هل تشعل السعودية الحرب السابعة في اليمن؟

هاشم عبد الستار

قبل أن تضع الحرب السادسة أوزارها في الشمال اليمني، كان الحوثيون وأنصار السلطة يتحضّرون لحرب أخرى تالية، فالذين وضعوا سيناريوهات الحرب يدركون حقيقة واحدة أن الحرب الحاسمة غير ممكنة، فجعلوا منها مشروعاً استثمارياً مفتوحاً، ولأن نتائج الحرب السادسة أثبتت بأن نظام علي عبد الله صالح أعجز عن حسم أي حرب مقبلة، خصوصاً وأن القوى السياسية في الشمال والجنوب مجمعة على أن تغيير النظام السياسي بات خيار الضرورة، ولا يمكن التعايش مع سياسة الرئيس علي عبد الله صالح القائمة على أساس متغيّر القوة. فحين يكون النظام ضعيفاً يلوذ بالحيلة وإرخاء الحبل لامتصاص موجة الاحتجاج المتصاعد، وحين يكون في موقع القوة يستعمل أقسى ما يملك من أدوات البطش لتصفية خصومه.

في مشهد الحرب السادسة، بدا كما لو أن النظام اليمني ليس أكثر من مجرد وسيط أو منفّذ أوامر، وكانت السعودية تدير حربها ضد الحوثيين بطريقة خاصة، تبعاً لمعادلة القوى المتصارعة في الداخل بين آل سلطان وآل نايف، وهي المعادلة التي بقيت سائدة اليوم، ويراد ترسيخها من أجل انتزاع أكبر قدر من المخصصات المالية من موازنة الدولة.

كانت عودة الأمير سلطان من رحلة العلاج عن مرض سرطان المعدة قبل نهاية الحرب السادسة بين السعودية واليمن من جهة والحوثيين من جهة ثانية في فبراير الماضي، قد أعادت وضع ملف اليمن تحت تصرّف آل سلطان. ولذلك، لم يتردّد الأخير في متابعة مجريات ما بعد الحرب، بل والتمهيد لمرحلة يكون فيها الوضع مهيئاَ لنفوذ سعودي واسع في اليمن بما فيها الشمال اليمني، العرين التاريخي والتقليدي للحوثيين والزيدية بصورة عامة.

بعد وقف الحرب مباشرة، فتح الأمير سلطان مجلسه لاستقبال شيوخ القبائل اليمنية. وبحسب مصدر حوثي فإن الأمير سلطان استدعى 150 شيخاً وطالبهم بتشكيل ميليشيات بهدف الدخول في مواجهات ضد الحوثيين، من أجل مشاغلتهم في الداخل وفي المناطق التي يسيطرون عليها. ولعل هناك هدف آخر من تلك الميليشيات القبلية، يتمثل في اختبار قدرة الحوثيين القتالية بعد الحرب السادسة. ما ظهر واضحاً أن الحوثيين أبدوا مقاومة شديدة، دفعت الميليشيات القبلية للتراجع، فقد تحرّكت في منطقة سفيان قبيلة حليفة للرئيس علي عبد الله صالح، وكذلك في مديرية حيدان وغيرهما، وكانت المواجهات تنتهي على الدوام بهزيمة ماحقة تتعرّض لها ميليشيات القبائل، ما اضطر الرئيس علي عبد الله صالح الى مطالبة الحوثيين بتسليم أسلحتهم، بعد أن اكتشف استحالة نجاح الفتنة الداخلية. تقول مصادر يمنية شبه رسمية، إن إثبات الحوثيين قدرة متميّزة على خوض حرب جديدة مع قوات علي عبد الله صالح هو المسؤول عن تراجع خيار الحرب، بعد أن اكتشف النظام بأن لا إمكانية للحسم السريع.

