غازي القصيبي

كانت قصيدته بمثابة الراحلة التي تأخذه من منصب الى آخر.
لقد قال قصيدته الأخيرة ومضى

عمر المالكي

توفي في 15/8/2010 وزير العمل السعودي الدكتور غازي القصيبي بعد صراع طويل مع مرض السرطان.

القصيبي من عائلة نجدية، قطن أبوه وأعمامه بين الأحساء والبحرين، ومثلت العائلة الملك عبدالعزيز في البحرين قبل أن تكون هناك سفارات وممثليات دبلوماسية.

القصيبي، نال احتراماً وتقديراً لم ينل مثلهما مسؤول من العامة من قبل، اللهم إلا نظيره الوزير الأسبق للنفط أحمد زكي يماني، ما سبب له مشاكل مع العائلة المالكة، التي لم تتحمل في النهاية صعوده المتواصل فأقالته.

بالرغم من جذوره النجدية، فإن القصيبي ولد في الأحساء في المنطقة الشرقية، وتربّى وتعلّم في البحرين، وكانت والدته من الحجاز، وحين أراد إكمال تعليمه انتقل الى القاهرة أولاً، ثم الى أمريكا، ثم نال الدكتوراة من بريطانيا. وحين اراد الزواج فإنه تزوج من ألمانية.

بالمعنى الصريح، فإن القصيبي حتى في جذوره كان متنوعاً! وكان من الصعب حصره في زاوية مناطقية أو حتى مذهبية. كان دائماً يتحدث عن أنه أكل (عيش الحسين) في البحرين! وفي جلساته مع ندمائه، كان يرفع عقيرته بالتقليد على خطباء الملالي الشيعة في عاشوراء، فيجيد ذلك! وربما بسبب هذا التنوّع الذي عاشه القصيبي بين دول وثقافات مختلفة، فإنه دافع عن الآخرين المختلفين: الحجازيين والشيعة وغيرهم. وقد وجدنا نتفاً عديدة في كتاباته الأخيرة تشير الى ذلك، كما في رواية (شقة الحرية)، أو في (ابو شلاخ البرمائي)، أو حتى في كتابه (حياة في الإدارة).

كان القصيبي ناصرياً بالمعنى السياسي، شأنه شأن الكثير من المتعلمين والمثقفين في مرحلتي الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي. كثير منهم أيضاً كانت تشفع لهم أصولهم المناطقية النجدية والعائلية من التعرض للأذى على يد الطغمة الحاكمة.

رسالة الدكتوراة لغازي القصيبي في العلوم السياسية كانت عن السعودية وحرب اليمن، ولا يبدو أنها كانت ذات شأن. ولكن بعد وفاة الملك فيصل، حيث لم تكن قد مضت سوى بضع سنوات على انضمامه للجامعة كأستاذ فيها، تم تعيينه وزيراً للصناعة والكهرباء، وكان عمره نحو 35 عاماً فقط.

حقق القصيبي منجزاً كبيراً في مجال الكهرباء، والصناعات البتروكيماوية. فصعد نجمه بين المثقفين والصحافيين الذين كان قريباً منهم، والذين كان يبثهم همومه وسخطه أيضاً على الوضع القائم.

كانت جلساته مع ندمائه بمثابة تنفيس داخلي، وكان بين الفينة والأخرى يكتب مقالات وقصائد شعرية وينشرها في الصحافة.

بعد عامين من توليه الوزارة أي في عام 1977 وقعت حادثة مأساوية. حيث انهارت مدرسة على فتياتها الصغيرات وقتلتهم في بلدة تسمى (جلاجل). يومها كتب القصيبي قصيدتين، واحدة منها لم يعلن أنه صاحبها، خشية من العقاب (وهو وزير!). يقول في إحداها (جلاجل والموت):

بسط الموت يا جلاجل كفّيه

فماذا أعطيته يا جلاجلْ؟

كل هذي الزهور؟ ما أفجع الزهر

صريعا على نيوب المناجلْ!

