ماذا يقال عن صفقة السلاح الأميركي؟

.. صفقة غير مسبوقة في تاريخ البشرية!

ماذا لو كان قرار وعنوان الصفقة السعودية التسلحية الأخيرة هكذا: (السعودية توقع عقداً
مع الولايات المتحدة لحمايتها لمدة خمس سنوات، بقيمة 60 مليار دولار)؟!

عمر المالكي

تثير صفقة التسلّح السعودية الأخيرة تساؤلات أكبر وأكثر من كل صفقات التسلح السعودية السابقة. بعض تلك الأسئلة يعود الى طبيعة الصفقة وتفاصيلها، وبعضها له علاقة باستهدافاتها، ودوافعها والظروف السياسية التي عقدت فيها. هذه المقالة تحاول في ملاحظاتها أن تجيب عن بعض تلك الأسئلة.

سرب من مقاتلات اف ـ 15

الملاحظة الأولى ـ وتتعلق بتفاصيل الصفقة ذاتها

أي تتعلق بنوعية الأسلحة ـ الطائرات المختارة، وطبيعة التقنيات التي يفترض أن تكون ضمن الصفقة وغير ذلك.

الأسئلة المطروحة هنا هي:

لماذا اشترت السعودية صنفاً من الطائرات يفترض أن يكون قد تم التخلي عنه وأُحيلت منتجاته الى التقاعد. ونقصد هنا طائرات اف ـ 15؟ ولماذا تريد السعودية تأهيل طائراتها السبعين من الإف 15 والتي اشترتها عام 1978 كجزء من الصفقة؟ هل كان هذا هو اختيار السعودية، أم أن الإدارة الأميركية ترفض أن تبيع السعودية طائرات حديثة؟

اذا كانت السعودية حليفاً للولايات المتحدة، فيفترض أن تزودها بأحدث الطائرات، ولنقل بأن تشتري السعودية طائرات أميركية أدنى مستوى من تلك التي تزود بها اسرائيل، طالما أن الغرض هو ابقاء التفوق الاسرائيلي.

في عام 1978، كانت الإف 15 قد سلمت الى السعودية، وهي طائرة اعتراضية/ هجمومية، مقابل طائرات اف – 14 (الإعتراضية) التي كان الشاه قد اشترى العشرات منها والتي اصبحت بعد سقوطه بيد النظام الثوري الوليد. كان الرئيس كارتر حريصاً على تمرير صفقة الإف ـ 15، واعتبر سقوط الشاه ليس تهديداً للنفوذ الأميركي فحسب في ذلك البلد، بل وخطراً محدقاً بالسعودية نفسها. ولذا أمر بأن تستعرض أسراب طائرات الإف ـ 15 في السعودية قبل أن تشتريها هذه الأخيرة. وأعلن كارتر، ما نصّه: (إن أمن السعودية جزء من الأمن القومي الأميركي).

معلوم ان الإف ـ 14 تقاعدت منذ زمن، وحتى مصنع قطع غيارها قد أغلق!

الإف ـ 15 شارف عمرها على الإنتهاء. وظهرت نسخ مطورة منها: الإف ـ 16 والإف ـ 18 وغيرها وكان آخرها اف ـ 35، واف ـ 38. مدهش حقاً أن الإف ـ 16 وهي طائرة (هجومية) بامتياز لم تطلبها السعودية، أو طلبتها ولم تبعها أميركا لها!!. مع أن البحرين والإمارات وغيرهما قد حصلوا على الاف ـ 16 منذ عشرين عاماً!! حتى الآن يبدو الأمر غامضاً: لماذا الإصرار على طائرات متقاعدة، او في طريقها الى التقاعد؟ الإسرائيليون يحيلون طائرات الإف ـ 16 على التقاعد ولم يشتروا الإف ـ 15 اصلاً! فلنتدبر الأمر إذن، ونبحث عن إجابات عن هذه الصفقة العجيبة.

قد يقال بأن طائرات الإف ـ 15 تم تحديث أجهزتها، وكأنهم يقولون بأن محتويات الطائرات الداخلية متطورة وقد ركبت على هيكل الإف ـ 15، حسب طلب السعودية. لكن الجميع يعلم الآن، بأن اسرائيل اعترضت على التجهيزات التي يقال انها جديدة، ولذا وصفت الطائرات بأنها عمياء!

