الوهابيون واحتلال الحجاز

يتفق المؤرخون على أن من أهم وأبرز نقاط الاختلاف بين آل سعود وأشراف الحجاز هو: قبول عدد قليل من القرى والقبائل الحجازية للفكر الوهابي.. وحين يستعرض المؤرخون المعارك التي سبقت احتلال الحجاز يرى أنها كانت حول هذه النقط بالذات..

ومن جانب آخر يتفق المؤرخون أيضاَ أن من أسباب قوة آل سعود في مواجهة الشريف غالب حاكم الحجاز آنذاك اعتناق قلة من القبائل الحجازية المسبق للوهابية، فأتاح لآل سعود فرصة الهجوم بعد أن كانوا ردحاً من الزمن في حالة دفاع.. ويضاف الى ذلك يرجع المؤخرون سر الانتصارات السعودية الى وجود معتنقين للوهابية، حيث كان انتشار الدعوة في الحجاز عاملاً مهماً لفتحه..

يقول عبد الرحمن1:

(وكانت مبادىء الدعوة السلفية قد تسرّبت الى الحجاز واعتنقها بعض الأعراب، ولذا خشي الشريف غالب ان تصبح خطراً يهدد بلاده)، لذا عمل على استمالة بعض القبائل من مطير حيث لجأت إليه، والتي أعلنت ولاءها للدرعية فنقضت عهدها.. كما عمل على مكاتبة زعماء بني خالد ـ في الاحساء قبل زوالهم ـ ووعدهم بالمال ـ كما يقول صاحب اللمع.

وكان عبد المحسن السرداح حاكماً على الاحساء آنذاك.. ومن جهة أخرى أخذ الشريف غالب بشن حملاته العسكرية الفاشلة في مجملها على القبائل التي دخلت سلك الدعوة الوهابية.. فلم يستطع ان يمنع من انتقاص ملكه الذي بدأ يخرج عن طاعته من بين يديه..

ويعتقد المؤلف أيضاً، أنه بعد مرحلة التصادم بين قوات آل سعود والاشراف تغير الموقف لصالح الطرف الأول لعدة عوامل:

(ومن بين هذه العوامل انضمام بعض القبائل الحجازية في تربة ورنية وبيشة الى الدعوة السلفية وانشغال الشريف بمحاربتهم منذ 1206هـ ـ .1791. ومن العوامل التي أضعفت مركز الاشراف في تلك الآونة اعلان قبائل عسير القوية وتهامة اعتناق مبادىء الدعوة السلفية والخضوع لنفوذ الدرعية، ولذا أصبحت أملاك الأشراف في الحجاز مهددة من الداخل والخارج، مما أجبرهم على تغيير خططهم الحربية، والتزامهم موقف الدفاع)2.

ويعود الكاتب فيؤكد مرة ثالثة (ص 132) على دور معتنقي الدعوة الوهابية الحاسم في الانتصار على الاشراف، ورابعة أيضاً (ص 137)، فحين يذكر أسباب سقوط الحجاز وضمّه لسلطة السعوديين السياسية يؤكد على :(انتشار مبادىء الدعوة السلفية بين كثير من سكان الحجاز حيث أن بعض العناصر أقبلت على اعتناق مبادىء التوحيد، قبل أن يصل نفوذ آل سعود اليها، ومهّدت هذه العناصر الطريق أمام سلطات الدرعية، حيث أنها أصبحت على وفاق مع آل سعود من الناحية الدينية، وعندما أتيحت لهذه العناصر فرصة الاتصال بآل سعود فإنها سرعان ما أعلنت ولاءها التام لسيطرة الدرعية..).

أما هجوم قوات الاشراف على أطراف نجد، فإن بعض المؤرخين يعتقد بأن عددها ينوف عن خمسين غزوة تخللت خمسة عشر سنة في الصدام السياسي والعسكري والديني مع سلطان آل سعود (1205 الى 1220) ولا تكاد تخلو سنة من هذه السنين الا وقعت خلالها معركة، وفي الغالب لم تكلل حملات غالب العسكرية التي شنّها بالنجاح.. ويجدر بنا أن نوضح هنا بعض المعارك التي خاضها الشريف ضد القبائل والمدن والقرى التي كانت خاضعة لسيطرته والتي قبلت بمبادىء الوهابية فانشغل بمحاربتها..

