إحتلال السعوديين للحجاز..

مرحلة مؤقتة، أم استمرار لدولة راسخة؟

إن خلاف الملك عبد العزيز مع أشراف مكة لم يكن في يوم من الأيام خلافاً دينياً بالمعنى الحرفي للكلمة، وإن كانت قاعدة الجيش السعودي (الإخوان) وكذلك مشايخ الوهابية يعتبرونه كذلك. فالحجاز كان ينظر إليه من قبل السعوديين كمنطقة وافرة الغنى يسيل لها اللعاب، وكان أجداد السعوديين في القرن التاسع عشر قد حكموه لبضع سنوات، ولذا أراد عبد العزيز أن يستعيده بحجة ''ملك الآباء والأجداد''!

الخلافات الثقافية بين أهالي نجد والحجاز لم تكن بذي شأن إذا لم تضف إليها الجوانب السياسية، فالإختلاف الديني ـ المذهبي بين الوهابية والمذاهب الإسلامية الأخرى قابل للهضم، ولكن ما أعطى الخلاف وزناً وأهمية أكبر هو حقيقة أن (الوهابية) كتوجه ديني، إن لم نقل مذهباً دينياً مستقلاً، استغلّت لتحقيق مطامح آل سعود السياسية.. وهذا ما عبّر عنه فيصل بن الشريف حسين أكثر من مرّة قبل زوال دولة الأشراف من الحجاز، حيث اتخذ الأخيرون موقفاً مضاداً للوهابية وطالبوا بحلّ جناحها العسكري (الإخوان) باعتبارهما أداة سياسية وعسكرية تشرعن الإحتلال والإعتداء وسفك الدماء.

ليس هناك من شك بأن الخلاف التاريخي بين الحجاز ونجد تعدّى حدود الخلاف الفكري، فقد أصبح عداءً متراكماً تاريخياً ونفسياً تزيده ـ اليوم ـ الوهابية الدينية والسياسية حدّة، وتدفع الطموحات السياسية والإغراءات الإقتصادية لمواصلته على الأقل من جانب بعض المتطرفين النجديين، ولازال الوضع يسير من سيء الى أسوأ ولكنه يتخفّى تحت أردية وأغطية كثيرة خوفاً ورهبة.

في القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، كان الخلاف الإجتهادي الديني بين العقيدة الوهابية وغيرها من المذاهب الإسلامية في الحجاز (المالكية والشافعية على نحو خاص) يشغل حيزاً قليلاً وهامشياً من مساحة الصراع الدموي، إذ لم تتعدّ الخلافات مسائل ينظر اليها في الوقت الحالي على أنها خلافات قليلة الأهمية مثل مسألة القبور وتقديس الأولياء والأنبياء وطلب الشفاعة وما أشبه، وهي أمور لاتزال متضخمة في أذهان مشايخ نجد، الى حد يعتقد معه أن تضخيمها لم يكن إلاّ لغاية محددة، وهي إيجاد المبررات للإختلاف مع الآخر، وفرض الرأي والثقافة الخاصة بالوهابية وبنجد، والسيطرة على مقدرات الدولة واحتكار منافعها.

بيد أن التحوّل من الخلاف الفكري الى الخلاف السياسي المسلح على يد الوهابيين، لم يكن بغرض تحويل الآخر المختلف في الحجاز الى ما يعتقده الوهابيون ''الدين الصحيح'' أو لإلغاء الممارسات ''الشركية'' التي يمارسها السكان كما يزعمون، فهذا لم يحصل حتى اليوم، وإنما جاء على خلفية الأطماع السياسية لدى العائلة المالكة التي استخدمت الوهابية كمركبة للتوسّع والإحتلال.

