المحاكم الأميركية والبريطانية تعاقب شركة بي أيه إي

متى يعيد مرتشو اليمامة مسروقات الشعب؟

عبد الوهاب فقي

بين شركة أنظمة بي أيه إي الدفاعية والأمنية والفضائية البريطانية وبين السعوديين قصة فساد طويلة، هذا بكل بساطة تفسير العمولات التي رافقت صفقة القرن بقيمة 43 مليار جنيه إسترليني (75 مليار دولار)، الأمر الذي دفع بالشركة البريطانية للإذعان في نهاية المطاف الى حقيقة أنها قامت بعمل خاطىء بعد أن كشفت وزارة العدل الأميركية كيف أن الشركة البريطانية استعملت وسطاء لإخفاء الأموال، المدفوعة في هيئة رشاوى.

ديفيد ليغ، وروب إيفانز من صحيفة الجارديان تعقّبا على مدى زمني طويل نسبياً قصة العمولات والرشاوى التي تكشّفت بعض تفاصيلها من خلال أول مرة وثائق الصفقة المبرمة بين واشنطن ولندن العام 1985 والتي رفعت عنها السريّة في بريطانيا بعد مرور عشرين عاماً عليها، ومن ثم المعطيات الجديدة التي كشف عنها مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير.

في 5 فبراير الماضي كتب ليغ وإيفانز بأنه بعد سنوات من إنكار مزاعم الفساد والرشاوى، إعترفت أخيراً الشركة بأن الشركة قد اختلطت بأعمال مشينة. وزارة العدل الأميركية سجّلت استنكاراً ينطوي على حقيقة كون بي أيه إي وافقت على أنها متّهمة. ويقول قرار الإتِّهام، من بين اتهامات أخرى، بأن بي أيه إي (استعملت كيانات وهمية لإخفاء العمولات لعدد محدّد من المستشارين الذين ساعدوا في..صفقات الطائرات السعودية). ويمضي القرار الإتهامي لإعطاء أمثلة منها: (وافقت بي أيه إي على نقل مبالغ تصل في مجموعها الى أكثر من 10 ملايين جنيه وأكثر من 9 ملايين دولار أميركي إلى حساب بنكي في سويسرا خاضع تحت سيطرة وسيط. وكانت بي أيه إي تدرك وجود إحتمالية عالية بأن الوسيط سينقل جزءً من هذه العمولات/المدفوعات الى مسؤول سعودي).

بالنسبة لعار بريطانيا، فإن هذه الاعترافات كانت بي أيه إي قد أرغمت عليها، ولكن ليس من قبل المحققين البريطانيين، وإنما من قبل محققين في دولة أخرى.

الرهانات حول صفقة (اليمامة) كانت دائماً عالية. وكانت الصفقة مربحة بصورة غير متوقّعة بالنسبة لشركة بي أيه إي في ذلك الوقت، بما يولّد دخلاً يقدّر بـ 43 مليار جنيه استرليني وتبقي الشركة تسبح على السطح لأكثر من عقدين من الزمن.

ولذلك كان من المهم بالنسبة لرئيسة الوزراء مارجريت ثاتشر، لأن تتدخل للمساعدة في لتمضية العقد طويل الأجل في العام 1985. وكان من يقف خلف السياسيين في حفل التوقيع، الأمير المبتسم بندر، إبن وزير الدفاع وولي العهد سلطان. وقد أصبح فيما بعد واضحاً لماذا كان الأمير بندر بن سلطان مسروراً بتوقيع الصفقة. أي بعد أن تكشّفت حقائق الرشاوى التي حصل عليها الضالعون في صفقة اليمامة، بمن فيهم الأمير بندر نفسه الذي حصد مايعادل ملياري دولار، إضافة الى هدايا ثمينة لا يمكن حصرها، منها طائرة ايرباص حديثة.