نعم عمياء في مواجهة اسرائيل. ولكنها ترى جيداً في مواجهة ايران. وهذا بالضبط ما قالته اسرائيل. قالت بأن الإف ـ 15 تكفي السعودية لتكون متفوقة على الطيران الإيراني!! وبدون الحاجة الى تجهيزات متقدمة وإضافية. واذا كانت الطائرات غير موجهة لاسرائيل، فلماذا ـ حسب المنطق الصهيوني ـ تشتري السعودية طائرات حديثة لمواجهة خصم متخلف في ميدان الطيران ـ أي إيران المحاصرة غربياً منذ أكثر من ثلاثين عاماً؟!

إن تفاصيل الصفقة تكشف بأنها ليست موجهة لإسرائيل بقدر ما هي موجه لعدو آخر. لذا من الغريب أن يقال بأنها موجهة لاسرائيل، أو للقاعدة أو للحوثيين، فالأسلحة المتطورة لا توضع لمواجهة عصابات مسلحة لا تستخدم سوى أسلحة خفيفة؛ وهي ليست جيشاً نظامياً، ولا ظاهراً للعيان. ان مواجهة الحركات الثورية أو الإرهابية/ القاعدة لا يحتاج صفقات من هذا النوع، بل الى تطوير الجهاز الأمني والإستخباراتي.

المدهش أن كاتباً ـ سعودي التوجه ـ في صحيفة النهار أشار الى التهديدات التي قد تأتي للسعودية من الصومال ايضاً والتي تدفع بالسعودية لإبرام هكذا صفقات تسلح ضخمة!

مروحية بلاك هوك

الثانية ـ وتتعلق بكلفة الصفقة المرتفعة

فهذه الصفقة غير المسبوقة في التاريخ البشري لا بد وأن تطرح تساؤلات من حيث كلفتها.

الصفقة ثمنها ستون مليار دولار (أي ستون ألف مليون دولار). مقابل 84 طائرة اف ـ 15؛ والباقي مروحيات/ هيلوكبتر: 70 مروحية أباتشي؛ و72 مروحية بلاك هوك؛ و36 مروحية ليتل بيرد.

للتو عقدت اسرائيل صفقة شراء أرقى ما في الترسانة الأميركية من مقاتلات اف ـ 35، وهي مجهزة كامل التجهيز المتطور وبتكنولوجيا وقت صناعتها وليس الوقت الحالي، وقت إبرامها، بقيمة الواحدة منها ما بين 90 ـ 100 مليون دولار. يفترض ان قيمة الإف ـ 15 الواحدة وهي غير المجهزة والعمياء أقل من هذا المبلغ بالطبع، وبالكاد يصل الى 50 مليون دولاراً للواحدة. أي أن القيمة الكلية للمقاتلات السعودية يفترض أن يكون في حدود 4.2 مليار دولار، وإذا كان سعرها أعلى من هذا، فهو بالقطع لن يكون أعلى من الإف ـ 35، واذا كان مثل سعر الأخيرة في حده الأقصى، فإن قيمة المقاتلات فحسب 8.4 مليار دولار. فهل يعقل أن قيمة طائرات الهيلوكبتر الأخرى وعددها 178 مروحية تزيد عن الخمسين مليار دولار! يخصم منه قيمة تحديث السبعين طائرة اف ـ 15 التي اشترتها السعودية أواخر السبعينيات الميلادية الماضية؟

لنفترض أن السعودية، وبدل التحديث لسبعين طائرة عمرها 32 عاماً، اشترت طائرات من نفس الصنف (اف – 15) جديدة بدلاً من تحديث القديمة. ولنقل بأن قيمة كل واحدة منها تساوي 100 مليون دولار مثلها في ذلك مثل أرقى طائرة اميركية اف ـ 35. هذا يعني أن كلفة السبعين جديدة (وليس مجرد تحديثها) سبعة مليارات دولار. فيكون مجموع ثمن المقاتلات الـ 154 يساوي 15.4 مليار دولاراً. وما يتبقى وهو في حدود 45 مليار دولار قيمة المروحيات الـ 178، فيكون معدل قيمة الواحدة من تلك المروحيات ما يزيد على 253 مليون دولار. فهل هذا الرقم معقول أصلاً؟

سيقال لنا مرة أخرى، بأن الصفقة لا تشمل أسلحة فقط، وإنما هناك عقود الخدمات الأرضية وقطع الغيار والصيانة وما أشبه من عبارات.. وهنا يكمن الفساد والسرقة، بحيث تصبح كلفة هذه الأمور أي الصيانة وما أشبه ـ كما في هذه الصفقة ـ خمسة أضعاف كلفة الطائرات نفسها: فالطائرات ضمن هذه الصفقة ـ وضمن التقديرات والحسابات المنطقية ـ لا تصل كلفتها الى عشرة مليارات دولار، وتبقى الخمسين مليار دولار الأخرى للرشاوى والنهب و...و... والصيانة!

