حجّة وبيع سُبَح!

مي يماني

في إطار مساعيه الرامية إلى ترسيخ الاستقرار في بلده، كان الرئيس الأفغاني حامد قرضاي يرتدي عباءة بيضاء حين وصل إلى مكة فيما لا نستطيع أن نصفه إلا بـ (الحج الدبلوماسي). ورغم أن قرضاي أمضى بعض الوقت بلا شك في الصلاة في أقدس المواقع الإسلامية، فإن مهمته كان المقصود منها إثبات ما هو أهم من تدينه.

ما هي إذاً المكاسب الدبلوماسية أو المالية التي يسعى قرضاي إلى تحقيقها؟ ولماذا يسافر إلى السعودية في اللحظة التي بدأ فيها التصعيد العسكري؟ وهل تستطيع السعودية أن تلعب دوراً جاداً في حل الصراع الدموي المتزايد في بلاده؟

تستطيع السعودية أن تلعب بورقة الإيديولوجية الإسلامية المتشددة، والتي تتقاسمها معها حركة طالبان. والواقع أن السعوديين، كانوا يتولون رعاية المدارس الدينية التي تعلم فيها أعضاء حركة طالبان قبل مسيرتهم إلى السلطة في تسعينيات القرن العشرين. ثم إن السعوديين يملكون أيضاً النفوذ الاقتصادي اللازم لإغواء وكبح جماح حركة طالبان. ونظراً لتواجد السعوديين أثناء تأسيس حركة طالبان فإنهم يعرفون كيف يتحدثون مع قادتها. وفضلاً عن ذلك فإن السعودية راغبة على نحو متزايد في استخدام مكة كمنبر لمحاولة حلّ النزاعات السياسية الإقليمية. ويبدو أن النظام السعودي لم يدرك إلا منذ فترة بسيطة ذلك القدر العظيم من القوة الناعمة الذي توفره له وصايته على مكة المكرمة والمدينة المنورة ـ الموقعين الأكثر قداسة في الإسلام. ولقد أصبحت مكة المكرمة بالفعل موقعاً قوياً لعقد مؤتمرات القمة السياسية وأداة للوساطة، إن لم يكن لاستغلال أجهزة الإعلام.

ففي أكتوبر 2006، استضافت مكة المكرمة المحادثات بين الفصائل الطائفية العراقية المتحاربة. وفي فبراير 2007 تم تأسيس حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي لم تدم طويلاً نتيجة لقمة عقدت في مكة. وفي ديسمبر 2007، أدى الرئيس الإيراني نجاد فريضة الحج بدعوة شخصية من الملك عبد الله. وفي أكتوبر 2008 عقدت المملكة محادثات وساطة بين طالبان والحكومة الأفغانية تلبية للطلب الذي تقدم به قرضاي إلى الملك عبد الله، الذي وصفه قرضاي بأنه (زعيم العالم الإسلامي). واليوم يستغل النظام السعودي مكانة مكة المكرمة بين المسلمين بطريقة محسوبة مصممة للتأكيد على مكانة المملكة البارزة بوصفها (الدولة القائدة) في العالم الإسلامي. وهذا من شأنه أن يُذَكِّر المنافسين العرب من السُنّة مثل الهاشميين في الأردن ومصر بأن السعودية لا تزال تشكل القلب الإيديولوجي للإسلام.

القوة السعودية الناعمة تمتد إلى ما هو أبعد من الوصاية على المدينتين المقدستين، ذلك أن الدبلوماسية السعودية تحظى بدعم خاص من أضخم احتياطيات نفطية على مستوى العالم. وهذا من شأنه أن يساعد قادة طالبان على قبول المفاوضات ـ بل وربما حتى نبذ العنف ـ إذا تم توظيف الأموال السعودية في خلق حياة جديدة لمقاتليهم.

وتشكل الجهود السعودية في أفغانستان خطوة أساسية في إطار (تبييض وجه) المملكة، واستعادة سمعتها، خاصة في امريكا، التي لم تنس أن أغلب مختطفي الطائرات في 11 سبتمبر 2001 كانوا سعوديين، وأن السعودية فشلت في التعامل مع حركة طالبان قبل تلك الهجمات. لقد سبب سقوط حركة طالبان إحراجاً للنظام السعودي، لأنه كان قد اعترف بها في عام 1997 ووفر لها الدعم الإيديولوجي والمالي.

ورغم التوترات التي بدأت تتراكم في العلاقات الثنائية بين حكومتي الطالبان والرياض بداية من عام 1998 نتيجة لرفض طالبان تسليم أسامة بن لادن إلى السعودية (بلده الأصلي)، فإن المملكة كانت تأمل في أن تتمكن دبلوماسية الدولارات النفطية من حل هذه المشكلة. حتى أن السعوديين وجهوا الدعوة إلى مسؤولين من طالبان ـ بمن في ذلك الملا عمر ـ لأداء فريضة الحج. ولقد أدى محمد رباني، رئيس وزراء طالبان، فريضة الحج بالفعل في ذلك العام، ولكن حكومته لم تسلم بن لادن.

إن محاولة إعادة تأهيل طالبان، تخدم غرضاً استراتيجياً مهما للسعودية. فقد عانت الأخيرة من صعود الشيعة في العراق المجاور، وهي حريصة على الحفاظ على التفوق السُنّي في الأراضي الإسلامية الواقعة إلى الشرق. ورغم ذلك فإن النفوذ السعودي انحدر في أفغانستان في ظل حكم قرضاي منذ عام 2001، في حين تعزز نفوذ الإيرانيين.

كانت ازدواجية المشاعر السعودية في التعامل مع قرضاي، على الرغم من كونه سُنِّياً مسلماً، واضحة تمام الوضوح أثناء الزيارة التي قام بها إلى المملكة. والواقع أن الملك عبد الله أرسل أحد صغار الأمراء لمرافقة قرضاي في مكة، وهي إهانة دبلوماسية مدروسة. والسؤال المهم بالنسبة للسعوديين الآن هو كيف يدعون حركة طالبان إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. والواقع أن أفضل أمل قد يمكنهم تحقيقه في هذا السياق سوف يكون في باكستان، التي تنظر إلى أفغانستان على نفس النحو الذي تنظر به السعودية إليها، ولكن في وجود الهند بدلاً من إيران كمنافس على النفوذ. ونظراً لاعتقاد إدارة أوباما بأن باكستان تشكل أهمية أساسية لأي حل في أفغانستان، فربما وضع السعوديين رهانهم في المكان الصحيح باختيار شريك دبلوماسي لتحديد لعبة النهاية.

لا يفصلنا عن وعد أوباما بسحب جزء من القوات الأميركية سوى 17 شهراً، ومن الواضح أن الاستراتيجية الغربية تسعى إلى الفصل بين طالبان (الطيبة) وتنظيم القاعدة (الشرير). ولكن نظراً لسجل السعودية في دعم التطرف في أفغانستان، فمن المستبعد أن تنجح في المساعدة في تأمين هذه الغاية.

الصفحة السابقة