في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم تكن فاكهة الحجاز ناضجة بما فيه الكفاية لقطفها، وكان يرسل دعاته لمناقشة الحجازيين من أتباع المذاهب ومناظرتهم بحضور الشريف غالب حاكم مكة آنئذ، ولم تكن النتائج واضحة المعالم، إذ لم يكن أي طرف يقبل بمقولات الطرف الآخر، وكلّ لديه حجته، وكلّ يدّعي انتصاره الفكري في الجدل القائم أو المفتعل، شأن ما يحدث بين كل المذاهب. وفي عهد سعود الكبير عام 1218هـ تم احتلال الحجاز وسيطر الوهابيون على نفائس الأماكن المقدسة وتقاسمها الأمراء، ودمّرت الأماكن الأثرية المقدسة بحجة عبادتها من دون الله، وخضع الشريف غالب الذي بقي حاكماً إسمياً، ثم منع الوهابيون عموم المسلمين من أداء فريضة الحج، فجندت الدولة العثمانية محمد علي باشا لاحتلال الحجاز وتخليصه من الوهابيين. هنا انقلب السكان بسرعة قبائل وحضر ضد الوهابيين وأخرجوهم.

وفي القرن العشرين أعاد التاريخ نفسه.. جاءت الوهابية لتأسلم أهل الحجاز مرة أخرى، وهي الحجة التي تبرر احتلاله. لم يتغيّر شيء من السياسة والخطط سوى الوجوه. فالملك عبد العزيز مثّل دور جده سعود الكبير، ومثل الشريف حسين دور الشريف غالب، وكان فرض الوهابية على المشركين والكفار في الحجاز الحجة ومحور الذرائع النجديّة. أما شعب الحجاز فلم يتغير بالنسبة للمعتقد الديني المخالف للوهابية، وإخوان ابن سعود في القرن العشرين هم أبناء أسلافهم الذين استخدموا مطيّة للتوسّع. حتى شرارات الحرب اندلعت بذات السبب: خلافات حدودية في خرمة وتربة. وكما كانت الغلبة والقوة للوهابية في حرب القرن التاسع عشر، كانت لها في الثانية، في القرن العشرين، فالعصبية المناطقية النجدية كانت أقوى منها في الحجاز، وزادت عصبية المذهب المتطرّف النجديين قوّة واضطراماً.

زيادة على ذلك، في دولة الوهابيين الأولى (الدولة السعودية الأولى) سيطر آل سعود على نجد أولاً، ثم انتقلوا الى الأحساء ثم الى مناطق الخليج الأخرى (الزبارة وعمان) ثم جنوباً الى عسير، وأخيراً نضجت فاكهة الحجاز فسقطت بيدهم. وفي الدولة السعودية الحالية جرى نفس الترتيب تقريباً، فسيطر السعوديون على معظم أنحاء نجد أولاً (عدا حائل) ثم توجهوا الى الأحساء فاحتلوها لتكون مموّلا لمشاريع احتلالية أخرى، ثم أسقطوا حائل، ثم دانت لهم عسير بنفس الكيفية التي دانت لأسلافهم، ثم توجهوا الى الحجاز واحتلوه.

بل حتى تطور الأحداث يكاد يكون متشابهاً: حيث يبدأ الخلاف بتكفير أهل الحجاز ووجوب أسلمتهم عبر احتلال أرضهم، يعقب ذلك فترة مصالحة وسلام، ثم خلافات حدود تفجّر يكون سببها اعتناق بعض القبائل المذهب الوهابي، ثم يبدأ الزحف النجدي لاحتلال الحجاز مبتدئاً بالمجازر.

الأمر المختلف الواضح هو أن المسيطر على المنطقة في الدولة السعودية الأولى كان الدولة العثمانية وفي الثانية الإمبراطورية البريطانية، وقد أفاد ابن سعود من الظرف الدولي وفهمه بشكل جيد مكنه من تسخيره عبر إرضاء البريطانيين وتلافي نقاط التفجّر، في حين وقع الشريف حسين في نفس الأخطاء التي وقع فيها أسلافه أشراف مكّة.

