ملفات ما بعد الإنسحاب من العراق

التعاون الأمني الأميركي السعودي

فريد أيهم

هذه الاتفاقية العسكرية لا تخدم في جوهرها أي غرض بناء، خصوصاً أن أساسها هجومي بامتياز، كما أن المقاتلات التي نصت عليها لن تعالج التهديد المحتمل الذي تشكله الصواريخ الإيرانية، فضلا عن كونها حجة إضافية تدفع طهران إلى تطوير أسلحتها النووية. أما في حال استخدام الرياض للأسلحة الأميركية في ضربات ضد الإرهابيين والجماعات الانفصالية في شمال اليمن، فإن الأمر سيأتي بنتائج عكسية، تثير المشاعر ضد الرياض ومشاكلها الأمنية الحدودية

ويليام هارتونغ، مدير مبادرة الأسلحة والأمن

معادلة النفط مقابل الحماية حكمت العلاقات الاستراتيجية بين الإدارات الأميركية المتعاقبة والنظام السعودي منذ التأسيس سنة 1932، وستبقى المعادلة قائمة حتى إشعار آخر. فثمة ما يضفي جدارة على استمرار التعاون الأمني وفق نظام المقايضة النفط مقابل الحماية. لا يمكن فصل الترليون ريالاً (280 مليار دولار)، وهو إجمالي الحقيبة الاستثمارية التي عرضتها السعودية على واشنطن في إبريل الماضي عن المعادلة تلك، تماماً كما هو شأن الإتفاقيات الأربع التي جرى توقيعها في أواخر عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، والتي وضعت إحداها تحت مسمى (إتفاقية تعاون تقني وعلمي) طويلة المدى والتي وقّعت في الرياض في 2 ديسمبر 2008. ورغم أن الأنباء التي تسرّبت بقصد حول الإتفاقية عرضت صورة متشظيّة من قبيل (الاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية) والتي جاءت بعد إبرام اتفاق خلال زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الى الرياض في وقت سابق. وقد أشار الأمير تركي بن سعود نائب رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لمعاهد البحوث أن (الإتفاقية تغطي جميع المجالات، بما فيها مجال الطاقة الذرية). وذكر أيضاً بأن الإتفاقية عالجت موضوع (الإلتزامات الأمنية في نقل التقنية الحساسة بين المؤسسات الحكومية والجهات الأكاديمية والقطاع الخاص في مجالات العلوم والتقنية) بين واشنطن والرياض. وقد طرحت في السياق نفسه موضوعة (الحماية). وكانت كلوديا مكمري، مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس قد ذكرت في 2 ديسمبر 2008 بعد مراسم التوقيع على إتفاقية التعاون بأن الاتفاقية (تمتد لـ 10 سنوات قابلة للتمديد).

في مقاربة بعد الإعلان عن صفقة التسلّح بين الرياض وواشنطن في سبتمبر الماضي، يضيء أنتوني كوردسمان في بحث نشره في 15 سبتمبر الماضي حول (التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والسعودية وانعكاسه على مبيعات الأسلحة الاميركية) بأن التعاون الأمني السعودي الأميركي أصبح بما لا يدع مجالاً للتردد على درجة كبيرة من الأهمية بلحاظ قيام إيران بزيادة قدراتها الحربية في المنطقة، وزيادة قواتها الصاروخية بعيدة المدى، وتحرّكها ناحية القدرة على بناء وحشد الأسلحة النووية. ويضيف كوردسمان عوامل أخرى وهي: الإرهاب، والتعامل مع ضعف العراق وغياب قيادة سياسية في هذا البلد، ومشاكل اليمن، وعدم الاستقرار والقرصنة في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

الولايات المتحدة تبقى بحاجة الى كل الأصدقاء التي يمكنها العثور عليهم في الخليج. والسبب أنها تواجه ارتيابات خطيرة في إعادة تشكيل المشهد الأمني في المنطقة في وقت تغادر فيه قواتها العراق. ويشمل ذلك الموقف السياسي المستقبلي غير الثابت في العراق وكذلك الحكومة فيه، وعدم القدرة على التنبؤ بأفعال إيران وحلفائها، والحصاد غير المؤكّد من عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية، والارتيابات المتربّصة بنجاح أو فشل الصراعات في أفغانستان وباكستان.

طائرة اف – 15 للسعودية

ما تومىء إليه هذه الصفقة، وربما صفقات أخرى سابقة ولاحقة، بأن ثمة خطة لإعادة تشكيل الموقف الاستراتيجي الأميركي في الخليج تكون فيه السعودية محوّراً رئيسياً. يلفت كوردسمان الى أن من بين عوامل أخرى عديدة، ليس هناك وضع نهائي محتمل بالنسبة للوجود الأميركي في المنطقة، وليس هناك كذلك نهاية للحاجة لروابط أمنية أميركية قوية مع السعودية وأيضاً الدول الصديقة الأخرى في المنطقة.

يفرض ذلك على الولايات المتحدة إعادة تشكيل موقفها العسكري في الخليج، في وقت تقوم فيه بالانسحاب من العراق، وأيضاً إعادة تشكيل قدرات القوة الممكنة وخطط الطوارىء لديها. يلزم عليها تشكيل موقف القوة لديها وتعاونها مع الحلفاء الإقليميين وأن تصبح أكثر فاعيلية في الحروب المختلطة، وفي طيف الصراعات التي تتراوح بين الحرب الخفية أو حروب النياية والدفاعات الصاروخية طويلة المدى، وتمتد الى تشخيص الجانب العسكري من الردع الإقليمي في حال أصبحت إيران قوة نووية وإعطاء حلفائها حافزاً على عدم اكتساب أسلحة نووية وصواريخ بعيدة المدى.

وتبقى إيران التحدي البارز. فهي تفرض وبعمق تنافساً استراتيجياً مع الولايات المتحجدة واصدقائها وحلفائها في المنطقة. فهي من وجهة النظر الأميركية تطوّر بصورة ثابتة قدرات أفضل لمهاجمة البواخر، والأهداف في الخليج، والاهداف في السعودية والساحل الجنوبي للخليج، وتستعمل حرباً غير متماثلة في القيام بذلك. وتقوم إيران ببناء قوات صاروخية بعيدة المدى، وقد تكتسب أسلحة نووية.

هذا ما تقوم عليه الرؤية الأميركية، والتي من شأنها تبرير على الاقل أمام الكونغرس وأمام قوى الضغط الرافضة لبيع أسلحة متطوّرة للسعودية والتي قد تؤول الى انتقال جزء منها في أيدي جهات متطرّفة. ولذلك، تفترض هذه الرؤية أن محاولة الولايات المتحدة ردع القوى الإقليمية من امتلاك السلاح النووي في رد فعل على ايران، وتقديم (ردع إقليمي ممتد) باعتباره خياراً ناجعاً، فيجب عليها أن تقدّم ذلك على أنه الأفضل لخلق شركاء إقليميين فاعلين في الخليج وكذلك محاولة بناء شراكة إستراتيجية مع العراق.