كل هذا العبير من طيب مريول

ومن خفقة الصبا في الجدائلْ؟

كل هذا الجمال؟ ما رأت الأحلام

أبهى من الصبايا الغوافل

بسط الموتُ يا جلاجل كفيه

فكان العطاء من غير باخلْ

* * *

قلّب الموت طرفه فرأى العشّ

دماءً على بقايا بلابل

الصغيرات في الحطام ضلوعٌ

ودموع و حشرجاتٌ جوافلْ

ذرف الموت دمعتين وأغضى

عن ضحاياه.. وهو خزيان ذاهلْ

* * *

يا صغيرات!.. يلتقي ذات يوم

في رحاب الردى جبانٌ وباسلْ

يلتقي السائر المغذُّ ومن سار

وئيداً.. كل الدروب حبائلْ

يلتقي الطفل في الغضير من العمر

وشيخ مغضن الروح ناحل

ما ارتوى الطفل بالحليب ولا

الشيخ رواه طوافه بالمناهل

تتلاشى الحياة فهي سرابٌ

عند هذا وعند ذاك مخاتل

* * *

يا صغيرات!.. ليس عند الليالي

بعد طول العناء إلا المقاتل

لم تكن العائلة المالكة تشعر بارتياح لوزير من (العامة) يحظى بشعبية محلية أو دولية تنافس شعبية الملك أو الأمراء الآخرين. هذه هي المشكلة الأولى التي واجهت القصيبي، وواجهت زميله في نفس الوقت وزير النفط الأسبق أحمد زكي يماني، ذي الشهرة العالمية. والحقيقة، فإن شعبية هذين الوزيرين قد فاقت بمراحل مكانة العائلة المالكة مجتمعة.

القصيبي وجد نفسه فجأة وزيراً للصحة. ووزارة الصحة استهلكت العدد الأكبر من الوزراء الذين تتابعوا على قيادتها.

انها وزارة لم ينجح فيها أحد من قبل، ولم يعمر فيها أحد من قبل.

قال الأمراء: لنتخلّص من القصيبي، ونلزمه بوزارة سيفشل فيها وتحطّ من قدره، وتأتي على منجزاته وسمعته التي تحققت بفضل أدائه في وزارة الصناعة والكهرباء.

واستلم الرجل الوزارة، والمحيطون به بين مشفق عليه ومتمنّ له بالإنتكاس!

لم تمض سوى أشهر قلائل وإذا بالوزارة تتعافى، وإذا بالأساطير تنسج حول الوزير الجديد (القصيبي) الذي وضع لأول مرة صناديق الشكاوى في المستشفيات ليعرف سبب الإهمال ومواطن الخلل، ثم قام الوزير بحملة اعلامية وأخرى دعائية تضمنت زيارات للمستشفيات بصورة مموهة وكأنه من عامة الناس. كما حارب القصيبي الفساد المعشعش في الوزارة فاصطدم بمصالح كبار الأمراء، وكبرى الشركات الأجنبية.

كل هذه الأفعال جعلت من القصيبي نجماً، خاصة في جنوب المملكة وشرقها، وبذا تحقق للعائلة المالكة عكس ما أرادت.

العائلة المالكة ضايقت القصيبي عبر وزراء من زملائه، وكان الملك فهد يدفع باتجاه الحطّ منه وتكسير سمعة القصيبي ونقض قرارته، فما كان من الأخير إلا أن ضاق ذرعاً، وطلب من رئيس تحرير جريدة الجزيرة أن ينشر له قصيدة تحكي صراعه مع الملك والواشين من حوله، اعتبرها القصيبي رسالته الأخيرة، لأنه يدرك بأنه سوف يغادر الوزارة مطروداً.. ويبدو أنه كان لا يبالي. وحسب أحد المقربين منه فإنه ـ ونكاية من الملك به ـ استمع الى قرار إقالته من التلفاز دون أن يبلّغ رسمياً بذلك!

القصيدة التي وجهها للملك عبر صحيفة الجزيرة (5 مارس 1984) عنونها بـ (رسالة المتنبي الأخيرة الى سيف الدولة)، فهو قد وضع نفسه في مقام المتنبي الذي يحبّه ويعشقه ويهيم به، بل ويرى تجربته تماثل تجربة المتنبي من نواح عديدة. يقول القصيبي مخاطباً الملك فهد في قصيدته الناريّة (على الأقل بمقاييس ذلك الزمان!):

