مرض الملك وصراع الأجنحة

يحي مفتي

بدأت التكهّنات تتزايد حول الوضع الصحي للملك عبد الله وموعد عودته الى الديار، في ظل أنباء عن خطورة العملية الجراحية التي خضع لها في مستشفى بريسبيتريان في نيويورك بالولايات المتحدة، وغادر بعدها المستشفى في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حيث قرر أن يمضي فترة نقاهة قبل العودة الى المملكة. مصادر إعلامية في نيويورك ذكرت بأن مدّة إقامة الملك عبد الله في نيويورك قد تستمر شهوراً، بناء على نصيحة الأطباء الذين أبلغوا الفريق المحيط بالملك عبد الله بأن ثمة مخاطر على صحة الملك في حال عودته السريعة الى البلاد، وأن احتمالات إصابته بالشلل واردة جداً، بسبب الأورام المنتشرة بين فقرات الظهر الوسطى.

ملك عليل

وبانتظار أية تطورات جديدة بشأن صحة الملك، فإن أحاديث وراثة العرش تتزايد، في ظل صراعات خفيّة بين الجناحين الرئيسيين، أي جناح الملك والجناح السديري، والفروع المشتقّة من الأخير (آل سلطان، آل نايف، آل سلمان). قد تكون قرارات الملك العاجلة قبل سفره بأيام قليلة بإقالة الأمير بدر بن عبد العزيز، الإبن العشرين من أبناء الملك عبد العزيز، من منصب نائب رئيس الحرس الوطني، وتعيين إبنه الأمير متعب، الإبن الأكبر للملك، رئيساً للحرس الوطني بمرتبة وزير دولة في مجلس الوزراء، ومدّد فترة خدمة السفير عادل الجبير، المقرّب من الملك، والتمديد أيضاً للمفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ لأربع سنوات أيضاً، مؤشرات لافتة على أن الصراع على السلطة قد دخل مرحلة حرجة.

وفيما تحوم الخلافات حول ولي العهد القادم في حال غياب أحد العليلين (الملك وولي عهده)، في وقت تتعاظم الشكوك حول تولي الأمير نايف، وزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، منصب ولاية العهد، بدا من طلب الملك بعودة الأمير سلطان قبل سفره الى نيويورك للعلاج، بأن ثمة خلافاً عميقاً حول قبول ليس الملك وحده بأن يكون الأمير نايف الملك القادم، بل حتى الأمير سلطان، ولي العهد. يضاف الى ذلك ما ظهر في بعض المناسبات من دور للأمير سلمان الذي بدا أكثر قرباً من شقيقه الأمير سلطان طيلة فترة علاجه في الخارج مدة عامين، وحتى فترة النقاهة التي قضاها في مدينة أغادير الساحلية في المغرب. وقيل حينذاك، بأن الأمير سلمان نجح في كسب ثقة شقيقه، ما ظهر في بعض إعلانات التهنئة بعودة الأمير سلطان بصحبة شقيقه الأمير سلمان، والتي نشرت في الصحف السعودية المقرّبة من الأمير سلمان بن عبد العزيز حيث وضعته، وعلى غير العادة المتبّعة، في المرتبة الثالثة بعد الملك والأمير سلطان، أي قبل الأمير نايف، ما فسّر على أن الأمير سلمان عاد مع شقيقه بوعد منه بمنصب ولاية العهد، إن لم يكن وزارة الدفاع التي يعتبرها الأمير سلمان طريقاً آخر الى العرش في المستقبل القريب، خصوصاً مع عجز الأمير خالد بن سلطان على أن يرث مكانة أبيه، فضلاً عن مكانته المخفّضة وسط العائلة المالكة.

العليلان الآخران: ولي عهد، ووزير الداخلية!