في الوقت نفسه، لا الولايات المتحدة ولا حلفاؤها في الخليج لديهم أي سبب وجيه للبحث عن مواجهة مفتوحة مع ايران. وهذه حقيقة خصوصاً بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي. (تكلّم بلطف واشهر العصا الغليظة) ليس قولاً عربياً مأثوراً، بل هو قول لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشرشل، والقادة العرب طالما مارسوه مع نجاح مقبول.

تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على بعض الدعم من حلفائها مثل بريطانيا وفرنسا، ولكن تبقى الحقيقة بأنها لا بد أن تعتمد على السعودية ودول الخليج الأخرى. فالقوات نفسها التي جعلت الولايات المتحدة والسعودية شركاء أساسيين في الأمن الخليجي ستصبح أكثر أهمية في المستقبل.

في الرؤية الأميركية أيضاً، أنه وبصرف النظر عن جهود العراق لتشكيل حكومة جديدة، فإنه لن يصبح قوة عسكرية إقليمية رئيسية مرة ثانية لمدة عقد على أقل تقدير. وإذا ما أرادت الولايات المتحدة أن يكون لديها شريك إستراتيجي رئيسي في الخليج، فسيكون السعودية.

وبحسب تصوير الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في إفغانستان، وآخرين، فإن الحرب ضد الإرهاب والتطرّف ستكون طويلة، ومن المحتمل أن تستمل لعشر أو عشرين سنة قادمة. منطقة الخليج ستكون أحد المراكز لهذه الحرب. وأن القاعدة لن تختفي فجأة، وأن تنظيمات جديدة ستبرز على السطح. دول مثل اليمن والصومال تشكّل مخاطر على المدى الطويلة والتي قد تصبح مراكز لنشاطات إرهابية.

تواجه الولايات المتحدة ضغوطات للحد من إنفاقها والتزاماتها العسكرية، ولديها إحتياجات متزايدة لحلفاء إقليميين مع قوّات قوية لردع واحتواء التهديدات الإقليمية والمحاربة إلى جانب القوات الأميركية في حال الضرورة.

قد يكون أو لا يكون ممكناً التحرّك بسرعة في إتفاقية سلام إسرئيلية ـ فلسطينية، ولكن من الضروري تقليص التوتّرات بين حلفاء الولايات المتحدة والدولة العبرية. فخطة الملك عبد الله للسلاح قد تختلف بصورة حادة مع الموقف الإسرائيلي، ولكنها تكشف عن أن الولايات المتحدة تستطيع بيع أسلحة للسعودية في ظل خطر ضئيل لانعكاس ذلك على الأمن الإسرائيلي. في الحقيقة، تقدّم الروابط الأمنية الأميركية القوية مع السعودية للكيان الإسرائيلي بديلاً أفضل بكثير من أن تتوجّه السعودية الى مزوّدين أوروبين أو غيرهم ومساءلة دعم الولايات المتحدة في حال واجهت أزمة مع ايران.

الحاجة الى التعاون السعودي الأميركي

لا ريب أن لدى السعودية أسباب وحوافز قوية تدفعها للحفاظ بل وتعزيز التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، وبناء قواتها للردع والدفاع ضد الخصم الافتراضي الجديد المتمثل في ايران، بعد أن تم استبعاد (اسرائيل) من قائمة الأعداء، وكذلك التهديات الكامنة. الولايات المتحدة هي الأخرى تواجه نفس التحديات والتهديدات، وتحتاج الى حليف قوي، وتواجه الكثير من الارتيابات الاستراتيجية. وأكثر من ذلك، ليس هناك من بديل إقليمي موضع ثقة.

طائرة اف ـ 35 لإسرائيل

مجلس التعاون الخليجي أحدث تقدّماً، ولكن دول الخليج الجنوبي بصورة مستقلة لم تحقق سوى نجاح محدود في بناء قوات مقتدرة عملياتياً، وخطط دفاعية متكاملة، وأنظمة قيادة وسيطرة، وقوات مهيّأة للمهمات الأساسية التي لها دور فاعل في مجالي الردع والدفاع.

دول الخليج تنفق مجتمعة عشرة أضعف ما تنفقه إيران على قواتها العسكرية ووارداتها من الأسلحة، ولكن النتائج النهائية غالباً ما تكون قوات متشظيّة، استعراضية وتقتصر على كونها رموز لـلـ (بريستيج) القومي ومنقسمة على نفسها بسبب الخلافات القومية (المرتبطة بالدول).

وتدعم الولايات المتحدة والسعودية تركيبة أمنية واسعة وفاعلة وكذلك الجهود لخلق تعاون أمني أكثر حيوية بين دول الخليج على الشطر الجنوبي. بالرغم من ذلك، فإن التوازن العسكري الخليجي في جوهره هو توازن عسكري أميركي ـ إيراني مدعوم من قبل القوات السعودية وبإسناد من دول الخليج الأخرى بصورة افرادية. يزعم كوردسمان بأنه (كما كان الحال منذ سقوط الشاه، فإن السعودية هي (العمود) ذو المعنى في التعاون الأمني الخليجي. القوات الجوية السعودية هي القوة الأساسية الحديثة، وأن البحرية السعودية تنمو من حيث القدرة. القوات البرية السعودية هي الأخرى قادرة على الدفاع عن المملكة ضد أي تدخل إختراق أو غارات).

لا يبدو أن كوردسمان يقدّم قراءة متوازنة في هذا السياق، بالنظر الى التجارب التي مرّت بها السعودية خلال العقدين الماضيين والتي اعتمدت فيها السعودية على القوات الأميركية بأشكال مختلفة ومن بينها الحضور العسكري المباشر على الأراضي السعودية بهدف الدفاع عن احتمالات وقوع أراضيها تحت الاحتلال من قبل قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين في أغسطس 1990. كما لم يقرأ جيداً أداء القوات السعودية خلال حرب اليمن، والتي فقدت فيها السعودية مواقع عسكرية استراتيجية في منطقة الجنوب تحت سيطرة الجماعات الحوثية بأسلحة تقليدية وبدائية إلى حد كبير بالقياس الى الاسلحة المتطوّرة التي تمتلكها القوات السعودية.