بينـي وبينـك ألـف واش ينعـبُ

فعلام أسهب في الغنـاء وأطنـبُ؟

صوتي يضيع ولا تحـسُّ برجعـه

ولقد عهدتك حيـن أنشـد تطـربُ

وأراك ما بين الجمـوع فـلا أرى

تلك البشاشة في الملامـح تعشـبُ

وتمرّ عينك بـي وتهـرع مثلمـا

عبـر الغريـب مروعـاً يتوثـبُ

بيني وبينـك ألـف واش يكـذب

وتظل تسمعـه.. ولسـت تكـذّبُ

خدعوا فأعجبكَ الخداع ولـم تكـن

من قبل بالزيف المعطـر تعجـبُ

سبحان من جعل القلـوب خزائناً

لمشاعـر لمـا تــزلْ تتقـلّـبُ

قل للوشـاة أتيـتُ أرفـع رايتـي

البيضاء فاسعوا في أديمي واضربوا

هذي المعارك لست أحسن خوضها

من ذا يحـارب والغريـم الثعلـبُ

ومن المناضل والسـلاح دسيسـة

ومن المكافـح والعـدو العقـربُ

تأبى الرجولـة أن تدنّـس سيفهـا

قد يَغلـبُ المقـدامُ ساعـةَ يُغلـبُ

في الفجر تحتضن القفار رواحلـي

والحرُّ حين يرى الملالـة يهـربُ

والقفر أكـرم لا يغيـض عطـاؤه

حيناً.. ويصغي للوشـاة فينضـبُ

والقفـر أصـدق مـن خليـل ودّه

متغيّـر .. متلـوّنٌ .. متـذبـذبُ

سأصبّ في سمع الرياح قصائـدي

لا أرتجي غُنمـاً.. ولا أتكسّـبُ

وأصوغ في شفة السراب ملاحمـي

إن السراب مع الكرامـة يُشـربُ

أزفَ الفراقُ.. فهل أودّع صامتاً

أم أنـتَ مُصـغٍ للعتـاب فأعتـب؟

هيهات مـا أحيـا العتـاب مـودّةً

تغتال.. أو صدّ الصدودَ تقـرّبُ

يا سيدي! في القلب جرح مثقـلٌ

بالحب.. يلمسه الحنين فيسكـبُ

يا سيدي! والظلم غيـر محبّـب

أما وقـد أرضـاك فهـو محبّـبُ

ستقـالُ فيـكَ قصائـدٌ مأجـورةٌ

فالمادحـون الجائعـون تأهـبـوا

دعوى الوداد تجول فوق شفاههـم

أما القلـوبُ فجـالَ فيهـا أشعـبُ

لا يستـوي قلـمٌ يبـاعُ ويشتـرى

ويراعـةٌ بـدم المحاجـر تكتـبُ

أنا شاعر الدنيا.. تبطن ظهرهـا

شعري.. يشرّقُ عبرها ويغـرّبُ

أنا شاعـر الأفـلاك كـل كليمـة

منّي.. على شفق الخلود تلهّـب

أقيل القصيبي، فكانت إقالته حديث الساعة. وكتبت الأوبزيرفر البريطانية (29/4/2010) عنه تحت عنوان (رثاء شاعر سعودي) قالت بأنه (أحد المسؤولين الشباب من ذوي المؤهلات في الحكومة السعودية، والذي أثار وجوده فيما بعد صداماً بين مجلس الوزراء وبعض شرائح العائلة الحاكمة). ولفتت الصحيفة الى أسباب إقالة القصيبي فقالت: (كوزير للصحة، فقد سعى القصيبي الى تطهير وزارته من مظاهر الفساد الإداري المتفشية فيها، وقد تسبب ذلك في تضرر مصالح ذات صلة بالأسرة الحاكمة نفسها). وأضافت بأن القصيبي (كان قبل أسابيع من عزله قد طرد مدير مدينة الملك فيصل الطبية من منصبه. ولأن الأخير كان من المقربين من الملك فهد فقد أوعز الملك بإعادته الى منصبه مباشرة).

أيضاً تحدثت الصحيفة البريطانية عن (ضغوطات أجنبية كانت وراء إقالته) وعددت منها (ما يرتبط برفض القصيبي قبول مناقصات لا تستوفي الشروط السليمة) وأنه ـ أي القصيبي (ألغى في يناير 1984 عقداً قيمته 1400 مليون دولار مع شركة ويتاكر الأمريكة التي كانت تلتزم بإدارة مستشفيات في السعودية لمدة ثلاث سنوات) وأشارت الى أن الطرد وقع قبل انتهاء العقد، وقد سلم القصيبي الإدارة لشركة أخرى بكلفة تقل 40% عما تستلمه الشركة الأميركية.

