انتعاش بورصة الفتن في لبنان

السعودية تتراجع وتفشل تسوية (س. س)

هيثم الخياط

تسوية أو لا تسوية، إحجية بقي اللبنانيون يلحّون في الجدل حولها منذ ثلاثة شهور على الأقل، حين خلص فريق الملك عبد الله الى نتيجة مفادها أن صدور القرار الإتهامي بالصيغة التي تقرّرت في دوائر أميركية ـ اسرائيلية وعربية معتدلة سيعني أن النفوذ السعودي في لبنان قد يصبح فعلاً ماضياً، وأن المستهدفين (سورية وحزب الله والمعارضة اللبنانية بصورة عامة) متأهبون لخوض التحدي حتى نهايته..لم يدم الردح طويلاً، فقد وضع الأميركيون حداً نهائياً لحديث الـ (س.س)، ولجمت إمرأة الخارجية الأميركية رجل الدولة والزعيم الوهمي الملك عبد الله، الذي أشبع رؤوساء دول عربية سبّاً بإسم الوعود والتعهّدات (وكلام الرجال)، فلحس كل وعوده للرئيس بشار الأسد بعد جلسة واحدة مع هيلاري كلينتون التي أبلغته قراراً واضحاً، بأن يسحب يده من يد بشار الأسد. لم ينتظر الملك عبد الله، الزعيم الوهمي، حتى الصباح كيما يبلغ الأسد قراره الإنهزامي، وسحب تعهدّاته، فقد أيقظ القيادة السورية في منتصف الليل ليبلغها قراره المشين بأن التسوية انتهت الى لا شيء، وحتى لا يخرج بسواد الوجه، أبقى الباب مفتوحاً في العلاقة الوديّة بين دمشق والرياض.

فشل الوساطة السورية السعودية لحل أزمة المحكمة الدولية

كان واضحاً منذ البداية، أن ثمة في السعودية من يلعب بالأوراق جميعاً، فمن جهة كان يواصل الملك عبد الله وفريقه وموفده الشخصي نجله الأمير عبد العزيز بن عبد الله جهود (التسوية) الزعومة مع سورية لاحتواء تداعيات القرار الظني، الذي بات الجميع موالاة ومعارضة وداخل وخارج، وعربي وأعجمي، على قناعة تامة بأنه يتجّه في هذه المرحلة على الأقل نحو حزب الله. ومن جهة ثانية، كان فريق الفتن الممثل في الأمير بندر بن سلطان والأمير مقرن بن عبد العزيز والأمير سعود الفيصل يحضّر نفسه لمواجهات مفتوحة، تكون فيها الفتنة الطائفية السنيّة الشيعية عنواناً أبرز لها. وليس بعيداً أن تكون (كتائب عبد الله عزّام) التي أعلنت عن نفسها مجدداً من شمال لبنان، بقيادة سعودية (صالح عبد الله القرعاوي) ومقاتلين من جنسيات عربية مختلفة يمثّل فيها العنصر السعودي قوة وازنة، قد جرى تجهيزها سعودياً لمرحلة الاشتباك الداخلي. ولربما كان من بين أهداف عودة الأمير بندر بن سلطان الى الديار التحضير لفتنة في لبنان مع صدور القرار الظني.

على أية حال، وقبل إصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قرارها الإتهامي، جاء الاعلان عن فشل التسوية السعودية السورية من الجانب السعودي وبغطاء أميركي وبطفولية غير مسؤولة من جانب رئيس الحكومة اللبنانية غير الرشيد سعد الحريري. اختلفت الروايات، وتباينت التوقّعات والتطلّعات حول طبيعة التسوية، وما إذا كانت بمستوى تعطيل مفاعيل المحكمة الدولية، أو قرارها الإتهامي، أو أن ثمة صفقة شاملة يراد لها أن تتم تستهدف حفظ نفوذ السعودية وحلفائها في لبنان في مقابل احتواء مخطط المحكمة، ولكن كل التكهنات حسمت مساء العاشرة من (كانون الثاني) يناير، حين أعلنت كل الأطراف تقريباً نعي مبادرة س.س.