على أية حال، تبدو مقاربة كوردسمان متشظية لناحية افتقارها لمعطيات واقعية، وكونها تتجاهل في أحيان كثيرة القدرات الحقيقية للقوى الإقليمية، والأهم من ذلك أن مقاربته تتعارض مع مقاربات سابقة قدّمها كوردسمان في السياق نفسه. على سبيل المثال، نشر كوردسمان تقريراً، بالتعاون مع آخرين، في مايو الماضي بإسم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بعنوان (الميزان العسكري في منطقة الخليج)، يدور حول نقطة مركزية: أن دول الخليج العربي وتحديداً قطر وعمان والإمارات، قلقة من تنامي النفوذ السعودي في المنطقة. وذكر التقرير أن مجلس التعاون الخليجي يعتبر واجهة براقة أكثر منه قوة حقيقية، لأنه يفتقد التعاون الفعال في كل المجالات، خاصة العسكرية منها.

وأوضح كوردسمان المحرر الرئيسي للتقرير، والمتخصص في شئون الشرق الأوسط والمقرّب من دوائر صنع القرار في أمريكا، أن هناك 5 قوى رئيسية تتحكّم في التوازن العسكري بمنطقة الخليج، وهي: العراق، إيران، وأمريكا كقوى خارجية، إلى جانب قوتين غير رسميتين (باعتبارهما جماعات) وهما تنظيم القاعدة وميليشيات المهدي.

وأشار التقرير بالنسبة للعراق، أنه لا يستطيع خوض حرب ولن يكون لديه قوة عسكرية إلا بعد مرور 3 أو 5 سنوات. وفي المقابل، تمتلك إيران قوة عسكرية ونووية تساعدها على الدخول في حرب بسهولة، لكنها تواجه مشكلة في تركيبة جيشها وخاصة القوات البرية التي يصعب الإعتماد عليها في أي مواجهة عسكرية مع جيش نظامي. أما القاعدة وميليشيا المهدي، فقد أكد التقرير على دورهما المحوري فيما يتعلق بالأوضاع الأمنية في المنطقة، لكن لا تزال قدراتها العسكرية محدودة حتى الآن.

في المقابل، نوه التقرير إلى أن أمريكا لا تزال تتحكّم بشكل كامل في ميزان القوى العسكرية في الخليج، وتشاركها حليفتها البريطانية، مستنداً على ذلك بقوات المشاة الأمريكية التي تتحكّم بشكل كامل في العراق وأفغانستان، لكنها في الوقت نفسه غير قادرة على خوض حرب العصابات التي تواجهها بين الحين والآخر في العراق وأفغانستان.

ويوضّح التقرير أن الحرب الأمريكية على العراق واستمرار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ساهما بشكل كبير في خفض شعبية الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، لكن استطاعا أن يجعلا كلاً من البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات، تنجح في العثور على بدائل أكثر فعالية من الاعتماد على أمريكا، في إشارة إلى إبرام إتفاقيات عسكرية وصفقات تسليح مع بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وفيما يتعلق بالقدرات العسكرية لدول الخليج، فقد أشار التقرير إلى أن معظم دول الخليج ركّزت على تدعيم قدراتها الدفاعية من خلال الحصول على صواريخ سام القصيرة والمتوسطة والطويلة المدى، لكنها بدأت مؤخرا في الاهتمام بأجهزة الاستشعار وأجهزة المخابرات، والقدرات اللازمة للاستطلاع الجوي والدفاع الصاروخي. أما بالنسبة للعراق، فأكّد التقرير أن عملية تطوير القوات العراقية تتحكم فيها أمريكا بشكل كامل، ولن تستطيع بغداد التخلص من هذه الحالة، إلا عبر توحيد البلاد والقضاء على الميلشيا المسلحة والعناصر الإرهابية.

كوردسمان: تحليلات عسكرية حسب الطلب!

وبالنسبة لإيران، يعتبر التقرير أن مستقبل قواتها يبدو غامضاً، فبالرغم من إظهار قدرتها على امتلاك أسلحة وتكنولوجيا متقدمة من الصين، وكوريا الشمالية وروسيا، لكن تظل إمكانية الاعتماد على جيشها النظامي في أي مواجهة عسكرية يحتاج إلى إعادة تقييم.

تلك كانت مقاربة كوردسمان قبل ثلاثة شهور، ولربما جاءت صفقة السلاح مع السعودية بأثمانها الباهظة لتدفع كوردسمان الى تعديل المقاربة وتوفير مبررات إبرامها باعتبارها جزءً من اتفاقية تعاون استراتيجي بين واشنطن والرياض، وأطراف أخرى.

لا شك أن الصفقة الفلكية استحضرت قصص التسلّح المثيرة للجدل بين السعودية والغرب. فمن العام 1985 الى 2010 قصة صفقة قرن مضى، أطلق عليها إسم (اليمامة) حصدت من المال العام ما يقرب من 60 مليار دولار أميركي، وقد جرت بين لندن ممثلة في رئيسة الوزراء الحديدية مارجريت ثاتشر والرياض ممثلاً في الملك الحديدي فهد، تماماً على خلاف صفقة القرن الجديد التي تجري بين الرياض ويقودها ملك صوري عبد الله بن عبد العزيز وواشنطن ويقودها رئيس هو الآخر صوري بارك أوباما، بقيمة 60 مليار دولار..هل ثمة ما يبعث سؤالاً حول التطابق بين الصفقتين؟

أي خبير استراتيجي يقرأ جيداً ملف التسلّح السعودي ينقاد حكماً إلى السؤال التقليدي: ماهي أهداف صفقات التسلّح السعودية والتي تتم بأسعار خيالية؟ سؤال لم يعد، بطبيعة الحال، حكراً على الخبراء الاستراتيجيين، وإنما تنزّل الى المواطن العادي الذي يثير سؤاله اليومي: لماذا لا ينفق عشر موازنة التسلّح على رفاهية الشعب الذي يُنادَى بإسمه، وتنفق الأموال بدعوى الدفاع عنه، وبالتالي: ما قيمة السلاح إذا لم يكن هناك من يحمله، أو ليس هناك ما يمكن الدفاع عنه؟

يتفق الخبراء الاستراتيجيون ـ الغربيون منهم على وجه الخصوص ـ بأن طلبات دول الخليج من شراء الأسلحة الأميركية والتي بلغت بحسب ما هو معلن قيمة 123 مليار دولار، منها صفقات بقيمة 60 مليار دولار للسعودية، ليست عسكرية محض، شأن صفقة (اليمامة) التي أبرمتها السعودية مع بريطانيا العام 1985. ومن عجائب صفقات الأسلحة السعودية منذ منتصف السبعينيات وحتى اليوم أنها لم تدخل ساحة قتال قط، فهي تدخل الخدمة الاستعراضية فحسب، بحضور الملك وولي عهده وعدد من الأمراء والقادة العسكريين للاستمتاع بمشاهدة الحركات البهلوانية التي تقوم بها مقاتلات (سلاحنا الجوي)!