وفيما يبدو، بعد سفر الملك وعودة الأمير سلطان، فإن التنافس بين الأجنحة الرئيسية أخذ وتيرة تصاعدية، حيث بدأت عمليات تعزيز المواقع، والتأهب لاستغلال الفرص مع أي طارىء جديد. من وجهة نظر البعض، أن الملك هو من أسس لانتقال السلطة الى الجيل الثالث بعد تعيينه إبنه متعب رئيساً للحرس الوطني خلفاً لوالده، وهي المرة الأولى في تاريخ العائلة المالكة التي يتنازل فيها أحد الشخصيات الكبيرة والقوية عن منصبه لإبنه، وهي خطوة يتوقّع أن يقدم عليها الأمير سلطان والأمير نايف في حال ضمنا انتقال السلطة بسلاسة إليهما، وخصوصاً الأمير نايف الذي لن يتخلى عن منصبه كوزير للداخلية مالم يطمئن إلى حسم منصب ولي العهد.

وبالرغم من أن الأمير نايف ترأس اجتماع مجلس الوزراء أكثر من مرة منذ غياب الملك، كما مثّل المملكة في قمة مجلس التعاون الخليجي، وبعث برسائل متوالية للأميركيين عبر الإعلان عن القبض على شبكات من عناصر القاعدة، واكتشاف مخطّطات لقتل الدبلوماسيين الأجانب، وتفجير المنشآت الحيوية، واغتيال الاعلاميين والمسؤؤولين، بأنه الأقدر على ضبط الأمن والحفاظ على المصالح الحيوية للغرب في البلاد، إلا أن الأميركيين أبلغوا الأمير نايف صراحة بأنهم لن يتدخلوا في موضوع التعيين مالم يحظى الأمير نايف على اجماع داخل العائلة المالكة.

نايف في قمة أبوظبي

تردّدت في الفترة الأخيرة أنباء عن غياب أكثر من إسم في العائلة المالكة وبروز آخرين، من بينهم الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية، الذي يعاني من أمراض في الظهر والرقبة، وقد خفّف نشاطه بدرجة كبيرة منذ إجرائه عملية جراحية في العمود الفقري في الولايات المتحدة في 13 أيلول (سبتمبر) 2009، في وقت برز فيه إسم شقيقه الأمير تركي الفيصل كخليفة له في المنصب، إلا أن الطبيعة المحافظة والى حد كبير الكسولة في التغييرات الإدارية تجعل من قرار كهذا مؤجّلاً لأمد غير معلوم.

ولسبب ما قد يكون معروفاً جزئياً، تم طرح إسم الأمير خالد الفيصل، أمير مكة المكرمة، ومالك جريدة (الوطن) التي تصدر في عسير، جنوب السعودية كأحد المرشحين ليس لمنصب وزير الخارجية، بل كملك قادم. وقد أثار سيمون هندرسون بطرحه إسم خالد الفيصل سؤالاً كبيراً عن دافعه وراء ذلك، خصوصاً وان نظام التوارث في العائلة المالكة معروف لكل من لديه خبرة أولية بشؤون الحكم في السعودية، إضافة الى ذلك أن ميزان القوى داخل آل سعود لا يسمح، بأي حال، دخول عنصر من خارج الأجنحة الرئيسية الى حلبة التنافس، ما لم يكن يملك قوة تضاهي قوة جناح الملك أو الجناح السديري بفروعه الرئيسية. يضاف الى ذلك، أن الأمير خالد الفيصل ليس مرشّحاً لأن يكون منافساً لأفراد الجيل الثالث، الذين يتأهّبون لوراثة تركة الجيل الثاني من مناصب وأموال وعقارات ونفوذ وتحالفات. كل ما يملكه الأمير خالد الفيصل هو علاقات خارجية، وسمعة وسط بعض الدوائر الثقافية والادبية والفنية، أما على المستوى المحلي، فليس لديه مكانة في الوسط الديني، ولا في الوسط الإصلاحي..