أياً كانت الحالة، فإن العائلة المالكة لم تكن متأكدة من أنها تستطيع بإقالة القصيبي أن تحجب التعاطف الشعبي معه، ولا كانت متأكدة من أن الرجل سيصمت ـ وهو لازال في بداية الأربعينيات من عمره ـ ولديه من الطاقة والفكر والقلم والشعر والمعرفة والعلاقات الواسعة ما يجعله مزعجاً للسلطات. وكعادة الملك، فإنه اختار له منصباً دونياً: سفير! ولكن أين؟ اختار القصيبي البحرين، البلد الذي له علاقة واسعة بأطراف واسعة فيه من الحكام الى المثقفين والوزراء.. إنها البلد الذي أمضى فيه سنين طويلة من حياته.

وهكذا كان. وافق الملك فهد على تعيينه سفيراً للسعودية في البحرين، وربما رأى ذلك منفى له، وإن كان قريباً، يبعده عن الشؤون الداخلية، ويجعل من أسطورته الشعبية ماضٍ لا يعود.

أمضى القصيبي نحو سبع سنوات سفيراً في البحرين؛ كان أغلب عمله لقاءات مثقفين!. وبعيد أزمة احتلال الكويت، ونظراً لضعف أداء السفير ناصر المنقور، تم تعيين القصيبي مكانه سفيراً في لندن. وقد عمل القصيبي أثناء الأزمة وبعدها على دعم الحكم السعودي بكل ما أوتي من قوة. من خلال مقالاته في الشرق الأوسط (في عين العاصفة) وعبر مواجهاته مع التيار السلفي الذي بدأ احتجاجاته ضد استقدام القوات الأجنبية، فكتب مقالات شتى تواجه الخصوم تحت عنوان (حتى لا تكون فتنة) طبعت فيما بعد في كتاب حمل نفس الإسم، وردّ عليه المتطرفون الوهابيون بسيل من الكتب والمقالات والإتهامات والمحاضرات وغيرها.

في لندن كانت تنتظر القصيبي معركة مع المعارضين للحكم السعودي تدور رحاها بين صحيفة الغارديان بالذات والبي بي سي، اضافة الى وسائل اعلامية أخرى.. خسرها القصيبي ومن ورائه الطاقم الحكومي العامل في السفارة. وقد ارتكب القصيبي أخطاءً فادحة في معالجة القضايا، ولم يدرك أسباب غضب المسلمين في بريطانيا على الحكم السعودي إلا متأخراً حين وجد أن تدمير الآثار الإسلامية في الحجاز قد سبب صدعاً في علاقة الحكومة السعودية مع مجمل العالم الإسلامي. وقد وجد القصيبي أمامه آلاف الرسائل من المسلمين البريطانيين تحتج على ممارسات الوهابية التدميرية، كما تفاجأ بالإعتصامات المتكررة أمام السفارة السعودية.

خلال وجوده في لندن، انشغل القصيبي كثيراً بالكتابة، خاصة بعد أن هدأت الأحوال السياسية، وعادت المعارضة الشيعية الى السعودية، وبعد الإنشقاقات في لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية بين المسعري والفقيه. فظهرت جملة من الكتب والروايات ووزعت في كل البلدان العربية إلا في (السعودية)!

قبل وفاته بإسبوعين، ولمّا تأكدت السلطات بأن الوزير القصيبي قد اقتربت منه المنيّة، وأن السرطان قد تمكّن منه، وأنه قد يموت في أية لحظة، قرّر الأمراء رفع الحظر عن (جميع كتبه)! حتى لا يقال بأن الرجل مات ولم تشفع له خدمة النظام والمجتمع والدولة لتحظى كتبه بالحرية فيرفع المنع عنها! الوزير عبدالعزيز خوجة، وزير الإعلام، أعلن في الأول من أغسطس الجاري وعلى صفحته في الفيس بوك أنه أمر برفع الحظر عن جميع كتب وزير العمل غازي القصيبي. وفي الحقيقة أن الحظر لم يعد ذا قيمة، فالزمان قد تغيّر، وكتب الوزير وأفكاره انتشرت، ولم يعد الأمراء بقادرين على امتلاك الفضاء، ولم تعد الرقابة ممكنة في هذا الزمن، بل مستحيلة كما كان يردد دائماً الوزير القصيبي الراحل.

لم يكن وزير الاعلام الخوجة بقادر على الغاء الحظر على كتب القصيبي بقرار شخصي منه، لولا أن هناك أمراً من (الأعلى). وكانت كتب القصيبي ورواياته مثيرة للجدل، وتلقى نقداً واسعاً من التيار السلفي المحافظ الذي ألف الكتب ضد الوزير، بل وأصدر الفتاوى بتكفيره.

