السعودية ومأزق الدور
(النياحة) بدلاً من (الريادة)!
سعد الشريف
السعودية خسرت كثيراً خلال السنوات الخمس الماضية،
ولم تجن من ثمار (الاعتدال) سوى الحصرم، ووجدت نفسها في
موقع معزول ومشبوه، وكان لابد من مواقف راديكالية للخروج
من سوق مضاربات الاعتدال، أو على الأقل صنع سوق بديل تحقق
فيه قدراً من الاستقلالية، أو إظهار ذلك على الأٌقل أمام
الرأي العام العربي والإسلامي الذي نظر إليها باعتبارها
(دمية) في )لعبة الأمم).
تحاول أن تكون مختلفة، ولكن لا تريد امتلاك أدوات الإختلاف،
وقد شهدت المنطقة حوادث كثيرة قد تفتح الباب أمامها لأن
تكون مختلفة، فتتبنى مواقف تجعلها رائدة، كما فعلت تركيا
التي اختصرت تاريخاً من الغياب، وأصبح رئيس الوزراء التركي
رجب طيب أردوغان قامة كاريزمية في فترة قياسية، بسبب مواقفه
من الغطرسة الإسرائيلية، والذي ظهر بجلاء في حادثة المجزرة
على (سفينة الحرية) في 31 يونيو الماضي لكسر الحصار الظالم
المفروض على قطاع غزّة.
كان بإمكان السعودية أن تخرج من مأزق الاعتدال خلال
العدوان الإسرائيلي على غزة في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009،
خصوصاً بعد هزيمة الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في الانتخابات
الرئاسية، فلم يكن هناك ما يبرر استمرار معسكر الاعتدال.
ما حصل، رغم الغضب الشعبي العارم في العالم العربي بل
وفي العالم بأسره على الجريمة الحيّة والمصوّرة على سكّان
غزّة، أن القيادة السعودية صمتت على الجرائم الإسرائيلية،
بل وعارضت عملياً أي محاولة لاستصدار قرار عربي تام للضغط
على المجتمع الدولي من أجل إرغام الكيان العبري على وقف
عدوانه الوحشي على القطاع. ما كان مفجعاً حينذاك هو الفجور
الإعلامي السعودي غير المسبوق، الذي حمّل الضحايا مسؤولية
فنائهم بالآلة العسكرية الاسرائيلية الفتّاكة.
منذ وقف العدوان الإسرائيلي الذي مضى عليه عام ونصف،
شهدت المنطقة حوادث أخرى أمكن تثميرها في تصحيح الصورة
القبيحة للنظام السعودي، وكان كسر الحصار عن القطاع فرصة
ذهبية كيما تعيد امتلاك المبادرة، بل إن قيادة حماس التي
تعتمد على الدعم الإيراني في تسيير شؤونها وشؤون قاعدتها
الشعبية في قطاع غزّة، كانت تأمل بصدق أن تحظى بدعم الدول
العربية الكبرى، وخصوصاً السعودية، وكانت تتمنى بأن تبادر
الأخيرة الى كسر الحصار. وعد الملك عبد الله بتقديم مليار
دولار لإعمار القطاع كما جاء في مؤتمر الكويت بعد العدوان
على غزّة أي في يناير 2009، ولكن لم يصل من المليار دولار
واحد حتى الآن، بل اشترطت السعودية أن تتخلى حماس عن غزة
لسلطة محمود عباس في مقابل إيصال المساعدات الى سكّان
القطاع، تماماً كما هي شروط مصر بفتح المعابر والأردن
بالتعامل مع قادة حركة حماس.
رغبة السعودية في احتواء حركة حماس لم تتحقق، وقد أوصل
قادة الحركة رسالة واضحة الى السعوديين بأنهم قد يتعانوا
ولكن لا يخضعوا، وقد جرّب الرئيس المصري مبارك ورئيس جهاز
استخبارته عمر سليمان خيار الضغط والإبتزاز ولكن بدا واضحاً
أن قادة حركة حماس ليسوا على استعداد للتفريط بأهدافهم
التي حافظت على شعبيتهم، وإن التنازل عنها أو المساومة
عليها سيفضيان الى تفسّخ الحركة تدريجاً.
