رداً على د. خالد الدخيل في قراءته للوهابية

الوهابية والسياسة، والولاء المطلق لآل سعود

ناصر عنقاوي

في قراءة مختلفة لـ (الوهابية) ودورها السياسي في الجزيرة العربية، كتب الدكتور السعودي خالد الدخيل مقالات متسلسلة عن الوضع الديني السعودي/ الوهابي الرسمي، نشر منها ـ فيما يتعلق بالوهابية كحركة دينية ـ وحتى كتابة هذه السطور إثنان: (الوهابية دشّنت العصر الحديث للجزيرة العربية)؛ و(الإضافة السياسية للوهابية)، وذلك في 5 و12 مايو الجاري. ومن خلال مطالعتنا لهذه القراءة المختلفة، وجدت بعض الملاحظات التأسيسية على تلك القراءة، رأينا تقديمها والإشارة اليها.

من خلال المقالتين يبدو أن الدخيل كتب وهو لا يرى شيئاً آخر في الجزيرة العربية غير (نجد)، فهو تحدّث عن وضعها السياسي ووضع فقهائها وبعض رؤاهم السياسية، وطبيعة المذهب فيها، وحواضرها وباديتها، واستحضر نصوصاً من تراثها، ولكنه لم يشر بأيّ كلمة الى أن هناك عالماً أكثر تطوّراً وتعقيداً وتحديثاً في غرب وشرق وجنوب الجزيرة العربية (الحجاز، والأحساء، واليمن). كأن الدكتور الدخيل وهو يكتب عن الوهابية لا يرى إلاّ فضاءً ممتداً بلا بشر ولا تاريخ ولا تراث. وكأنّ التحولات التي حدثت بقيام الوهابية والحكم السعودي تعبيراً عن تحوّل نجدي فحسب، لا علاقة له بالأوضاع السياسية سواء في محيط الجزيرة العربية أو خارجها. لم نرَ إشارة ولو صغيرة تكشف عن الصورة العامّة التي عملت الوهابية في فضائها الديمغرافي والسياسي. وهذه المشكلة تنسحب على معظم الكتابات التي يتصدّى لها النجديون فيما يتعلق بمعتقد الوهابية الذي نشأ بينهم. ما يكشف عن شيء من الإنحباس الذهني في المنطقة وتراثها، كما يكشف عن حقيقة أن الوهابية ـ وبعد أكثر من قرنين على تأسيسها ـ كما الدولة التي أنتجتها، لم تبرح إطارها النجدي، ولم تأخذ صفتها الوطنية، ولا الشعب السعودي في أكثره الذي يسكن غير نجد معنيّ بها أو له علاقة بها كمعتقد أو بمنتجها كدولة. وهذا ما يجعل عنوان المقالة الأولى محلّ تساؤل: (الوهابية دشّنت العصر الحديث للجزيرة). فكيف يمكن معرفة هذا الإستنتاج الصارم، دونما معرفة بالوضع السياسي والإجتماعي والإقتصادي العام للجزيرة العربية، أو على الأقل معظمها الذي دخل تحت حكم الوهابية وآل سعود؟

سبق وأن كتب الدخيل مقالة أكّد فيها على حقيقة أن الوهابية ظهرت كرد فعل على تشظّي المجتمع النجدي، الذي يعيش وسط الجزيرة العربية، مطوّقاً بالصحارى، وبمئات الأميال من الفضاء تفصل بينها وبين المناطق في الغرب والشرق والجنوب. في هذا لا يُختَلَف مع الدخيل، الذي أكد مقولته هذه في مقالاته الجديدة ونثرها في أكثر موقع: (مجتمع الحاضرة النجدية في القرن 12هـ/18م كان في أمس الحاجة للتوحيد والوحدة السياسية للخروج من المأزق)، فقد (ظهرت الحركة في منطقة كانت اجتماعيا وسياسيا منقسمة بين بادية تأخذ بالنمط البدوي في حياتها، وكانوا يمثلون أغلبية السكان، وبين حواضر مستقلة عن بعضها تأخذ بنظام الإمارة العائلي). وقال بأن الوهابية قدّمت البديل (للحالة السياسية التي تمثلت في ما أسميه بظاهرة "المدن أو الحواضر المستقلة" سياسيا عن بعضها. حيث اتسم المناخ السياسي تحت ظل هذه الحالة بالعنف، وعدم الاستقرار لفترة طويلة، وبشكل كان يهدد مجتمع الحاضرة).

