المدينة المنورة في العهد العثماني

بداية عهد الحكم العثماني في الحجاز تعود الى عام 920 هجرية حين قام السلطان سليم الأول بتجهيز حملة على مصر لتخليصها من حكم المماليك. وحتى ذلك الحين لم يكن السلطان العثماني يولي إهتماماً جاداً ببلاد الشام ومصر، ولكنه وجد في التحالف الصفوي ـ المملوكي مصدر تهديد جدي لتخوم الدولة العثمانية وعقبة كأداء في طريقها، فبدأ السلطان العثماني بنقل ثقله الى بلاد الشام ومصر، حيث مركز الخلافة الاسلامية والحجاز، مركز الحرمين الشريفين. وقد تمكّن السلطان سليم الأول من إحتلال بلاد الشام في معركة مرج دابق سنة 922هـ وأكمل مسيره نحو مصر بعد أن أحكم قبضته على سورية فدخل القاهرة في مطلع عام 923هـ وقضى على آخر حكام المماليك طومان باي ولكنه أبقى للمماليك الادارة الشكلية، كما أبقي على بعض إمتيازاتهم وممتلكاتهم وكان في القاهرة حينذاك آخر ملوك الخلفاء العباسيين المتوكل على الله محمد، فتنازل عن حقه في الخلافة الاسلامية وسلّمه الآثار النبوية الشريفة وهي الراية والسيف والبرده، وسلّمه أيضاً مفاتيح الحرمين الشريفين.

وفي خطوّة معبّرة توجّه وفد من أعيان الحجاز برئاسة إبن شريف مكة الى القاهرة لمقابلة السلطان سليم الأول حيث قدّموا له الطاعة وأقرّوا بما تم بينه وبين المتوكل على الله محمد، مما أثار البهجة والفرح لدى السلطان، وبذلك أسبغ على نفسه لقب خاقان البر والبحر وخادم الحرمين الشريفين. وقد أبقى السلطان ولاية الحجاز للاشراف فيما تقلّصت سلطة أمير المدينة المنورة حيث خضعت الأخيرة تدريجياً لسلطة شريف مكة، الذي اضطلع بإدارة شؤون المدينة بالاستعانة برهط من رجاله، وصولاً الى إلغاء إمارة الحسينيين في الربع الأخير من القرن العاشر الهجري. وفور خضوع المدينة المنورة تحت سلطة شريف مكة، بدأت المدينة تحظى بإهتمام واسع النطاق من قبل الدولة العثمانية حيث انتشعت الاوضاع الاقتصادية فيها بفعل الاموال والمساعدات العينية التي تدفقت اليها من بلدان عديدة داخل الديار العثمانية، إضافة الى الدور الذي لعبه التزايد الملحوظ في أعداد الزائرين الى القبر النبوي الشريف وبإنضمام مجاميع عديدة من أتباع الدولة العثمانية. فقد أولت الاخيرة إهتماماً خاصاً بالاماكن المقدسة في الحجاز، وبدأت في إدخال تنظيمات قانونية وبناء مؤسسات لادارة شؤون الحجاز.

وفي عام 939 أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني أمراً سلطانياً ببناء سور جديد ومعه قلعة حصينة في المدينة المنورة لتكون موقعاً للحامية العثمانية، مما أتاح الفرصة أمام تدفق عدد كبير من المهاجرين والاستقرار في المدينة، وأحدث ذلك تبدّلات هامة في البنية الديمغرافية، بفعل المصاهرة العائلية واالاندماج بين مجاميع مختلفة لتشكل بنية مجتمعية متنوعة. في الوقت نفسه، بدأت الدولة العثمانية تعزز من إجراءاتها الادارية والتنظيمية في المدينة، فكانت تعيّن كبار الموظفين في الاجهزة القضائية والدينية والعسكرية من الاستانة، من بينهم تعيين شيخ الحرم والقاضي وخدام المسجد النبوي الذين كان يطلق عليهم بالأغوات، والقائد العسكري والضباط، فيما تعزز الوجود العسكري في المدينة حيث رابطت حامية مؤلفة من ثلاث فرق في القلعة. نشير هنا أيضاً الى انتشار اللغة التركية عبر الحضور الكثيف للمهاجرين من تركيا وإعتماد كثير من المؤسسات التنظيمية والقضائية على المراسيم العثمانية، اضافة الى الدور المؤثر الذي لعبته المدارس التي تم افتتاحها في الأربطة، وازدهار النشاط العلمي في القرن الحادي عشر الهجري.

