية ترى اهميتها من ناحية الجغرافيا السياسية في أنها أكبر مورِّد الى أكبر سوق في العالم). ويضيف (إنها لم تعد ترى ذلك المحرِّك الرئيسي. بدلا من ذلك، فان السعودية لديها طاقة انتاجية فائضة ومستعدة لتعديل الإنتاج صعوداً ونزولاً لتلبية احتياجات السوق). وتصريح كهذا من شأنه أن يحمل رسالة مزدودجة، فهو يغري السعودية بلعب دور فاعل ومساعد في السياسة الخارجية الأميركية، ومن جهة أخرى يهدد أطراف أخرى مثل الصين والدول المستوردة للنفط الخليجي بأن ثمة ما يجب الخشية منه، فللنفط رهبة جبّارة. بطبيعة الحال، ليس لتصريح كيرش مفعول على الداخل الأميركي، فإن انخفاض شحنات النفط السعودي الى الولايات المتحدة عائد الى قرار سعودي بهذا الشأن وإنما بسبب أوضاع اقتصادية ومالية أميركية، ولذلك فقد قامت السعودية بتوفير عشر الواردات الأميركية من النفط العام الماضي، 2009. يقول فرانك فيراسترو رئيس برنامج الطاقة والامن القومي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن السعودية أصبحت مورداً موثوقا به على المدى الطويل للسوق الأميركية بدرجة أكبر من منافسين مثل فنزويلا أو نيجيريا.

في واقع الأمر، أن واشنطن تلعب بالورقة السعودية، بعد أن عجزت الرياض عن استعمالها بطريقة تحقق مصالحها، فعدم قدرة واشنطن على شراء ما تحتاجه من النفط السعودي لا يعني مطلقاً عدم استعمالها له في السياسة. وهي تدرك تماماً بأن الرياض لا تملك معارضة استعمال واشنطن لورقة النفط السعودي إن أرادت، وهذا ما دفع سعود الفيصل إلى الإنصياع لأوامر السيدة كلينتون بالسفر إلى بكين لتقديم عرض زيادة واردتها من النفط، بطلب من واشنطن.

يقول فرانك فيراسترو بأن السعودية (في وضع متميز كمحور لسوق النفط على طرفي العالم. السعودية مهمة جدا للولايات المتحدة من الناحية الإستراتيجية وهناك إدراك بأننا لا نستطيع فقد السعوديين في أي وقت قريب). فهو لا يتحدث عن السعودية كدولة مصدّرة للنفط فحسب، بل كحليف داعم للسياسات الأميركية في العالم، وأحد مموّلي تلك السياسات سواء بصورة مباشرة أو بالنيابة.

ينظر الأميركيون الى الدور السعودي من خلال (السوق)، وخصوصاً في البلدان النامية، التي تستهلك كميات من النفط أكثر من الدول الصناعية. تذكر بيانات وكالة الطاقة الدولية بأن الاقتصادات الصاعدة في البلدان النامية ستحوذ على 47 بالمئة من الطلب العالمي على النفط في 2010 ارتفاعاً مقارنة بـ 37 بالمئة في 2000، فيما تعتقد الوكالة بأن الطلب في الدول المتقدمة بلغ ذروته.

وتتمتع السعودية بفضل مركزها كأكبر منتج للنفط في منظمة أوبك وامتلاكها خمس احتياطي العالم من النفط بميزة على المنتجين الاخرين عندما يتنافسون على أسواق جديدة. وتحرص المصافي الآسيوية المتعطشة للطاقة - والتي تكون غالبا مملوكة للدولة - على ضمان إمدادات مستقبلية من الطاقة من خلال عقود طويلة الأجل مع البلد الأكثر قدرة على امدادها بالنفط. يقول كيرش، سالف الذكر، (ليس هناك منتج يستطيع وحده حقاً منافسة السعودية في الصين في الأجل الطويل). فالصين حسب رأيه (سوق رئيسية والسعودية لا ترغب في فقد حصتها من السوق هناك. انها لا ترغب في فقدها لصالح روسيا و ايران. وهذا جزء من السبب في أنهم سيواصلون المضي قدما في إبرام إتفاقات طويلة الأجل مع المصافي في الصين).

وأحد هذه الاتفاقات هو إمداد مصفاة فوجيان في الصين التي تملك أرامكو السعودية الحكومية فيها حصة قدرها 25 بالمئة. وتعتزم الرياض شحن 200 ألف برميل يوميا الى مصفاة فوجيان هذا العام بعد أن بدأت المصفاة عمليات التشغيل في 2009. وتتطلع أرامكو أيضاً للاستثمار في مصفاة صينية أخرى وهي محطة تعمل بطاقة 200 ألف برميل يوميا وتقع في ميناء تشينجداو في جنوب البلاد. ويسعى منتجون آخرون لإبرام اتفاقات مشابهة مع الصين. وترغب الكويت في بناء مصفاة في حين تتطلع قطر للاستثمار في محطة بتروكيماويات.

ومع تضاؤل الفرصة لبيع إمدادات قائمة أو اضافية في مكان آخر يسعى المنتجون أيضاً لبيع المزيد من النفط للصين في الأجل القصير. ووافقت السعودية على زيادة إمداداتها من النفط الخام الى الصين 12 بالمئة في 2010 مقارنة مع 2009 في حين وافقت الكويت على زيادة الامدادات 50 بالمئة وقال العراق انه سيزيد شحناته من النفط الى الصين أكثر من الضعفين.

أمام هذه الفرص والتحديات، تدرك الصين بأن حاجاتها الملحّة من النفط لا يجب أن تدفعها إلى تبني سياسات راديكالية تفقدها حلفاء ثابتين، فيما تعلم سلفاً بأن العرض السعودي لا يخفي البصمة الأميركية، الأمر الذي يجعلها رهينة ابتزازات سياسية مستقبلية، بما يجعلها متمسّكة بتنويع مصادر شراء النفط مع احتفاظها بعلاقات متوازنة مع الدول المصدّرة.

الصفحة السابقة