نعم، جرى استعمال الطائرات الحربية السعودية من قبل الطيّارين الأميركيين في حرب الخليج الثانية في مهاجمة مواقع الجيش العراقي، وجرى استعمالها أيضاً مؤخراً في الحرب ضد الحوثيين (وكان انتصاراً مبيناً استعمال الطائرات الحربية ضد المدنيين وعناصر قتالية لا تملك وسائل دفاعية فيما الميدان على الأرض يخلو من المقاتلين..). ولكن هل هذا يستوجب تدجيجاً بهذا الحجم الخرافي من السلاح، ولمَ؟ وفي مقابل من؟ خصوصاً وأن السعودية تدعو في الليل والنهار الى التطبيع مع الدولة العبرية، بل هي تسير في خيارها التطبيعي بوتيرة تفوق حتى الدول العربية التي وقّعت معاهدات تسوية مع الكيان الاسرائيلي.

نعم هناك خبراء استراتيجيون يعملون بحسب نظام (ساعات العمل)، ويقدّمون مبررات لتلك الصفقات الخرافية بكونها ذات فائدة، وهؤلاء في الغالب ينتمون الى مؤسسات ومراكز تفوح من تقاريرها رائحة النفط السعودي.

استطلاع أجراه (مجلس العلاقات الخارجية) لرأي عدد من الخبراء الاستراتيجيين، خلص ثلاثة من بين أربعة منهم الى اعتبار الصفقة الأميركية الأخيرة مع السعودية مفيدة. للإشارة قبل مناقشة آراء هؤلاء الاستراتيجيين، أن من يتتبّع مسيرة (مجلس العلاقات الخارجية) يجد أن اختياراته للموضوعات ذات طابع انتقائي، ونادراً الى حد العدم العثور على موضوع حول السعودية في قائمة الموضوعات التي يناقشها المجلس، أو يشير إليها، وكأن دوره مكرّسٌ لإثارة قضايا الكون كله باستثناء السعودية، بهدف، ربما، صرف الأنظار عنها، فيما تنال الموضوعات المخصّصة للشأن الإيراني حصة الأسد.

نعود لآراء الخبراء الاستراتيجيين، بحسب ما نقلتها صحيفة (السفير) البيروتية في 30 سبتمبر الماضي:

1 ـ يقول انطوني كوردسمان، الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، بأن عملية بيع أسلحة أمر منطقي من حيث المصالح النفطية الأميركية، ومن حيث الحاجة الأميركية لحليف وثيق في المنطقة يخفف العبء عن الجيش الأميركي، بالإضافة إلى دور ذلك في وقف سباق التسلح النووي في المنطقة. ويضيف: تتلاقى الولايات المتحدة والسعودية عند مصالح استراتيجية حاسمة تترجم بصفقات بيع الأسلحة:

أولا ـ رغم الحديث عن استقلالية الطاقة على مدى العقود الأربعة الماضية، تقدر وزارة الطاقة الأميركية أن واشنطن ستعتمد استراتيجياً على النفط المستورد مع حلول عام 2035 كما هي الحال اليوم. لذا فإن استقرار صادرات الطاقة في الخليج أمر بالغ الأهمية لاقتصادنا ولكل وظيفة في الولايات المتحدة.

هارتونغ: التحذير من سباق التسلح

ثانياً ـ إن للولايات المتحدة قوة عسكرية محدودة، غير أنها والسعودية تستطيعان مواجهة التهديدات بسرعة. من هنا حاجة واشنطن إلى حلفاء أقوياء في المنطقة وقوات قادرة على مساندة نظيرتها الأميركية. إن إيران تشكل قوة بحرية ـ جوية ضخمة تقلق دول الخليج، وفي وقت لا توجد قوة منافسة لها بعد الغزو الأميركي للعراق، تبقى السعودية القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على إحداث نوع من التوازن على هذا الصعيد.

ثالثاً ـ تشكل إيران تهديداً صاروخياً وكيميائياً وحتى نووياً خلال 3 إلى 5 سنوات، بالنسبة إلى الخليج، لذا تعمد السعودية عبر تعزيز قوتها الدفاعية بصواريخ باتريوت إلى إنشاء نهج متكامل من الدفاع الجوي والصاروخي، بالإضافة إلى القبول بعروض الأسلحة الأميركية التي تساهم في "الردع الإقليمي الموسع" وبالتالي إنشائها سلاح الجو الأكثر تهديداً لإيران.

رابعاً ـ إن اقتراح حزمة من الأسلحة الأميركية على السعودية يخلق مستوى من الترابط بين الجانبين، ما يعطي كلا من الحكومة السعودية الحالية والحكومات التي ستعقبها على مدى السنوات العشرين المقبلة حافزاً قوياً للتعامل مع الأميركيين، خصوصا أن الرياض بحاجة ماسة إلى دعم أميركي متواصل يؤمن استمرارية نظامها.

وبالنظر الى النقاط التي أثارها السيد كوردسمان، فإنه وباستثناء النقطة الرابعة، ليس هناك ما يعزّز أي دعوى أخرى وخصوصاً النقطة المتعلّقة بدور استراتيجي للسعودية على المستوى الإقليمي لناحية تحقيق توازن في مقابل القوى المناهضة للولايات المتحدة، بدليل فاقع أن هذه القوة المزعومة لم تصمد في مقابل جماعة الحوثيين رغم قلة عددها وعتادها، فكيف بها ستصمد في مقابل قوى إقليمية عظمى مثل ايران.. والحال أن الفلسفة الاستراتيجية السعودية قائمة على مقايضة الحماية بالنفط، وأن أحد أبرز تظهيرات الحماية هو شراء السلاح من الولايات المتحدة. وكل شيء يأتي بعد هذه الفلسفة تفاصيل مملّة، لأن الواقع التاريخي يكشف عن انعدام العلاقة بين السلاح ووظيفته العسكرية (الدفاعية والهجومية) في هذا البلد.

2 ـ ويليام هارتونغ، مدير مبادرة "الأسلحة والأمن" في مؤسسة "أميركا الجديدة"، يخالف كوردسمان الرأي، محذراً من إشعال الصفقة لسباق تسلح في المنطقة. ويرى أن (الصفقة المقترحة مربحة للجانبين، إذ تحصل الولايات المتحدة بموجبها على نافذة مهمة لتوسيع فرص التوظيف، في وقت ترتفع فيه معدلات البطالة إلى مستويات عالية في أميركا، فيما تحصل السعودية على فرصة لتعزيز قواتها العسكرية على أن لا يتأثر بذلك تفوق إسرائيل).