في المقابل، فرضت الاوضاع الجديدة واقعاً مختلفاً أملى على حكام المدينة السابقين الانسحاب من الحياة السياسية في المدينة المنورة، فقد انتقل كثير من أمراء آل مهنا الحسينية الى القرى والمزارع فيما انخرط بعضهم الآخر في تحصيل العلم والتجارة، وبهذا فقد أسدل الستار لفترة من الوقت على الصراع السياسي داخل المدينة التي نأت عن الصراع على السلطة في مكة المكرمة، رغم أنها كانت من الناحية الاسمية تابعة لها. ولكن الصراع على إمارة مكة المكرمة تجدد عام 1040هـ حيث لجأ الشريف زيد بن محسن الى المدينة وبعث من هناك برسالة الى والي مصر طلباً للنصرة على منافسه الشريف نامي، الذي حظي بمكانة مرموقة لدى العلماء والاعيان في مكة المكرمة، فبعث والي مصر ثلاثة آلاف جندي لنصرته وإعادته الى الإمارة، كما خرج من المدينة بعض المناصرين للشريف زيد، وتمكن من عزل الشريف نامي عن إمارة مكة وتنصيب نفسه أميراً عليها. وقد أحسن الشريف زيد الى أهل المدينة وبخاصة المناصرين له، فقام بإصلاحات ادارية وقانونية، كما تعزز في عهده الهدوء والاستقرار في المدينة المنورة. ثم تولى من بعده إبنه الشريف سعد عام 1077هـ، وعيّن نائباً له في المدينة المنورة الذي لم يحسن إدارتها، مما أثار سخطاً واسعاً لدى سكانها، الذين لجأوا في شكاوى متواترة الى السلطان العثماني يبلغونه ما حدث على يد النائب من تدهور في أوضاع الاهالي ومن سوء في ادارة شؤون المدينة، فقام بعزله وإعتقاله.

يلفت ذلك الى أن الدولة العثمانية أصبحت قوة توازن وعامل حسم في الصراعات الدائرة في منطقة الحجاز، فقد تحوّلت الى مرجعية عليا لدى السكان الذين وجدوا فيها مصدر رعاية وحماية إزاء ما يستجد من اضطرابات سياسية، على أن سلطة الاشراف المباشرة ظلت مورد توافق واجماع بين السكان، رغم ما يعترضها من اختلالات متقطعة نتيجة التنافس على السلطة بين أبناء البيت الهاشمي. في مثل هذه الحالات، كانت الدولة العثمانية تقوم بالتدخل لاعادة الأمور الى نصابها، كما حدث في مشكلة نائب المدينة حين قامت بعزله وتولية آخر مكانه، والذي كان تابعاً لسلطة شريف مكة. وغالباً ما يتم اختيار النائب من أبناء الشريف أو أقاربه، وقد تقع بعض التجاوزات الى حد التعارض بين السلطة المحلية والادارة العثمانية، كما حدث عام 1090هـ حيث أقدم رجال الحامية العثمانية في المدينة المنورة على قتل نائب الشريف فيها بحجة أنه قام بشتم الخليفة العثماني، ولكن تم تدارك المشكلة فيما بعد، ومع تصّرم القرن الحادي اعشر إندلعت صدامات مع أفخاذ من قبيلة حرب في موسم الرجبية، وقد تزامنت مع هطول أمطار غزيرة غمرت المدينة المنورة حينذاك وأدت الى سيول عارمة تسببت في إغراق المزارع ووصلت الى الاحياء السكنية حتى خشي عليها من الخراب.