حين نعيد تركيب المشهد السياسي والعسكري في اليمن بعد خمسة أشهر على وقف الحرب ضد الحوثيين، يتبدى أولاً مشهد استقبال الأمير سلطان بعد أيام من وقف الحرب، أي في 21 فبراير الماضي لمشايخ القبائل والأعيان اليمنيين برئاسة الشيخ ناجي عبد العزيز الشائف، حيث قدّموا له عربون التحالف بالتأكيد على (حق المملكة في الدفاع عن أمنها وسيادتها)، و(إدانتهم لأعمال المتسللين). قائمة إدانات واستنكارات تلاها الوفد أمام سلطان ضد الحوثيين. من بين التصريحات المثيرة للسخرية قولهم (نؤكد رفضنا وإدانتنا لأعمال العناصر المتسللة العدوانية التي تسببت في تدمير داخلي في مناطق صعدة وسفيان والجوف وإزعاج للأمن والسكينة العامة في بعض المناطق الحدودية في بلدكم الشقيق). فالوفد حمّل الحوثيين مسؤولية التدمير الداخلي الذي تسببت به الطائرات الحربية السعودية، وإن كان التصريح ينطوي على جرعة ذكاء ورسالة مقصودة من بينها التعويضات المالية لإعادة الاعمار.

في السياق نفسه، التقى الملك في 23 فبراير الماضي مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، أي بعد أيام من وقف إطلاق النار، بهدف التباحث في مرحلة ما بعد الحرب، والخيارات المتاحة للسعودية في تعزيز وجودها في الداخل اليمني في مقابل ما تعتقد بأنه تهديد إيراني.

ما يلفت في تصريحات الأمراء أنهم يتحدّثون عن الحرب في اليمن وكأن الرئيس علي عبد الله صالح غير موجود. في تصريح نشر في 23 فبراير الماضي أبدى فيه الأمير نايف، بحسب الخبر، أسفه عن (عدم عدم التزام الحوثيين بنصوص البنود الستة حول وقف إطلاق النار مع الجيش اليمني)، واستدرك قائلاً (أن هذا الاتفاق شأن داخلي). فحين يتحدّث الأمير نايف بهذه اللهجة التي تنطوي على تجاوز لسيادة الدولة اليمنية، ويقرّر بأن الحوثيين لم يلتزموا بنصوص البنود الستة حول وقف إطلاق النار، إنما يتحدّث عن دولة بلا سيادة، أي يمن خاضع للسيادة السعودية، وما قوله لاحقاً بأن الإتفاق شأن داخلي سوى ذر الرماد في العيون.

وفي نهاية شهر فبراير الماضي انعقد مجلس التنسيق السعودي اليمني التاسع عشر في الرياض برئاسة الأمير سلطان ورئيس الوزراء اليمني علي مجور. وكان الهدف من اجتماعات المجلس إعداد خطة شاملة لإعادة تأهيل اليمن لضمان إحكام النفوذ السعودي بصورة شبه كاملة. وقد رصدت لهذه الخطة ميزانية ضخمة بلغت حوالي 3 مليارات رسال سعودي، تشتمل على توقيع عدد كبير من الاتفاقيات الخاصة بمشاريع ذات طابع اقتصادي وثقافي وصحي. النفوذ السعودي تمثّل في بناء مستشفيات أحدها في صعدة، ومستشىف جامعي ومركز للأورام بجامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا، ومستشفى آخر في عدن، ومشاريع أخرى تعليمية وخدمية ومهنية، وكلها تدار من قبل شخصيات مرتبطة بالأمير سلطان.

