الحقوق المدنية..

إغتيال المجتمع المدني في دولة آل سعود

عبدالحميد قدس

التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في المملكة تعتبر بالغة التعقيد بالرغم من أن الناشطين في مجال المجتمع المدني مازالوا متمسّكين بحقهم المبدئي في النضال من أجل حشد كل الزخم المطلوب لتطوير آليات المجتمع المدني كيما تصبح لاعباً نافذاً في حاضر ومستقبل البلاد. ولكن السؤال الذي ينبعث دائماً يحوم حول التحديات وكذلك التطلّعات التي تواجه الناشطين في مجال المنظمات الأهلية.

الحكمة التقليدية في زماننا ترشد الى أن الضمانة الوحيدة المتوفّرة لنجاح الديمقراطية في أي بلد تتوقف على حجم وفعالية منظمات المجتمع المدني، حيث تمكّن الأخيرة المجتمعات من تنظيم نفسها في مؤسسات حديثة تتجاوز الإنتماءات التقليدية، وتقود الى إنجاز الشروط التأسيسية للديمقراطية الناجحة.

وهناك في العادة عوامل متعددة تشرح التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في المملكة السعودية. ولكن العامل الأهم من بين العوامل الأخرى هي التماهي بين المجالين العام والخاص في البلاد. إن هيمنة الدولة تستوعب تقريباً كل مجالات الحياة، بما يجعل في حكم المستحيل بروز منظمات مستقلة، دع عنك أن تقوم هذه المنظمات بالعمل بصورة فاعلة ومتحررة.

في المقلب الآخر، إن اختراق الدولة للمضمار الحيوي للمجتمع يعكس نزعة الحكام السعوديين لتخليق آليات تسهم في إجهاض المبادرات الوطنية الحقيقية التي تبنّاها الإصلاحيون.

إن التداعي المباشر لوضع كهذا، أي السعي الهادف الى تشكيل منظمات مجتمع مدني، هو تفسير ذلك على أنه تجاوز موجّه ضد الطبقة الحاكمة، فيما سيتم تصنيف أولئك المنغمسين في نشاطات كهذه في خانة خصوم الوطن وأعدائه بما يؤول في نهاية المطاف الى الخضوع للتحقيق والإعتقال.

في مارس 2003، تقدّم عدد من ناشطي حقوق الإنسان إلى ولي العهد حينذاك، والملك حالياً عبد الله، بعريضة تذكّره فيها بطلب سابق تم تسليمه الى وزير العمل والشؤون الإجتماعية في فبراير 2002، بحيث يسمح بتأسيس لجنة إقترحت تسميتها حينذاك (اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان). رفضت الوزارة الطلب من قبل الوزارة، فيما تم الترخيص للجان أخرى جديدة، بالرغم من أن الأخيرة قد تقدّم بطلب ترخيصها في فترة لاحقة على طلب ترخيص اللجنة الأهلية. وكان السبب ببساطة أن اللجان المرخّصة قد تأسست بقرار أو تشجيع من قبل الحكومة، وأن إحداها على الأقل مرتبطة بصورة وثيقة بالعائلة المالكة.

في بلد يتم فيه منع الأحزاب السياسية والمنظمات الأهلية المستقلة، تلجأ الجماعات الى الإنترنت كأداة بديلة للتعبيرات والتظهيرات الجماعية للهموم، والمصالح، والأهداف داخل نطاق المجتمع المدني. في حقيقة الأمر، فإن كل موقع إلكتروني هو في جوهره منظمة مجتمع مدني، حيث أن كثيراً من المواقع يدار من قبل عدد كبير من الأفراد ويسلّط الضوء على جانب محدّد من القضايا الراهنة. مواقع ذات شعبية واسعة مثل (طوى)، و(راصد)، و(دار الندوة)، و(طومار)، و(الملتقى)، و(منتدياتنا)، و(منبر الحوار)، و(هجر)، ومواقع أخرى كثيرة، تمّ إما حجبها أو إغلاقها بصورة كاملة، من قبل هيئة الإتصالات وتقنية المعلومات، وهي هيئة رسمية تشرف على شبكة الانترنت.

وبصورة عامة، ففي الفترة الواقعة ما بين 1998 ـ 2010 فإن 500,000 موقعاً تمّ حجبه داخل المملكة، أي بمعدل 114 موقعاً يومياً. وقد تضاعف عدد المواقع المغلقة في العام 2006. تزعم تقارير رسمية بأن 95 بالمئة من هذه المواقع تعرض مواد إباحية، فيما تشتمل بقية المواقع المحجوبة على مواد سياسية وإجتماعية تتعارض مع قوانين البلاد الدينية والوطنية. وبالرغم من التحفظ على هذه النسبة لما تنطوي عليه من إهانة واضحة للمجتمع، فإن هذا يعني أن 20,000 موقعاً الكترونياً لا صلة له بحال بالمواد الإباحية.