(في سنة 1211هـ جهّز الشريف جيشاً بإمرة السيد فهيد بن عبد الله، فأرسل سرية للخدمة فقتلت منهم ـ أي من أتباع الوهابية ـ ثم أغار على قوم من حرب توهبوا ـ أي اعتنقوا الدعوة الوهابية ـ ثم ارتحل عنهم).

(وفي سنة 1212هـ جهّز جيشاً بإمرة السيد فهيد على قوم من حرب في عريق الدسم توهبوا وعاد سالما، ثم جهّز جيشاً بإمرة السيد مبارك فأغار على قوم من حرب توهّبوا بموضع يقال له العلم.. الخ).

والجدير بالذكر أن تراجع موقف الاشراف مكّن سعود من الوصول قرب (تربة) عام 1209هـ، فحاصر قرى وبلاد تلك الناحية واستمرّت عملياته بالعنف، مما اضطر أهالي بعض القرى الى مصالحته وإعلان الخضوع للدرعية، فأتاح ذلك الفرصة أمامه لانزال العقاب بالقرى التي لم تصالحه..3.

ومع الاغارات المتوالية وإخضاع العديد من القرى الحجازية بالقوة، وضعف الشريف اقتصادياً وعسكرياً وتحول ولاء القبائل نحو الدرعية، طلب الشريف الصلح فانعقد في (سنة 1212هـ في جمادى الأولى) بين الشريف غالب وبين الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وجعلوا حدوداً للأراضي والقبائل التي تحت طاعة الشريف وطاعة ابن سعود، وأخذت العهود والمواثيق بينهم على ترك الحرب، وأن يحج الوهابيون.. فحج العديد منهم في تلك السنة، وما تلاها، وفي عام 1214هـ، حج سعود واجتمع بالشريف في خيمة شربت لهما بالأسطح، وحج سعود مرة أخرى عام 1215هـ مع جند يزيدون عن عشرين ألفاً..

وانتقض الصلح عام 1217هـ بسبب اعتناق بعض القبائل الدعوة الوهابية من جهة وتصرفات سعود الكبير من جهة أخرى..

(وظل الصلح بين الطرفين قائماً حتى عام 1217 هـ ـ 1803م، حينما طرأت على الموقف عوامل جعلته عديم الجدوى.. ومن بين هذه العوامل انضمام بعض القبائل التي كانت تابعة للشريف غالب الى جانب الدرعية واعتناقها لمبادىء الدعوة السلفية، بالاضافة الى إزدياد النفوذ السعودي بصورة سريعة في تهامة وعسير، وتوغل القوات السعودية في شمال اليمن وخاصة في المخلاف السليماني.. ومنها أيضاً استمرار العمليات السعودية في منطقتي بيشة ورنية بقيادة ربيع بن زيد..)4.

(واتهم الشريف غالب الدرعية بأنها تعمل عل نقض الصلح وذلك بأنها تراسل كثيراً من مشايخ القبائل التابعة له، ومن بينهم شيخ قبيلة محايل سعدي ابن شار وشيخ قبيلة بارق احمد زاهر اللذان أوعزا الى كثير من القبائل بالتخلي عن كفة الشريف غالب، ورغبا إليهما الانضمام الى الجانب السعودي.. كما أتهم الشريف غالب الدرعية أيضاً، بأنها ترسل الى القبائل من يقومون بإسادها ويبث فيها روح الكراهية ضده، ورأى في هذه الاعمال من جانب الدرعية نقضاً للصلح، ولذا أرسل إليها وفداً من لدنه ليطلعها على حقيقة الأمر كما يراه الشريف، وكان على رأس هذا الوفد عثمان بن عبد الرحمن المضايفي)..5.

وآل سعود لا يردون التهمة ـ تهمة نقض الصلح ـ وقد تبين أنهم وراءه حين انشق المضايفي ووالى آل سعود.. في الوقت الذي أشارت فيه بعض المصادر الى سعود الكبير بإصبع الاتهام، وتدبير نقض الصلح..

(في خلاصة الكلام أن سعوداً مازال يدس الدسائس بعد الصلح، ويكاتب مشايخ الأعراب سراً كشيخ محايل وشيخ بارق، فصار يفسدان القبائل حتى انتقض الصلح).

