البترول والسياسة

السعودية تضع النفط تحت تصرف واشنطن

سعد الشريف

في بلد لا يعترف بولاية المرأة على نفسها، ولا بحرية التصرف في شؤونها، تصبح فيه للسيدة كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية ولاية مطلقة. فقد زارت هذه المرأة الرياض لأبلاغ أمر واحد: استعملوا ورقة النفط للضغط على الصين من أجل المشاركة في العقوبات على إيران. هنا بالتحديد وجبت طاعة المرأة، وطار الأمير سعود الفيصل الى بكين وفي حقيبته رسالة من الملك عبد الله تشتمل على (عرض نفطي) بزيادة واردات الصين من النفط السعودي (تتراوح الكمية قبل العرض ما بين 200 ـ 300 ألف برميل).

الصين الواقعة تحت تأثير غضبها من الخطوات الاستفزازية الأميركية (صفقة عسكرية لتايوان، واستقبال الرئيس أوباما زعيم التيبت دالاي لاما) تعاملت مع العرض السعودي لا باعتباره جزءً من معركة واشنطن وطهران، وإنما أدرجته في سياق العلاقات التجارية بين الرياض وبكين. عاد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في 10 مارس وحمل ذات الرسالة إلى الرياض، ولا يفوتنا هنا تخيّل طبيعة التنافس المتزايد بين الساسة والعسكر في الإدارة الأميركية.

الرياض التي شعرت بأن عرضها النفطي لم يكن مغرياً بالنسبة للصين لناحية الدخول في حملة العقوبات الأميركية على إيران، ردّت على تصريح غيتس للصحافيين في أبوظبي في 11 مارس الذي قال فيه (لدي شعور بأن هناك رغبة لدى السعودية والإمارات لاستخدام نفوذهما بصفتهما دولتين منتجتين للنفط لإقناع الصين بالموافقة على فرض عقوبات جديدة على طهران بسبب برنامجها النووي) بل زاد في درجة تطلّعه بالقول بأن الرياض وابو ظبي على استعداد للقيام بخطوة مماثلة لدى روسيا، وإن كان ذلك أقل ضرورة. نفت الرياض في اليوم التالي (12 مارس) من أن تكون المباحثات مع وزير الدفاع غيتس قد تطرّقت الى موضوع استغلال الرياض نفوذها للضغط على الصين من أجل اقناعها بالموافقة على فرض عقوبات على إيران..وفيما يبدو، جاء النفي بعد أن أفرط المسؤولون الأميركيون في البوح باستعمالهم ورقة النفط السعودية في معاركهم مع إيران والصين، فيما يترك انطباعاً وكأن المسؤول السعودي المعني بتطبيق الأمر ليس سوى مولى لقبيلة غازية، ما تسبّب في إحراج المسؤولين السعوديين، الذين شعروا بأن الأميركيين باتوا لا يراعون حتى أصول الضغط والطلب!

رفضت السعودية منذ حرب أكتوبر 1973 إقحام النفط في حلبة السياسة، وكانت ترى، وفق قناعة تبدو محكمة في تطبيقها العربي، بأن النفط لم يعد له مفعول سياسي، كما جاء على لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل خلال العدوان على غزّة العام الماضي في ظل مطالبات باستعمال سلاح النفط لإرغام الإدارة الأميركية بالضغط على حكومة أولمرت لوقف العدوان على أهالي غزّة، ولكن يجري تحضير الورقة النفطية منذ بدء حملات العقوبات الدولية على طهران كيما يلعب دوراً مركزياً في الصراع السياسي بين الغرب والشرق، وليس بين واشنطن وطهران فحسب.

ما يزيد الأمر غرابة، أن السعودية التي قطّعت سبلها في محيطها العربي والإسلامي، تجد نفسها في الجبهة الأمامية لصراعات واشنطن وتل أبيب مع خصومهما في هذا المحيط. وبات للنفط وظائف متعدّدة، فهو يدعم السلطة الفلسطينية في رام الله، باعتبارها جزءً من مشروع الاعتدال والتسوية، ويحاصر قطّاع غزة لأنه يأوي حركة حماس والجهاد، وهما مكوّنان في مشروع الممانعة برأس إيراني. وهو يتسلّل الى صناديق الناخبين في أكثر من بلد إنتصاراً لفريق سياسي على آخر (لبنان والعراق)، وغالباً ما يكون العمل وفق قاعدة الرئيس بوش الإبن (من لم يكن معنا فهو ضدّنا)..