ويضيف: (إذا كان المدافعون عن الصفقة يرون أنها ضرورية لكبح جماح إيران فإن الحقيقة أكثر تعقيداً. إذا كان التوظيف هو وراء صفقة ضخمة من هذا النوع فإن هذا المعيار بالذات لا يستحق مثل هذه المجازفة. يجب أن تتقدم قضية الأمن على كل شيء، لذا هل من المعقول ضخ السلاح إلى السعودية وإسرائيل على التوازي من دون إطلاق سباق تسلح في الشرق الأوسط؟ وهل باستطاعتنا السيطرة على إيران بتسليحنا السعودية، أم أن الأمر سيدفعها باتجاه تطوير قدراتها العسكرية الخاصة أكثر؟ إن على الكونغرس كما الشعب الأميركي التفكير ملياً قبل التوقيع على ما قد يكون مدخلاً جدياً لسباق التسلح في الشرق الأوسط، وبالتالي الإجابة على السؤال الأهم: هل يعاني الشرق الأوسط فعلا من قلة الأسلحة المتطورة؟).

ويعتبر هارتونغ أن (هذه الاتفاقية العسكرية لا تخدم في جوهرها أي غرض بناء، خصوصاً أن أساسها هجومي بامتياز، كما أن المقاتلات التي نصت عليها لن تعالج التهديد المحتمل الذي تشكله الصواريخ الإيرانية، فضلا عن كونها حجة إضافية تدفع طهران إلى تطوير أسلحتها النووية. أما في حال استخدام الرياض للأسلحة الأميركية في ضربات ضد الإرهابيين والجماعات الانفصالية في شمال اليمن، فإن الأمر سيأتي بنتائج عكسية، تثير المشاعر ضد الرياض ومشاكلها الأمنية الحدودية).

يبدي هارتونغ قدراً كبيراً من التحليل الواقعي لأبعاد الصفقة والمداليل التي تعكسها على نظام الأمن الإقليمي، وإن استعمال كلمة (سباق) يبدو دقيقاً الى حد كبير كون القضية لا تقتصر على كبح جماح طرف وتوفير الضمانات لطرف آخر، فالعملية تبدو طردية فكلما ازداد مستوى التسلّح لدى طرف فمن الطبيعي أن يدفع ذلك الطرف الآخر، الذي يشعر بالتهديد والخطر الى زيادة قدراته العسكرية وتطويرها. ولكن ما لايجب إغفاله، أن النقاش يصبح عسكرياً حين تكون صفقة التسلّح ذات طابع عسكري، رغم ما أشار إلى ذلك هارتونغ من كون الصفقة أحد حلول مشكلة البطالة في الولايات المتحدة. أضف الى ذلك، أن الصفقة لا تنطوي على بعد ردعي لا للصواريخ الإيرانية، ولا يمكن استعمالها بشكل كثيف ضد الجماعات القتالية التي تعتمد الأساليب غير التقليدية في الحرب مثل الحوثيين أو حتى القاعدة، ما يعني أن الصفقة تفقد كثيراً من أهدافها المعلنة، وخصوصاً الدفاعية أو الردعية.

3 ـ لورين تومبسون، محلل الشؤون العسكرية في معهد (لكسنغتون) في فرجينيا، اعتبر أن (الكونغرس سيدقق في صفقة السلاح للتأكد من أنها لا تهدد إسرائيل أو تزعزع الاستقرار في المنطقة. فرزمة الأسلحة تأتي لتحقق نوعاً من التوازن بين الاحتياجات السعودية العسكرية والمخاوف الإسرائيلية، فضلاً عن إقامتها توازناً استراتيجياً ضد القوة الإيرانية).

ولا يرى تومبسون (خطراً كبيراً على إسرائيل في هذه الصفقة المقترحة. أما بالنسبة لإيران، فإن الأمر يمثل رادعاً قوياً لها لأنه ليس هناك أي شيء في ترسانة طهران الحالية يمكّنه التعامل مع أحدث مقاتلات "اف 15" أو المروحيات. فطراز المروحيات المدرج في الصفقة هو من الأكثر فعالية في العالم، ولكن يمكن صدها بسهولة من قبل الطائرات الإسرائيلية إذا ما أرسلت يوماً ضد الدولة العبرية، من هنا الخطر البسيط على إسرائيل من عقد مثل هذه الصفقة).

سبمسون: الصفقة تردع ايران ولا تضر اسرائيل

وكلام تومبسون يبدو هو الآخر واقعياً، لجهة نفي تهديد الصفقة للأمن الاسرائيلي، لأنه لا يمكن أن يوقّع الرئيس الأميركي على صفقة عسكرية تنطوي ولو بنسبة ضئيلة للغاية على خطر للكيان الاسرائيلي، فضلاً عن أن الصفقة لن تمرّ عبر الكونغرس الذي يكاد يصبح إحدى جماعات الضغط الإسرائيلية في الدورتين الأخيرتين على الأقل. أما أن تكون هذه الصفقة تمثّل رادعاً قوياً لإيران بفعل تقدّم مقاتلات (إف 15)، فذاك بحاجة الى أكثر من دليل عملي، ليس فقط لأن التجربة الطويلة لا تشير الى أن السعودية لم تستعمل صفقات شراء الأسلحة كوسائل ردعية، بل وأيضاً لأن ثمة ما هو مجهول في مصادر قوة إيران العسكرية. نشير هنا الى أن طائرات اف 15 تمّ تسليمها سابقاً الى السعودية في سنوات سابقة، ولكن ما جرى لاحقاً هو بيعها نفس الطائرات ولكن جرى إدخال تحسينات عليها، فيما لم تحصل السعودية على طائرات اف 16 التي يملكها الكيان الإسرائيلي، مع ان هذه الطائرة حصلت عليها البحرين في مايو 1990، فيما لا يزال هذا النوع من الطائرات محظوراً بيعه للسعودية.

4 ـ غريغوري غوز، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة (فيرمونت) الاميركية، اعتبر أن (بيع الأسلحة إلى السعودية لن يوفر الكثير من الأمن على المدى الطويل في منطقة الخليج. ولكن لا توجد في الوقت ذاته أسباب وجيهة لعدم تمرير هذا الاتفاق العسكري، خصوصا أن هناك بعض النتائج الإيجابية المحتملة التي قد تتمخض عن ذلك، إلى جانب الفوائد الاقتصادية للولايات المتحدة، والنفوذ الأميركي على الرياض وقضايا الانتشار النووي).

ويضيف إن (التحدي الإيراني الإقليمي يقوم على الروابط السياسية والعقائدية مع دول مهمة وجهات فاعلة في المنطقة: حزب الله وحركة حماس، الأحزاب العراقية المختلفة، النظام السوري، الشيعة الناشطين في دول الخليج. من هنا، فإن أفضل الطائرات المقاتلة والمروحيات الهجومية لن تساعد السعوديين على احتواء أو الحد من هذا النوع من التأثير الإيديولوجي الإيراني. فإذا وثق السعوديون من ضمان أمنهم من خلال دعم الأميركيين لهم والمبيعات العسكرية الكبيرة والالتزام الأميركي بصون أمنهم، فإن هذه الثقة بالذات ستلزم الرياض بالخضوع للمشورة الأميركية بعدم امتلاك أسلحة نووية).