وقد شهد القرن الثاني عشر الهجري تحوّلاً دراماتيكياً في أوضاع المدينة المنورة، وذلك عائد لأسباب عديدة أبرزها تراخي قبضة الادارة العثمانية بفعل انشغالها بالحروب في أماكن عديدة، وهذا بدوره سمح بتجدد الصراعات الداخلية بين القوى المتنافسة على السلطة في المدينة المنورة، كما نشب صراع بين القيادات العسكرية في الحامية العثمانية، إضافة الى الصراعات الجانبية بين رجال الحامية وقبيلة بني علي، وقد تكبّد الطرفان خسائر عديدة، الأمر الذي فتح المسرح السياسي المحلي على إضطرابات شديدة، وإختل ميزان العدل فكثر الفساد، وشمل ذلك حتى بعض خدّام الحرم النبوي الذين وجدوا أنفسهم داخل دوامة الظروف الصعبة التي شهدتها المدينة. في ظل ذلك، تدخّل بعض الاعيان والعلماء من أهل المدينة لتطويق التدهور الحاصل في أوضاع السكان، وتجمّع هؤلاء المصلحون من العلماء والاعيان للاتفاق على مواجهة الأزمة تلك ومحاربة الفساد، وأطلقوا على أنفسهم جماعة العهد، وقاموا بتنفيذ ما اتفقوا عليه. في غضون ذلك، وقع صدام بين مجموعة من خدام الحرم النبوي وعساكر القلعة العثمانية، ثم تطوّر سريعاً الى قتال فتحصّن الأغوات بالمسجد النبوي وأغلقوا أبوابه أمام عساكر القلعة وحملوا السلاح، الامر الذي إضطر جماعة العهد للتوسط من أجل إنهاء القتال وتسوية الأزمة بصورة سلمية، ولكن الاغوات رفضوا الوساطة وقرروا مواصلة القتال، فأصدر القاضي أمراً بإعتقال الاغوات المشاركين في القتال كما أمر بفتح المسجد النبوي، وقد تم ذلك بالفعل، ولكن بقي الاغوات ناقمين على جماعة العهد وإتهامهم بأنهم وراء استصدار أمر القاضي وإحباط خطتهم في مواجهة رجال القلعة، فقاموا بإيغار صدر السلطان العثماني ضدهم، فاستصدروا قراراً من السلطان العثماني بقتلهم، وقد قتل بعضهم بالفعل فيما هرب بعضهم الآخر مما أدى الى تبدد شمل الجماعة ونهايتها.

وتجددت الاضطرابات بصورة خطيرة عام 1184، حيث كثرت الصدامات المسلحة، وتزايدت الفتن بين عساكر القلعة، واستغل بنو علي اضطراب الاوضاع فقاموا بمهاجمة المدينة واسترداد مواقعهم التي خسروها في السابق، فكثرت الاضطرابات وازداد الفساد في الجهاز الإداري. في غضون ذلك، إنبرى موظف صغير في الفرقة العسكرية يدعى حسن كابوس لتحريض السكان ضد المفسدين من كبار الموظفين والضباط، الذين استولوا على شحنات الحبوب المرسلة للمدينة، فأشعل بذلك حماسة العامة الذين قاموا بالتجمع حول القلعة وضربوا طوقاً كاملاً حولها، ثم اقتحموها وأخرجوا من فيها من المتورطين في عملية شحنات الحبوب، لكن عساكر القلعة انتقموا من حسن كابوس بعد مدة وقاموا باغتياله.

وظلت الاوضاع المضطربة تتفاوت في هدوئها واشتدادها، وقد لعب قادة الفرق العسكرية المتنافسين على النفوذ دوراً محورياً في إستقرار أو إختلال الأمن، ولكن ما إن يشعر القادة بأنهم يواجهون خطراً جماعياً يهدد نفوذهم فإنهم كانوا يتناسون خلافاتهم من أجل مواجهة خطر مشترك، سيما تلك الاخطار الواردة من خارج المدينة، وتحديداً من الاعراب. ولكن الشريف سرور حاكم مكة المكرمة في أواخر القرن الثاني عشر تمكّن من إضعاف شوكة قادة الفرق العسكرية وقبض على عدد منهم وسجنهم في مكة فاستراحت المدينة منهم وعاد إليها الهدوء والسكينة، وعاشت العقد الأول من القرن الثالث عشر الهجري في أمن وطمأنينة.