في حقيقة الأمر، أن كثيرين وضعوا أيديهم على قلوبهم مع نهاية العام 2010، حين أعلن عن مرض الملك عبد الله وسفره للعلاج والذي أسس لقطيعة بين السينين، وبطبيعة الحال ليس وحده السبب في الفشل، وإنما لدخول العامل الأميركي الذي كان يترقّب، بصورة سلبية، لما يدور بين عبد الله وبشّار. على العكس، تحدّث مسؤول أميركي الى صحيفة (الحياة) في 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن صعوبة التسوية المعنونة (س.س)، ونفى معرفة بلاده أو اطلاعها على تفاصيل تلك التسوية، فيما فهم مراقبون تحرّك مساعد نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، السفير سابقاً لدى لبنان جيفري فيلتمان، رفض الإدارة الأميركية قيام تسوية على حساب المحكمة الدولية. الأبلغ، ربما، في رسائل الأميركيين الى حلفائهم في لبنان والمنطقة أن التسوية على حساب المحكمة الدولية قد تفضي الى إتهام العقيد وسام الحسن، رئيس فرع المعلومات والذراع اليمنى لرئيس الحكومة سعد الحريري، في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وقد يفتح ملف آخر موازٍ عن تعاون الحسن مع منظّمات أصولية وهابية، سعودية تولّت تنفيذ الجريمة.

تصويب أميركي آخر على تسوية (س.س) جاء من السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون، أحد أبرز صقور اليمين المتشدد في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، حيث كتب مقالاً نشر في صحيفة (الحياة) في 27 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وكشف بأن مدعي عام المحكمة الدولية في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، القاضي دانيال بيلمار (سيبدأ قريباً بإصدار القرارات الاتهامية ضد الأشخاص الذين اغتالوا الحريري، وبات شبه مؤكد ذكر أسماء مسؤولين سوريين بارزين وآخرين تابعين لحزب الله). وزاد بولتون بأن تحدّث في تداعيات القرار الإتهامي حيث تنبأ بتجدد الحرب بين إسرائيل وحزب الله واحتمال أن تشمل سوريا.

أثارت المقالة لغطاً واسعاً ليس وسط المعارضة اللبنانية أو حتى المشكّكين في نزاهة المحكمة الدولية، بل أثارت اليمين اللبناني نفسه، ما دفع برئيس الحكومة اللبنانية السابق فؤاد السنيورة لإصدار بيان إنتقد فيه كلام بولتون وقال بأنه يدق إسفيناً ولا يمكن السكوت عنه وأنه يخدم الجانب الإسرائيلي، وكأن السنيورة أراد التعاطي بحذر مع عامل الزمن كيما لا تفشل مهمة الفريق الرافض لأي تسوية على حساب المحكمة الدولية ذات الأهداف المعروفة.

الحريري قبل أن يسافر الى نيويورك، أجرى مقابلة مفاجئة مع (الحياة) وقال بأن (إن التفاهم السعودي - السوري في شأن تثبيت الاستقرار في لبنان أنجز قبل أشهر عدة، وقبل انتقال الملك عبد الله للعلاج). ولكنه قال بأن ثمة خطوات مطلوبة من المعارضة، ولربما يقصد حزب الله وسوريا، واشترط (أي التزام من جانبي لن يوضع موضع التنفيذ قبل أن ينفذ الطرف الآخر ما التزم به، هذه هي القاعدة الأساس في الجهود السعودية ـ السورية). كما حدّد هدف الزيارة الى نيويورك بأنها لمقابلة الملك عبد الله (والبحث في دفع الجهود قدماً وحماية المسار السعودي - السوري الذي يشكل ضمانة لاستقرار لبنان).

في رد سوري على كلام الحريري، نقلت (السفير) اللبنانية عن (زوّار دمشق) قولهم بأن (لا صحة على الاطلاق لوجود التزامات سورية مسبقة من أي نوع حيال الرئيس الحريري)، بل على العكس (هو المُطالَب بمبادرة جريئة، تحت سقف التسوية السورية – السعودية..بحيث تواكب المعارضة الحريري في خطوات موازية، تقود في نهاية المطاف الى «تصفيح» الساحة اللبنانية في مواجهة القرار الاتهامي والمحكمة الدولية).

رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي كان على اطلاع تام بحقيقة الموقف الأميركي وطبيعة التنسيق بين يمينيي أميركا والسعودية مرّر خدعة قبل سفره الى نيويورك حين كشف الغطاء، جزئياً على الأقل، عن حقيقة الإتفاق السوري السعودي، ولكن ما إن وصل نيويورك حتى بدا الأمر مختلفاً، فقد وصل ليس للقاء الملك عبد الله وتلقي التعليمات حول ما يجب تنفيذه، بل ذهب الى هناك وقد سبقه صقور الفتنة (الأمير بندر والأمير مقرن) وحضور فيلتمان وبولتون وغيرهما الذين تحضّروا لقلب صورة الملك عبد الله.