شيء واحد لم يستفد منه آل سعود الحاليين وهو أنهم عاملوا السكان بنفس الطريقة التي عاملها بهم أجدادهم، وهي معاملة قاسية متعالية للمخالف في المنطقة أو المذهب. فإذا ما تغيّر العامل الدولي الذي كان يخدمهم فإنهم سيجدون معظم السكان وقد تحوّلوا ضدّهم، مثلما تحولوا عن أسلافهم، فحكم القوة والفرض لم يطوّره الأمراء السعوديون الى علاقة حب ورحمة بشعبهم، والى حكم يرضى عنه المواطنون. شعارهم كان ولا يزال يقولونه لمن يعترض على ظلمهم وتمييزهم الطائفي والمناطقي والقبلي بأنهم أخذوا الحكم بالسيف، وبالتالي يحق لهم فعل ما يشاؤون. ليس هناك أدنى شك اليوم والمملكة تعيش لحظات حرجة تاريخية تقرّر مصيرها، أن آل سعود باتوا ممقوتين في الحجاز كما في الأحساء والقطيف وفي الجوف وفي عسير ونجران، ولو دخلت المملكة أية معركة في الخارج فلن تجد من يصطف معها إلاّ بعض النجديين الذين ارتبطت مصالحهم بهم، وحتى وقوف هؤلاء لن يكون سوى وقوف الكاره المضطرّ، لا المدافع المتحمّس.

والسبب في كل هذا، هو تصرفات الأمراء السعوديين الذين يصرّون على ديمومة وسائل الإحتلال، ولا يتصرفون كحكام على كل الشعب، بل على أسس المُحتلّ القاهر للمواطنين والذي يتعالى على أصولهم وثقافاتهم ومذاهبهم ويعاملهم بدونيّة، ويحكم فيهم بالتمييز، ويتعاطى مع الدولة كملك شخصي.

قد يعتقد بعض آل سعود ـ مخطئين ـ بأن في مقدورهم ضرب الموالي (وهو في معظم الأحيان نجدي) ضد الساخط، ولكنّ هذه اللعبة يصعب أن تطيل في بقائهم أو أن تديم سياسات باطلة مخالفة لسنن الله وسنن العصر، خاصة وأن المخالفين أكثر بكثير من الموالين. من حسن حظّهم، أن أكثريتهم يعيش هاجس الولاء حتى ضمن نجد نفسها، وآل سعود لم يتوهموا ـ عن حق ـ وعلى مدار تاريخهم الحديث بأن الشعب يقف فعلاً معهم. حتى جيش الإخوان، جيش ابن سعود البارّ المربّى عقائديا وفي قمّة عطائه يقول الملك عنه: ''لا تظنّوا يا أخوان أن لكم قيمة كبيرة عندنا.. لا تظنّوا أنكم ساعدتمونا وأننا نحتاج إليكم.. قيمتكم يا إخوان في طاعة الله ثم طاعتنا.. فإذا تجاوزتم ذلك كنتم من المغضوب عليهم، إي والله، ولا تنسوا أن ما من رجل منكم إلا وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمّه.. وما ملكناكم إلاّ بالسيف.. ترى الصحيح والسيف لا يزال بيدنا.. لا والله لا قيمة لكم عندنا في تجاوزكم، أنتم عندنا مثل التراب.. أنتم ما دخلتم في طاعتنا رغبة بل قهراً وإني والله أعمل بكم السيف إذا تجاوزتم''. هذا ما سجّله أمين الريحاني من كلام لابن سعود وقد كان حاضراً مشهده.

فمن الذي له قيمة عند آل سعود، أو يعترفون له بجميل مهما خدمهم وأخلص لهم؟ وكيف حال معظم الشعب الذي فرض آل سعود أنفسهم عليه حكاماً، هل لهؤلاء قيمة، أو يمحضوا الثقة؟

دولة كهذه، وعقلية عائلة مالكة كهذه سادرة في الطغيان والإعتداد المغالى فيه بالذات، لن تصمد في أول مواجهة تختبر فيها حقيقة ولاء السكان لها. وهي الآن تعتب على صدام حسين، وتنسى أنها تكرر كل ما تشنّعه عليه وتسير حذو القذة بالقذة. مع فارق أن صدام حسين يحكم بلداً تتجذّر الهوية الوطنية في نفوس معظم سكانه (باستثناء الأكراد ربما)، في حين أن السعودية لا هويّة لها ولا لسكّانها، والولاء للدولة أو للعائلة المالكة ضعيف لأن الأمراء لم يستثمروا فيها جهداً يخشون أن ينقلب عليهم في قادم الأيام، ولكن هذه السياسة المستديمة توقعهم اليوم في شرّ أعمالهم، فأصبحت تغري كثيرين في الداخل والخارج بتعجيل نهايتهم وإزالة ملكهم ودولتهم.



إطبع الصفحة الصفحة السابقة