لكن ما فات الدكتور الدخيل أن يجيب عليه، هو أنه إذا كانت (الوهابية) قد جاءت لحل معضل سياسي أو ثقافي نجدي، فلماذا توسّعت خارج حدودها المناطقية، ولماذا فرضت رؤيتها على أناس لا يعانون من نفس المشكلة، وكانوا في بيئة سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة، هي أكثر تطوراً بما لا يقاس بالبيئة النجدية؟ هل جاءت الوهابية لحلّ معضل مناطقي، أم لحل معضل عربي وإسلامي، أم لمعضل كونيّ، كما هو حال أتباعها اليوم، الذين يعتقدون أنهم جاءوا بالعقيدة الصحيحة لحل أزمة العالم، وبنفس أسلوب الوهابيين الأوائل: العنف والسلاح؟!

ما نريد قوله هنا هو: بالرغم من أن نشأة الوهابية جاءت إفرازاً أو ردّ فعل على وضع محلّي شديد الخصوصية، شأنها في ذلك شأن معظم الحركات والدعوات بمختلف أيديولوجياتها، فإنها استبطنت ومنذ البدء نزعة توسّعية لا تقف عند حدود نجد الجغرافية/ الثقافية/ المذهبية. إن العبارات التي ينقلها المؤرخون النجديون، وفي مقدمهم عثمان ابن بشر في كتابه: (عنوان المجد في تاريخ نجد)، والتي مثلت أساس التحالف بين محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود، تدلّ بشكل يقيني أن المستهدف ليس حل المشكل النجدي الخاص، بل الإنطلاق منه الى حيث الغنائم والملك العظيم الذي سيأتي عبر الإستيلاء على المناطق الأخرى.

ابن سعود في مكة بعد أسابيع من احتلالها (1924)

أي دولة أنتجتها الوهابية؟

الدكتور الدخيل يقرّ بصورة ضمنيّة بأن الوهابية لها أهداف أبعد من نجد، دون أن يشير الى الأسباب: تأسيس ملك، ونشر معتقد، ورفاه مالي من الغزو. يقول بأن الفكر الوهابي تم توظيفه (لتأسيس فكرة دولة مركزية تبدأ في نجد، لتتسع بعد ذلك وتشمل أغلب نواحي الجزيرة العربية. كانت الوهابية في بداياتها، وخاصة من خلال تحالفها مع آل سعود، قد لعبت دوراً مركزياً في العملية السياسية الطويلة التي نقلت وسط الجزيرة العربية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة).

هل كان هدف الوهابية هو (تأسيس دولة مركزية) حقاً، أم تأسيس ملك سعودي، تكون الدعوة الوهابية المحفّز لتحقيقه، ولتحقق تلك الدعوة وأتباعها انتشاراً وغنىً؟

لقد استخدمت مفردة (الدولة السعودية الأولى/ والدولة السعودية الثانية/ والدولة السعودية الثالثة) في تحقيب زمني لها. لكن مفردة (الدولة) لا تنطبق على الدولتين الأولى والثانية، ولم تستخدما قط في التراث السياسي والتاريخي، وإنما جرى استخدامهما حديثاً وبعد أن قامت الدولة السعودية الحالية. كان المستخدم تاريخياً (إمارة سعودية)، وكل الكتابات التي استخدمها المؤرخان ابن بشر، وابن غنّام في كتابه: (تاريخ نجد).. هي عبارات لا علاقة لها بالدولة بمعناها الحديث، حيث لا يوجد إلا مصطلحات دينية قديمة: بلاد الإسلام، دار الإسلام. وكانا يشيران الى الوهابيين بعبارات من هذا النوع: (غزا المسلمون؛ قتل المسلمون؛ حارب المسلمون). إن إطلاق لفظة (الدولة) على الحقبتين السعوديتين التاريخيتين في الحكم، ليس صحيحاً من جهة، لأنه لم تتوافر مواصفات الدولة التي نحن نتحدث عنها في الإطار القطري. كما أن المستهدف ليس بناء دولة مركزية كما يقال، بل توسيع رقعة الدعوة الوهابية وحكم/ مُلك آل سعود، ليس إلاّ.