وقد صوّر مدير مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية الرقابة على المواقعة بأن ذلك (عملٌ حسن)، مدّعياً بما نصّه (يجب علينا فرض قيود وحدود على الإنترنت كي لا يساء استخدامه).

تواجه المتصفّحون لشبكة الإنترنت في المملكة العبارة الشائعة (نأسف، إن الصفحة المطلوبة غير متوفرة). وقد تلقّت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات الحكومية 133458 طلباً من أصحاب المواقع الالكترونية المحجوبة المحلية، أي بما يمثّل زيادة بنسبة 64% بالقياس الى 81272 طلباً في العام 2009. وبحسب صحيفة الرياض في 23 يونيو 2010 فإن 81512 موقعاً تم حجبها في الربع الأول من العام 2010.

ومن أجل التوصّل لفهم دقيق لمشكلة ذات صلات وثيقة بعمل المنظمات الأهلية في شكلها العولمي، فإننا في مسيس الحاجة إلى تسليط الضوء على المعوّقات التي تحول دون تقدّم المجتمع المدني في السعودية.

1 ـ العائلة المالكة: ونقصد على وجه الدقّة الجيل القديم في العائلة المالكة، وهو الذي يمسك بالمناصب الحيوية في جهاز الحكم، وفي الوقت نفسه يرفض التغيير التي تقوم الى تآكل القبضة القوية على السلطة. هذه الجيل هو الآن غير قادر على الإستجابة بصورة عاجلة وفاعلة لمنطق الزمن والحاجات الملحّة التي يميلها التطوّر الأقتصادي والاجتماعي والسياسي.

مازالت العائلة المالكة تتمسّك بالتقاليد الغابرة التي تنتمي الى أوضاع ما قبل الدولة، ومن بينها ما يعرف بـ (المجالس المفتوحة). وهذه الوسيلة تستهدف في جوهرها التأكيد على اعتماد الناس على العائلة المالكة كمصدر حماية ورعاية. ولذلك، فإن منظمات المجتمع المدني محظورة في هذا البلد، كونها تعتبر مخالفة للقيم التقليدية. وفي واقع الأمر، فإن مثل هذه المؤسسات، كما ينظر إليها من قبل العائلة المالكة، قد تستقطب بعداً سياسياً بما يهدد النظام السعودي الحاكم.

ومن الجدير بالملاحظة أن الإصلاحيين الوطنيين، من قناعات أيديولوجية مختلفة، وضعوا أساساً أولياً لمنظمة حقوقية مدنية في فبراير 2003. وقد جرى اعتقال المنظّمون في مارس 2003 على أساس أوامر من قبل وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز. وقد تم إرغام الإصلاحيين على التعهّد بوقف كل نشاطاتهم السياسية. ونتيجة لذلك، تم منعم من السفر، فيما حُرِم آخرون من وظائفهم. وقد وجّه الأمير سعود الفيصل إليهم تهمة تهديد الوحدة الوطنية والتعاون مع قوى خارجية.

وفي خطابه أمام مدراء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في 20 سبتمبر 2006، زعم الأمير نايف بأن هناك (أشخاصاً لهم روابط مع أطراف خارجية)، ثم علّق قائلاً (سنقوم بقطع ألسنتهم). كما دعى أولئك الذين وصفهم (المتغرّبين)، بالقول (من يرى بأن الغرب يستحق ما هو عليه، فيجب عليه أن يعيش معهم وأن يقلّد طرقهم).

فيما يرتبط بمطالب النساء في المملكة، دافع الأمير نايف عن وضع المرأة في بلاده مجادلاً بأن المتغرّبين (يأملون في جرّها ـ أي المرأة ـ الى النوادي الليلية والكازينوات).

ومن الجدير بالذكر، أن النساء في مملكة آل سعود لايسمح لهن بالسفر بدون محرم. وتمنع أيضاً من قيادة السيارة، دع عنك تولّي منصب وزاري أو مواقع عليا في الجهاز الحكومي. وغير مسموح للنساء بالمشاركة في النشاطات العامة، أو إدارة منظمات أهلية حقيقية. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية قضايا تحقيق مع نساء على قاعدة مخالفة قوانين وتشريعات الدولة فيما يرتبط بقيادة السيارة، وتأسيس منظمة لتطوير الحقوق الإجتماعية والسياسية للمرأة. وجيهة الحويدر، من بين نساء أخريات، تعرّضت للاعتقال والتحقيق على خلفية المطالب بحق النساء بقيادة السيارة، والسيارة بصورة منفردة، وأن تطلّع على قرار زوجها بالزواج من إمرأة ثانية.

إن زيادة عدد أعضاء مجلس الشورى من 60 عضواً في العام 1992 الى 150 عضواً في العام 2004، لم يغيّر من وضع المرأة، حيث لم يستوعب المجلس أي إمرأة. وما يبعث على السخرية، أن عضواً في المجلس ذكر بأن بإمكان النساء السعوديات المساهمة في المجلس، من خلال مجرد الحضور والاستماع للمناقشات التي تجري تحت قبة المجلس، ولكن ليس كعضوات!