ورجع الوفد الذي بعثه الشريف الى الدرعية بتطمينات باردة لعدم الاعتداء والتحقق في الأمر.. وفي هذه الاثناء عادت الأمور الى سابق عهدها بين الحكام السعوديين والشريف غالب الذي جرد بعض الحملات العسكرية ضد القبائل الموالية للدرعية، والقاطنة جنوب شرق مكة المكرمة.. وفي هذه الاثناء أيضاً وقع الانشقاق بين غالب وصهره عثمان بن عبد الرحمن المضايفي شيخ قبيلة العدوان، ولم تذكر أي من المصادر سبب الانشقاق، وحتى المصادر السعودية والمقرّبة منها لم تشر لها، كابن بشر في (عنوان المجد) وصلاح الدين المختار في كتابه المعروف وكذلك الغنّام.. ويبدو أن سبب الانشقاق كان بتدبير من آل سعود لتصديع جبهة الشريف الداخلية، ولكن انضمام المضايفي لآل سعود كان من أجل الحكم والسيطرة، فتلاقت مصالح الطرفين.. وليس صحيحاً أن انضمامه لهم كان لإعجابه بالنظام السعودي أو اقتناعه بمبادىء الوهابية، إذ يتفق عدد من المؤرخين على أن انحيازه للدرعية كان من أجل المنصب. وقد أثبت ذلك من خلال لقائه مع الأمير عبد العزيز، إذ بمجرد أن قابله قال عثمان لعبد العزيز:(يا عبد العزيز بشرني بالامارة وأبشرك بمكة كلها، وأطلب منك أن تخلي لي المجلس لأمور سأبديها، فاختلى معه وحدثه بكلام طاب له وأمره على الطائف وما حوله من العربان)6.

ويكمل ابن بشر قصة احتلال المضايفي للطائف بمساعدة قوات الأمير عبد العزيز بالقول:

(وفارق الشريف وزيره عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وخرج من مكة وترك الشريف ونابذه، ووفد على عبد العزيز وبايعه على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، ونزل بلدة العبيلا القرية المعروفة بين تربة والطائف، واجتمع عليه جنود من أهل الحجاز وغيرهم.. ثم سار الشريف غالب بالعساكر والجموع ونازله في العبيلا ووقع قتال، ولم يحصل الشريف على طائل ورحل عنه ودخل الطائف. ثم إن عثمان المضايفي استنجد من يليه من المسلمين من الحاضرة والبادية، فسار إليه بن شكبان بأهل بيشه وقراها ومصلط بن قطنان بأهل رنية وقراها، ومن كان عنده من سبيع، وسار أيضاً أحمد بن يحي بأهل تربة ومعه البقوم، وسار اليه غير ذلك من عيبة وغيرهم، فاجتمعت تلك الجموع عند عثمان فساروا الى الطائف وفيها غالب الشريف وقد تحصن فيها، فألقى الله في قلبه الرعب وانهزم الى مكة وترك الطائف فدخله عثمان ومن معه من الجموع وفتحه الله لهم عنوة بغير قتال (كذا؟) وقتلوا من أهله في الأسواق والبيوت نحو مائتين..الخ)7.

ويذكر كاتب آخر (فدخلوا ـ أي الوهابيون ـ البلد عنوة في ذي القعدة سنة 1217هـ وقتلوا الناس قتلاً عاماً حتى الاطفال، وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر أمه وكان جماعة من اهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم، وفتشوا على من توارى في البيوت وقتلوه، ودخل نيف وعشرون رجلاً الى (بيت الفتنى) ومائتا رجل الى (بيت الفعر) وامتنعوا عن التسليم وقاتلوا ثلاثة أيام فراسلهم ابن شكبان بالأمان وقال أنتم في وجه ابن شبكان وعثمان، وأعطوهم العهود فكفوا عن القتال، فأرسلوا جماعة أخذوا منهم السلاح، وقالوا لا يجوز للمشركين حمله، ثم أمروهم بالخروج لمقابلة الأمير فأمر بفتلهم جميهم بقوز يسمى (دقائق اللوز) وكان من بيوت ذوي عيسى نحو الخمسين مترسين يرمون الرصاص فأخرجوهم بالأمان على النفس دون المال فسلبوهم وأخرجوهم الى وادي (وج) وتركوهم فيه مكشوفي السوأتين ومعهم النساء حتى رموا عليهم أطماراً بالية..الخ).

ويذكر المؤلف قولا للجبرتي عن هذه الاحداث، حيث ذكر الجبرتي المؤرخ المصري المعروف (أن الوهابيين حاربوا الطائف ثلاثة أيام حتى دخلوها عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال وهذا دأبهم مع من يحاربهم..).

وفي هذه الاثناء قرر سعود فتح مكة فانضم جيشه للقوات الفاتحة للطائف، وسار بها الى مكة فانسحب الشريف غالب منها الى جدة وأخلى الطريق للقوات النجدية والحجازية بالدخول اليها..