والمسألة التي ترد هنا، أنه حتى الملك عبد العزيز لم يكن سوى مجرد طالب ملك، ولم يكن يتقصّد أبداً بناء (دولة) وهو ما التفت اليه جلال كشك في كتابه: (السعوديون والحل الإسلامي) وكما أشار الى ذلك عرضاً المؤرخ النجدي الحديث الدكتور عبدالله العثيمين أيضاً في إحدى قراءاته. لم يطرح عبدالعزيز أبداً أنه يريد بناء دولة، بل ما طرحه قائم على زعم: (استعادة ملك الآباء والأجداد) وهو ما يدرّس في كتب التاريخ المدرسي!

(الدولة السعودية الثالثة) نشأت بمحض الصدفة، بعيد الحرب العالمية الأولى، حين احتل الإنجليز والفرنسيون المشرق العربي. فحين ظهر الإنتداب، كان لا بدّ من تحديد الحدود، ولذلك قامت الدول القطرية المستنسخة من تجربة الدولة لدى الغرب، وجرى الإتفاق على الحدود كما نعلم بين الإنجليز وابن سعود حيث رسم قائد الحملة البريطانية على العراق السير بيرسي كوكس حدود ملك آل سعود مع الكويت والعراق في اجتماع له معه في عام 1921؛ ثم توسّع الأمر الى الحدود مع الأردن تحت قيادة غلوب باشا (ابو حنيك). وقبل ذلك كانت اتفاقية دارين عام 1915 قد وضعت حدّاً للتوسع النجدي الوهابي في شرق الجزيرة العربية. بقي اليمن الذي لم يكن خاضعاً للإستعمار لا البريطاني ولا الطلياني ولا غيرهما، فأمكن لعبد العزيز ـ ابن سعود أن يتوسع ويأخذ جازان ونجران حرباً عام 1934، بل ليصل الى قرب الحديدة قبل أن يعود. وكان مستشار ابن سعود العميل البريطاني جون فيلبي يحرضه على أخذ اليمن وضمّه الى ملكه، فرد ابن سعود: (هذا عشّ الزنابير) وخرج! أيضاً تكرر الأمر في الحجاز، فلم يكن ابن سعود يستطيع التوسع وضمّه الى مملكته النجدية، خاصة وانه دولة قائمة أكثر عصرية من نجد وتحوي كل مقومات الدولة مما لا يوجد عند ابن سعود: صحافة، بلديات، مدارس، وزارات، أحزاب، علم، عملة خاصة، نقابات، وغير ذلك. لكن الشريف حسين أغضب الإنجليز بشأن التنازل عن فلسطين، فأفسحوا لابن سعود أن يحتلّه، كما هو معروف، وكما أكد ذلك لورانس، بل كما أكد ذلك حافظ وهبة مستشار ابن سعود في كتابه (جزيرة العرب في القرن العشرين)؛ حيث أشار على الملك بأن الإنجليز لن يتدخلوا هذه المرة كما فعلوا عام 1919م، وقال له بأن يضرب ضربته بـ (سيوف الإسلام!) أي جيش الإخوان. وهكذا فعل فأقام مجزرة في تربة والطائف، استسلمت بعدها مكة عام 1924، وحوصرت جدة والمدينة المنورة لما يقرب من العامين حتى سقطتا في يناير 1926 وديسمبر 1925، على التوالي.

