بحث الغامدي في (صلاة الجماعة في المساجد)

نفوذ المشايخ وسلطة النظام على المحك

خالد شبكشي

ثمة فصل جديد في معركة التغيير تشهدها الساحة المحلية في المملكة على وقع تفجّرات متعاقبة لموضوعات كانت، بعضها على الأقل، بالغة الحساسية في زمن ما، ثم أصبحت ضمن عملية التداول الثقافي اليومي، وبعضها الآخر يراد إخراجه من حيز (المحرّم) الحديث عنه، بعد أن تكسّرت حلقات التهويل حوله؟

الفصل الجديد تمثّل في اندلاع جدل داخل المجتمع الديني حول موضوعات محددة من قبيل الإختلاط، حدوده ومصاديقه، وصلاة الجماعة وما تمليه من تشريعات، وقيادة المرأة للسيارة وكذلك دورها في المجال العام، وتفاصيل أخرى تندرج تحت عناوين كبيرة، وطالت حتى الدور الإرشادي للمؤسسة الدينية، ممثلاً في جهاز (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

لم يكد رئيس فرع (الهيئة) في مكة المكرمة الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي يحسم موضوع (الإختلاط) والذي أعطى فيه رأياً فقهياً يخالف فيه المدرسة الفقهية التي ينتمي إليها، حتى أشعل موضوعاً أشد التهاباً وهو (صلاة الجماعة في المساجد)، ورأى ـ كما سيأتي ـ بأنه لا يصح الإنكار على من ينادي بعدم إغلاق المحال في أوقات الصلاة، ما أدّى إلى دخول كبار المؤسسة الدينية بمن فيهم مفتي عام المملكة الذي وصف القائلين بهذا الرأي (دعاة ضلال) و(غش للإسلام والمسلمين)، كما جاء في خطبة له بجامعة الإمام تركي بمنطقة قصر الحكم يوم الجمعة 23 إبريل الماضي. وقال المفتي بأن طرح الآراء تلك في بعض الصحف والفضائيات (يريدون إبعاد الناس عن بيوت الله) وأضاف بأن (ما كتب وما قيل وما نشر وما سطرته بعض الأقلام الجائرة والآراء الضالة ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً..إعلم أن كل هذا خطأ وضلال وغش للإسلام والمسلمين، واعلم أن هؤلاء الدعاة دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، وأنهم يريدون قطع الصلة للمسلم بينه وبين المسجد الذي نشأ وتربى على حبه). وقال (إن الملازمين على صلاة الجماعة في المساجد من علامات الخير, والمتخلفون عنها من علامات الشقاق والنفاق.. لا يتخلف عن صلاة الجماعة في المساجد إلا المنافقون..).

الشيخ الغامدي

من الواضح أن خطبة المفتي جاءت رد فعل على بحث الشيخ الغامدي حول صلاة الجماعة في المساجد، الذي اشتغل عليه مدة عامين وخرج في مائتي صفحة ونشرته صحيفة (المدينة) وخلص فيه الى عدم الإنكار على من ينادي بعدم إغلاق المحال التجارية أوقات الصلاة. وسعى الشيخ الغامدي إلى عرض البحث على المفتي لقراءته وإبداء الرأي فيه، إلا أنه رفض ذلك، وطلب منه ألا يتحدث في أمور وقضايا شرعية ليست من شأنه، وبحسب صحيفة (الرسالة) في 23 إبريل الماضي، أن المفتي (رفض الاطلاع على البحث الذي أعده أحمد الغامدي عن الاختلاط، عندما طلب (الغامدي) من سماحته الاطلاع عليه وإبداء الرأي فيه..رفض جملةً وتفصيلًا أن يرسل له مدير عام فرع رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة بحثه)..

وقال الشيخ الغامدي:( تلقيت اتصالاً من سماحته رغب فيه مراجعة ماكتبته عن الإختلاط لما قد يكون فيه من عجلة ولما في الإختلاط من مفاسد وأضرار وقد أوضحت لسماحته إن مانشر خلاصة لدراسة مستفيضة سابقة لدي تأملتها كثيراً وبضوابط شرعية وأنه إذا رغب سماحته الإطلاع عليها فسأبعث بها إليه أو أحضرها بنفسي لدى سماحته فأكتفى سماحته بذلك وأنه إنما أراد مناصحتي بصفته الشخصية ودياً في ذلك وأنه طالما أن ذلك بقناعة مني فهو أمر بيني وبين الله وانتهى الحديث بذلك).