وقبل ان يصل سعود الى مكة أعطى إنذاراً للحجاج الشوام والمصريين والمغاربة وغيرهم بالخروج في غضون ثلاثة أيام فخرجوا خوفاً.. وكان أخ الشريف غالب اسمه عبد المعين قد أرسل كتاباً الى سعود يطلب فيه الأمان لأهل مكة وبذل الطاعة له في المقابل، بشرط أن يكون هو عامله فيها، وأعطى الكتاب لعدد من أفاضل مكة.. فوافق سعود وأعطى الأمان وولى عبد المعين شريفاً قبل أن يصل..

ودخل سعود مكة في الثامن من محرم عام 1218هـ، واجتمع بالاهالي وطلب منهم البيعة وأمر بهدم القبب حيث استمر الهدم بضعة عشر يوماً ـ على حد قول ابن بشر ـ ثم رحل سعود من مكة واتجه نحو جدة فحاصرها فوجدها محصّنة، ولذا عاد وتركها الى موطنه.. فعاد الشريف غالب الى مكة مرة أخرى واستولى عليها..

وفي هذه السنة اغتيل الأمير عبد العزيز بتدبير حاكم بغداد الوالي من قبل العثمانيين، واستلم من بعده ابنه سعود زمام الأمور..

في عام 1219هـ أمر سعود عبد الوهاب أبا نقطة، أمير عسير والمجع ونواحي تهامة، بأن يتوجه الى جدة ويحارب الشريف، فاقترب من مكة ومن جهة البحر بمسافة يومين ونصف، والتقى هناك مع جنود الشريف غالب فتقاتلا، وانتصر ابو نقطة وقتل الكثير من قوات الشريف كما غنم من أسلحتهم وأموالهم الشيء الكثير وقفل راجعاً..

وفي عام 1220هـ أمر سعود جميع رعاياه بالمسير الى مكة فتجمع حوالي (120) ألف مقاتل، وأمرهم بمحاصرتها ومنع دخول الحاج الشامي إن كان محارباً، فخاف الشريف غالب وطلب الصلح مرة اخرى، وأعلن ولاءه للدرعية فصالحوه وبقي والياً عليها من قبل السعوديين، ثم دخلت الجنود الى مكة حاجة ومعتمرة وأعرضوا عن الحج الشامي ولم يمسوه بأذى)8.

والواقع لم يكن دخول القوات السعودية عادياً، فالسمعة التي يحملها الناس عنهم سيئة قاتمة مرعبة.. ولهذا يؤكد كشك في كتابه (السعوديون والحل الاسلامي) ص 130 على ما أسماه (الرعب الذي زرعه المجاهدون في النفوس المستضعفة أثناء دخولهم مكة، والذي سيظل ملتصقاً بسمعة المجاهدين في الجيش السعودي ليكون عاملاً أساسياً من عوامل النصر في حروب الملك عبد العزيز) مشيراً في ذلك الى دخول الملك عبد العزيز لمكة بذات الوسيلة (الرعب) الذي جهد لأن يكون مسيطراً على الأهالي بعد مجازر الطائف وخرمة وتربة..

الاستيلاء على المدينة

بعد الاستيلاء على مكة توجّه سعود نحو المدينة فلما قرب الى المدينة أرسل الى أهلها بدخوله، فأبوا وامتنعوا من ذلك. فحمل عليهم كراراً حتى دخلها بعد وصوله بخمسة وعشرين يوماً، فقتل منها بعض الناس حيث سمى اهلها الناكثين، لذلك استباح دمهم حتى بعد الحرب، فدخل مسجد رسول الله (ص) ولبت فيها عشرة أيام لم يحرك منها ساكناً9.

(ويوم الحادي عشر، جاء هو وبعض أولاده ومن يعزّ عليه، فطلب الخدم السودان الذين يخدمون حرم النبي، فقال: أريد منكم الدلالة على خزائن النبي، قالوا بأجمعهم.. نحن لا نوليك عليها، ولا نسلطك، فأمر بضربهم وحبسهم، حتى اضطروا الى الاجابة، فدلوه على بعض من ذلك فأخذ كل ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يحصى ، وفيها تاج كسرى أنوشروان، الذي حصل عند المسلمين لما فتحت المدائن، وفيها سيق هارون الرشيد، وعقد كان لزبيدة بنت مروان زوجته، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين الهند بحضرته (ص) تزيناً لقبته (ص).