هنا قامت الدولة السعودية القطرية، وهنا رسمت الحدود، وهنا توقّف التوسّع الوهابي قسراً، بطائرات الإنجليز من الكويت والعراق والأردن التي قصفت الإخوان قبل أن يثوروا بسبب (تعطيل الجهاد!!) وقبل أن يدمرهم ويحاصرهم الإنجليز ويسلمون قادتهم المستسلمين الى الملك في (خباري وضحة) عام 1930. وفي 1932 أعلن رسمياً قيام الدولة تحت اسم: (المملكة العربية السعودية) وهو الإسم الذي اختاره فيلبي، ونشره في الصحافة البريطانية قبل أن يعلن في الديار السعودية نفسها، وفي الصحيفة الرسمية والوحيدة التي ورثها ابن سعود عن حكم الأشراف (أم القرى/ القبلة سابقاً).

الوهابية صنعت مُلك آل سعود ودولتهم، ولكنها لم تتقصّد صناعة دولة بمعناها الحديث، ولم تكن لديها ولا لدى رجالها، ولا لآل سعود فكرة عن الدولة الحديثة، ولا هي تقبل حتى بالحدود. فأينما وصلت خيول وإبل جيش الإسلام الوهابي فهنالك حدود دار الإسلام ودار الحرب! هذا يعني بالتحديد، أن الغزوات الوهابية، وإن أدّت الى قيام سلطة مركزية، نشأت على إثرها دولة بسبب ظروف سياسية إقليمية ودولية عمّمت النموذج الأوروبي للدولة القطرية بعد تفكك الخلافة العثمانية.. فإن الوهابية لا تختلف في مسارها عن مسار الأقدمين في القرون الوسطى وما قبلها من جهة النظر لقيام الممالك وسقوطها، فالأقوى يزحف ويتغلّب ويحاول أن يفرض أيديولوجيته أحياناً. وما يؤكد غياب فكرة الدولة عند الوهابية وآل سعود، مسار الدولة السعودية الحالي؛ بل أن مسارها القديم في مرحلتيها السابقتين (الأولى والثانية) لا يكشف إلا عن بدائية في الإدارة والأنظمة. انظر بهذا الخصوص ولو بشكل أوّلي، كتاب عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم (تاريخ الدولة السعودية الأولى) وانظر ايضاً كتاب عبدالفتاح بو علية حول (الدولة السعودية الثانية).

لذا فإنه من غير الدقيق القول بأن (الحركة الوهابية كانت الحاضنة الأولى لفكرة الدولة) اللهم إلا إذا وضعت في سياق نجد، وإلا فإن الحجاز أنشأ دولته قبل نجد، وكان عضواً في عصبة الأمم، بل أن الوهابية لم تنجز حتى هذا اليوم، من قوة الأنظمة والتشريعات ومستوى الحريات ما يوازي العهد الحجازي، مع الأخذ بعين النظر أن آل سعود الذين دمّروا بنى الدولة الحجازية لازالوا يقتاتون على الأنظمة والقوانين التي وضعها الحجازيون الى اليوم، وأن معظم مؤسساتهم ووزاراتهم بما فيها الخارجية والدفاع إنما ابتنيت على وزارات ومؤسسات الدولة الحجازية التي دمّرت عام 1926. ولاتزال السعودية اليوم هي الأكثر تخلّفاً في الميدان الإداري، حتى بالقياس الى الدول الخليجية الأخرى، وهي الأقل في القوانين والأنظمة، والأكثر اعتماداً على الأوامر المباشرة والتعميمات، كما أنها الأكثر تخلّفاً في الميدان الديمقراطي والقضائي وغيرها. ولا نريد الخوض أكثر في هذا الموضوع الذي أصبح معروفاً ومن البديهيات.