لقد لازم الفساد صفقات التسلح السعودية كلها، خاصة مع بريطانيا وصفقات التورنادو واليورو فايترز، ولازالت هناك العديد من القضايا المتعلقة بفساد تلك الصفقات السعودية تحت نظر المحققين وأخرى منها يجري التعاطي معها في المحاكم، الاوروبية وحتى الأميركية. وإذا كانت محاكم اميركية قد تدخلت لتجبر البريطانيين على التحقيق في قضايا فساد الصفقات، فإن سمعة الأميركيين ليست طاهرة! او نظيفة!

يقال دائماً بأن الصفقات التي تجري مع اميركا انما تجري مباشرة مع الحكومة الأميركية وليس مع الشركات المصنعة للسلاح، بعكس ما يجري في بريطانيا ودول اوروبية أخرى. ما يعني أن الفساد غير مسموح به أميركياً!!، بما في ذلك الغش والرشاوى والتلاعب بقيم الصفقة. لكن الواضح من هذه الصفقة الجديدة أن الأميركيين إنما قاموا بشن حملة على صفقات الفساد السعودية السابقة لكي يستعيدوا حصة الأسد من التسلح السعودي، خاصة في هذا الوقت الإقتصادي العصيب. الولايات المتحدة كحكومة وكشركات مصنعة للسلاح متسامحة اليوم فيما يبدو مع الفساد السعودي، وهي تغض النظر عنه. وإلا هل يوجد معنى آخر لمثل هذه الصفقة؟!

الدنيا قائمة ولا تقعد والحديث يتواصل حول التسلح الإيراني، مع أن معهد ستوكهولم للسلام يقول بأن ميزانية ايران العسكرية عام 2008 بلغت تسعة مليارات دولار فقط! وهذا يشمل رواتب الموظفين والإدارة وصناعة السلاح وغير ذلك. وهذا يمثل 2.5% من مجمل الناتج القومي الإيراني. أما السعودية فهي أنفقت ما يقرب من 40 مليار دولار على السلاح وليس على ميزانية الدفاع كاملاً وذلك للعام 2009، وهو يمثل 27% من مجمل الناتج القومي السعودي؛ واسرائيل انفقت نحو 14 مليار دولار عام 2009. ولكن انظر الى المفارقة بين الجيوش الثلاثة. ما صرفته السعودية يمثل أكثر من أربعة اضعاف ما انفقته ايران، وثلاثة أضعاف ما أنفقته اسرائيل، وفي هذا العام سيكون الإنفاق السعودي اكثر بسبعة أضعاف ما أنفقته ايران، و5 أضعاف ما ستنفقه اسرائيل. فهل كل هذا سلاح أم معه قدر هائل من الرشاوى؟!

مروحية ليتل بيرد

الثالثة ـ ويتعلق بحجم وقوة الجيش السعودي

من المدهش أن هذا الإنفاق العسكري السعودي الهائل لم ينتج جيشاً سعودياً قادراً على حماية النظام السياسي السعودي. لقد أكلت ميزانية الدفاع أكثر من 30% في معظم ميزانيات العقود الثلاثة الأخيرة؛ فمثلاً بلغ حجم الإنفاق العسكري السعودي عام 1988 نحو 36% وهذا هو المعلن فقط! وبلغ 60% من ميزانية عام 1990، و70% عامي 1991 و 1992 وهما العامان اللذان تليا حرب الكويت ودفعت السعودية مبالغ ضخمة لتمويلها. وحتى هذا الوقت فإن ما يرصد للإنفاق العسكري السعودي من الميزانية يصل ما بين 30-40% مستبعدين المشاريع الأخرى التي تدخل في الجانب العسكري، مثل الأسوار العنصرية المحيطة بالسعودية شمالاً مع العراق وجنوباً مع اليمن والتي تبلغ كلفتها نحو 40 مليار ريال، يمكن للرقم ان يصبح بالدولار في أي لحظة (نهباً وفساداً إضافياً)! في حين أن معهد واشنطن التابع للخارجية الأميركية يقدر معدل الإنفاق العسكري السنوي السعودي بنحو 45% من الميزانية السنوية.