تدرك القوى السياسية والشعبية في اليمن طبيعة المشاريع السعودية واستهدافاتها، وتضعها في سياق تعزيز تغلغل آل سعود في اليمن. فالمستشفى لا يحقق غرضاً صحياً فحسب، بل يمثّل رمزاً للنفوذ السعودي، وكذا شأن باقي المشاريع. المطلوب هو من تلك الخطة أن تمهّد لعملية اختراق واسعة النطاق لكل مناطق وسكّان اليمن. وهناك من يعتقد بأن الحرب السادسة في الشمال اليمني كشفت منطقة فراغ تقع خارج النفوذ السعودي، وهي منطقة يعتبرها آل سعود منفذاً لإيران الى اليمن. الحوثيون أكّدوا مراراً بأنهم يعتمدوا على قواهم الذاتية، ولم يحصلوا على دعم أو مساعدة الجانب الإيراني. وسواء صحّ هذا الكلام أو بطل، فإن السعودية لديها ما يبرر لها عمل كل ما من شأنه إحتكار النفوذ في اليمن وقمع كل القوى الوطنية التي تطالب باستقلال اليمن من أي نفوذ خارجي، والدعوة الى حكومة وحدة وطنية يتحقق فيها مبدأ الشراكة السياسية والتمثيل المتكافىء.

معالجة الفقر والتخلف الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار الأمني تمثّل مفاتيح النفوذ الى اليمن، كل اليمن، وهذا ما تحاول السعودية توظيفها في عملية احتواء واسعة النطاق، وهو ما كانت تعمل عليه خلال الخمسة شهور الماضية. إلا أن تطوّراً خطيراً طرأ منذ بداية يوليو الجاري، حيث تصاعدت لهجة الاتهامات بين الحكومة اليمنية والجماعة الحوثية، حيث قامت سلطة علي عبد الله صالح بإرسال تعزيزات عسكرية الى منطقة صعدة والتي وصفها الحوثيون بأنها (رسائل عدوان وليست رسائل سلام)، فيما اتهّمت صنعاء جماعة الحوثيين بمحاولة الاستيلاء على مستشفى حكومي في الجوف (شرقاً) بغرض (طرد الطاقم الطبي، وجلب كوادر تابعة لها للعمل في المستشفى). وحقيقة الأمر، كما ينقّل مواطنون من صعدة، أن السعودية تريد استعمال المستشفى أداة تبشيرية، ووسيلة لتعزيز نفوذها في الشمال، الى درجة أن بعض الأطباء يمارسون دوراً دعوياً.

على المقلب الأخر، تزايدت المؤشرات على نوايا النظام اليمني بالإعداد لحرب سابعة في الشمال. وفي بيان الزعيم الحوثي عبد الملك الحوثي حول إرسال الجيش لتعزيزات عسكرية إلى صعدة وعمران،جاء بأن (التعزيزات العسكرية المتواصلة إلى صعدة من بعد الحرب السادسة تعكس وبكل وضوح النوايا العدوانية للسلطة، كون صعدة لا تحتاج ولا إلى جندي واحد، لأن ما فيها من جيش ومعسكرات وألوية ودبابات وعتاد حول المحافظة إلى ثكنة عسكرية فما هذه التعزيزات سوى رسائل عدوان وليست رسائل سلام). وقال بأن (هذه التعزيزات العسكرية تجبر الجميع على التفكير ملياً بالمستقبل وتوقعات احتمال حرب جديدة وعلى مختلف الأصعدة).

بيد أن الملاحظ دائماً أن السياسة السعودية هي ذاتها في لبنان والعراق وأخيراً في اليمن، وهو ما يجعلها تخسر دائماً فرص نفوذ بدوافع مذهبية وطائفية. فبينما شجّع الأمير سلطان زعماء القبائل في الشمال وتحديداً في صعدة وسفيان وغيرهما على تشكيل ميليشيات لمواجهة الحوثيين، وأغدق عليهم الأموال، فإنه تعمّد بحسب فحوى بيان للجماعة الحوثية صادر في 10 يوليو إهمال الشمال الزيدي من أي مساعدات، ولفت إلى أن صعدة ليست ضمن المناطق التي يراد لها أن تندرج ضمن خطة إعادة الإعمار، وتحسين ظروفها الاقتصاديية والمعيشية.