الإتفاقية كانت جوهرية وتتعلق بمعدات عسكرية باهظة الكلفة. في المرحلة الأولى، باعت بريطانيا السعودية 72 طائرة تورنادو، و30 طائرة تدريب من طراز هاوك، و30 طائرة تدريب أخرى. وفي المرحلة الثانية تم تسليم 48 طائرة تورنادو في الصفقة التي تم الاتفاق عليها في العام 1993، وأما المرحلة الثانية، فتم الاتفاق عليها بعد نهاية تحقيق مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطاري، الذي يتعلق ببيع 72 طائرة يوروفايتر تايفون.

صحيفة (الجارديان) بدأت تحقيقها المطوّل في بي أيه إي العام 2003. وحصلت الصحيفة على دليل يثبت بأن الشركة كانت تقوم بضخ أموال/رشاوى عبر شركات تمويهية لتوفير عمولات ومغريات فاخرة لمسؤولين سعوديين. وماتكشف لاحقاً كان مثيراً حول سماسرة الأسلحة الذين أنفقوا مبالغ ضخمة لإبقاء رأس القوة الجوية السعودية راضياً.

ولكن تلك المبالغ أثبتت نسبياً بأنها قليلة بالمقارنة مع ما تكشّف لاحقاً من مبالغ ضخمة قدّمت كرشاوى في الصفقة. واكتشفت الجارديان بأن بي أيه إي كانت تدفع مبالغ سرية لعملاء موثوقين حول العالم عبر نظام عالمي لشركات مجهولة الهوية في البحار.

فقد كانت شركة مالية غير معلنة تدعى (الجوهرة الحمراء) تعمل كمغسلة أموال ضخمة. وهناك كيان آخر موازي يدعي بوسايدن قام بتسهيل مجموعة من العمولات المالية السعودية.

أو، كما تضعها وزارة العدل في واشنطن، (قامت بي أيه إي بخطوات لإخفاء علاقاتها مع..مستشارين وكذلك مدفوعاتها غير المصرّح بها إليهم. على سبيل المثال، قامت بي أيه إي بالتعاقد مع والدفع الى عدد من المستشارين عبر كيانات وهمية متعددة في البحار تملكها بي أيه إي. كما شجّعت بي أيه إي بعض مستشاريها لتأسيس بعض الشركات الوهمية في البحار لاستقبال عمولات واخفاء هويات واستلامات هذه المدفوعات).

وزارة العدل الأميركية قالت بأن شركة الاسلحة ـ بي أيه إي ـ شغّلت نظاماً مخادعاً لعمولات صريحة ومبطّنة بالتوازي لعملائها، الذين بات بإمكانهم لاحقاً استعمال الإمدادات السرية من المال النقدي لدفع الرشاوى. ويقول بيان الوزارة بأن (بي أيه إي احتفظت ودفعت لنفس مستشار التسويق لاستعمال شركة في البحار أو بدونها).

في بريطانيا، فإن مكتب التحقيقات في الغش التجاري الخطير فتح تحقيقاً في 2004. وبدأ المحقّقون في المكتب بالإقتراب تدريجاً الى العائلة المالكة السعودية، فأماطوا اللثام عن دليل حول مبالغ طائلة تم دفعها الى حسابات بنكية سويسرية على صلة بوسطاء من قبيل الملياردير وفيق سعيد وثيق الصلة بالعائلة المالكة.

أحد أباطرة الفساد

في سبتمبر 2006، كان السويسريون متأهبين للكشف عن سجلاّت بنكيّة لمكتب التحقيق في الغش التجاري البريطاني. وبدأت الشركة ـ بي أيه إي ـ ولوبياتها بحملة عامة للتحذير بأن أعداداً كبيرة من الأعمال في صناعة السلاح قد تتلاشى.

خلف المشهد، كان السعوديون يطلقون تهديداتهم أيضاً. وزعموا بأنهم سيقومون بإيقاف تقديم معلومات استخبارية حيوية حول إرهابيي القاعدة الى الحكومة البريطانية في حال سمح للتحقيق بالاستمرار. وتم إبلاغ محققي مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير بصورة درامية بأنهم قد يواجهون (7 يوليو آخر) وأيضاً خسارة أرواح بريطانية على شوارع بريطانية) إذا ما واصلوا التحقيق.