فماذا أنتج هذا للسعودية.. نحن نعلم ماذا تنتج الأرقام لإيران وإسرائيل مثلاً؟ وحتى لعراق صدام حسين، ولسوريا.. ولكن أين هو الجيش السعودي الذي يصرف عليه كل هذه المبالغ؟

في إيران هناك جيش محترف وضخم، وبنية تحتية وصناعية هائلة التطور. ومثل ذلك في اسرائيل. فماذا عن السعودية وجيشها الذي لا يستطيع مواجهة بعوضة؟

شراء السلاح لا يصنع جيشاً. السلاح لوحده لا يصنع جيشاً. ولو كان.. لبان!

لنأخذ مثالاً واضحاً، وإن كانت الأرقام قديمة بعض الشيء، ولكنها ضرورية للمقارنة. فقد بلغ الإنفاق العسكري الإيراني في الفترة 1983-2002 نحو (137 بليون دولار)، بينما بلغ الإنفاق العسكري السعودي (533 بليون دولار)، أي ما يعادل 2 تريليون ريالاً سعوديا. وفي حين يمثّل هذا الإنفاق في إيران متوسط 3.75% من الناتج القومي الإيراني، نراه يمثّل متوسط 18% من الناتج القومي السعودي طوال العشرين عاماً.

إيران صارت لديها صناعة عسكرية: طائرات مقاتلة ومروحيات، وغواصات، وقوارب بحرية، ومنظومة صواريخ متطورة، وأجهزة دفاع، وأعداد هائلة من الدبابات والمدرعات وغيرها، والأهم جيشاً محترفاً يتطور يوماً بعد آخر. أما في السعودية فكل شيء مستورد، وجيش لا عقيدة قتالية له، لا يعلم من يقاتل غير الكفرة والمشركين الشيعة في العراق وايران والزيدية في الجنوب. ومع هذا لم يفلح هذا الجيش في شيء. صار يطلق عليه لقب: جيش الكبسة، خاصة بعد فشله في الحرب ضد الحوثيين.

السؤال: هل تريد السعودية صناعة جيش قوي أصلاً. ونقصد جيشاً يستوعب التكنولوجيا والأسلحة التي يشتريها. جيشاً بأعداد كافية يستطيع بها حماية اكثر من مليوني كيلومتر مربعاً هي مساحة السعودية؟

لا نظن ذلك.

السعودية تخاف من الجيش القوي والكبير.

وآل سعود يعرفون بحكم الخبرة أو من خلال المستشارين أن الجيش الكبير يشكل خطراً على الملكيات، ولا يمكن إدارته، ويتضاعف طموح قادته، ويبشر بالإنقلابات.

السعوديون يريدون جيشاً للزينة فيما يتعلق بالخارج. ويمكن أن يقصم ظهر الخصم إن كان في الداخل.

مروحية الأباتشي

لذا اهتموا بالحرس الوطني القبلي البدوي.

ولذا ركزوا في الجيش السعودي على القوات الجوية بالتحديد.. لا البرية ولا البحرية.

آل سعود يدركون بأن الإنقلابات التي حدثت ضد ملكهم والتي كان أخطرها الانقلابين اللذين وقعا عام 1969، أن الإنقلابيين يهتمون بالقواعد الجوية وبالطيران باعتباره عاملاً حاسماً في انجاح الإنقلاب. وكما هو معلوم فإن طموح الطيارين للإنقلابات أكبر من غيرهم. أما القوات البرية فتعترضها مشاكل عديدة وأهمها انها تتحرك على مساحة واسعة من الأرض، وأنه توجد قوى قبالها (الحرس الوطني) أو يمكن تدبر قوى لمواجهتها.

لهذا، لا غرو أن يدفع ال سعود بأبنائهم للسيطرة بالذات على اجهزة الاستخبارات العسكرية المتعددة، وعلى ادارة القواعد العسكرية والأهم أن يتدربوا فيشكلوا العدد الأكبر من الطيارين! وفعلاً فإن 3 من كل 5 طيارين سعوديين هم من الأمراء. ويكفي ان نعرف بأن بندر بن سلطان كان طياراً، ومقرن رئيس الإستخبارات كان طياراً وغيرهما.

وهكذا فالسعودية تبحث عن قوة جوية متطورة ولو كانت صغيرة، وربما ساورهم حلم ان يكون طياروهم مثل الطيارين الصهاينة.