وبحسب النتائج التي توصّل إليها الشيخ الغامدي في بحثه حول صلاة الجماعة في المساجد، أن لا دليل على وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وأنها سنّة مؤكدة تماشياً مع رأي جمهور العلماء. وقال بأن لايصح الإنكار على من ينادون بعدم إغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة، لكون صلاة الجماعة أمر مختلف في حكمه بين العلماء، موضحاً أن من قال بأن صلاة الجماعة سُنّة من العلماء رأى على ذلك عدم وجوب إغلاق المحلات، مع القول ببقاء الحث عليها لفضيلتها دون إيجاب.

وتعتبر آراء الشيخ الغامدي تطوّراً غير مسبوق في المدرسة الوهابية والمؤسسة الدينية الرسمية، وما تحمله من آثار كبيرة على أداء المؤسسة الدينية وجهازها (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والذي يمثّل الشيخ الغامدي نفسه أحد أركانه.

من وجهة كبار علماء المؤسسة الدينية، أن صلاة الجماعة في المساجد واجبة، وبحسب الشيخ ناصر الدين الألباني: (لا تُقبل الصلاة عندالله إلا إذا صُلّيت مع الجماعة في المسجد)، الأمر الذي يضع قطاعاً واسعاً من المسلمين في الداخل والخارج في خانة (المنافقين) و(دعاة الضلال) بحسب المفتي.

الغامدي: صلاة الجماعة في المسجد سنّة

البحث الذي قدّمه الشيخ الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي بعنوان (قوافل الطاعة في حكم صلاة الجماعة) جاء في نحو 200 صفحة، ونشرت صحيفة (المدينة) ملخّصاً له في عدة حلقات ينطلق من قاعدة إصولية/ فقهية: أن تعدد الاحتمال يسقط الجزم بوجوب الجماعة في الإستدلال، ورصد تسعة أوجه لحكم صلاة الجماعة قال عنها بأنها لا تخلو من ضعف وتعسّف، وأن وجوب صلاة الجماعة كانت في بداية الإسلام لسدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ، وأن الاحتجاج بحديث الهمّ المذكور على الوجوب لا يراد به حقيقته وإنما يراد به المبالغة، وأن مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التخلف عن صلاة الجماعة من مقاصد الشارع وسدّ الذريعة والرغبة عنها، وأن حديث (الأعمى) الذي جاء للمصطفى صلى الله عليه وسلم طلباً للرخصة والاعفاء عن صلاة الجماعة في المسجد على كثرة طرق الحديث وتعدّد رواياته فإنه ضعيف ولا يحتجّ به.

وقال الشيخ الغامدي بأن العلماء اختلفوا في حكم صلاة الجماعة إلى خمسة أقوال. الاول: قول الخوارج بعدم جواز الصلاة في جماعة إلا أن يكون الإمام نبياً أو صديّقاً. والثاني: قول أبو يعلى وابن عقيل واختاره ابن حزم ورجحه ابن تيمية، قالوا: الجماعة في المكتوبة فرض على الأعيان وشرط لصحة الصلاة، فلا تصح عندهم صلاة المنفرد، إلا عند وجود عذر شرعي، فتصح حينئذ. وناقش الغامدي هذا الرأي وقال: أما القول بأنها شرط للصحة فغير مسلّم، فإن الوجوب قد ينفك عن الشرطية حتى في العبادات، كالإحرام من الميقات، فإنه واجب باتفاق أهل العلم، عملا بحديث المواقيت، ولم يقل أحد منهم بأن ذلك شرط لصحة الإحرام.

مفتي السعودية ضعيف الحجّة

وقد ناقش الغامدي حجيّة سند ودلالة الأحاديث وأقوال العلماء والتي ناقشها باستفاضة، تنبىء عن تمكّن الشيخ الغامدي من الموضوع. الثالث: أن صلاة الجماعة في غير عذر فرض على الأعيان، إلاّ أنها ليست بشرط لصحة الصلاة، وقالوا: إن صلاة المنفرد من غير عذر صحيحة ومجزئة، لكنه يأثم بترك الإتيان بها جماعةً. وقد حكى ابن قدامة في المغني أن هذا القول روي عن ابن مسعود وأبي موسى، وبه قال عطاء والأوزاعي وأبو ثور، وأشار أيضًا إلى أنه قول أحمد، وأشار الحافظ في الفتح إلى أنه قول جماعة من محدثي الشافعية، كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان.

وناقش الشيخ الغامدي هذا الرأي أيضاً وقال: أمّا قولهم: إن صلاة المنفرد من غير عذر صحيحة، لكنه يأثم بترك الإتيان بها جماعة، فالشطر الأول منه حق، يدل عليه أحاديث العذر السابقة والأحاديث الأخرى المشعرة بجواز صلاة المنفرد. أمّا الشطر الأخير فإنه مبني على أن صلاة الجماعة واجبة وهو قول مرجوح. واستعرض تفسيرات الفقهاء وأقوالهم في الاستدلال على بعض الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول الصلاة في المساجد مثل (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) و(اركعوا مع الراكعين)، وقال بأنهما لا تدلاّن على وجوب صلاة الجمعة في المساجد بل هي تدلاً على وجوب مماثلة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة، وتأكيد لمعنى الصلاة كما في (أقيموا الصلاة). وأورد ما قاله الشيخ الشوكاني في تفسير قوله (واركعوا مع الراكعين) ومنه (فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد..)، وقال (ذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغوب فيها وليس بواجب، وهو الحق، للأحاديث الثابتة الصحيحة عن جماعة من الصحابة من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة..).