يميّز غوز بين الامن والاقتصاد في هذه الصفقة، ويرى بأن الأخيرة لا تحقق الأمن بقدر تحقيقها لمكاسب اقتصادية وأخرى استراتيجية لارتباطها الوثيق بالنفوذ الأميركي في المنطقة. وفيما يرتبط بما يعتبره تهديداً إيرانياً يضع غوز المسألة في سياق أبعد من كونها ذات طبيعة عسكرية بل ترتبط بأبعاد سياسية وأيديولوجية، وهو صحيح الى حد ما، خصوصاً بالنسبة للسعودية دون بقية دول المنطقة، والسبب ببساطة أن النظام في السعودية محكوم في نظراته ومواقفه السياسية الى البعد الأيديولوجي.

ولكن ثمة نقطة على درجة هامة لفت إليها غوز وهي تضعف من جهة مبرر إبرام صفقة بهذا الحجم الخيالي، حين ربط أمن النظام السعودي واستقراره بالدعم الأميركي، وذاك وحده الذي يمكن أن يحقق اطمئناناً متبادلاً، فمن جهة تضمن الولايات المتحدة إستقرار ووحدة النظام السعودي من خلال توفير الدعم العسكري له ودرء المخاطر المحدقة به، ومن جهة ثانية إلتزام الرياض بعدم الحصول على أسلحة نووية تهدّد الأمن الإسرائيلي والمصالح الحيوية الأميركية. وفي تقديرنا أن الرياض لن تفكّر في يوم ما في الحصول على سلاح نووي يؤول الى زعزعة ثقة واشنطن بنظامها السياسي وبآل سعود، الحلفاء الإستراتيجيين للولايات المتحدة.

حين توضع الصفقة وصفقات دول الخليج الأخرى، تصبح مقاربة كوردسمان شديدة الوضوح، لأنها تجعل من تبرير الصفقات مجتمعة مفضوحاً. فهو في الوقت الذي لايجد لدول مجلس التعاون، باستثناء السعودية، أي دور يمكنها لعبه في النظام الأمني الإقليمي الذي تتطلع الولايات المتحدة لإنشائه لناحية تبديل قوانين الاشتباك بعد الانسحاب من العراق، فإنه يعود ليقرر بعد إبرام الصفقات المتناوبة حقيقة جديدة تقوم على توزيع الأهمية على أدوار دول الخليج. فهو يرى مثلاً بأن دول مجلس التعاون مثل الإمارات وعمان وقطر والبحرين والكويت تلعب دوراً هاماً وإن كان محدوداً، بل حسب قوله (تلعب جميعها دوراً هاماً في تزويد القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية بالقواعد والإمكانيات المستعجلة)، وكل ذلك مرتبط بطبيعة الحال بالصفقات العسكرية الجديدة، وكأن هذه الدول الخليجية باتت مجرد مخازن لأسلحة تدفع أثمانها ولا تستخدمها إما لعدم قدرتها على خوض الحروب، وإما لعدم رغبتها في ذلك وتفويض الأمر للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

يقول كوردسمان، أن الإمارات العريبة المتحدة تطوّر قدرات متقدّمة لقواتها الجوية. وأن جميع دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر (وفي ذلك إشارة واضحة من كوردسمان الى العلاقة المتميّزة التي تربط قطر وإيران) لديها قدرات هامة للردع والدفاع ضد التهديدات الإيرانية، ويسعى كثير منها للحصول على بعض مكوّنات قدرة الدفاع الصاروخي. على أية حال، فإن هذه القدرات محدودة، وأن التقدّم الحاصل في التدريبات المشتركة التي يقودها مجلس التعاون الخليجي والتي هي في نهاية المطاف تحت قيادة الولايات المتحدة لم تكن ذات دلالة كافية لربطها مجتمعة في قوات فاعلة في أي مهمة بالمنطقة.

ولهذا السبب يبقى التعاون الأمني الأميركي ـ السعودي بالغ الحساسية للأمن في الخليج، وأمن صادرات النفط العالمية، وأمن المملكة السعودية. وفيما تبقى مقيّدة بحقيقة أن حجم الحشد لقوات هجومية أميركية فاعلة في السعودية يفرض مشاكل سياسية خطيرة للمملكة، فإن الولايات المتحدة ترجّح خيار الحفاظ على مهمة تدريب عسكري رئيسي، وتدريب وجهود دعم للحرس الوطني السعودي، وفي الوقت الراهن خطة دعم لمساعدة السعودية على تطوير قدراتها في مكافحة الإرهاب. وأكثر من ذلك، تعمل الولايات المتحدة مع السعودية على أن تصبح الأخيرة القوة الفاعلة في ضبط الأمن الخليجي، وكذلك أمن حدودها مع اليمن ومنطقة البحر الأحمر.

غوز: الصفقة لا توفر أمناً ولكن منفعة لواشنطن

هذه المقاربة، كما هو ظاهر، تعزّز ما كان قد أشار إليه كوردسمان في تقريره السابق الصادر في 3 مايو من هذا العام (2010)، فقد أعطى للسعودية الدور المحوري والمطلق في الحفاظ على الأمن الخليجي، وهذا من شأنه أن يبعث قلقاً جديّاً لدى دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، والتي تنظر الى السعودية ليس كما كان في السابق بوصفها الشقيقة الكبرى التي تتصرف باعتبارها المسؤولة عن سيادة هذه الدول، والقادرة على فرض سياسات محددة على هذه الدولة في شؤونها الداخلية والخارجية.

بعد حرب الخليج الثانية، لم يعد بالإمكان الحديث عن دور محوري للسعودية يقوم بمهمة نيابية عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي، فقد برزت الخلافات بين هذه الدول على السطح ما كشف عن تباين حاد في رؤية كل دولة لذاتها عن الدولة الأخرى وتالياً مصالحها. صحيح أن من حسن حظ بعض الدول الخليجية أن هناك حالات معينة تكشف عن وجود تطابق نسبي في رؤى دولتين أو أكثر فيما يرتبط بالموقف من قضايا محددة، ولكن لا يعني ذلك أن ثمة انسجاماً تاماً بين هاتين الدولتين قد تحقّق. وحتى في حالة السعودية والبحرين حيث تفرض العلاقة بينهما خضوع الأخيرة لإملاءات الأشقاء الكبار في الرياض، فقد تبيّن من مصادر عدّة متباينة أنهما قد يختلفان في مقاربات أساسية مرتبطة بطبيعة إدارة الشؤون الداخلية، وإن كان ذلك لا يعكس في الوقت نفسه اجماعاً لدى القيادتين بكل أجنحتها، المعتدلة والمتطرّفة، على الأقل في موضوعات داخلية محدّدة.