ونقل بأن السعوديين حدّدوا مهلة نهائية لوقف التحقيق خلال اسبوعين، وفي ديسمبر 2006، وقف اللورد جولدسميث، والمدّعي العام لاحقاً، في مجلس اللوردات ليعلن عن وقف التحقيق. وقد بدا واضحاً بأن توني بلير كتب رسالة (سرية وشخصية) الى جولد سميث يطالبه فيها بوقف التحقيق.

وتمنى صفقة أسلحة جديدة من السعوديين. الى جانب ذلك، زعم بلير، بأن هناك (خطراً حقيقياً ومباشراً من انهيار التعاون الأمني والاستخباري والدبلوماسي البريطاني/السعودي. وقال رئيس الوزراء بأنه (سيفشل في مهمته) في حال لم يجعل وجهات نظره معروفة.

في داخل مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير، لم تأخذ تلك التهديدات أهميتها بل جرى تخفيضها، على أرضية أنها كانت تأتي من الأمير بندر نفسه، وهو المتلقي لأكبر عمولة من شركة بي أيه إي.

ولم يكن ذلك نهاية الأمر. في 2007، كشفت صحيفة (الجارديان) بأن المزاعم التي كان مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير يحقق بشأنها شملت دفع بي أيه إي بصورة سرية أكثر من مليار جنيه إسترليني للأمير بندر عبر بنك أميركي، إضافة إلى تقديم هدية مجانية له عبارة عن طائرة.

قررت وزارة العدل الأميركية فتح تحقيقها الخاص. وفي القلب منه، كانت المزاعم بأن بي أيه إي كانت تدفع 30 مليون جنيه إسترليني كل ثلاثة شهور ولمدة عقد على الأقل إلى الأمير الملّون ـ أي بندر بن سلطان.

وكان بإمكان المحققين الأميركيين أن يصدروا حكماً حيث أن العمولات كانت تتم عبر بنك أميركي في واشنطن حيث كان بندر السفير السعودي لمدّة عشرين عاماً.

رفضت الحكومة البريطانية تسليم وثائق حول عمولات بندر لمساعدة المحققين الأميركيين، وهي العمولات التي كانت تتم بمعرفة وتصريح مسؤولي وزارة الدفاع. وزراء زعموا مدة عشرين عام بأنه لم تكن هناك عمولات مالية سرية، ووعدت شركة بي أيه إي بصورة رسمية الحكومة الأميركية بذلك أيضاً في رسالة رسمية العام 2000 الذي أثبت فيما بعد بكونه عاراً وفضيحة.

285 مليون جنيهاً عقوبة فساد اليمامة

قبلت شركة الأسلحة البريطانية بي أيه إي سيستمز الذنب ووافقت على دفع العقوبات في الولايات المتحدة والمملكة المتّحدة بما يصل الى عدّة مئات من الملايين من الجنيهات الاسترلينية لتسوية ادعاءات الفساد ضدها طويلة المدى.

وبموجب الصفقة، أعلنت بي أيه إي، في وقت متزامن في لندن وواشنطن، بأنها ستقوم بدفع 400 مليون دولار (نحو 255 مليون جنيه) في الولايات المتحدة و30 مليون جنيه في المملكة المتحدة.

في الولايات المتحدة، فإن الشركة ـ بي أيه إي ـ ستواجه تهماً بتقديم رشاوى في عقود الأسلحة الخاصة بصفقة اليمامة مع السعودية والتي تمتد لأكثر من 20 عام، وكذلك مزاعم رشاوى حول عقود أسلحة وسط أوروبا.

وبموجب الاتفاق مع مكتب التحقيق في الغش التجاري في المملكة المتحدة، فإن المكتب يقتصر في تحقيقه على صفقة واحدة من الأسلحة فقط، والتي بموجبها تم بيع أجهزة رادار عسكري بأسعار عالية الى تنزانيا. وقال مكتب التحقيقات بأن (بعض المال النقدي سيصبح مدفوعات طوعية لصالح شعب تنزانيا).