الوهابية والولاء للدولة/ آل سعود

د. خالد الدخيل

لاحظ الدكتور خالد الدخيل التزام مشايخ الوهابية: (حرفياً ونهائياً بدورهم الفقهي - الثقافي في إطار الدولة، والنأي بأنفسهم عن أي طموح سياسي يتعارض مع ذلك الدور. وبقدر ما أنهم كانوا يعبرون بذلك عن واقعية سياسية واضحة، إلا أنهم في الوقت نفسه كانوا في ذلك الدور أمناء لإرثهم الإسلامي الحنبلي.. والارتباط بالدولة وما تمثله بالنسبة لهم، لم يكن أكثر من تمسك متين برأي من يسمونه بإمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل، في المسألة السياسية). فابن حنبل يرى السمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين، البر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس، ومن غلبهم بالسيف.

وعاد الدخيل فأكّد أن الوهابيين ليس فقط التزموا برأي ابن حنبل بل تجاوزوه (في أنهم محضوا إخلاصهم للدولة، ولمشروعها السياسي، تحت كل الظروف التي مرت بها خلال مراحلها الثلاث، وبشكل ربما أنه لم يكن مسبوقاً من قبل). وتابع: (التزم جميع الفقهاء الوهابيين من دون استثناء بحدود دورهم الفقهي، وليس هناك أدنى إشارة إلى أن أياً منهم راودته فكرة الطموح السياسي في أن يملأ الفراغ في قيادة الدولة، وهو يرى أنها تتداعى أمامه، وغير قادرة على البقاء في مواقعها، أو في إنقاذ الدولة من الانهيار. في كل مرة سقطت فيها الدولة كان هؤلاء الفقهاء ينسحبون من المشهد السياسي في انتظار عودتها. وفي كل مرة تعود فيها الدولة كان الفقهاء ينضمون إليها. وهذا يكشف عن حجم الدور الذي اضطلع به الفقهاء أولا في اجتراح فكرة الدولة، وثانياً مدى التزامهم بشرعيتها، وشرعية قيادتها، ومن ثم بالمحافظة عليها تحت كل الظروف).

هناك مسائل متشابكة في هذه النصوص المقتطعة، نطرحها على شكل أسئلة:

ـ هل مارس مشايخ الوهابية السياسة بشكل مباشر، وهل كانت العلاقة بين الفضائين الديني والسياسي منفصلين كما يقول الدخيل، وهل الغلبة دائماً للسياسي الذي يخدمه الديني؟

ـ لماذا استقرّت علاقة مشايخ الوهابية بآل سعود على هذا النحو غير المسبوق، فلم يظهر منهم تأييد للخروج على حكمهم؟

ـ هل العلاقة بين آل سعود والوهابية ذات صفة خاصة من جهة طبيعة الحكم (الديني من عدمه) أم أن لها علاقة باشخاص أمراء العائلة المالكة، بغض النظر عن تديّنهم، وبالتالي فإن التحالف مع آل سعود يحمل طابع الشخصنة؟

نبدأ بالسؤال الأخير. ليس الولاء الوهابي الدائم لآل سعود وفي مختلف الحقب يعود الى إلتزام الأخيرين بالدين (أي في مسلكهم الشخصي وسياساتهم، أو تطبيق الشريعة) فهذه الأمور لا يلتزم بها أمراء وملوك آل سعود، على الأقل في الدولة السعودية الحالية، وسنترك موقفهم الموثّق فيما يتعلق بالدولة السعودية الأولى حين قال المشايخ لسعود الكبير بأنه خرّب الدعوة وحوّلها الى مُلك. مع أن سعود ذاك، هو الذي احتل الحجاز، وهو الذي طبّق فتاوى المشايخ بمنع الحجاج المسلمين جميعاً من الحج عدا بعض المغاربة السلفيين! وهو الذي شنّ الغارات على النجف وكربلاء، وأقام المجازر وفعل ما فعله بالمسجد النبوي وسرقة الخزانة النبوية وما تحويه من كنوز على النحو الذي ذكره الجبرتي في تاريخه.