وأخذ قناديل الذهب، وجواهر عديدة، ثم أنه رتّب في المدينة أحداً من آل سعود، وخرج الى البقيع يريد نجداً، فأمر بتهديم كل قبة كانت في البقيع، وتلك القبب قبة الزهراء فاطمة بنت الرسول (رضي الله عنها) وقبة الحسن بن علي (رض) وقبة على بن الحسين (رض) وقبة محمد الباقر، وقبة جعفر الصادق، وقبة عثمان (رض) أجمعين.10.

ويذكر الجبرتي أن سعوداً (استولى على المدينة وأخذ تلك الذخائر، فيقال أنه عبّى سحاحير من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر، وفي ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد وبدل الشمعة قطعة من الماس مستطيلة يضيء نورها في الظلام، ونحو مائة سيف قرابتها ملبّسة بالذهب الخالص، ومنزّل عليها الماس وياقوت، ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك، وسلاحها من الحديد الموصوف كل سيف منها لا قيمة له (أي لا يقدر بثمن) وعليها دمغات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك)..

والسؤال:

لماذا استولى سعود على ما في الحجرة النبوية؟!

المؤيدون لسعود أجابوا بأن الاستيلاء على حسب مفاهيم الدعوة الوهابية جائز ومن جهة أخرى كان من أجل تغليب منفعة عامة على خاصة.. ويؤيد هذا القول المؤرخ المصري الجبرتي وجلال كشك، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، الذي وضع كشك كلامه حول الموضوع من أجل التغطية الدينية.. ونحن هنا نذكر ما قاله حفيد الشيخ ثم نورد ما عندنا من إشكالات.. يقول:

وأما التجاسر على حجرة رسول الله فإنه، رحمة الله ـ ويقصد سعوداً ـ لم يفعل هذا الا بعد أن أفتاه أهل المدينة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم، ولأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة الى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله الى ابقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة وأمر بالانفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقاً لفقراء المسلمين وذوي الحاجة منهم كالذي بأيدي الملوك والسلاطين، فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه وصرفها في مصاريفها الشرعية أحبُّ الى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها، وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة اليها..

وتعظيم الرسول وتوقيره إنما هو في إتباع أمره والتزام دينه وهديه، فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي بتحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا.. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا إتباع عادة أسلافهم ومشايخهم..)11.

بادىء ذي بدء، يجب أن نورد هذه الملاحظة، وهي أن الشيخ عبد اللطيف الذي أوردنا دفاعه عما أخذه سعود ولد عام 1225هـ وتوفي عام 1293هـ فكان ميلاده بعد الاستيلاء على المدينة والحجرة النبوية بأربع سنوات، وعليه فإن الشيخ حين يدافع إنما يدافع عن حقبة زمنية سبقته وليس هو شاهد عيان ومعاصر للحدث.. هذا أولاً..

وثانياً: حسب المعتقدات الوهابية، ليس هناك حكم شرعي ضد أخذ المال وإنفاقه في الصالح العام.. وقد أكّد الشيخ عبد اللطيف وغيره من المؤيدين أنه: طالما أن المال أخذ من أجل إنفاقه على الفقراء والمعوزين فليس هنالك من بأس.. ولكن هل كان حقاً أخذ المال من الحجرة من أجل الانفاق على الصالح العام وبالذات أهالي المدينة الفقراء؟!

جاء في الحديث (إنما الاعمال بالنيّات، وإنما لكل أمرىء ما نوى..الخ) فهل كانت نية سعود الاصلاح حقاً؟.. وهل اتبع ذلك بالعمل الصالح؟!

لم تذكر أي من المصادر التاريخية أن سعوداً طلب من مفتي المذاهب أن يعطوه رأيهم في أموال الحجرة، أو أنهم أفتوه بوجوب أخذها وإنفاقها قطعياً.. كما لم تشر المصادر الى أي نوع من التعمير والانفاق أو الاصلاح فعله سعود في المدينة، إذ لم يبق الا أياماً معددة وخرج بالأموال.. وأما ما يذكره المؤرخون عن انتعاش الحالة المعيشية، فإنما تم ذلك بعد استتباب الأمن ولم يكن بسبب إنفاق سعود..

ومما يؤكد أن سعوداً استولى على الذخائر من أجل مصلحته الشخصية هو بقاء جزء منها ـ لا أقل ـ في بيته، ثم ورثها إبنه حتى سقطت الدرعية عام 1233هـ.. أي أن هذه المجوهرات بقيت في حوزة سعود ثمان سنوات وفي حوزة ابنه عبد الله (المترف كأبيه) أربع سنوات..