والسعودية تعول على الطيران أكثر مما تعول على أي شيء آخر. ولقد رأينا في الحرب التي تمت في العام الماضي ضد الحوثيين في اليمن كيف خسروا الأرض بسرعة، ولم يبق لهم سوى الطيران، فراحوا يقصفون الآمنين ويدمرون المنازل ونفّسوا عن هزائمهم ضد المدنيين عبر القصف بالطيران، تماماً مثلما فعل الصهاينة، ولازال هناك المئات من الجرحى اليمنيين الى اليوم الذين هم بحاجة الى علاج. وقد وعدت قطر بعلاج بعضهم، كما ينقل وان ذلك جزء من اتفاق الدوحة الأخير بين الحوثيين والحكومة اليمنية.

ما يمكننا قوله هنا بكل تأكيد أن ال سعود لا يريدون جيشاً كبيراً، فعدد افراد الجيش السعودي في آخر إحصاءاته هو: نحو 245 ألف جندي مقسّمة على النحو التالي:

ـ القوات البرية السعودية 75000 جندياً

ـ قوات الحرس الوطني 120000 جندي

ـ القوات البحرية السعودية 15500 جندي

القوات الجوية السعودية 34000 جندي

أما السلاح الذي تشتريه السعودية لهذا الجيش فهو أكبر من أن يستوعبه من حيث الحجم، وعموماً فإن غرض شراء السلاح الأساس إرضاء الغرب ورشوته، أكثر من أي أمرٍ آخر. ثم يأتي في المرتبة الثانية مسألة الرشاوى التي يسرقها الأمراء باسم التسلح. وفي المرتبة الثالثة فإن نوعية السلاح المتعلق بالطيران هي مدار اهتمام الصفقات السعودية وهي التي تثير جدلاً ولا يتم الحديث إلا نادراً عن الأسلحة البرية (الدبابات والمدفعية والمجنزرات والمدرعات وناقلات الجند وغيرها). هذه الأسلحة تقع في ادنى سلم الإهتمامات السعودية، ولكن لا يعني هذا ان السعودية ليس لديها فائض صديء منها في المخازن.

ايضاً ونحن نتحدث عن التسلح والأسلحة، فإنه ينبغي القول بأن القدرة الإستيعابية للجيش السعودي للأسلحة نوعاً وحجماً قليل. هناك أسلحة هائلة الحجم في المخازن السعودية يعلوها الصدأ. وهناك أسلحة لا يعرف افراد الجيش استخدامها.

فالسعودية ليست الدولة الأكثر ـ على مستوى المنطقة أو على مستوى العالم حتى ـ تعرضاً للتهديد والخطر حتى تنهمك في شراء السلاح. ليست السعودية أكثر تعرضاً لخطر التهديد بالحروب والهجوم الأجنبي مثل إيران. وليست السعودية اليوم مثل العراق في حجم التهديدات التي تواجه هذا الأخير. ولا السعودية مثل اسرائيل ايضاً، فحتى اسرائيل تستطيع القول بأنها تتعرض للتهديد أكثر من السعودية. وهذا صحيح الى حد بعيد. فالكيان الصهيوني غير مرغوب فيه في المنطقة، ولذا فهو منذ أن تأسس يعيش هاجس الخطر، وإسرائيل اليوم هي أكثر من أي وقت مضى خشية على نفسها من الزوال كدولة، وليس كنظام سياسي فحسب.

لذا لا نفهم مبررات شراء السعودية للسلاح. إن كان للدفاع عن نفسها والخوف على ذاتها، طالما هي لا تعلن انها ستهاجم أحداً وأن الغرض هو حماية الذات.

الأسلحة خلقت لصوصاً و(جيش كبسة)!

الرابعة ـ وتتعلق بثنائية حجم الخطر والتسلّح

إيران تتعرض لخطر التهديد حتى بالحرب النووية الأميركية كما أعلن صراحة قبل بضعة أشهر، حين قال أوباما بأن أميركا تتعهد بعدم استخدام السلاح النووي ضد أحد، مستثنياً إيران من ذلك. وهي تتعرض الى التهديد اليومي من هجمات اسرائيلية بالطيران لتدمير بناها التحتية بما فيها المنشآت النووية، ويصل التهديد بعدم استبعاد امكانية استخدام اسرائيل لأسلحتها النووية.