وقد إستغلت الحركة الوهابية التي انطلقت من نجد هدوء الاوضاع في الحجاز، وأغرت بعض القبائل للانخراط في الحركة وأرادت بذلك الغارة على المدينة وفرض السيطرة عليها، فقامت بعض القبائل بالتعاون مع قادة الحركة الوهابية بالتجع في عوالي المدينة وبنوا حصناً كبيراً جعلوه مقراً عسكرياً. وقد قام الشريف غالب، شريف مكة بتجهيز جيش لمحاربة القوات السعودية الغازية، التي نجحت في فرض حصار حول المدينة وخيّرت أعيانها بين الاستسلام أو القتل أو مبايعة الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد آل سعود حاكماً عليها.

وبسبب ضراوة القتال وشراسة الهجمة السعودية على المدينة المنورة، إضطر الاعيان للقبول بخيار السلم حفاظاً على حياة السكان ودرءا لاخطار عظيمة محدقة بالمدينة، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من العهد العثماني وبدأت مرحلة عهد الدولة السعودية الأولى وذلك في عام 1220 هـ ودخل السعوديون المدينة وأخذوا يحدثون فيها تغييرات عديدة، وتطاولوا على حوزة الحرم النبوي الشريف، وهدموا بيوت وقبور الاولياء والصالحين وصادروا مافي الحجرة النبوية من آثار وأزالوا كثيراً من المعالم التاريخية والدينية المتصلة بالعهود السابقة إعتقاداً منهم بأنها من مظاهر الشرك والبدع.

المدينة في العهد العثماني الثاني

بعد قيام الدولة السعودية الثانية التي إتسمت بالضعف الشديد، شجّعت الدولة العثمانية حاكم مصر محمد علي باشا للتحرك بجيوشها الى الجزيرة العربية للقضاء على الدولة السعودية، ونجحت الجيوش المصرية في القضاء على القوات السعودية وتسلّمت القوات العثمانية المدينة من جيش محمد علي باشا عام 1256، وبعد نهاية الحرب العالمية الاولى وتحديداً عام 1337هـ سلّمت قوات فخري باشا المدينة للهاشميين، أي بعد سقوط الدولة العثمانية.

وقد ظلت الاوضاع الادارية والقانونية في المدينة خلال السنوات الأولى امتداداً لما كانت عليه الاوضاع في عهد محمد علي باشا، بما في ذلك بقاء المحافظ محرم بك الذي عيّنه محمد علي باشا في منصبه ولكن تحت سلطة العثمانيين، وجرت إعادة إلحاق المدينة إدارياً لامارة مكة المكرمة الذي كان يتولاها أحد الاشراف. وفي عام 1260هـ تولى داود باشا محافظة المدينة، وقام بإدخال اصلاحات عديدة لعل أهمها: تجديد المسجد النبوي بموافقة السلطان عبد المجيد، مع تنظيم إدارة المسجد ومكتبته وقد إستغرقت عملية التجديد إثني عشر عاماً، وقد نعم سكان المدينة المنورة بالهدوء والاستقرار حتى بقية القرن الثالث عشر الهجري.

وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني شهدت المدينة المنورة تطوّرات هامة كان من بينها: إنشاء محطة الاتصالات اللاسلكية (عام 1318 هـ)، والخط البرقي بين استنبول والمدينة ومحطة الكهرباء العام والخط الحديدي الحجازي القادم من استانبول وكان يمر ببلاد الشام، وقد أحدث ذلك تغييراً كبيراً فقد سهّل وصول الزائرين بأعداد كبيرة، كما نشطت الحركة التجارية، وتوافد المهاجرون من أنحاء العالم الإسلامي فتضاعف عدد السكان في عقد واحد عدة أضعاف، ووصل إلى ثمانين ألف نسمة واستقلت المدينة إدارياً عن مكة وأصبحت تابعة لاستانبول مباشرة، كما إزدهر النشاط العلمي وكثرت حلقات الدرس والذي أدى لاحقاً الى تأسيس الجامعة الإسلامية عام 1330 هـ ولكنها تعطلت بسبب ظروف الحرب العالمية الاولى التي عكست نفسها على الاوضاع الداخلية في المدينة المنورة حيث وقعت إضطرابات عديدة حرمت السكان من نعمة الاستقرار والأمن، وكان السكان قد ثاروا على محافظ المدينة علي مرمحين الذي اتهموه بالقسوة وسوء الادارة، مما أدى الى عزله عن منصبه، ثم أعقب ذلك تمرد آخر على المحافظ الجديد عثمان باشا، غير أن الادارة العثمانية رفضت الاستجابة لمطالب الاهالي بعزل محافظ المدينة، وقامت باعتقال أكثر من ثمانين شخصياً من أعيان أهل المدينة في سجن بالطائف لمدة عدة أشهر من أجل القضاء على التمرد وريثما تستعيد السيطرة على الأمور في المدينة.