يقول كشك المدافع الأول عن سرقات سعود الكبير حول وصول عبد الله بن سعود لمصر وتسليمه الذخائر الى محمد علي باشا:

(وصل عبد الله بن سعود أسيراً، وسلم ما كان بحوزة أبيه من مجوهرات الحجرة النبوية، ورحلوا عبد الله الى الآستانة حيث أعدمه الأتراك، رغم شفاعة محمد علي).12.

وعلى هذا نطرح هذا السؤال:

لماذا بقيت المجوهرات في بيت سعود؟، ولماذا أرجعها عبد الله الى محمد علي باشا إذا لم يكن معترفاً بالخطأ.. خطأ السرقة؟ ثم هل ما أرجعه هو كل المجوهرات والذخائر؟.. وهل أن سعوداً لم ياخذ منها شيئاً أبداً، وهو المعروف بإنفاقه الكثير على نسائه وعلمائه؟!

لقد صدم المسلمون على مختلف مذاهبهم وطوائفهم وعلمائهم ـ وحتى حكامهم ـ بمصادرة سعود لما في الحجرة النبوية، فطريقة السرقة (الاستيلاء) كانت وقحة وبالقوة والعنف، رغم أن المسوغات الفكرية الوهابية تجيز الاستيلاء.. ولكن الطريقة العنيفة أوحت لجموع المسلمين أن هذا إعتداء على تركة قبر الرسول من أجل الاستيلاء عليه وليس من أجل هدف ديني أو بمسوغ شرعي..

يقول كشك:

(الرأي العام صدمه الموقف، مهما كانت تبريراته، فهذا تراث حب المسلمين لنبيهم، وهذه حرمة القبر.. وحتى المتنور منهم لم يكن موقفه، ليفضل موقف سلطان المغرب الذي قال للسلطان العثماني الذي أراد ان ينفق على مقاتلة الروس، فاسترد بعض الجواهر التي تزين مصاحف عثمانية أهديت للمسجد النبوي، فقال السلطان المغربي: (إن هذا الفعل وإن لم يكن في نفسه ردية، الا أنه ما كان دأباً للملوك والأمراء.. خوفاً من القصور في الادب والاحترام).

فمع التسليم بأن أخذ المال لانفاقه لصالح المسلمين، ليس سيئاً في حد ذاته، إلا أنه يخشى أن يصبح عادة، فتمتد اليه يد الملوك والولاة بحجة الصالح العام..).

ويضيف كشك:

(وهذا التحرج.. يحتاج لقناعة بالفكر الوهابي، يمكن إزالته.. فالفكر الوهابي يرى أن القبر لا يعني رسول الله.. وأن الموتى لا ملكية لهم، وحرمتهم لا تمتد للماديات، كذلك تتأثر الحرمة والمكانة بثراء القبر أو فقره.. فوضع المال عند القبر تودداً لرسول الله، عمل مرفوض من الوهابيين، ومن ثم فلا تقصير في حق الرسول وحرمته.. ولكن الذين خارج الحركة الوهابية لم يكن من الممكن إقناعهم بهذه التفسيرات، فالعامة اعتبروها عدواناً على حرمة النبي، والمثقفون اختلفوا حولها باختلاف موقفهم من الحركة.. الذين مع السعوديين أيدوا العمل وأفتوا بمشروعيته ودافعوا عن الفعل (وإن كنا لا نعرف كاتباً أو عالماً من رجال الدين ـ غير الجبرتي ـ أثبت هذا الموقف في حينه).13.

وحين انتقد الدكتور العجلاني ـ الكاتب السلطوي الآخر ـ موقف سعود واستيلائه على الأموال دون اقناع الرأي العام وإبعاد الشبهة عن نفسه.. حيث قال: (كان ينبغي له أن يمهّد لعمله بشرح مقاصده للرأي العام)، (ثم كان عليه أن يبعد نفسه عن الشبهات بتسليم الكنوز الى رجال أمناء يتولون بيعها وصرف أثمانها في المصالح العامة، وبذلك يدرك كل انسان خلوص نيته)، علق كشك على ما قاله العجلاني بالسخرية والاستهزاء دون أن يوضح القضية من الناحية العلمية.. يقول:

(ولو كان الجبرتي حياً، واضطر لاثبات هذا النص لأتبعه بعبارة من عباراته التقليدية من طراز (وغير ذلك من بارد القول) او (غيره من الخور).