ترى ممن تشعر السعودية بالتهديد؟

من ايران؟ لم نسمع تصريحاً ايرانياً واحداً يهدد السعودية؟

واسرائيل لم تعلن يوماً انها تنوي تهديد السعودية؟

ولم يعد هناك خطر عراقي مزعوم على السعودية بعد أن انهارت الدولة والجيش العراقيين ـ بدعم سعودي!!، وسيطر الأميركيون على العراق، ما يمكن معه القول بأن العراق لا يشكل في الوقت الحالي ـ ولا يتوقع له في المدى المنطور ـ خطراً على السعودية. العكس هو الصحيح تماماً. السعودية عامل تهديد وعدم استقرار في العراق منذ عام 1990م وحتى اليوم، بالرغم من تغير الظروف والأنظمة والحكام!

وأما اليمن، فالسعودية فيه رئيسة اكثر من رئاسة علي عبدالله صالح. وللسعودية نفوذ وقوة لا يضاهيهما أي نفوذ خارجي آخر في اليمن.

اليمن في قبضة السعودية. وهو يعيش على المعونات السعودية. والضباط اليمنيون في كثير منهم يحملون ولاءً للسعودية أكثر من ولائهم لعلي عبدالله صالح.

السعودية لا يمكن أن تخاف من اليمن (الدولة) وهي التي تعيّن وتقتل الرؤساء فيه، كما فعل وقتلت الغشمي وقبله الحمدي؛ وهي التي عيّنت علي عبدالله صالح رئيساً كما هو معروف، وكما جاء مؤكداً في مذكرات عبد الله الأحمر التي نشرت في وقت لاحق لوفاته.

السعودية في اليمن كما في العراق اليوم هي في موقع الذي يهدد ويخرّب ويشعل الحروب ويمول التفجيرات ويدعم القاعدة ويحرض على العنف. السعودية هي التي تهدد، لا التي تتعرض للتهديد، بحيث يزعم بأن ذلك التهديد يستجاب له بشراهة شراء السلاح.

أيهما أكثر تعرضاً للتهديد ايران أم السعودية؟ سوريا أم السعودية؟ السودان أم السعودية؟ إسرائيل أم السعودية؟ فلماذا تخصص السعودية نسبة أعظم ـ وبما لا يقاس مع مصادر التهديد المحتملة لها ـ من ميزانيتها السنوية أو من الناتج الإجمالي القومي لشراء الأسلحة؟ وهنا نتحدث عن النسبة المئوية، حتى لا يقال لنا بأن الدول الأخرى لا تمتلك المال والسعودية وحدها لديها المال فتشتري ما لا يستطيع الآخرون شراءه. نسبة ما تخصصه السعودية من دخلها لشراء الأسلحة يفوق مجموع نسب ما تنفقه الدول الأخرى المذكورة أعلاه!

مقدار شراء الأسلحة من قبل السعودية غير قائم على معادلة ـ سعودية تقول: (خطر أكبر = تسلّح أكثر)؛ بل قائم على معادلة ـ غربية تقول: (غنى أكثر = تسلّح أكثر). ونشرح هذه المعادلة الأخيرة بالقول أنه كلّما توفر مال لدى السعودية من جراء ارتفاع أسعار النفط، وجب عليها إرسال تلك الأموال الى العواصم الغربية على شكل شراء أسلحة بدرجة اولى ومنح عقود الإنشاءات للشركات الغربية فضلاً عن فتح الأسواق السعودية (وبمحاباة) للمصنعات الغربية.

هذه هي وظيفة المال السعودي النفطي التي هندسها كيسنجر منذ السبعينيات الميلادية في اول طفرة نفطية (إعادة البترودولار)!

الخامسة ـ وتتعلق بالظرف السياسي للصفقة

تجري في المنطقة عمليتان متناقضتان: واحدة باتجاه السلام تجاه اسرائيل تقودها السعودية ودول الإعتدال العربي الأخرى، حيث تأتي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة في هذا السياق. والثانية، باتجاه الحرب، فهناك طبول لها تدق ونفير عام يعلن ضد خصم يقطن الضفة الشرقية من الخليج، حيث التهديدات الغربية والإسرائيلية بالحرب على إيران.

هنا في فلسطين المحتلة، يراد تهدئة الوضع، وتمشية الحال، وتسكين الأزمة، وربما تعقد صفقة تباع خلالها ما تبقى من فلسطين. حيث القاعدة القائمة هنا تقول بأن (السلام خيار استراتيجي) للعرب. أو بحسب تعبيرات رئيس دولة الصهاينة شيمون بيريز: ليس هناك صراعاً بين العرب واسرائيل؛ بل بيننا جميعاً وإيران!

أي أن ما يجري في جبهة التهدئة الفلسطينية إنما يستهدف المزيد من إشعال الحرب في الجبهة الإيرانية.