قد لا تبرز الخلافات داخل العائلة المالكة على السلطة إلى السطح سريعاً، وقد تكون الأوضاع السياسية المحلية والإقليمية بالغة التعقيد ما يتطلب المزيد من التكتّم، فالسعودية التي خسرت أكثر من رهان سواء في العراق، حيث كان يأمل الملك عبد الله ألا يرى نوري المالكي في منصبه ثانية كرئيس لوزراء العراق، وقد حصل ذلك رغم الأموال الطائلة التي دفعتها السعودية في الانتخابات التشريعية التي جرت في آذار (مارس) 2010 لجهة ترجيح كفة قائمة (العراقية) التي يرأسها الدكتور إياد علاوي. كما خسرت رهان الحرب على إيران خصوصا ً بعد فضيحة وثائق ويكيليكس التي كشفت عن جهود مكثّفة قام بها الملك عبد الله لإقناع الأميركيين بقطع رأس الأفعى، في إشارة إلى إيران، ولا شك أن ذلك قد تسبب في كشف حجم التواطؤ السعودي مع الأميركيين في هذه الحرب في حال اندلاعها ما يعطي مبرراً للإيرانيين بجعل السعودية جزءً من معسكر الأعداء. وثالثاً، خسارة السعودية في لبنان، بالرغم من فوز حليفها سعد الحريري في الانتخابات وتشكيل الحكومة قبل عامين، وصولاً الى المرحلة الحرجة التي دخل فيها لبنان على خلفية المحكمة الدولية، حيث اضطرت السعودية لأن تنسّق جهود التسوية مع دمشق من أجل انقاذ نفوذها في لبنان قبل أن يدخل الأخير في مرحلة كسر العظم.

محاولات تأجيل أزمة التوارث على العرش السعودي لم تعد ناجعة، فثمة عوامل حاسمة تضغط بشدة على الأطراف كافة من أجل حسم الحصص. لم يعد عامل السن وحده من يملك وصفة الحل النهائي، فقد أصبح مرض الملك وكبار الأمراء وميزان القوى الداخلية، والمتغيرات الإقليمية والدولية عوامل راجحة في أي منافسة حالية أو مقبلة على العرش.

من رؤية خارجية، يبدو التجاذب منحصراً في فريق الملك عبد الله والفريق الآخر الذي قد يكون الصقور المقرّبون من اليمين المتطرّف في الولايات المتحدة مثل سعود الفيصل وبندر بن سلطان وغيرهما من المعنيين بالشؤون الخارجية، وهذا يفسّر تمسّك الملك عبد الله بحصر وظيفة الموفد الخاص في إبنه الأمير عبد العزيز بن عبد الله، ما يشي بأزمة ثقة بين الملك والأمير سعود الفيصل ووزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجه، الذي كان يضطلع بدور موفد الملك في سنوات سابقة قبل أن يكتشف الملك بأن خوجه قد نقل ولاءه الى مكان آخر، وبات مقرّباً من الأمير سعود الفيصل ومن الجناح السديري عموماً.

السعودية مقبلة على متغيرات كبيرة وسريعة، أمر لا ريب فيه، بحكم قانون الطبيعة قبل أي قوانين أخرى سماوية وأرضية، فغياب الكبار عن الحياة السياسية سيكون خبراً متوقّعاً في أية لحظة، تماماً كما هو خبر مرض الأمراء الذي بات شائعاً ودارجاً، وكأنه الحقيقة الواقعية التي لا تثير اهتماماً كبيراً لدى الناس، مالم يصاحبها متغيّر كبير، مرتبط بواقع الناس اليومي.

حدة الصراع على السلطة لاشك قد ارتفعت منذ قرر الملك السفر للخارج، مسبوقة بقرار تعيين إبنه متعب رئيساً للحرس الوطني. وفيما يبدو، فإن قرارات الملك جاءت بعد ترتيبات مسبقة مع الأمير سلطان، الذي سبقت عودته الى البلاد العفو عن الأمير بندر بن سلطان الذي عاد هو الآخر الى الديار لمساعدة والده العليل في معركته القادمة مع الأمير نايف، وأن العودة السريعة للأمير سلطان كشفت عن خطورة الوضع الصحي للملك عبد الله، كما كشفت عن طبيعة الصراع على السلطة، فقد عاد الأمير سلطان وقبله إبنه بندر الى المملكة للحيلولة دون قيام الأمير نايف بخطوات تفضي الى احتكار السلطة ومصادرة صلاحيات الملك وولي العهد.