بعيد أحداث سبتمبر 2001، شعر القصيبي كما طاقم الحكم بأن البلاد تتعرض لأزمة خطيرة قد تفضي الى تفككها. وعملت العائلة المالكة على جبهتين: ترقيع العلاقات السعودية الأميركية من جهة بتقديم أقصى التنازلات المالية والسياسية (المبادرة العربية كانت واحدة منها) والثانية: اعلان البراءة من المنتج الوهابي الذي قاد الى أحداث سبتمبر. القصيبي وبحكم موقعه الدبلوماسي الرسمي، انخرط في الحملة، وأعلن براءة (الوهابية) من ابن لادن!

لكن القصيبي المشاكس لا يستطيع الهدوء، ونزعته الشعرية والقومية أوقعته في مشاكل أدّت في النهاية الى إبعاده عن لندن في عام 2002 ليصبح وزيراً للماء والكهرباء!

في ذلك العام (2002) كتب القصيبي قصيدة ونشرها في جريدة الحياة تحت اسم (الشهداء) أشاد فيها بالاستشهادية الفلسطينية آيات الاخرس التي فجرت نفسها في سوق في القدس ما أدى الى مقتل اثنين من الصهاينة. يقول في القصيدة:

يشـهـد الله أنـكـم شـهـداءُ

يشهـد الأنبـيـاءُ والأولـيـاءُ

متـمُ كـي تعـز كلمـة ربـي

فـي ربـوعٍ أعزهـا الإسـراءُ

انتحرتم؟! نحن الذين انتحرنـا

بحـيـاةٍ أمواتـهـا أحـيـاءُ

أيها القـوم نحـن متنـا فهيـا

نستمع ما يقـول فينـا الرثـاءُ

قد عجزنا حتى شكى العجز منّا

وبكينا حتـى ازدرانـا البكـاءُ

وركعنا حتـى اشمـأز ركـوعٌ

ورجونا حتى استغاث الرجـاءُ

وارتمينا على طواغيـتِ بيـتٍ

أبيضٍ ملءُ قلبـه الظلمـاءُ

ولعقنـا حـذاء شـارون حتـى

صاح ..مهلا.. قطعتموني الحذاءُ

أيها القـومُ نحـنُ متنـا ولكـن

أنفـت أن تضمـنـا الغـبـراءُ

قل (لآيات) ياعـروس العوالـي

كـل حسـنٍ لمقلتيـك الـفـداءُ

حين يُخصى الفحول صفوة قومي

تتصـدى.. للمجـرمِ الحسنـاءُ

تلثم الموت وهي تضحك بشـراً

ومن الموت يهـربُ الزعمـاءُ

فتحت بابهـا الجنـانُ وهشّـت

وتلقتـك فـاطـمُ الـزهـراءُ

قل لمن دبّجوا الفتـاوى رويـداً

ربَّ فتوى تضجُّ منهـا السمـاءُ

حين يدعـو الجهـادُ يصمـتُ

حِبْرٌ ويراعٌ والكتـبُ والفقهـاءُ

حين يدعو الجهـادُ لا استفتـاءُ

الفتـاوى يـوم الجهـاد الدمـاءُ

تلقّف الصهاينة القصيدة، وبدأت الصحافة البريطانية والغربية تتحدث عن السفير الشاعر الذي قام للتوّ جمعٌ من قومه بتفجيرات نيويورك وواشنطن!

ها هو سفير السعودية يتحدث عن الجهاد، ويؤيد الإنتحاريين والإنتحاريات!

هذا هو فعلاً رأي القصيبي، ولكنه بالقطع أبعد من أن يكون رأي العائلة المالكة.

وما كادت تتحرّك الحملة وتتصاعد، حتى فضّل الأمراء سحب السفير القصيبي الشاعر المشاكس، الذي يريد أن يتذكره العالم شاعراً لا سياسياً ولا دبلوماسياً ولا إدارياً.

سُحب السفير الى الرياض وعيّن وزيراً!