ما يلفت أيضاً، أن سيناريو الحروب السابقة يكاد يتكرر بحذافيره، حيث تزجّ السعودي بجماعات سلفية موالية لها يمنية وسعودية وتحريض القبائل في المحافظات الشمالية ضد بعضها، وخصوصاً ضد الحوثيين، فيما تتكاثر الجمعيات الوهابية في اليمن بأسماء وعناوين متعدّدة تارة بإسم (الدعوة والإرشاد والتبليغ)، وأخرى تحت عنوان (الفارين) و(المطلوبين) والذي توزّعوا على محافظات شمالية وجنوبية، وتبيّن لاحقاً ارتباط كثير منهم بالنظام في صنعاء، وضلوعهم في خطف الأجانب والاغتيالات والتفجيرات، بهدف خلط الأوراق، فيما تعرّض شيوخ القبائل لعملية إغواء مبرمج عن طريق مدّهم بالأموال الطائلة في مقابل التزامهم الصمت على الجرائم التي تجري على الأرض، بل أرادهم الأمير سلطان أن يكونوا ذراع البطش التي يمسك بها ويوجّهها ضد الحوثيين.

حلفاء السعودية من قبائل وسياسيين ووزراء وحتى عناصر في القاعدة بات ينظر إليهم بوصفهم أحجاراً في رقعة الشطرنج السعودي. وتنظر القوى السياسية الوطنية في اليمن الى التوظيفات المتواصلة لأوراق القاعدة، والقرصنة، وإيران، والإرهاب وغيرها على أنها موجّهة ضد الشعب اليمني بأكمله، ولطالما عبّر النظام في صنعاء عن مواقف مناوئة لمصالح الشعب اليمني، كاتهام النظام لهذا الشعب بأنه الداعم للقراصنة، وتارة يحمّل القبائل مسؤولية إيواء عناصر القاعدة، فيما يلوذ شيوخ القبائل بالصمت، تلبية لرغبة أولياء النعمة من آل سعود.

الأنكى من ذلك، أن حرب نظام علي عبد الله مع الجماعات الإرهابية المرتبطة بالسعودية موجّهة فحسب الى المواطنين اليمنيين، فتصيب مدارس البنات، والمصلين في المساجد، أو السواح الأجانب (بغرض المقايضة)، أو الأطباء، فيما لم يصب إرهاب القاعدة أحد من المسؤولين الأمنيين الكبار أو أحد قصور الرئاسة..هذا ما يشاهده المواطن اليمني العادي ويلحظه بوضوح طيلة السنوات الخمس الماضية، الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون الى القاعدة بوصفها مجرد أداة سعودية يمنية أميركية في لعبة خلط الأوراق في اليمن.

ما هو واضح حتى الآن، أن السعودية لم تتجاوز الجماعات التي كانت موالية لها قبل الحرب السادسة، فيما تكبّدت مساحة جديدة أكبر من العداء في الداخل اليمني. والأخطر، أنها لم تحدث أدنى تغيير في خططها، فمازال التآمر والكيدية ضد الخصوم من حوثيين ووطنيين وليبراليين واشتراكيين وهم الغالبية العظمى في اليمن هما سمات المشروع السعودي في اليمن بعد الحرب السادسة.

هناك اليوم قوى سياسية وطنية في اليمن تطالب برصد كل تحرّكات السعودية في الداخل اليمني بما فيها فضح دور شيوخ بعض القبائل التي ارتضت الوقوع في فخ المؤامرات السعودية، ومراقبة مشايخ الوهابية وتحرّكاتهم للحيلولة دون نجاحهم في إحداث إنقسام اجتماعي داخلي عبر إثارات مذهبية وطائفية مقصودة، والمطالبة بتعريف الناس بخطر الأدوار التي يضطلعون بها في التهيئة للحرب السابعة، عبر إشاعة الإتهامات والتحريض المذهبي ضد سكان الشمال.

الصفحة السابقة