ضغوطات السعودية على حركة حماس لم تنجح فلجأت الى خيار
الاستيعاب، وهو التفسير الوحيد الذي يمكن الخروج به من
خبر اللقاء التشاوري الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن الذي
جرى في مايو الماضي. وبحسب مصادر مقرّبة من العائلة المالكة،
فإن السعودية قدّمت مقترحاً في اللقاء بضرورة إشراك حركة
حماس في المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي.
وجاء الإقتراح متزامناً مع دعوة الرئيس الروسي ديمتري
ميدفيديف بضرورة إشراك حماس في الإتصالات الجارية بين
السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
اللقاء الذي ترأسه من الجانب السعودي وزير الخارجية
الأمير سعود الفيصل، تناول موضوعات ذات اهتمام مشتركة
مثل الملف النووي الإيراني، والأزمة في اليمن، ولبنان،
والعراق، وكذلك المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والدولة
العبرية. الفيصل الذي كان قد استقبل رئيس المكتب السياسي
لحركة حماس خالد مشعل في يناير الماضي في الرياض، طلب
منه قبول الحركة بورقة المصالحة المصرية مع حركة فتح والتي
تتحفّظ قيادة الحركة على بعض بنودها، وقد تفاجأت الأخيرة
بتسريب السعودية لرسالة بعث بها خالد مشعل الى الصحافة.
خلاف السعودية مع حركة حماس يتحور حول نقطة أن الأخيرة
حليفة لإيران، حتى أن سعود الفيصل طالب مشعل بإثباب (عروبة)
الحركة، ويبدو أن الأمير سمع كلاماً محرجاً (إن كنتم تريدوا
منا فك ارتباطنا بإيران، فقدّموا لنا دعماً بالقدر الذي
تدعم هي، واقبلوا بأجندتنا كما تقبلها إيران)..السعودية
التي تتبنى مبادرة تطبيعية مع الكيان الإسرائيلي سترفض
بالقطع موقف حماس بعدم الاعتراف بهذا الكيان، كما سترفض
خيار المقاومة..
اعتقدت السعودية بأن إشراك حماس في المفاوضات سيؤول
الى تخليها عن خيار المقاومة، وستعترف بالدولة العبرية،
ولذلك طالبت الشريك الإستراتيجي الأميركي بضرورة إشراك
حماس في عملية المفاوضات، من أجل الخروج بموقف فلسطيني
موحّد من عملية السلام. الجانب الأميركي كان أقدر على
فهم حماس بل المعادلة الفلسطينية، ولذلك رفض المقترح السعودي
ليس لأن الأميركيين كما الإسرائيليين يريدون اعترافاً
صريحاً من حماس بشرعية الدولة العبرية، بل لأنهم يعلمون
بأن حماس لن تتخلى عن مواقفها التي ميّزتها عن سلطة محمود
عباس سواء فيما يرتبط بالإعتراف بالكيان الإسرائيلي أو
بخيار المقاومة. مهما قدّمت السعودية من ضمانات للجانبين
الأميركي والإسرائيلي، فإن محاولة سحب البساط من الإيرانيين
على أساس استيعاب حماس في المفاوضات ستزيد في تعقيد الموقف
ولن تسفر النتائج عن شيء طموح. ولذلك كان الجانب الأميركي
واضحاً في أن فرص التوصّل إلى اتفاق بين السلطة الفلسطينية
ممثلة في رئيسها محمود عباس وبين الحكومة الإسرائيلية
أكبر، وأن نجاح المفاوضات وإعلان الدولة الفلسطينية وبدء
تطبيق بنود المبادرة العربية (السعودية) للسلام الشامل
مع الكيان الإسرائيلي سيدفع كل القوى الفلسطينية على القبول
بالمعادلة الجديدة ويجبرها على الإنضمام إلى المبادرة.
يضيف الجانب الأميركي أن المواقف المعتدلة التي يظهرها
في الاتصالات مع أطراف أوروبية تبدو مشجّعة ويمكن البناء
عليها في حال نجاح عملية السلام.