ويضيف بتهكم:

(كيف كان بوسع سعود أن يمهد الرأي العام لهذا العمل؟!.. وأي رأي عام..؟ هل كان سيكسب الرأي العام التركي إذا قال إنه لم يأخذ هذه الكنوز الا ليبيعها وينفق ثمنها في محاربتهم؟!.. أم سيكسب ليبيعها وينفق ثمنها في محاربتهم؟!.14. أم سيكسب الرأي العام المعادي لحركته أصلاً اذا ما قال لهم أنه إنما يريد التقوي عليهم لاجبارهم على الدخول في طاعته؟!)15 فهل هذا رد علمي؟..واين العلمية في ذلك؟!

إن المؤلف يرد على العجلاني بأن ما قاله عن (الصالح العام وضرورة التوعية ـ أو ما أسماه ـ بتشكيل لجنة مصادرات تتولى الانفاق على الصالح العام هو مجردة ثرثرة تافهة!) وأدلته في ذلك أنه لا يمكن اقناع الرأي العام بأن ما أخذه من أجل الصالح العام..

واعتمد في أدلته على الرأي العام التركي في البداية، ثم على الرأي العام الاسلامي، الذي أكّد كشك أنه معارض للدعوة الوهابية..

والطريقة التي عرضها بها الموضوع سقيمة..

أليس من السذاجة حقاً ان تطلب من الرأي العام التركي أن يوافق على نهب المال من الحجرة النبوية بأن تقول لهم أنه أخذها من أجل بيعها ومحاربتكم، بينما نحن نناقض قضية قبول الرأي العام وإنفاقها على الصالح العام، وبالذات على أهالي المدينة.. وكشك ذاته كان يدافع عن أخذ المال من هذه الوجهة والصالح العام وفقراء المدينة) وليس للحرب مع الأتراك!

ثم إذا كان أخذ المال للتقوي على الرأي العام الاسلامي الذي نحن بصدد طلب وده وإقناعه، فتلك تكون مهزلة.. فكيف يريد سعود إقناعهم بأن يقول لهم: إنني أخذت المال من الحجرة لأتقوى عليكم وأجبركم في الدخول في الطاعة!!

إن هذا يذكرنا بما قاله الحاكم الأموي: ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا.. وإنما لأتأمركم عليكم.. فالقضية هنا قضية زعامة وحب سيطرة وتملك، وليس إقناع رأي عام بأخذ مال لإنفاقه!!

وحول مصير المجورهات وهل أنفقت في الصالح العام؟.. يتهرب كشك عن القضية فيقول:

(القضية لم تكن يوماً ما هي مصير المجوهرات، وكم بقي منها، وكم سلم لمحمد علي.. فهذه مهمة لجنة جرد وليست مهمة مؤخّرين، ولا بالتي تشغل بال المفكرين المسلمين.. القضية هي: هل يجوز لحاكم مسلم أن يقتحم (الغرفة النبوية) ـ كما تسمى ـ ويأخذ أو يصادر ما وهبه المسلمون لرسول الله أو ما وضعوه تحت حرمة المكان؟!

وهذه هي القضية.. فلماذا نقفز فوقها بالهتاف بأن المفقودات قد ردّت؟! القضية قضية مبدأ)16.

وهنا نلاحظ أن هناك تهرباً من المؤلف حول مصير المجوهرات، لأن ذلك بيت القصيد، فالقضية هي ليست في كون العمل جائز فحسب، بل تكمن أيضاً في الشخص الذي يحق له أن يقوم بالاستيلاء وفي أين يصرفه..

منع الحجيج

إن من أكبر القضايا التي أثارت أهالي نجد والمناطق التي تحت إشراف آل سعود على أراف الحجاز هي منعهم من أداء فريضة الحج، وقد كان من جملة مبررات سعود لدخول مكة واحتلالها هو أداؤه لفريضة الحج التي يمنعه الشريف غالب من أدائها..

وحين سيطر سعود على مكة، وبعد عام تقريباً.. فعل الشيء ذاته، فمنع جميع حجاج المسلمين من أداء الفرض، ووضع بعض المبررات فكانت في مجملها لا تعبر عن طبيعة الاهداف التي قصدها سعود..

الجدير بالذكر انه في السنة التي احتّلت فيها مكة، أي عام 1220هـ انقطع الحج العراقي، وبعد عام (1221هـ) انقطع الحج الشامي، وذكر الجبرتي أنه بعد عام آخر (1222هـ) انقطع الحج المصري.