نهاية العهد العثماني

بالرغم من أن الحرب العالمية الاولى أسفرت عن مشهد دراماتيكي على المستوى الدولي، فقد أسقطت الحرب عاصمة الدولة العثمانية، وصولاً الى زوال دولة الخلافة عام 1924، الا أن المدينة بقيت صامدة بعد الحرب الأولى، فقد أصرّ فخري باشا على البقاء كحاكم في المدينة بإسم الدولة العثمانية، وقرر مقاومة حركات المقاومة بكل ما يملك من عدة وعتاد. وحتى بعد توقيع تركيا معاهدة الصلح مع الحلفاء المنتصرين في الحرب الاولى، رفض فخري باشا تسليم المدينة الى البيت الهاشمي بالرغم من أن برقية من وزير الدفاع وصلت اليه تبلغه بقرار التسليم، فقد رفض فخري باشا الأمر وأصرّ على مواصلة المقاومة بعناد شديد، الامر الذي اضطر السلطة العثمانية أن تأمر بعض الضباط في قيادة فخري باشا بالتمرد عليه وتنفيذ أمر العزل والتسليم والعودة لتركيا، فنفذوا الأمر وسلمت المدينة للقوات الهاشمية في الخامس من ربيع الأول عام 1337هـ، وتم نقل الجنود على باخرة اقلتهم من ينبع ومنها أبحروا إلى تركيا، وأعقب ذلك عودة عدد كبير من المهاجرين من أهل المدينة الى ديارهم التركية، وبذلك أسدل الستار نهائياً على الوجود العثماني في المدينة المنورة، حيث عاد السلطة لأشراف مكة من البيت الهاشمي.

المدينة تحت حكم الشريف حسين

كان من الطبيعي أن تفرض ظروف الحرب العالمية الاولى نفسها على أوضاع المدينة المنورة، بفعل الوجود العثماني وتحوّل الحجاز الى بؤرة لانطلاق أول حركة عربية نحو بناء دولة عربية بقيادة رجل من البيت الهاشمي، اضافة الى الاطماع التي كانت تتنامى لدى بعض القوى المحلية في الجزيرة العربية. فقد إحتضن الشريف حسين الضباط العرب في الجيش العثماني الذين عقدوا العزم على قيادة ثورة ضد الحكم العثماني بهدف إقامة الدولة العربية المنشودة. وقد شعرت الدولة العثمانية بخطورة الحركة فأرسلت فخري باشا بوصفه ضابطاً حازماً وادارياً كفوءا وأمدّته بقوة عسكرية مجهّزة بالمعدات والذخائر الكافية لمواجهة الحركة العربية، ولكن فخري باشا فشل في إحباط الثورة، فقد إستطاع أبنا الشريف حسين: فيصل وعلي في إستمالة عدد كبير من أفراد القبائل وقيادة الثورة وتخليص المدينة المنورة من الحكم العثماني. وفي شعبان سنة 1334 الموافق حزيران 1916 انطلقت شرارة الثورة، وهاجم الموالون للبيت الهاشمي بقيادة الأميرين فيصل وعلي مراكز الجيش العثماني في أطراف المدينة غير أن قوات فخري باشا التي كانت تتهيأ لهجوم من هذا القبيل قد تحصنّت في خنادق محكمة وصدّت الهجوم وقتلت العشرات من الجيش الهاشمي مما ادى الى فشل الهجوم واضطر الباقون ممن نجي من الجيش الهاشمي من الابتعاد عن المدينة. ونظّم الشريف حملتين متتاليتين ولكن دون جدوى، بل قام فخري باشا بقلب المعادلة العسكرية حيث أخذ في مطاردة القوة الهاشمية واضطر فيصل ابن الشريف للانسحاب بقوته حتى بلغ داخل ينبع النخل والتي كانت موضع حصار له ولجيشه، وكاد العثمانيون أن يجهزوا على قوة الشريف فيصل لولا تدخل القبائل الموالية للبيت الهاشمي التي تدخلت لنجدتهم وهاجمت قوات فخري باشا، وأجبرته على الانسحاب عائداً الى المدينة خشية أن تقوم القبائل بفرض سيطرتها على المدينة، كما قام بتعزيز التحصينات العسكرية ووزّع قواته في أطراف المدينة المنورة. وكان الشريف فيصل قد غادر المدينة وترك قيادة القوة العسكرية الهاشمية لأخيه الشريف علي فيما قاد هو القوات المتجهة الى الشام.

