لماذا اختارت السعودية الأدوار الخلفية

سياسة (البروكسي) السعودية

فريد أيهم

نأت السعودية عن مزاولة الأدوار المباشرة، هذا ما لخّصه تصريح الأمير سلمان في زيارته الى النرويج قبل أكثر من شهر، وهذا أيضاً ما فهمه الحلفاء والخصوم في المنطقة. الرغبة في التعويض عن الضلوع بصورة مباشرة في مهمات سياسية تتطلب حضوراً يومياً ومتابعة دؤوبة بدفع الأموال الى بعض المنتفعين والسماسرة الجاهزين على الدوام للقيام بالمهمات الصعبة، وهو كذلك ما يدفع الأمراء الى التفرّغ لتوسعة نفوذهم في الداخل وترسيخ سلطانهم في وقت يكلّفون فيه آخرين للإضطلاع بأدوار قذرة، أو مادون ذلك بقليل.

في لبنان، على سبيل المثال، يلعب رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع أدوراً متكاملة بالتنسيق مع القيادة المصرية، بل أصبح الفريق الآذري (نسبة الى تحالف 14 آذار) في عهدة المصريين، بعد أن قررت السعودية وبملء إرادتها النأي عن الدخول في تفاصيل التجاذبات اللبنانية الداخلية، خصوصاً وأنها قررت ولأسباب كثيرة إعادة العلاقة مع دمشق وما يتطلب ذلك من الدخول في لعبة تسويات دائمة. بات التنسيق اليوم في الشأن اللبناني أميركياً ـ مصرياً، وهو تنسيق ذو طبيعة استثنائية، على أساس أن غياب الدور السعودي هو الآخر استثنائي الى حين يتم التوصّل الى طريقة ناجعة للتعامل مع سورية وحلفائها في لبنان، وخصوصاً حزب الله.

هو ما يشبه تقاسم أدوار بين الرياض والقاهرة في الشأن اللبناني، فبينما تحاول الرياض عدم إثارة حفيظة دمشق في ساحة تدرك هي قبل غيرها بأنها مهما بلغت من قوة، فإن تجاوز الدور السوري يبدو في حكم المستحيل، وأن لبنان سيتحوّل الى مايشبه البقرة الحلوب في أي مناجزة تخوضها الرياض مع دمشق داخل لبنان، لأن هناك من يتطلّعون الى مثل هذا الصراع لأنه سيدرّ أموالاً طائلة على لوردات الحرب الساخنة والباردة. ولذلك، فإن الأمراء السعوديين يفضّلون الآن الأدوار الخلفية، التي تمنحهم قدرة على المناورة، وعلى الاستثمار، وراحة البال، فيما يمنحون الأدوار المزعجة، والمشاكسة، والمنهكة لحلفائهم مثل مصر التي قررت الدخول من نفس البوابة السعودية، فدخلت خصماً لنصف الشعب اللبناني على الأٌقل وصديقاً للنصف الآخر على الأغلب. ولأن القاهرة ليست على وفاق مع دمشق، فإن ذلك يمثّل عاملاً سلبياً بكل تأكيد في الساحة اللبنانية ويذكّر بأوضاع الحرب الأهلية حيث يتصارع الخصوم على الساحة اللبنانية. ومن سوء حظ لبنان، أن فيه رموزاً سياسيين يملكون قدرة بارعة على إشعال الحروب والفتن رجاء الحصول على الجاه والمال والسلطان. فالرئيس السنيورة الذي يسيئه اليوم تولي الرئيس سعد الحريري الحكم في لبنان، يمارس كل دور من أجل تخريب أي توافق داخلي، وكأنه يندب حظّه لأن حكومة الحريري قامت تحت عنوان الوحدة الوطنية والوفاق الوطني فيما عجزت حكومته عن تحقيق هذا الهدف. والأنكى، أن تصدر تصريحات من كل الأفرقاء في لبنان موالاة ومعارضة تؤكّد على ضرورة دعم حكومة الحريري وإعطائها الفرصة الكاملة كيما تنجز برنامجها الاقتصادي والتنموي.

حاول فؤاد السنيورة أن يكسب قلوب السعوديين على حساب الرئيس سعد الحريري، ولكنه فشل، وقال كلاماً في الملك عبد الله يفوق ما قاله مالك في الخمر ليتقرّب إليه زلفى، ولكن وجد نفسه على مسافة قريبة من المصريين، فيما بقي سعد الحريري الحليف السعودي في لبنان بلا منازع. ميزة واحدة ينفرد بها السنيورة الآن عن سعد الحريري، أن الأخير ملتزم بحكومة وحدة وطنية ولا يمكنه التلاعب بالمهمة المنوطة به، لأن أي فشل سينعكس على الفور على مستقبله السياسي والاقتصادي، أما السنيورة فلديه مساحة واسعة وحرّة يمكن المناور فيها، وأن يدخل في معارك السعوديين والمصريين وحتى الأميركيين في لبنان، وإن تطلب الأمر أن يقف في مواجهة مشروع الحريري نفسه. السعوديون يريدون الإيحاء للسوريين بأن كل ما يصدر عن السنيورة أو جعجع لا يمثلنا، فنحن لدينا حليف استراتيجي واحد مسؤول أمامنا هو رئيس الحكومة سعد الحريري.