لايتوهمن أحد بأن ماقامت به الإدارة الأميركية ممثلة في هيلاري وفيلتمان وغيرهما من أجل عيون عائلة الحريري أو رغبة في العدالة والحقيقة، فواشنطن لا تكترث لـ (الحقيقة) في لبنان، وهي على جهوزية كاملة لأن تعقد صفقة شاملة مع سورية وإيران، وأن رفضها لتسوية (س.س) عائد بدرجة أساسية الى أن الجانب الأميركي ليس طرفاً فيها، ولذلك واصلت ضغوطاتها لإرغام السوريين وحزب الله وايران على تقديم تنازلات محددة. قد يكون إطلاق واشنطن يد الاسرائيليين في ملف الاستيطان ثمناً مقدّماً لها للكف عن المطالب بحصة في المحكمة الدولية، على أن تتفرّغ واشنطن للتجاذب مع ايران في موضوع الملف النووي.

كانت زيارة هيلاري كلينتون في 10 كانون الثاني (يناير) الى منطقة الخليج لدفع دول مجلس التعاون نحو تشديد العقوبات الاقتصادية على ايران من جهة، وحشد المساندة الدولية خلف المحكمة الدولية، ودفع هذه الدول على إعادة فتح سفاراتها في بغداد بعد تشكيل الحكومة، وقد جاءت هذه الزيارة بعد لقاء كلينتون بالملك عبد الله ورئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، في نيويورك والذي أدّى الى تبدّل لهجة الأخير وتشدّده في موضوع الاتفاق السعودي السوري، وظهر فيما بعد أن هيلاري لم تغادر بلادها الا بعد أن إطمأنت الى فشل واغلاق ملف (س.س).

قد تكون تصريحات مرشد الثورة الاسلامية في ايران السيد علي الخامنئي عن المحكمة إشارة على أن الايرانيين باتوا على قناعة بأن الأميركيين مصرّون على إفشال أية تسوية من أي طرف كان مالم يكن لهم حصة وازنة، تعينهم على استعمالها كقوة ضغط في مفاوضاتهم مع ايران في الملف النووي الإيراني. نتذكر، أن جولة مفاوضات جديدة بين إيران ودول 5+1 قد تقررت في أسطانبول في الأسبوع الأخير من هذا الشهر (يناير)، ما يجعل تحرّك كلينتون في المنطقة لتكثيف الضغوطات على إيران من أجل سحب تنازلات منها بشأن ملفها النووي، إضافة الى ملفات أخرى من بينها، بطبيعة الحال، ملف حزب الله وتسليحه.

بدا واضحاً، أن الدبلوماسية الأميركية التي كانت ترقب تحركات دمشق والرياض على خط الأزمة اللبنانية، وضعت حداً لحيادها السلبي، ودخلت بقوة كعامل حاسم في الموضوع اللبناني، حيث اجتمعت مع الملك عبد الله في فندق بلازا بنيويورك، ثم مع رئيس الحكومة سعد الحريري بحضور جيفري فيلتمان. كما التقى الحريري مع ساركوزي الذي التقى هو الآخر بالرئيس الأميركي باراك أوباما والملك عبد الله لمعرفة ما يجب القيام به بعد فشل التسوية السورية السعودية، خصوصاً وأن ساركوزي بدا كما لو أنه أقرب الى العقل السوري في تسوية ملف المحكمة الدولية سلمياً من أجل تجنيب لبنان أزمة قد تضرّ بمصالح قوى محددة، وخصوصاً الفرنسيين الذين يشاركون بقوة كبيرة في وحدات اليونيفيل.

وفيما نسجت الشكوك خيوطاً حول مصير المسعى السوري السعودي مع دخول العامل الأميركي على خط المفاوضات حول ملف المحكمة الدولية، فإن التصريحات الأميركية قبل يومين من إعلان فشل التسوية السورية السعودية كانت كافية لإعلان التعبئة في صفوف المعارضة اللبنانية، خصوصاً حين تكون التوقّعات تحوم حول استعداد أميركي لـ (جولة مقبلة من الأحداث) ذات العلاقة بالمحكمة الخاصة بلبنان، أو رفض الجانب الاميركي لأي تسوية على حساب المحكمة. واذا وضعت هذه التصريحات مع ما ذكرته (إيلاف) المقرّبة من الخط اليميني المتشدّد في السعودية في 9 كانون الثاني (يناير) الجاري من أن السعودية ليس في وارد (إعاقة أي قرار دولي تم إبرامه مالم ينقضه قرار آخر ومن ذات الجهة التي أصدرته) في إشارة الى قرار مجلس الأمن الدولي بتشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فإن ذلك يعني أن ثمة فريقاً سعودياً قوياً عمل على تخريب إتفاق (س.س) إن لم يكن عكس تبدّلاً في موقع فريق الملك نفسه، أو بالأحرى أن الأخير قد أتمّ مهمته في تقطيع الوقت ريثما تنضج ظروف المحكمة الدولية والقرار الإتهامي.

الصفحة السابقة