وهنا تأتي صفقات الأسلحة الخليجية كلها في هذا الإتجاه، وليس السعودية وحدها. ابتداء من المظلة الأمنية الأميركية/ القبة التي تغطي كل الخليج لمنع الصواريخ عنها (تشبة القبة الإسرائيلية أيضاً مع فارق أنها ممولة اميركياً في اسرائيل ومدفوع ثمنها مضاعفاً في الخليج!!)؛ وانتهاء بدفع أثمان باهظة لصفقات الباتريوت وغيرها؛ وكذا صفقات الطائرات وتجهيز القواعد التي تقطن فيها القوات الأميركية استعداداً لأي هجوم أميركي قادم سواء كان بحرياً قادماً من البحرين حيث مقر الأسطول الأميركي البحري الخامس، أو بحرياً قادماً من رأس مسندم من سلطنة عمان. أو كان الهجوم جوياً قادماً من القواعد الأميركية الأخرى من السيدية في قطر ومصيرة في عمان أو من قواعد الإمارات والكويت وقاعدتي الظهران والرياض السعوديتين.

(الحماة) و(المحميون)!

فالخطر ليس اسرائيل بل هو إيران، الذي يشاطئ النصف الآخر للخليج. وبالتالي فإن السلاح السعودي الأخير وما قبله ليس له سوى وجهة واحدة وهي إيران، والإستعداد مع الغرب بانتظار أية استراتيجية حرب قادمة.

السعودية ليست لها استراتيجية مختلفة عن الأميركيين؛ ولا تستطيع أن تفعل ذلك. فعدو أميركا هو عدوها؛ وصديق أميركا وحليفها سيكون حكماً صديقها وحليفها (كما هو الحال مع اسرائيل). اميركا قالت ان العدو هو إيران، وأن المعركة القادمة قد تكون مع ايران؛ وان اسرائيل جزء من منظومة امن المنطقة وشريكاً لدول الإعتدال.. لهذا جندت الأجهزة الإعلامية والتثقيفية لتغيير وجهة الصراع. ولقد نجحت ـ وبشكل جزئي ـ كل من السعودية واميركا واسرائيل عبر الإعلام وعبر الدعاية وعبر التحشيد من (شيطنة ايران) و (أنسنة الصهاينة).

وفي وقت هددت فيه ايران بانها ستقصف القواعد التي تنطلق منها القوات الأميركية لمهاجمتها، سارعت قطر والبحرين والكويت والإمارات فضلا عن عمان، وأعلنت بأنها لن تسمح ـ إن استطاعت!! ـ لتلك القوات من مهاجمة ايران من اراضيها. وحدها السعودية التي لم تعلن أنها لن تشارك في هذه الحرب في حال وقوعها، كما فعلت ذلك وأعلنت دول الخليج الأخرى. السعودية من بين كل هذه الدول هي التي تتحدث عبر صحافتها وتروج للحرب على إيران وتحرّض على ذلك، حتى ولو كان الهجوم اسرائيلياً صهيونياً. والغريب أن الوهابية تشارك في هذا التحريض وتتمناه، كما فعل محسن العواجي ـ الوسطي المزعوم ـ في مقابلة نشرت في يوليو الماضي في مجلة دير شبيغل الألمانية، حيث قال: إذا لم يكن هناك من سيقصف ايران فيتعين على اسرائيل ان تفعل ذلك!.

الظرف السياسي للصفقة يشير بوضوح الى وجهتها واستهدافها: هي موجهة لإيران، والإستعداد مع الأميركيين للهجوم عليها إن كان ذلك الهجوم مضمون النجاح.

يخلص من هذا: أن هذه الأسلحة غرضها الهجوم، وليس الدفاع. بمعنى أن ما يقال عن أن الأسلحة السعودية للدفاع عن نفسها، ليس دقيقاً هذه المرّة (نظرياً على الأقل). لأن التهديد بالحرب صادر من الجناح الأميركي السعودي الإسرائيلي. ولأن إيران ـ وكما هو معلوم ـ لا تمتلك طائرات حربية متطورة، حتى تلك التي صنعتها، ولذا فإن السعودية لا تتوقع هجوماً من ايران عبر الجو، ولا من البر حيث لا حدود برية بين السعودية وايران. ولأن بين إيران والسعودية بحر عريض نسبياً (في حدّه الأقصى 370 كيلومتراً/ والأدنى 55 كيلومتراً) فإنه لا يتوقع أن يكون سلاح البحرية الإيراني المتفوق حاسماً في المعركة (لوحده) هذا اذا ما وقعت اي معركة. ما يجعلنا نعتقد بأن المعادلة السعودية هي: طائرات اميركية تقصف في العمق الإيراني زائداً مظلة حماية اميركية وكل ذلك مقابل منظومة الصواريخ الإيرانية. ومعلوم ان منظومة الصواريخ الإيرانية طابعها دفاعي، وجاءت بديلاً عن الطيران الحربي، حتى أنها سميت بـ (سلاح الفقراء) وغرضها إيذاء الخصم في حال تم الهجوم على الداخل الإيراني.