بي أيه إي، التي أعلنت ندمها وقبلت (المسؤولية الكاملة لتقصيراتهم السابقة)، وقال بأن التسوية ستسمح لها بـ (التعامل في النهاية مع قضايا ماضية هامة)، والتي ألقت بظلالها على الشركة.

ديك أوليفير، الذي تم تعيينه رئيساً في العام 2004، قال بأن بي أيه إي أخفقت في الالتزام الذي قطعته للحكومة الأميركية في العام 2000 بالامتثال والالتزام بالمقتضيات التشريعية الأميركية في فترة محدّدة. بالنسبة لتنزانيا، فإن بي أيه إي أخفقت في تسجيل دفعات العمولات لدى مستشار تسويقي.

وقالت الشركة بأنها في غضون تلك السنوات منذ الحادثة، قامت بتعزيز وبصور منظّمة بسياسات واجراءات الإلتزام.

محللون قالوا بأن بي أيه إي خرجت من المأزق بخسارة أقل. فبالرغم من كونه رقماً كبيراً، إلا أنه السيناريو الأقل سوءً، بحسب يتنا كوك في بروكريج تشارلز ستانلي لوكالة رويترز، ولفتت الى التقارير الاعلامية الأولية التي أفادت برقم يصل الى مليار جنيه استرليني من قبل مكتب التحقيقات في الغش التجاري، والذي تم إعادة النظر فيه وتخفيضه إلى ما بين 200 ـ 300 مليون جنيه. كما أزالت العائق المسدل على سعر السهم العائد الى الغموض حول التحقيقات. فقد كانت أسهم بي أيه إي مرتفعة إلى نحو 2.2 بالمئة في التجارة الآجلة، حيث رحّب السوق بأخبار العقوبة التي لم تكن مرتفعة بالقدر الذي يخشى منه.

ناشطون في حملة مكافحة الفساد إعتقدوا بأن بي أيه إي كانت تعامل بصورة ناعمة من قبل السلطات. وقالت حملة ضد تجارة الأسلحة: (أن الحملة أصيبت بخيبة أمل شديدة كون الإتهامات حول بي أيه إي لن يتم بثها في المحكمة الجنائية وأن مكتب التحقيقات في الغش التجاري سيقبل المقايضات ذات الصلة فحسب بالصفقة الأصغر).

في ديسمبر 2006، أسقط مكتب التحقيقات في الغش التجاري ـ وسط أجواء قلق بالغ ـ تحقيقات الفساد في عقود الأسلحة بين بي أيه إي والسعودية بعد تدخل مباشر من توني بلير، الذي كان حينذاك رئيساً للوزراء. وقد دافع عن القرار على أرضية أن السعوديين سيوقفون تعاونهم في القضايا الأمنية. الجماعات المناهضة للفساد إنتقدت بشدة توني بلير وفي 2008 عبّرت منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية عن خيبة أملها وقلقها البالغ بالفشل المستمر في المملكة المتحدة لتحديد مواطن الخلل في القوانين حول الرشوى للمسؤولين الأجانب وكذلك إمكانية الرشاوى الخارجية.

في تقويم مستقل لممارسات بي أيه إي في سنة 2008 حثّها على تبني إجراءات صارمة لمقاومة الفساد وكذلك تبني النظام الاخلاقي الدولي في التعامل التجاري. المقترحان كانا من بين 23 توصية قدّمتها لجنة مستقلة برئاسة اللورد وولف، الرئيس السابق للعدل، بعد دراسة استغرقت عاماً.

وقال (إما أن تصبح بي أيه أيه شركة أخلاقية، وهذا يتطلب رفض الانغماس في بعض العقود، أو أن لا تصبح شركة أخلاقية بصورة كاملة بما يوصلها الى المستوى الذهبي الذي عرّفناه. فهناك عقود لا يستحق الحصول عليها، وقد تتسبب في إحداث أضرار على المدى البعيد على الشركة، وأن الشركة يجب أن تقبل ذلك).

الصفحة السابقة