يفترض التعاون الامني بين السعودية والولايات المتحدة أنه مبني على أساس مشترك قوي. فالولايات المتحدة، بحسب هذه الفرضية، كانت ومازالت المزوّد الرئيسي لدول مجلس التعاون الخليجي، وقد باعت السعودية طائرة الاستطلاع الشهيرة الأواكس، وطائرات النسور السوداء سيكورسكي يو إتش ـ 60، وأنظمة الدفاع الصاروخية باتريوت وهاوك، ودبابات إم 1 أيه 2. وعملت مع دول الخليج في تدريبات مشتركة وطوّرت مستوى عالٍ من التعاون في محاربة الإرهاب. كما عملت مع المملكة السعودية ودول خليجية أخرى بتقديم مايواجه إيران الماضية في تطوير قدراتها لحرب بحرية موازية وعمليات ضد أهداف بحرية وبرية، كما طوّرت الولايات المتحدة قوات الدفاع الجوية لكثير من دول مجلس التعاون للحصول على قدرات دفاع صاروخية.

من جهة ثانية، عملت الولايات المتحدة مع السعودية على تطوير خطط تدبير بعيدة المدى والتي تحسّن قدرات السعودية، وتحدّ من فعالية أي من التهديدات الإيرانية، وتساعدها في الدفاع عن نفسها ضد هجمات إرهابية أو متطرفة، وتحارب جنباً إلى جنب الولايات المتحدة ضد أي تصعيد يؤول الى صراع واسع النطاق. هذا الرأي كما يصوغه كوردسمان يريد منه التأسيس لأمر آخر: مبيعات السلاح الأميركية الجديدة للسعودية هي جزء من هذا الجهد الأميركي، بالرغم من أن مبيعات أخرى إضافية في طريقها للإبرام أو يزمع عقدها مع دول أساسية مثل الكويت والإمارات العربية المتحدة، يضاف الى ذلك عمل الولايات المتحدة الوثيق مع كل من البحرين وعمان وقطر التي تقيم فيها واشنطن قواعد عسكرية. وكما يبدو، فإن صفقات بيع الأسلحة الأميركية الأخيرة أحدثت تغييرات جوهرية في رؤية بعض الإستراتيجيين الأميركيين، ما يشي بطبيعة العلاقة التي تربطهم بدوائر القرار في البيت الأبيض، خصوصاً حين تخضع رؤى هؤلاء الاستراتيجيين لتبدّلات لافتة.

وزارة الدفاع الأميركية التي لم تبلغ الكونغرس بكل تفاصيل صفقة بيع الأسلحة الجديدة للسعودية، كانت مطمئنة الى أن هذه الصفقة ستكون لها انعكاسات لافتة على التعاون الأمني الأميركي السعودي، بل ولها معنى خاص في الحفاظ على شراكة عسكرية دائمة مع السعودية على الأقل للعقد القادم. وفي الحقيقة، فإن ذلك يعني أن القوات الجوية السعودية ستبقى تعتمد بدرجة كبيرة على الدعم العسكري الأميركي.

مواجهة التحدي الإيراني

وسواء كانت فرضية المواجهة السعودية بدعم أميركي للتحدي الإيراني واقعية أم أنها ذريعة من أجل تنفيذ عملية تدوير المداخيل النفطية في السوق الأميركية، والتي لا يمكن بغير صنع بل صناعة الخطر خياراً أمثل لتحقيق هذا الهدف، فإن المسألة الإيرانية جرى استحضارها في كل المناقشات الأمنية والعسكرية.

فالحجم الهائل من الأسلحة التي اشتملت عليها الصفقة الأخيرة بين السعودية والولايات المتحدة يمكن أن ينظر إليه باعتباره مؤشراً على تهديدات عاجلة وبالغة الخطورة، وليس كما يزعم كوردسمان من أن أعداد الأسلحة هي محدودة نسبياً بالنظر الى حجم القوات في الخليج. واقع الحال ينبىء عن أن عمليات التسليح في منطقة الخليج تفوق مستوى المخاطر وأحجامها بعشرات المرات، أي بما يفوق حجم التهديد الأمني والعسكري الإيراني المزعوم.

التسلح السعودي لا يحل مشكلة الصواريخ الإيرانية

وما يقال عن الحجم يقال أيضاً عن الكلفة، لأن الكلفة الحقيقية ليس كما يذهب كوردسمان من أنها ستكون واضحة حين توقيع العقود، وأن عمليات التسليم الرئيسية ستتم خلال فترة تتراوح على الأقل خمس سنوات. وليس بهذا الحجم والكلفة من الصفقات يمكن أن تقارب مصادر القلق الرئيسية لدى السعودية في ظل تمدّد القوة والتحديث، وإرساء أساس قدرة عملياتية كاملة مع القوات الأميركية في الأزمة أو الصراع وإعطاء السعودية "حافّة" هامة في التفوق الجوي ضد ايران. كل ذلك التحليل يهدف الى تسويغ الصفقة الفلكية في ضوء رسم خارطة أعداء افتراضيين، وعلى رأسهم ايران. يضاف الى ذلك، فإن هذه الصورة الافتراضية تستقطب عناصر إضافية من قبيل مبدأ تمكين المملكة السعودية من تحسين إمكانية الحماية لحدودها وسواحلها، ومساعدتها في مواجهة أي هجمات إرهابية خطيرة، والتعاطي مع أي هجمات وتحديات في اليمن ومنطقة البحر الأحمر.

من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن عمليات نقل الأسلحة الى السعودية والمنطقة عموماً هي جزء من تركيبة الأمن لما بعد الحرب في العراق الجديد، والتي يمكن التعويل عليها لحماية تدفق صادرات الطاقة الى الاقتصاد العالمي، أي تحويل دول الخليج عبر هذه الصفقات الفلكية من التسلح الى حرّاس أمن دائمين وأقوياء للمصالح الحيوية الغربية، والأميركية بدرجة أساسية. فهذه الأسلحة من شأنها تعزيز مستوى الردع الإقليمي، والمساعدة على تخفيض حجم القوات التي يجب على الولايات المتحدة حشدها أو أن تكون جاهزة في المنطقة. كما أنها، أي صفقات الأسلحة، ستساعد الولايات المتحدة على تأمين وضع استراتيجي أفضل في المنطقة في وقت تصبح فيه قوى أخرى مثل الصين لاعبين أساسيين في الطاقة العالمية وحين تكون عملية إعادة تدوير البترودولار أكثر أهمية من الماضي.