مهما يكن، فإن الآراء الجريئة التي قدّمها الشيخ أحمد الغامدي في موضوعات الاختلاط وصلاة الجماعة في المساجد ساهمت في زيادة وتيرة المناقشات الجارية على الساحة المحلية، وشقّت درباً جديداً نحو كشف المزيد من فرص الجدل لقضايا بقيت محسومة، بفعل تواطؤ الديني الرسمي والسياسي على إبقائها مقفلة أمام الجدل والمسائلة لارتباطها بسلوك الدولة.

بطبيعة الحال، لم يكن متوقّعاً أن يأتي جهاز مثير للجدل مثل (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بشخصية تحمل آراء متقدّمة في موضوعات هي من صميم عمل الجهاز، الأمر الذي يعتبره كثير من المراقبين بالانقلاب المفاجىء، فيما يعتبره آخرون بداية مرحلة انشقاق في المجتمع الديني، يغذّيه في لحظة ما التجاذب المتصاعد بين أجنحة الحكم.

يقال بأن الأمير نايف قطع عهداً على نفسه منذ السبعينيات بأن لا تقود المرأة السيارة وهو على قيد الحياة. في المقابل، هناك من الأمراء مثل الأمير سعود الفيصل من يرى بأن المجتمع السعودي قد تجاوز في ليبراليته المجتمع الإسرائيلي. ما يجمع عليه كثير من المراقبين أن ما يجري في المجال السلفي اليوم يعكس الى حد كبير الصراع بين جناحي الملك عبد الله والأمير نايف.

إحدى الإشارات التي أطلقها الصراع بين الملك عبد الله والأمير نايف، التراجع عن قرار إقالة الشيخ الغامدي من (الهيئة). وفي الخبر الذي نشرته صحيفة (اليوم) في 26 إبريل الماضي أن قراراً صدر في 25 إبريل الماضي من قبل رئيس الهيئة الشيخ عبد العزيز الحمين ينص على الموافقة على حزمة تعديلات إدارية شملت مناطق مكة المكرمة والمدينة المنورة والقصيم وحائل، وكان من ضمنها إعفاء الشيخ أحمد قاسم الغامدي، مدير فرع الهيئة فى مكة المكرمة، وتعيين الشيخ سليمان بن عبدالله الرضيمان بدلا عنه. ولكن بعد 4 ساعات من صدور قرار حزمة التعديلات، صدر بيان من إدارة العلاقات العامة والاعلام بالهيئة والذي بث أيضاً على وكالةالأنباء السعودية (واس)، يقضي بوقف القرار. وحاولت صحيفة (اليوم) الاتصال بمسؤولي الهيئة للاستفسار عن أسباب التراجع إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل بعد إغلاق هواتفهم المحمولة. وقد أشار أحد مسؤولي الهيئة الشيخ عبد الله القفاري إلى البيان الملغى بقوله (أن مسيرة التطوير في الرئاسة تستمد جوهرها من تطلعات ولاة الأمر الذين يولون هذه الشعيرة جل العناية والدعم..).

مصادر أخرى ذكرت بأن الرئاسة العامة للهيئة تلقّت توجيهات عليا بإيقاف تنفيذ قرار إعفاء مدير هيئات مكة الشيخ أحمد قاسم الغامدي من منصبه وتعيين الرضيمان بديلاً له، وتلّقت الصحف المحلية توجيهات بعدم نشر أي شيء عن القرار أو عن الشيخ الغامدي.

في المقابل، أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بياناً في 28 إبريل الماضي انتقدت فيه آراء الشيخ الغامدي في عدم اغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة. وذكر البيان (في هذه الايام تنشر بعض الصحف مقالات لبعض الكتاب يهونون فيها من اهمية صلاة الجماعة في المسجد نظرا لأن بعض العلماء قال انها سنة، ولهذا يستنكرون امر الناس بها ويستنكرون اغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة).

وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية في 30 إبريل الماضي: يرى مراقبون ان التراجع بسرعة عن اقالة الغامدي يكشف وجود ضغوط تتعرض لها هذه الهيئة النافذة من اجل التخفيف من نفوذها وتاثيرها على الحياة الاجتماعية في السعودية.

الصفحة السابقة