سنتجاوز هذا، ونلزم أنفسنا بالحديث عن الدولة السعودية الحالية. فنحن نعلم باعتراضات المشايخ على سياسات آل سعود من جهة علاقاتهم بالنصارى!!، وبالدول الكافرة وبينها الدول العربية، كما نعرف مواقفهم من الإتفاقيات الدولية والإنضمام الى المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة والجامعة العربية وغيرها. ونتذكر موقفهم حين ارسل ابن سعود ابنه فيصل عام 1919 الى لندن، وكيف احتجّوا عليه. ونعلم اعتراضاتهم على المخترعات العلمية، ونعلم اعتراضاتهم فيما بعد على سياساته الدينية ومسلك أبنائه حتى اضطروه ذات مرّة الى جلد ابنه ناصر علناً بسبب انفضاح سكره وعربدته. والأمثلة هنا لا تحصى. ونعلم أيضاً اعتراض المشايخ على قضايا عديدة في التعليم والإعلام والتلفزيون والبنوك الربوية واللجان شبه القضائية وغيرها، سواء في عهد سعود أو فيصل أو خالد أو فهد أو حتى الملك الحالي.

وعلى الصعيد الشخصي، كان الوهابيون يتحدثون عن شرط الخروج: (ما لم يأت بكفر بواح)! ولم يتبين أنهم معنيون بسلوك الأمراء وسرقاتهم وفسادهم وتعدياتهم، وكانوا على الدوام يبحثون عن تأويلات، حتى صور فهد وهو يشرب الأنخاب مع كارتر وجدوا لها مخرجاً، وكذلك صورة عبدالله التي ظهرت حيّة على التلفاز وفي الصحافة وهو يشرب الأنخاب مع بوش ورؤساء آخرين أثناء مؤتمر حوار الأديان في نيويورك، لم ينظر إليها إلا من زاوية التبرير (فقد يكون الملك يشرب عصير تفاح، وليس خمراً) كما يقولون!!

المحدّد الأساس، بل المبرر الأساس لصمت مشايخ الوهابية عن تجاوزات النظام، وتبعيتهم العمياء له منذ تأسيسه يعود الى المصلحة المذهبية البحتة. ويمكن تحديد المصلحة بمقاييسهم على هذا النحو: (1/ حجم السلطة الممنوحة لهم في مؤسسات الدولة في التعليم والقضاء وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعلام، والجامعات الدينية، ومدى استعداد الحاكم لفرض رؤيتهم الدينية على الجمهور وسلوك افراده. و2/ مقدار حماسة النظام في تبني مبدأ نشر الدعوة الوهابية داخلياً وخارجياً). هذان العاملان لم يتخلخلا بعد، ولازالا حاكمين في العلاقة. وفي معظم الحقب السياسية الماضية رغم اختلاف الملوك، فإن الملوك السعوديين اتبعوا ـ ولمصلحتهم هم ـ الإيفاء بهذين الشرطين/ المبررين/ المصلحتين، لا بعنوان إرضاء الوهابية بقدر ما أن حقيقة منح الوهابية سلطات ونشرها في الخارج بالذات، يمثل فائدة للحكم السعودي، ولايزال. بمعنى أن هناك تطابق مصلحة تام، تغيب فيه إمكانية إعادة النظر في العلاقة بين الطرفين، وبسبب ذلك فإنه مهما ارتكب آل سعود من شطحات ومارسوا من مظالم وفساد، فإنه مرضيّ عنهم. يكفي أن نعرف بان الملك فهد هو أعظم ملك تمجّده الوهابية بين الملوك السعوديين، قاطبة. وفهد نعرف من هو. في حين أن الوهابية لم تكره ملكاً مثل الملك فيصل، الذي هندس سياسات داخلية وخارجية تحت الغطاء الإسلامي، وكان أكثر عاطفة دينية من كل الملوك السعوديين عدا خالد. فمقاييس الوهابية مختلفة هنا، والمصلحة هي الشارحة لذلك.