بدا واضحاً أن السعودية عاجزة عن قيادة مبادرة حقيقية
تجعلها في موقع الريادة، ولذلك اختارت اللعب في الظل،
وترتيب أمورها كدولة..صحيح أن أموال النفط تتدفق باستمرار
الى حكومات إقليمية وغربية، ومؤسسات دولية، وجامعات علمية
عريقة، وأحزاب سياسية، وقوى تمرّد، ومؤسسات إعلامية وحتى
حقوقية، وحتى حركات إرهابية ولكن ليس على سبيل مناصرة
القضايا العربية المشروعة، ولا لعب دور قيادي في العالم،
فالسعودية تدفع من أجل (الصمت) عن مخازيها أكثر ما تدفع
عن (تمجيد) منجزاتها، وإن جاءت عناوين الفواتير إيجابية.
لا تأمل السعودية لعب دور سياسي لا تقدر على تحمّل
تبعاته، فهي تراهن على (الوكلاء) الذين يكفونها شر حروبها
على الآخرين، ويسلّموها بعض انتصاراتهم إليها. لا تريد
أن تكسر الحصار عن قطاع غزة، ولا تريد الدفاع عن سفن (الكرامة)
و(الحرية) لكسر الحصار، ولا يهمها إن مات العرب جميعاً
أم عاشوا، فهي تتحدّث بإسمهم مقابل مال تدفعه.
لعل أبلغ من عبّر عن الموقف السعودي كان أمير الرياض
الأمير سلمان بن عبد العزيز خلال زيارته لمملكة النرويج
في 26 مايو الماضي حين قال بأن (المملكة لا تبحث عن دور
تلعبه في مناطق ملتهبة كأفغانستان بل أن الأدوار تلاحقها).
رغم ما يضمره التصريح من كذب، خصوصاً في مثال أفغانستان
الذي تكشّفت معلومات في نفس الفترة عن خمسة مليارات ريال
سعودية وصلت إلى طالبان، فضلاً عن 750 مليون دولار في
الانتخابات البرلمانية اللبنانية في يونيو من العام الماضي،
وقيل عن رقم أعلى في الانتخابات البرلمانية العراقية في
مارس الماضي، ومليارات أخرى الى اليمن والمغرب والأردن
وغيرها..إلا أن ثمة حقيقة أيضاً في تصريح الأمير سلمان
وهي أن السعودية لا تبحث عن لعب دور مباشر، بمعنى أنها
لا تريد أن تكون في الصورة، أو حاضرة بأشخاصها، فهي تفضّل
دفع الأموال على أن يقوم غيرها بالأدوار. من جهة ثانية،
أن قوله بأن (الأدوار تلاحقها) هو صحيح أيضاً، فطالما
أن هناك قدرة مالية عالية لدى آل سعود، هناك في المقابل
عدد كبير من السماسرة من هم على استعداد لأن يطرقوا أبوابها
وتقديم مشاريع عمالة، ومؤامرات، وتجسس، واغتيال، وتفجير..
ارتضت السعودية بمعادلة على النحو التالي: الإدارة
المباشرة للوضع الداخلي ومراقبة تطوّراته المتسارعة، من
جهة ثانية تمويل كل الأطراف الخارجية التي يمكنها دفع
شرور الخارج عنها، فتشغله بمشاكله الذاتية أو بمشاكل مستوردة،
كما يحصل في العراق ولبنان وافغانستان وباكستان.