وبصورة عامة، في عام 2004، تم إغلاق أكثر من 150 منتدياً إجتماعياً من قبل السلطات الأمنية (المباحث)، بذريعة أن هذه المنتديات تعمل بصورة غير قانونية.

2 ـ المؤسسة الدينية: إن الدور الفارط والمتمدّد للمؤسسة الدينية يحول دون السير في طريق التغيير بحسب حاجات المجتمع ومنطق العصر. فهذه المؤسسة تنزع أيديولوجياً لمعارضة أي تغييير مهما يكن في تهديد آخر يواجه المجتمع المدني في المملكة. من وجهة نظر النخبة الدينية، فإن تأسيس المنظمات الأهلية سيقود ابتداءً الى تقليص سلطة وحصّة العلماء في كل من المجتمع والدولة، والدولة، ثانياً فإن هذه المنظمات ستقود بما لا يدع مجالاً للشك الى تغيير طبيعة الدولة بما يعني تقلّص دراماتيكي للكسوة الدينية المضفاة على الدولة. وثالثا، إن هذه المنظمات ستزيل التوجيه المتعالي والواحدي الذي كان غالباً ما يكون تحت سيطرة المؤسسة الدينية بما يؤدي الى التعددية وكسر احتكار التوجيه الواحدي. وكرد فعل على ذلك، ودرءً للوصول الى هذه النتيجة، فإن المؤسسة الدينية تعارض الإصلاحات، حيث أنها ستكون الخاسر الرئيسي من ذلك كله.

وفي مقابل الطلب المتزايد للدور الفاعل للمرأة في الشؤون العامة، فإن وزير الشؤون الإسلامية، الشيخ صالح آل الشيخ قيّد دور المرأة بواجبات محدّدة من بينها تربية الأولاد والاهتمام بشؤون البيت. وبالرغم من دعوى الشيخ بمناصرته للحقوق المتساوية بين كل بني البشر، فإنه رسم حدوداً فاصلة بين الحقوق والواجبات للرجال والنساء. وقال (إن للنساء حقوقاً، ولكن هذه الحقوق تقوم على رؤيتنا إزاء واجباتها في الحياة).

..ماذا بعد؟

إن إستثناء السعودية من كونها بؤرة التطرّف، فإن المجتمع الدولي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى لبذل كل الجهود الممكنة لدعم مطالب الحريات المدنية والحقوق الأساسية في هذا البلد. وهذا يستوجب جهوداً معزّزة من أجل إدخال إصلاحات سياسية جوهرية تشمل: تشجيع تشكيل منظمات أهلية وحقوقية يمكن لها أن تكون دوراً محورياً في تشجيع الحكومة على رفع يدها عن الإعلام والصحافة، والنوادي الإجتماعية، والجمعيات الخيرية، ومنظمات المجتمع المدني، مثل نوادي النساء والنوادي الأدبية والثقافية.

تضم المملكة مجتمعاً متنوّعاً، حيث أن الاختلافات الثقافية والإثنية والمذهبية لم يتم الإعتراف بها من قبل الدولة. ويجب أن تنعكس هذه الحقيقة، وتتجسّد بصورة ظاهرة في مؤسسات الدولة. ولذلك، إنه دور المنظمات الحقوقية لإدانة أي شكل من أشكال العزل والتهميش، سواء كان ذلك إجتماعياً وثقافياً، أو اقتصادياً أو سياسياً.

ثانياً، إن التمثيل والمشاركة السياسية تعتبر وسيلة أخرى لحلحلة الأزمة عميقة الجذور للدولة. ويمكن القول بأن النظام السياسي السعودي هو بدائي، مغلق، وغير استيعابي، ويعتمد بصورة متزايدة على الولاء والروابط العائلية أكثر من اعتماده على الكفاءة، والمؤهّلات، والقدرات. المنظمات الأهلية والحقوقية قد تساعد الحكومات المشولية على القيام بالانعطافة الضرورية إزاء الديمقراطية بدون هواجس.

لا حاجة للقول بأن هناك عدداً كبيراً مسبياً من المنظمات الأهلية التي تعمل بصورة قانونية في السنوات الخمس الماضية في البلاد، بما يلمح الى التطلّعات المتعاظمة حيال مشاركة فاعلة في الشؤون العامة.

إن الهيئات الدولية مطالبة هي الأخرى بالعمل من أجل الضغط بصورة أكبر على الحكومة السعودية من أدل فتح الطريق أمام الشعب لحشد كل جهوده لتأسيس منظمات أهلية فاعلة لاستيعاب طاقات المجتمع والتعبير عن أهدافه وهمومه بصورة منظّمة وسلمية وجماعية. مالم توجّه هذه الجهود ناحية ناشطات سلمية ومثمرة، فإنها قد تتعرّض للاختطاف والاساءة من قبل المجموعات العنفية.

الصفحة السابقة