المدينة تحت الحصار

في مسعى لاجهاض محاولات فخري باشا في ضرب طوق حول المدينة المنورة من أجل منع أي خطة لاختراقها من الخارج أو اندلاع تمردات داخلية، خطط الشريف علي بن الحسين في كسر الطوق فقرر المرابطة مع قواته في القرى القريبة لحصار المدينة من بعيد. وقد تنبّه فخري باشا لهذه الخطة فبذل كل جهده لمقاومة وصد أي هجوم محتمل، ومواجهة الحصار، وقام بالاعداد لخطة بديلة فبنى مراكز مراقبة عسكرية فوق الجبال والتلال وأحاط المدينة بخطوط دفاعية قوية ومدّ شبكة هاتفية بينها، ونظّم الدوريات، وفي الوقت نفسه فرض إجراءات أمنية صارمة ومشددة داخل المدينة، وصادر معظم المواد الغذائية ولا سيما الحبوب وخزنها، كما استفاد من موسم التمر فأمر جنوده بجمعه وكبسه في قوالب صغيرة لتقاوم التسوس. ولتخفيف الضغط على المدينة وزيادة قدرة المقاومين فيها على الصمود وتوفير كمية كافية من المؤونة لقواته واستعداداً لحرب طويلة الأمد، أمر فخري باشا بمغادرة العائلات إلى دمشق واستانبول بالقطار، كما نقل ذخائر المسجد النبوي ومكتبة عارف حكمت، وكان الترحيل طوعياً في بادىء الأمر، الا أنه أصبح إجبارياً مما أدى الى تشتت العائلات، وتحول الكثيرون إلى مهاجرين في الشام أو استانبول، ومن كان يرفض السفر الى هذه المناطق كان يتجه الى مناطق أخرى في الحجاز كينبع ومكة.

ولكن خطة فخري باشا فشلت فشلاً ذريعاً حين قام الثوار بنسف بعض الجسور التي يمر عليها القطار ودمروا مسافات من الخطوط الحديدية، ثم جاء الشريف عبد الله بقوات إضافية وعسكر في منطقة العيص فأحكم الحصار حول المدينة. غير أن القوات الهاشمية لم تتمكن من إقتحام المدينة المنورة بسبب التحصينات العسكرية الضخمة التي كان قد وضعها فخري باشا حول المدينة، ولم يسفر الوضع المتأزم عن اندلاع الحرب ضد قوات فخري باشا التي كانت مستعدة لصد أي هجوم، غير أن عامل الحصار كان حاسماً في تلك المواجهة، فقد عانى من هم داخل المدينة من الاهالي والقوات العثمانية من أثر الحصار، فقد شحّت المواد الغذائية وارتفعت الأسعار بشدة وفشت بعض الأمراض لنقص التغذية، ولكن عناد فخري باشا وبعض قادة قواته قد أصروا على المواصلة في مقاومة القوات الهاشمية التي جاءت لاسترداد سلطانها، وقد اضطر من بقي من أهل المدينة على الرحيل بعد أن تدهورت الاوضاع الصحية والمعيشية بدرجة خطيرة، إذ كانت المدينة تعيش ولمدة ثلاث سنوات ظروفاً شديدة القسوة، وعاني أهلها الجوع والفقر والمرض، الامر الذي دفعهم لمغادرة مساكنهم والبحث عن أماكن عيش أخرى قريبة كانت أم بعيدة. وفي نهاية المطاف إندحرت القوة العثمانية المنفصلة بقرار من السلطان العثماني الذي أمر عدداً من القيادات العسكرية في الحامية العثمانية من التمرد على فخري باشا والعودة الى تركيا تسليم السلطة للاشراف من البيت الهاشمي.

الصفحة السابقة