المفتي: ولاء مطلق لآل سعود

السؤال الذي يلي هذا: لماذا لم تجد الوهابية غير الأسرة السعودية لتتحالف معها؟ لماذا لم تتحالف مع آل الرشيد حين خبا سلطان آل سعود، مع أن آل الرشيد يومها كانوا (وهابيين) وكانوا أكثر التزاماً بالدين من أمراء آل سعود، بمقاييس الوهابية نفسها؟ هذا يعيدنا الى حقيقة أن مشايخ الوهابية هم مناطقيون، ويرون أن تجربة ال سعود وشراكتهم إياهم، هي أقرب إلى نفوسهم. فحتى لو جاء حاكم أكثر تديناً في سلوكه وسياساته وأكثر اندفاعاً في نشر الوهابية وتبنيها، فإن مشايخ الوهابية لا يريدونه إلا من السلالة السعودية، أي من العائلة المالكة.

لماذا؟

لأن مشايخ الوهابية جرّبوا حلفاً سابقاً، وهم مقتنعون بأن الدعوة الوهابية لن تقوم لها قائمة بدون آل سعود، كما أن الأخيرين ـ وحتى هذا اليوم ـ تغلب عليهم القناعة القائلة بأن مُلك آل سعود لن يكتب له الدوام بدون الوهابية.

وأيضاً لأن الوهابية لا تتخذ صفة نجدية فحسب، بل أن أفق مشايخها يصغر للتتخذ صفة أدنى (محافظاتية ـ إن جاز التعبير) أي أن جذورها الإجتماعية (القبلية والقصيمية) تميل تاريخياً الى الجنوب (الرياض) وليس الى الشمال (حائل). وهي لا تحبّذ لا قبيلة شمّر ولا تفضلها على آل سعود، كما أن القصيم وحائل متنافستان، وبالتالي فإن الوهابية كانت على الدوام أقرب الى الرياض. وإذا علمنا أن الغالبية الساحقة من مشايخ نجد هم من القصيم، أدركنا أن الوهابية النجدية القصيمية ليس أمامها سوى مسار واحد، وهو الإرتماء في أحضان آل سعود، أياً كان الحاكم السعودي. بل أن وهابياً (مسعوداً/ منح الجنسية السعودية) وهو أبو بكر الجزائري كتب في أحد كتبه بأنه لو لم يتبق من آل سعود سوى عجوز لبايعه!!

لذا ليس دقيقاً ما ذكره الدخيل بأن الفضائين الديني والسياسي منفصلين. ولا هو بدقيق أيضاً القول بضرس قاطع أن الفضاء الديني تابع ـ على الدوام وكلياً ـ الى الدولة التي يمثلها آل سعود. فالوهابية منذ نشأتها وحتى الآن لا تنظر لنفسها إلا كـ (شريك) لآل سعود في الحكم، ودفاعها عنه إنما هو دفاع عن الذات، مثلما هو دفاع آل سعود في معظم الأحيان عن الوهابية دفاع عن الذات وعن أيديولوجيا الحكم نفسه. وحتى التبعية الوهابية للحكم السعودي التي نراها، فإنها لا تعني حالة دائمة بالضرورة، وفي كل الموضوعات، ولازال المشايخ الوهابيون يرون أموراً لا تلتزم بها العائلة المالكة، ويقولون أنهم لا يؤيدونها، دون أن يعني ذلك إضافة مبرر للخروج عليها.

وقد حدث في التاريخ الوهابي/ السعودي الأول، أي في عصر الدولة السعودية الأولى، أنه وكما يشهد التاريخ ـ وبعكس ما قاله الدكتورر الدخيل ـ بأن العائلة المالكة هي التي تتبع الجناح الديني. وبالتحديد، فإن ما أفرزه تحالف محمد بن عبدالوهاب مع الأمير السعودي محمد بن سعود، ليس تبعية الأول للثاني، بل تبعية الثاني للأول، الى حد أنه تمّ تهميشه بشكل كامل. ومن أراد الشواهد فليعد قراءة كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) الذي حكى تاريخ الوهابية الأول. كان محمد بن عبدالوهاب الحاكم الفعلي السياسي والعسكري والمالي والعلمي والقضائي. كان هو الإمارة، وهو المسيّر لها بكل شؤونها وتفاصيلها. حدثت التبعية العكسية بعد وفاته، وفي عهد سعود الكبير، لذا حمّله المشايخ مسؤولية سقوط الإمارة، بعد أن حوّلها الى مُلك.