لا ننسى التطمينات السعودية التي تسبق حروب أميركا في إقليم الشرق الأوسط، والعبارة المعلّبة تفيد دائماً: إننا على استعداد لتغطية حاجة السوق من النفط، هكذا كان الحال في حروب الخليج الثلاث. وحتى في العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، وقطاع غزّة في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009، ثمّة من أعاد تطمين الدول المستهلكة للنفط، رغم أن لا أخطار محتملة على منشآت النفط ولا الممرات البحرية أو البرية التي يعبر منها هذا النفط إلى حين وصوله بأيدي المستهلكين.

ما هو سعودي اليوم بات أقرب إلى الأجندة الإسرائيلية أيضاً، هذا ما تفشيه كل المقارنات والمقاربات، حتى أن بعض الكتّاب الإسرائيليين بات يتحدّث عن تحويل النفط السعودي إلى ورقة إسرائيلية. ليس على قاعدة العداوة لإيران فحسب هو ما يجمع السعوديين والإسرائيليين، فقد تجاوز الطرفان هذه النقطة الى مابعدها، وهاهو التناغم في الخطاب الإعلامي لدى الطرفين واضحاً، وكأن ثمة غرفة مشتركة تعدّ هذا الخطاب وتعمّمه.

نفط السعودية سلاح سياسي بيد واشنطن

السؤال الكبير هنا يحوم حول سر المجاهرة باستعمال الورقة النفطية السعودية من قبل واشنطن، فهل بلغ الضعف بدولنا إلى حد الكشف عن وهنها وهزالها، وبالتالي فهي لا تعدو مجرد (حارس منشآت) يزاول مهمة أمنية لحفظ وصيانة منابع النفط مقابل مبلغ مقطوع؟ أم أن الرياض، شأن عواصم خليجية وعربية أخرى، حسمت خياراتها وقائمة أعدائها، فما يصيب أميركا يصيبهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فلهم وحدهم؟ أم لا هذا ولا ذاك، وأن اللعبة باتت مكشوفة وليس هناك ما تخفيه أو تخافه في حال علم العالم كله بأمر التحالفات والمخطّطات والحملات الإعلامية والأمنية، فماهو تحت الطاولة الآن يصبح بعد ساعات فوقها، ولسان حالهم يقول نحن كما ترون شئتم أم أبيتم، ولكم في جدران بيوتكم وبيوت جيرانكم مأوى لجباهكم، فاضربوها بأي ما شئتم. ثمة من بين الأمراء يتمتم في مجالسه: (ماذا جنينا من علاقاتنا مع العرب ومن الأموال الطائلة التي أغدقناها عليهم.. لم نجد لها أثراً في أوقات الشدّة؟). مندبة تبعث على الضجر، ولكن تتردد دائماً دون كلل، فهناك من يريد أن يقدّم نفسه في هيئة الضحية حتى بعد أن بلغ من العمر عتيّا.

في حقيقة الأمر، أن ما يجعل هذه المجاهرة على هذا النحو غير المسبوق، يتوسّل عناصر قوة: إرتفاع مداخيل النفط وبالتالي القدرة على تمويل صورة الدولة (إعلامياً) ونفوذها (سياسياً واستخبارياً) في الخارج واستقرارها في الداخل (إعادة بعث دولة الرفاه)، التحالف مع الولايات المتحدة، الذي بلغ درجة من التعقيد ينبىء عنها هذا التماهي شبه التام مع الإستراتيجية الأميركية في العالم كله، كما يخبر عن ذلك أيضاً انحلال روابط السعودية عربياً وإسلامياً، بحيث باتت مساحة المناورة لدى الرياض لا تتجاوز عواصم عربية محدّدة، بما يجعلها مكشوفة سياسياً وأمنياً وحتى جيواستراتيجياً..ولكن لها في التحالف مع الولايات المتحدة عوضاً ونجاة.

منذ منتصف العقد الأخير، خسرت السعودية أكبر حليف لها في لبنان، وهو رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فمن جهة دشّن اغتياله مرحلة جديدة في العلاقات السورية السعودية، ومن جهة ثانية قلبت الرؤية الإستراتيجية لدى الرياض رأساً على قلب، فشقّت درباً لم تسلكه من قبل، وتشققت قشرة الجامعة العربية عن خلافات عميقة، بلغت حد التآمر من أجل إسقاط أنظمة عربية بالتعاون مع أجهزة غربية واسرائيلية، كما جرى على ثلاث دول عربية (سوريا وقطر والعراق)، ولحظنا كيف كان الموقف السعودي في العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز 2006، وعلى قطاع غزّة في ديسمبر 2008/يناير 2009..يبدو أن السياسة الخارجية السعودية التي وصفها فاروق الشارع ذات يوم بالشلل أخرجت كل شياطينها دفعة واحدة.

