ويكيليكس تركي الفيصل

لا يمكن أن تكون وثائق ويكيليكس بعيدة عن الأمير تركي الفيصل. لا بدّ أن يكون في جعبتها الكثير عنه. فهذا الأخير كان الى وقت قريب رئيساً للإستخبارات السعودية، التي لعبت دوراً كبيراً في بلدان عديدة: أفغانستان، الباكستان، العراق، ولبنان ودولاً أخرى عديدة. ثم إن الرجل مسؤول بشكل مباشر عن موضوع القاعدة وابن لادن لسنوات، وهو متهم بتمويلها وتمويل الطالبان وغير ذلك. زد على هذا، فإن الفترة التي تغطيها الوثائق كانت حافلة بنشاطات دبلوماسية سعودية، ولا بدّ أن يكون الأمير تركي معنيّاً بها، ويشار اليه بالبنان كأحد أقطابها، فهو قد أصبح سفيراً لعائلته في لندن بعد أحداث سبتمبر، ثم سفيراً لها في واشنطن، وهو لازال فاعلاً ـ بقدر ما ـ في صناعة القرار وتكتيل الأكاديميين في العالم لصالح عائلته، وينتظر أن يصبح خليفة لأخيه سعود، وزيراً لخارجية السعودية.

يستحيل أن تمرّ وثائق ويكيليكس مرور الكرام على دور تركي الفيصل، بل على العكس، فإنها ـ إذا ما قيّض لها النشر كاملة ـ ستكشف الكثير من الأدوار التي لعبها هذا الأمير، والمؤامرات التي شارك فيها، والفتوحات العجيبة التي حققها، بما فيها فتح العلاقات السعودية الإسرائيلية، التي لتركي الفيصل باعٌ طويل فيها.

في لقاء مع مجلة ديرشبيغل الألمانية بداية هذا الشهر ديسمبر، قال الأمير تركي بأن تسريب وثائق دبلوماسية على موقع ويكيليكس قد ألحق أضراراً فادحة بأمريكا، لكنه أعرب عن اقتناعه بأن علاقة الرياض مع واشنطن لن تتأثر سلباً بتلك التسريبات، وقال “إننا تغلبنا على قضايا أخطر في السابق”. لكن الأمير لم يتحدّث عن الأضرار التي لحقت بالسعودية نفسها جرّاء نشر (فضائحها) على الملأ. فالمسألة لا تتعلق بواشنطن فحسب بل بعدد كبير من الدول، خاصة تلك الدول القريبة من واشنطن مثل السعودية. وأضاف الأمير تركي بأن (مصداقية أميركا وأمانتها هما ضحية هذه التسريبات. وأن الآخرين، بمن فيهم المسؤولين، لن يتحدثوا بعد الآن بصراحة مع الدبلوماسيين الأميركيين).

وامتدح تركي الفيصل أميركا، وقال بأن بلاده لن تنسَ دعمها لها ضدّ صدام حسين، معتبراً أن واشنطن وحدها القادرة على أن تقول لا للإسرائيليين: (علاقاتنا قوية، استراتيجية، وسوف تستمر. ومن الأمثلة على مساعدة أميركا لنا، الغزو العراقي للكويت.  كان جنودها مستعدين للقتال والموت). وأضاف: (أميركا هي اللاعب الوحيد في الساحة... الأوروبيون لن يدافعوا عن حقوقنا في فلسطين أو لبنان، ولا الروس سيدافعون عنها أو الأمم المتحدة.  أميركا ، نعم)!

هذا تنظيرٌ متيّم بأميركا، التي يكرهها نصف سكان العالم على الأقل، وفي مقدمتهم العرب!

وفيما يتعلق بإيران، استخدم تركي الفيصل ذات اللغة الإسرائيلية/ الأميركية بأنه لا يمكن الوثوق بطهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي. وأكد ما تنشره ويكيليكس بأن السعودية تدعو الى تطبيق نظام عقوبات صارم على ايران، واقترح إقامة مظلّة أمنية توفر حماية لإسرائيل، لكنه زعم بأن بأن بلاده لن تسمح للأخيرة أن تستخدم أجواءها لمهاجمة إيران!

وحين سألت دير شبيغل عن تحريض الملك اميركا لضرب إيران و (قطع رأس الأفعى) شكك تركي الفيصل في الوثائق بشكل مبطّن: (إن وثائق ويكيليكس خليط من الإنتقائية، وانعدام الدقة، والسعي إلى تحقيق أجندات خاصة، والتضليل الإعلامي المباشر).

وأخيراً حول ابن لادن، حرّض تركي الفيصل على قتله، وعلى عدم سحب القوات الغربية قبل تحقيق هذا الهدف، بالرغم من أنه التقى به خمس مرات كان آخرها عام 1990 حسب المجلة الألمانية. مضيفاً: (إننا بحاجة إلى حملة أخرى للبحث عنه، بقيادة امريكا وبمشاركة بلدان لديها مصلحة في تصفية حساباتها مع ابن لادن... إذا توفرت الإرادة يمكن العثور والقبض عليه كما عُثرعلى صدام في نهاية المطاف.  ولكن هذا التصميم غائب).

وشككت المجلة في الأمير تركي كونه كان رئيس الإستخبارات حين وقعت أحداث سبتمبر، وإنه لم يفعل ما ينبغي لمنع قيام تلك الهجمات.. وسألت المجلة: بأن من قام بالتفجيرات (كانوا شبابكم)؟!

قَبِل تركي الفيصل أنهم كانوا سعوديين، بعكس ما قاله عمّه نايف وزير الداخلية، واضاف: (ولكن أن تقول “شبابكم” فهؤلاء الأشخاص سعوديون لكنهم تدربوا خارج البلد... كما قلتُ من قبل:  تنظيم القاعدة خرج من مرتفعات أفغانستان وليس من صحارى السعودية).

هذا كذب مفضوح. تنظيم القاعدة في قلبه وروحه وعقله وفكره وأيديولوجيته وتخطيطه خرج من السعودية. ولا يعني التدريب خارج السعودية شيئاً كثيراً بالنسبة لعمليات التفجير. فضلاً عن هذا، فإن أجيال القاعدة الجديدة لم تخرج من السعودية أصلاً. لم تسافر اصلاً. وقد تدربت داخل السعودية وقاتلت وبعضها أفرادها قُتل داخل السعودية، وبعضهم قتل بعد (تصديره الى الخارج) في العراق وفي نهر البارد بلبنان وغيرهما.

ويبقى السؤال المحرج الذي واجهت به دير شبيغل الأمير تركي الفيصل: (مع ذلك، إن بلدكم هو الأوثق ارتباطاً بتنظيم القاعدة؟). يجيب: (إنه عبء سيثقل كاهلنا إلى الأبد. وسيكون قضية ذنب وأسف لما تبقى من حياتنا، إن لم يكن لأطفالنا وأحفادنا).

يستطيع تركي الفيصل أن يغطّي بعض الحقائق، وأن ينفي أو يحوّر بعضها الآخر.. ولكن ما ستقوله وثائق ويكيليكس، يعتبر الكلمة الفصل. وقد قالت الكثير، وهناك أكثر قادم!

الصفحة السابقة