ومن ممارسات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبعض أبنائه، ومشايخ الدولة السعودية الثانية، يتبين أنهم كانوا يمارسون السياسة بمعناها الواسع، ولازال خلفاؤهم على ذلك الى اليوم. وممارسة السياسة لا تعني طمعاً في الحكم، وأخذ كرسي آل سعود، بل زيادة النفوذ وحجم التأثير على القرارات المتعلقة بشؤون الدولة المختلفة، وفي هذا فإنهم نجحوا ولازالوا أيضاً.

وحتى التكفير الوهابي لغيرهم فإنه قائم على معطيات سياسية في معظم الأحيان، ولخدمة السياسي وتدعيم نظامه. والمثال الذي قدّمه الدكتور الدخيل واضح في هذا الشأن، حين تحدث عن إنجاز الوهابية في (نقل المجتمع من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة. وأحد تجليات موقفها المناوئ للقبيلة وما تمثله يعكسه قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: "فلما أفتيت بكفرهم ـ البدو، مع أنهم أكثر الناس في أرضنا، استنكر العوام ذلك، وخاصتهم الأعداء ممن يدعي العلم"..). فإن الغرض من التكفير هو (الإجبار على التوطين) بحيث يسيطر الحاكم على البادية وعلى ضبط تصرفاتها الأمنية، ومن ثم يستطيع أن يأخذ الزكاة منها ويجبرها على اعتناق الوهابية وعلى المشاركة في حرب الكفار الآخرين (الجهاد)! وهي نفس التجربة التي قام بها عبدالعزيز في مشروعه الإخواني/ التوطيني، فلما تحققت الغاية من ذلك بالسيطرة على الحكم وغزو المناطق واحتلالها، لم يعد يهمه التوطين، ولا أسلمة البدو (الكفار)! ولا أولئك بقوا على المعتقد الوهابي، ولم يعودوا ينظرون الى الحاكم السعودي كإمام!!

ملخص القول، إن التحليل الصارم الذي قدّمه الدكتور الدخيل بشأن أفق مشايخ الوهابية السياسي في مسألة بناء الدولة، وطبيعة الفصل بين الفضائين الديني والسياسي وتبعية الأول للثاني، ليس دقيقاً، بل ليس صحيحاً في مجمله. فالوهابية لمن قرأها بعمق جاءت بمعتقدات متطرّفة نُظر اليها كـ (تصحيح ديني) ولكنها كانت في العمق ذات غايات سياسية توسّعية دنيوية. وحين سلّم لها النجديون بالمكانة صارت جزءً من هويتهم، وصارت المركبة التي يمتطونها لإبقاء سيطرتهم على الحكم وتعزيز رؤيتهم للدين، وهي رؤية تخدم أهدافهم السياسية. الوهابية كانت في معتقداتها وتكفيرها وعنفها مسيّسة الى أبعد حدود التسييس. ورجالها وإن جهلوا السياسة بتفاصيلها، خاصة في مسألة العلاقات الدولية، إلا أنهم يمتلكون الإدراك الكافي لما يعنيه السيطرة على الحكم والإستئثار بالحرية الفكرية والمذهبية كما بالمناصب وغنائم السلطة الأخرى. لذا يشارك الفقهاء معظم النجديين في الدفاع عن الوهابية كهوية، وكحصان يحقق طموحاتهم ويشرعن حكمهم، كما أنهم جميعاً حريصون على ديمومة الدولة والإجماع على دعمها والوقوف الى جانبها دائماً، حتى مع بعض الإعتراضات لآل سعود؛ فهي التي تجمع شملهم، وهي التي تبقي الأكثرية من المواطنين ـ غير الوهابيين ـ بعيدين عن (مأدبة) السلطة.

الصفحة السابقة