هل يقول الأميرسلمان بوحي من يأس أو قناعة متأخرة أو
حتى فشل تكبّدته الدبلوماسية السعودية، فذاك أمر آخر،
ولكن ماهو مهم أن السعودية تشعر الآن أكثر من أي وقت مضى
بأنها لا تريد لعب دور البطولة، رغم أن كل إمكانيات الدور
متوفّرة لديها: المال الوفير، واحتضان الحرمين الشريفين،
(وإن غاب المنطق الجميل والوجه الحسن)، بل هناك كثرٌ من
العرب والمسلمين يتطلّع لأن تلعب هذه الدولة دوراً إلى
جانب الدورين التركي والإيراني اللذين سبقا السعودية بمسافة
ضوئية في الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية. تركيا
تهدد بأن عودة العلاقات الطبيعة مع تل أبيب مشروطة برفع
الحصار عن قطاع غزّة، فهل سمع أحدٌ ولو عن طريق الخطأ
أن مصدراً مسؤولاً سعودياً رفض الكشف عن هويته (حذّر بسحب
المبادرة العربية ما لم ترفع (إسرائيل) الحصار عن غزّة)؟
نستعير عبارات الصحافي البريطاني روبرت فيسك في مقالته
الغاضبة في صحيفة (الإيندبندنت) البريطانية في 1 يونيو
بعد الجريمة الإسرائيلية بحق أبطال أسطول (الحرية) وقوله
(أن قادة الغرب أجبن من أن ينقذوا أرواح الأبرياء)، وهذا
الموقف ينسحب على السعودية فهي أعجز وأجبن من تبني موقف
بطولي بهذا الحجم، فقد التزمت الصمت لولا أن المجزرة وقعت
في صبيحة يوم انعقاد جلسة مجلس الوزراء فرضت نفسها على
الملك ومجلس وزرائه.
سمّه ما شئت جبناً، استقالة، أم يأساً، فإن النتيجة
واحدة وأن عمليات نفخ الهواء في تمثال الملك عبد الله
لإخراجه في هيئة البطل، تبيّن أنها نفخ في شبك، فقد تلاشت
البطولات الوهمية أمام الحقائق الساطعة، ففي كل امتحان
يخوضه الملك في قضايا الأمة تكون الخيبات مآله. وحتى المبادرة
العربية التي قادها الملك عبد الله منذ العام 2002 في
بيروت، قال عنها الإسرائيلي قبل العربي بأنها لم تمت لأنها
لم تولد، ولذلك تتصرّف الحكومة الإسرائيلية على أساس مبدأ
الحرب وليس مبدأ السلم..وحدها السعودية ومعها جوقة دول
الاعتدال من يتغنى بمبادرة السلام، بل يعتبرونها فريضة
لا يجوز تركها، إعتقاداً منهم أنهم قد ألزموا خصمهم الإفتراضي
بورقة ضغط لم يشعر قط بوجودها، بل هو ماضٍ في مشروع التهويد
والإستيطان والتجريف والتهجير، ولسان حاله يقول: إني لأفتح
عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا.
في حقيقة الأمر، أن السعودية منذ سقوط نظام طالبان
في كابول في نوفمبر 2001 تمارس دور (النياحة) بدلاً من
(الريادة)، فقد أدمنت الخسارة والخيبة، فليس هناك رهان
خاضته منذاك إلا كانت الهزيمة تخطب ودّها وتعانقها بشغف،
هكذا كان حالها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في
إبريل 2003، وفي لبنان في يوليو ـ أغسطس 2006، وفي غزّة
في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009، وصولاً الى مجزرة سفينة
(الحرية) في 31 يونيو 2010.
ليس للسعودية حضور لافت دع عنك أن يكون هذا الحضور
ريادياً من أي نوع سواء في أفغانستان، العراق، لبنان،
فلسطين، وحتى المال الوفير الذي بحوزتها لا ينعكس أيجاباً،
لأنها يذهب الى قنوات فاسدة في هذه الدول، بينما تصبح
مساعدات متواضعة تأتي من منظمات أهلية غربية وتركية ذات
قيمة عالية لأنها تصل إلى مكانها الصحيح، كما لحظنا المساعدات
القطرية الى لبنان كيف تحوّلت الى علاقة حميمية مع العوائل
المتضررة، ولنتذكر في السياق نفسه كيف لعبت قطر دور الوساطة
بين قادة القوى السياسية اللبنانية وأثمرت في تشكيل الحكومة،
وانتخاب الرئيس، وصولاً إلى إجراء الانتخابات البرلمانية..هل
نسأل هنا عن دور الإمبراطورية الإعلامية السعودية في هذه
الساحات التي تستوجب تحضير الدور السعودي؟
|