ما يتطلع إليه الخبراء الاستراتيجيون من خلال صفقات التسلّح الفلكية هو بناء نظام أمني تضطلع فيه السعودية بدور محوري فيما تكتفي الولايات المتحدة بتقديم الدعم الفني واللوجستي. ولذلك فإن المأمول هو تظافر جهود أميركية سعودية لناحية خلق ردع فاعل وليس بالضرورة نقله الى حيز التنفيذ. ولكن ما يخشاه الخبراء الاستراتيجيون هو أن الولايات المتحدة لا يمكنها الاتّكال في المطلق على الإرادة السعودية بدعم العمليات العسكرية الأميركية، خصوصاً بعد سوء الحسابات الأميركية في العراق. وتبقى الحقيقة، على أية حال، بأن الروابط الأميركية السعودية بالغة الحساسية في جانبي الردع والدفاع، وفي أي جهد فاعل لمراقبة القدرات العسكرية الممتدة لإيران، ولأي أمنية بأن تتطوّر التركيبات الأمنية الإقليمية الى النطقة التي يمكن للولايات المتحدة أن تخلق حضوراً عسكرياً محدوداً في الأفق المنظور ومنظومة قدرات عسكرية في الحالات الطارئة.

المأزق اليمني.. عش القلق

منذ ديسمبر 2009 بدأت الولايات المتحدة بالتدخّل العسكري المباشر وقامت حتى نهاية سبتمبر الماضي بثلاث حملات صاروخية جوية ضد مواقع تابعة للقاعدة وأدّت الى سقوط ضحايا من المدنيين. يأتي ذلك بعد أن أعلنت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في إبريل الماضي والتي تجيز مهاجمة مواقع القاعدة داخل اليمن، ما يعد تطوّراً خطيراً كونه ينبىء عن أن باكستان أخرى ستعيشها اليمن في الفترة القادمة، بالرغم من محاولات يمنية وسعودية لمنع القوات الأميركية من التدخل العسكري المباشر والاكتفاء بتقديم الدعم الفني واللوجستي.

يجري الحديث دائماً عن تأثير عدم الاستقرار في اليمن وما يفرضه من تحديات في منطقة البحر الأحمر. صحيح أن الولايات المتحدة والسعودية يواجهان حقيقة أن اليمن يفتقر الى مقومات الدولة المستقرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وقد حاولت السعودية عبر تخصيص ملياري دولار لجهة تحسين الأوضاع الاقتصادية إلا أن النتائج كانت سلبية كون المبالغ إما وضعت في سياقات محددة لم تخدم الأهداف الحقيقية لبناء دولة مستقرة، أو أن الأموال جرى توزيعها بين مجموعة من الحلفاء للسعودية لخدمة مشاريع سياسية محلية أو إقليمية. اليمن يعاني من بنية تحتية بدائية، ومشاكل مياه، وحجم سكاني كبير، بإمكانيات اقتصادية محدودة من بينها كميات من النفط المصدّر. وأيضاً، فإن لدى اليمن حكومة ضعيفة تمارس نفوذها وسيطرتها فقط في بعض المناطقة القبلية.

في الإجمالي العام، تتعاون الولايات المتحدة والسعودية في تقديم الدعم الاقتصادي والأمني لليمن. وقد سعت الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية بناء القوات اليمنية وقدرات خاصة في الحرب على الإرهاب، وقامت في الوقت نفسه بشن هجمات ضد أهداف القاعدة في الجزيرة العربية، وقد كشف ذلك عن وجود عناصر مدرّبة تابعة لتنظيم القاعدة تخطط لهجمات داخل الولايات المتحدة، ما أثار مخاوف من أن تصبح اليمن مركزاً جديداً لتنظيم القاعدة سواء لعمليات إقليمية أو دولية.

السعودية من جانبها لم تدعم عمليات مكافحة الإرهاب في اليمن فحسب، ولكن كان عليها التعاطي مع حرب الحدود الجديدة ولكن بمستوى منخفض مع الجماعات الحوثية التي يعتقد بعض المسؤولين السعوديين بأنها مدعومة من قبل إيران، وهو ما لم يثبت بدليل قوي وموثوق لدى المسؤولين الأميركيين والأوربيين المتواجدين في اليمن. الغارات عبر الحدود السعودية اليمنية وصلت نقطة الأزمة في نوفمبر 2009 واستدرجت القوات المسلّحة السعودية للتدخل، والتي نجمت عن حرب دامت ثلاثة أشهر انتهت الى وقف إطلاق نار هش. وهذا الوضع تعقّد بفعل توترات إقليمية بارزة بين الحكومة المعمّرة للعقيد علي عبد الله في الشمال اليمني والجنوب اليمني، والتي خلقت مصدراً ثالثاً للنزاع في اليمن والذي قد يؤدي الى تقسيم البلد.

هذا الجانب من التعاون الأميركي السعودي يبدو ضرورياً لسنوات قادمة. فنموذج اليمن العدائي أو المتطرّف قد يكون تهديداً أشد خطورة على كلا البلدين، وكذلك على تدفّق النفط عبر الخليج. يضاف الى ذلك، فإن لدى كلا البلدين حافزاً قوياً مع حلفاء آخرين مثل مصر في تأمين الاستقرار في منطقة البحر الأحمر ولمواجهة المشاكل الداخلية في جيبوتي والسودان والتوتّرات المستمرة بين إثيوبيا وأريتريا. ويمثل مضيق هرمز وقناة السويس وخطوط البايبلاين، وكذلك أمن الميناء الرئيسي في السعودية ممثلاً في جدة والمدينة البترولية في ينبع كلها تمثّل اعتبارات أمنية رئيسية.

وفي السياق نفسه يبرز خطر الصومال الذي سيكون تحت سيطرة حركة متطرّفة إسلامية راديكالية تدعى الشباب، وكذلك بروز مشكلة القرصنة الصومالية، والتي أصبحت تهديداً رئيسياً في خليج عدن وبعيدة عن ساحل الصومال، وقد هوجمت بواخر شحن تجارية. وأدت هذه التطوّرات الى عمليات تعبئة عسكرية جديدة من أجل مواجهة تهديد القرصنة وكذلك مخاطر تنظيم القاعدة، أي تسلّح عسكري سعودي لافت على منطقة الحدود اليمنية والتعاون الأميركي السعودي في تحويل الجهد الرئيسي لزيادة حجم وتحديث الاسطول السعودي في البحر الأحمر. ورغم ما يبدو من وهن واضح في ربط كل تلك التهديات بطبيعة وحجم التسلّح، إلا أن هذا ما يراد تسويقه لتبرير عمليات تدوير البترودولار.

الصفحة السابقة