على أية حال، فإن التعديلات الشكلية لا تغيّر كثيراً، في رؤية الآخر على الأقل، خصوصاً وأن اللعبة مهما بلغت جولاتها فإنها لا تخرج عن نطاق القوانين التي جرى التعامل بها في أزمنة سابقة. بمعنى آخر، أن تقاسم الأدوار، وتراجعها، أو تحفيزها، لا تغيّر من حقيقة كون المصريين والسعوديين هم الداعمين الرئيسيين لفريق 14 آذار، والأشد أهمية من ذلك أن هذا الدعم لا يؤدي سوى الى ترسيخ معادلة الفريقين: الموالاة والمعارضة.

بالنسبة لسمير جعجع فإن السعوديين لا يعوّلون عليه كثيراً سوى ما يقوم به من مناكفات ومناجزات على الساحة المسيحية، لأسباب ليست خافية. ولذلك، ليست هناك نافذة يمكن لقائد القوات اللبنانية أن يطلّ منها على العالم العربي سوى مصر، فيما بقيت الرياض متردّدة على الدوام في التعاطي مع جعجع كما لو أنه حليف علني، فأوكلت أمره للقاهرة كيما تتدبّر أمره على أن تكون هي على علم بتفاصيل تحرّكات جعجع.

مشكلة آل سعود أن حلفاءهم غير مؤهّلين شعبياً بدرجة كافية، وباستثناء سعد الحريري الذي يحاول أن يحقق في نفسه شروط كاريزمية من نوع تجاري، فإن بقية الزعماء هم أقرب الى قادة عصابات أو تنظيمات عسكرية منها الى تيارات سياسية ذات وزن شعبي لافت.

على أية حال، فإن الزهد السعودي في لعب الدور المباشر والعلني يعكس شكلاً من أشكال الإحباط الخفي، كما يعكس درجة الانغماس في مشاريع خفية ذات أهداف بعيدة المدى وخطيرة، وثالثاً فإنها لا تراهن كثيراً على مكانة جديدة، فهي تعتقد بأنها قادرة على شراء مكانة لها بمالها الخاص.

لعل ما تحاول السعودية كتمانه في الفترة الراهنة هو ما يتم التحضير له على الساحة اللبنانية والدولية وهو توجيه الإتهام الظني ضد حزب الله في اغتيال رئيس الوزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005، وهو ما يشتغل كل فريق 14 آذار في لبنان، ودول الاعتدال مجتمعة على استثماره المباشر، باعتباره الفرصة الأخيرة التي يمكن بها تثمير الاغتيال سياسياً لبنانياً وإقليمياً ودولياً. فقد وضعت المحكمة الدولية الآن كأحد أوراق الضغط على سلاح حزب الله.

سعد الحريري حاول جس نبض قيادة حزب الله وكذلك رد الفعل السوري حيال هذا النوع من الإتهام، وفوجىء بالموقف المتصّلب من الجانبين، حيث اعتبرت قيادتا حزب الله وسورية أي اتهام يوجّه الى أي عنصر من عناصر حزب الله بأنه إتهام كيدي وأنه مقدّمة لحرب أهلية يتحمّل الحريري ومن وراؤه مسؤوليتها المباشرة.

بدا السوريون أشدّ تمسّكاً بموقفهم في قضية اغتيال الحريري من قيادة حزب الله، حيث أعربوا لموفد سعد الحريري الى دمشق وسام الحسن بأن القضية لا تقف عند تبرئة الجانب السوري من الضلوع في الاغتيال، بل إن إتهام أي عنصر من عناصر حزب الله في العملية يعتبر إتهاماً مباشر لدمشق وللقيادة السورية على وجه الخصوص. في ظل تصاعد الأحاديث عن قرب إصدار المحكمة الدولية قراراً إتهاماً ضد عناصر تنتمي لحزب الله، والتي تأتي في سياق مشاغبات متسلسلة من بينها الإشكال الذي وقع بين أهالي عدد من البلدات الجنوبية وبعض وحدات القوات الدولية (اليونيفيل)، وخصوصاً الوحدة الفرنسية، كشف عضو القيادة القطرية لحزب (البعث) في لبنان عاصم قانصو لصحيفة (الأنباء) في 11 يوليو الجاري أن (متغيرات حصلت في الملف اللبناني وخصوصاً في موضوع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي وضع في الواجهة، ملاحظاً إن الاتهام السياسي لسوريا تمَّ التراجع عنه بتدخل من السعودية الذي كان للملك عبدالله دور مهم أدى الى إراحة الأجواء المتشنجة التي استفادت من دم الحريري طوال "العهد الأسود" لرئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، مشيرا الى أن السنيورة لم يعد مقبولاً لكثرة ما طرح موضوع الإغتيال بطريقة متشنجة بطلب من الأميركيين لإبقاء العلاقة مع سوريا غير قابلة للحياة). وأضاف (أن السوريين قد أراحوا الحريري من خلال تقديمهم له معلومات قبل زيارته الى دمشق، مشيراً الى الدور الذي لعبه رئيس شعبة المعلومات وسام الحسن في إيصال هذه المعلومات الموثقة عن دور الأميركيين والإسرائيليين في عملية اغتيال الحريري والذي ترافق مع خروج الضباط الأربعة من السجن، وأكد ان كل الأجواء التي كانت تشد العلاقات الى الوراء من خلال اتهام سوريا ودور المخابرات في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود والضباط الأربعة قد تراجعت جميعها، وأكد ان سوريا ليست هي من طلبت هذا الأمر، لافتا الى ان الشغل على الأسطوانة القديمة سيأتي يوما وتنكشف فيه كل الأمور على حقيقتها).

الصفحة السابقة