وكان للأجنحة الأخرى المشاغبة دور في صراع الأجنحة الرئيسية، وإذا ما صدق النبأ بأن الأمير طلال بن عبد العزيز هو من أوحى للملك عبد الله باستدعاء الأمير سلطان للعودة الى الديار من أجل تفادي الفراغ السياسي المحتمل وتضييع الفرصة على الأمير نايف لتثبيت نفسه ولياً للعهد الواقعي، فإننا أمام معركة خلافة حامية في المرحلة المقبلة.

كل ما يقال عن دور منفرد للملك في نقل السلطة الى جيل الأحفاد، أو الجيل الثالث هو كلام أقرب الى التخرّص منه الى الحقيقة، ببساطة لأن الملك لا يملك وحده السلطة النهائية والمطلقة في صنع القرار السياسي في هذا البلد، فهناك أمراء كبار يملكون قدراً موازياً أو دون ذلك بقليل في ملفات كبرى بما فيها ملف التعيينات. إن القول بتواصل مسلسل التعيينات عقب تعيين الأمير متعب بن عبد الله وعلى يد الملك نفسه بحيث يصبح خالد الفيصل نائباً ثانياً لرئيس الوزراء، مكان نايف، ، وخالد بن سلطان وزيراً للدفاع، ومحمد بن نايف وزيراً للداخلية، وتركي الفيصل وزيراً للخارجية، وبندر بن سلطان رئيساً للاستخبارات، لا يصمد سوى في حالة واحدة: موافقة الأمراء الكبار.

الملك عبد الله الذي يدرك تماماً ما واجهه خلال مرض الملك فهد الذي دام منذ العام 1996 ـ 2005، ولم يسمح الجناح السديري وعلى رأسهم الأمير نايف بنقل السلطة بصورة طبيعية الى ولي عهده، عبد الله، حينذاك، على أساس فقدان الملك فهد لأهلية القيام بمهام الحكم، يجد الآن الفرصة المناسبة كيما (ينتقم) من الأمير نايف، بحيث يستدرج أقرب الناس منه وهو شقيقه الأمير سلطان كيما يلعب الدور ذاته الذي كان يلعبه ضده في عهد الملك فهد، فيكون حرمان نايف من العرش على يد شقيقه، ولذلك قيل بأن هناك من حرّض أبناء الأمير سلطان على الحضور الكثيف في هذه المرحلة لتقويض كل محاولات الأمير نايف بجمع خيوط السلطة بيده. قد يكون الملك عبد الله الأقدر على فهم تفاصيل لعبة السلطة، فقد كان هو ذاته أحد ضحاياها، حين كان ولياً للعهد، ولم يكن قادراً على ممارسة السلطة بحجة أن الملك فهد مازال على قيد الحياة، ولن يرثه أحد في حياته، وأن القرارات يجب أن تتم بالتشاور مع الأمراء الآخرين، وخصوصاً سلطان ونايف وسلمان.

لا يتوهمنّ أحد بأن ثمة تبدّلاً في التحالفات داخل العائلة المالكة، بحيث أصبح الملك وسلطان في معسكر واحد في مقابل نايف، بل الصحيح أن هناك مصالح محددة مشتركة إقتضت أن يلتقي الملك وولي العهد في موقف ما لمواجهة الأمير نايف، وقد يتطلب الأمر في لحظة أخرى مواجهة بين عبد الله وسلطان، بحسب طبيعة المصلحة، وشروط النجاح في لعبة السلطة، وقد كشفت إحدى وثائق ويكيلكيس أن الملك عبد الله كان على وشك إقالة الأمير خالد بن سلطان من منصبه لفشله الذريع في الحرب على الحوثيين.

الصفحة السابقة