الأسلحة السعودية هي على الأرجح جزء من استراتيجية الحرب الغربية الإسرائيلية على إيران يشارك فيها عرب الإعتدال، خاصة في الخليج، إما برضاهم ودعمهم وبحماستهم كما هو الحال مع السعوديين التائقين الى الحرب؛ وإما بغير رضاهم كما هو الحال مع الكويت وقطر وعمان بالتحديد!

السادسة ـ وتتعلق بثنائية الحماية الأجنبية والحاجة الى التسلّح

الإعتماد على الحماية الأجنبية وشراء الأسلحة أمران يبدوان متناقضين. فإما أن تعمل السعودية على بناء جيش يدافع عنها وضمن استراتيجيتها وعقيدتها القتالية؛ وإما أن تعتمد على الحماية الأجنبية. وكلا الخيارين له متطلبات سياسية محددة.

من يعتمد على الحماية الأجنبية يدفع ثمنها للحامي من ماله وسيادته ومواقفه السياسية، ويجد نفسه مجبراً أن ينخرط في الإستراتيجية الأكبر للولايات المتحدة والغرب الذي يوفر الحماية والذي يقرر بالنيابة عنه من هو العدو، ومن هو الصديق، وهو الذي يختار وقت الحرب والسلم وكيف يكونا.

أما من يعتمد على ذاته، فلا ينظر ـ خاصة لبلد بحجم السعودية ـ الا الى قواه الخاصة البشرية والمالية والعلاقاتية، وضمن هذا فإنه بإمكان السعودية ان تصنع جيشاً، ولكن عليها أن تصبح سيّدة نفسها، وتتحمل الضغوط المتأتية لخياراتها السياسية. لن تجد السعودية وفق أي منطق ـ في حال اعتمدت على حماية نفسها ـ إلا في الجبهة المعادية لإسرائيل؛ ولن تجد نفسها يوماً بوابة للحرب على العراق وأفغانستان كما حدث؛ ولن تجد السعودية في هذه الحالة نفسها مجبرة على الدخول في مشاريع أمريكا واسرائيل وخططهما للحرب ضد إيران. ولا يمكن أن يكون الموقف السعودي في حال اعتمدت سياسة الإعتماد على الذات، واقفاً الى جوار اسرائيل في حرب تموز 2006.

السعودية اختارت الحماية الأجنبية، ولذا فهي لا تثق في جيشها إلا في القضايا المحدودة. ولقد تعهدت أميركا بحماية السعودية منذ الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي، ولاتزال أميركا ملتزمة. وثمن الإلتزام تدفعه السعودية من مالها وسمعتها ومواقفها، وربما تدفعه في حروب قادمة من دماء شعبها، كما دفعته من دماء شعوب المنطقة العربية والإسلامية: العراق، اليمن، أفغانستان، إيران، لبنان.

خيار الحماية الأجنبي، يفترض أن الحامي الأميركي يأتي بسلاحه ورجاله ويعسكر في قواعد السعودية او قريباً منها في الخليج لمواجهة مصادر الخطر التي يتهدد آل سعود وبالتالي مصالح الغرب. وعلى السعودية في تلك الحالة ان تدفع الجزية وفق نظام محدد! اما الآن فالسعودية تدفع ثمن السلاح إضافة الى ثمن الحماية/ الجزية بطرق التفافية، فالقواعد تستخدمها اميركا ان احتاجت كما فعلت في الحروب السابقة مع العراق؛ والأسلحة واللوجستيك يستخدمه الأميركي مباشرة، ولكن السعودية تدفع كل هذا ابتداء على شكل صفقات.

ترى ماذا لو كان قرار وعنوان الصفقة السعودية التسلحية الأخيرة هكذا: (السعودية توقع عقداً مع الولايات المتحدة لحمايتها لمدة خمس سنوات، بقيمة 60 مليار دولار)؟!

الصفحة السابقة