لا يمكن النظر الى كل هذه الحوادث بصورة معزولة، أو إفرادية، خصوصاً وأنها تأتي متطابقة مع أهداف دول أخرى، ليست مصنّفة في خانة الأصدقاء. كما لا يمكن النظر ببراءة الى تطابق الخطاب الإعلامي في أكثر من بقعة من بقاع الاعتدال العربي وفق المقاييس الأميركية، بما يشمل الدولة العبرية. ويبقى السؤال مشروعاً: لماذا تصبح قضية الشعب الفلسطيني في الخطاب الإعلامي المعتدل مخفّضة إلى درجة أنك تخالها طارئة عربياً على الوعي والهموم والأجندات؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، وهو ما نعتقد، لا نستغرب في لحظة ما أن الورقة النفطية التي كان يتم توظيفها فيما مضى لدعم القضية الفلسطينية، يطلب منها أن تصبح عود ثقاب لإحراق الحلم والحقوق ومشروع الدولة الفلسطينية..

ما كان المرء يتخيّل في يوم ما أن ننظر الى النفط نقمة منظورة، حتى شهدنا هذا التخلي المفرط من جانب آل سعود ليس عن استعمال النفط كورقة سياسية للضغط من أجل تحصيل بعض المكاسب على المستوى العربي أو حتى الوطني، ولكن الأنكى من ذلك أنهم الآن عاجزون، ولربما بملء إرادتهم، عن تحييد سلاح النفط، بل أصبح في مكان آخر، يجري توظيفه في معارك الآخرين، ولعل واحدة منها هي معركة ايران والغرب على خلفية البرنامج النووي الإيراني، ولكن قد يستوعب موضوعات أخرى، وقد تشتعل حروب النفط في المنطقة لحساب قوى دولية، وربما على الضد من مصالح الدول العربية.

يراد اليوم للسعودية أن تخرج كل ما في جوف الأرض من أحجام كامنة من النفط كيما تكون جاهزة للاستعمال في لحظات التوتر إقليمياً ودولياً..وهكذا، فإن ماقامت به في فترات سابقة لناحية تغطية احتياجات السوق بفعل حروب إقليمية أو توتّرات طارئة بين دول في المنطقة وقوى دولية (وغالباً غربية)، يراد له أن يتم الآن على نطاق واسع، نتيجة أولاً كثرة الحروب وكثرة الخصوم، فالولايات المتحدة لا تشعر بفعل تدخّلها العسكري في العراق وأفغانستان والتوتّرات الناشئة عنه سواء على مستوى العلاقات مع دول المنطقة أو الأوضاع الأمنية المترديّة، حيث الخليج بات مكاناً مرشّحاً على الدوام لانفجارات أمنية عاجلة وآجلة، وما النفط إلا محوراً لكل العوامل المحرّضة على تلك الانفجارات الأمنية..

حين تجاوز آل سعود المقايضة الكلاسيكية النفط مقابل الحماية، حيث نجحت الولايات المتحدة في توسيع أفق تلك المقايضة، بحيث أوجدت أبعاداً جديدة لمفهوم الحماية، وبالتالي صنعت وظائف أخرى لعامل النفط، وكلاهما بات مرتبطين بالاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، بل في العالم. فحماية العرش السعودي لا تتحقق بصورة معزولة عن حماية المصالح الحيوية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ولا نستغرب أيضاً أن يكون أمن الدولة العبرية جزءً من نطاق المصالح الأميركية.

وحين يصبح ثمن الحماية بهذا الحجم الكبير، فإن من الطبيعي أن يكون للنفط دورٌ بل أدوار أخرى بعضها منظورٌ وآخر يتلطى وراء عناوين أخرى، كالتي شهدناها في الآونة الأخيرة حين يطلب من السعودية ممارسة نفوذها لدى الصين من أجل المشاركة في العقوبات التي يخطط الغرب لفرضها على إيران، أو حين يطلب من آل سعود زيادة كميات المعروض النفطي في الأسواق الدولية بهدف تخفيف الأعباء الأقتصادية عن المستهلكين/المستوردين وإن كان ذلك ينطوي على أضرار للبائعين/المصدّرين.

ما ندركه في الوقت الراهن، أن آل سعود وضعوا النفط في خدمة أجندة سياسية خارجية، وفي الغالب هي أجندات حروب وصراعات، بل أصبح هناك من العرب من يشعر بأن نفط العرب لم يعد لخدمة العرب وقضاياهم، وإنما وصل سوء الحال به إلى حد المساهمة في تحقيق الأمن للدولة العبرية.

الصفحة السابقة