قيل يومها أن القصيدة جاءت في وقتها، فجناح الأمير عبدالله ولي العهد يومها (الملك الحالي) والذي يخوض صراعاً حاداً مع الجناح السديري، في غياب الملك فهد أو غيبوبته بسبب الجلطة الدماغية، كان بحاجة الى خدمات الوزير القصيبي، الى كفاءته والى شعبيته. وجود القصيبي ضمن جناح ولي العهد كان مفيداً جداً. فسمعة القصيبي لاتزال طيبة، وشعبيته وإن انخفضت بسبب بعده عن المملكة لنحو عقدين، واصطفافه مع آل سعود في بعض الفترات، إلا أنه عوضها بالتواصل الثقافي. كان ولي العهد بحاجة الى شخص مثل القصيبي، نظيفاً بعيداً عن الفساد، كفوءً من خارج السيستم، وفي ذات الوقت ذا حسّ عروبي وطني، زُعم أن عبدالله ينتمي اليه، وما هو كذلك!

في الرياض أصبح الوزير القصيبي ضمن الدائرة الضيقة من المستشارين الأساسيين الذين يعتمد عليهم عبدالله قبل وبعد وصوله الى كرسي الحكم، الى ان اختار الله القصيبي.

من وزارة المياه والكهرباء، الى وزارة العمل والشؤون الإجتماعية، الى وزارة العمل.. محطات أخيرة في حياة القصيبي.

حاول الرجل أن يتصدّى للبطالة المتغوّلة، فكسّر الأمراء والسلفيون المحافظون مجاديفه، وتجمّع عليه أرباب المصالح الإقتصادية فشوهوا سمعته، وأفشلوا خططه. كان القرار يظهر من الملك (كما بشأن العمالة النسائية في الأسواق النسائية) ثم ما يلبث أن يسحب، الأمر الذي أفشل دور الوزير ولأول مرة في تاريخ حياته الإدارية.

لقد قيل وسمع الوزير مراراً من محبّيه، أنه مجرد أداة فاعلة في جهاز حكومي فاسد.

ولقد أُسمع القصيبي مراراً بأن أمثاله هم من يغطّون على سوءات آل سعود، كونهم الوجه الحسن (القليل) أمام الوجوه الكالحة والفاسدة الكثيرة.

كان القصيبي يشعر بأن الأجل قد دنا. ربما إحساس منه بذلك. كتب قبل نحو خمس سنوات قصيدة ينعى فيها نفسه فقال:

..وإنْ مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بَطَلاً

لـكـنه لــم يـقبّل جـبهةَ الـعارِ

..ويـا بـلاداً نـذرت العمر.. زَهرتَه

لعزّها! دُمتِ! إني حان إبحاري

تـركتُ بـين رمـال الـبيد أغنيتي

وعـند شـاطئكِ المسحورِ أسماري

إن سـاءلوكِ فـقولي: لـم أبعْ قلمي

ولـم أدنّـس بـسوق الزيف أفكاري

وإن مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بَطَلاً

وكـان طـفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري

يـا عـالم الـغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه

وأنـت تـعلمُ إعـلاني.. وإسـراري

وأنــتَ أدرى بـإيمانٍ مـننتَ بـه

عـليّ.. مـا خـدشته كـل أوزاري

وقبل أن يمضي الى ربه، كتب القصيدة الأخيرة، وكما كل القصائد، فإنها تسبق الحدث. القصيدة الأخيرة فاجأت محبيه. يقول فيها:

أغالب الليل الحزين الطويل

أغالب الداء المقيم الوبيلْ

أغالب الآلام مهما طغت

بحسبي الله ونعم الوكيلْ

فحسبي الله قبيل الشروق

وحسبي الله بُعيد الأصيلْ

وحسبي الله إذا رضّني

بصدره المشؤوم همّي الثقيلْ

يا رب أنت المرتجى سيدي

أنر لخطواتي سواء السبيلْ

قضيت عمري تائهاً ، ها أنا

أعود إذ لم يبق إلا القليل

الله يدري أنني مؤمن

في عمق قلبي رهبة للجليل

مهما طغى القبح يظل الهدى

كالطود يختال بوجه جميل

أنا الشريد اليوم يا سيدي

فاغفر أيا رب لعبد ذليل

ذرفت أمس دمعتي توبة

ولم تزل على خدودي تسيل

يا ليتني ما زلت طفلاً وفي

عيني ما زال جمال النخيل

أرتل القرآن يا ليتني

ما زلت طفلاً.. في الإهاب النحيل

على جبين الحب في مخدعي

يؤزني في الليل صوت الخليل

هديل بنتي مثل نور الضحى

أسمع فيها هدهدات العويل

تقول يا بابا تريث فلا

أقول إلا سامحيني .. هديل

الصفحة السابقة