أما سبب المنع فقد كان سياسياً، ولكن سعود أراد أن يعطي قرار منعه للحج بعداً دينياً، فكانت مسألة المحمل المصري والشامي، قضية مفتعلة لحجب الاهداف السياسية والعسكرية..

ويقول السعوديون أنه بعد استيلائهم على الحجاز ظهرت على الشريف غالب إمارات التشكيك وعدم الولاء، منها تحصين (جدّة) بالبناء واحاطتها بخندق ومنعه النجديين من دخولها، ومنها أيضاً إبقاء بعض الجنود الترك والمغاربة في الحجاز!! لذا (أرادت الدرعية ان تضعه أمام الأمر الواقع فصدرت أوامرها 1221هـ ـ 1806م بمنع محامل الحج التي تأتي من جهة الشام واستانبول ومصر والعراق. ورجع عبد الله باشا العظم بالمحمل بعد أن وصل الى حدود المدينة المنورة.. وحج الأمير سعود في نفس العام وأمر بإخراج من كان في مكة من الجنود الأتراك، وكان في هذا العمل تحد من جانب آل سعود للدولة العثمانية التي كانت لها السيادة على الحرمين.

وسار سعود الى المدينة المنورة وطرد منها من يخشى منهم على نفوذ الدرعية، ورتّب فيها حامية سعودية. وقام بطرد القاضيين التركيين من مكة والمدينة وأعلن إنكار وجود أية سلطة روحية للخليفة العثماني على الحرمين).17. أي أن سعود أراد تأكيد سيطرته الروحية والسياسية على أرض الحجاز، وكان طرد الأتراك ومنع الحجاج ليس بسبب المحمل وإنما لظروف سياسية ومصلحية..

وفضلاً عن ذلك فإن من غير المعقول أن يصبر المسلمون سنيناً لا يؤدون الفريضة بسبب المحمل.. إذ لو كان بسببه لتركوه وحجّوا، فهل رفض جميع المسلمين أداء فريضة الحج مادام المحمل غير موجود؟!

ويقول آل سعود ومؤيدوهم انهم سمحوا لكثير من الحجاج بأداء الفريضة بدون اللحاق بمحمل ما.. ولكن الحقيقة أن قبولهم لهؤلاء بالحج كان لأهداف سياسية أيضاً وخصوصاً حجاج الشام والمغرب.. (إذ سمح لهم سعود بأداء الحج لإيجاد عناصر مؤيدة له..

(ازداد النفوذ السعودي في بلاد الشام وأصبح لهم دعاة داخل بعض القرى والمدن هناك، وتسربوا عن طريق مرافقتهم لبعض حجاج الشام الذين تمكنوا من أداء الفريضة برضا آل سعود، الذين كانوا دائماً يحاولون إيجاد عناصر موالية لهم داخل الجبهات التي يتعرضون لغزوها)18.

وهذا ما حدث بالفعل.. (إذ شنّ سعود حملات متتالية وسريعة عام 1225هـ على الشام وباديتها، ونهب الكثير من الأموال.. وأحرق الزروع.. ورجع دون أن يتمكن من السيطرة عليها.

مع هذا لم نسمع أن أحداً من المؤرخين يذكر أن حجاج أفريقيا أو (أندونيسيا) والمناطق الاسلامية البعيدة وما حولها أدّوا فرائضهم.. هؤلاء الذين لم يذكر التاريخ أنهم يأتون بمحمل.. فلماذا لم يحجوا في السنوات العجاف التي منعهم فيها سعود؟! ألا يدل على ان المسألة سياسية ومصلحية بعيدة عن الدين؟!

وحول نتائج استيلاء سعود على الحجاز، يذكر الاستاذ عبد الرحيم عبد الرحمن انقطاع قوافل الحج بسبب مظاهر تخالف الدين، ولكنه غلب خوف آل سعود من الحجاج الذين تصحبهم قوة عسكرية للحماية:

(انقطع وصول قوافل الحج من مصر والشام والعراق واستانبول، لأن السعوديين كانوا يرون فيما يصحب هذه القوافل من المظاهر، ما يخالف قواعد الدين، ولا يتفق مع مبادىء الدعوة السلفية، بالاضافة الى أن هذه المحامل كان يصحبها قوة عسكرية خشي منها آل سعود، ولذلك لم يسمح السعوديون لهذه القوافل بأن تصل الى الأماكن المقدسة.. مما كلّف أهل الحجاز كثيراً من الخسائر المادية، علاوة على انقطاع المساعدات التي كانت تصل اليهم من الأوقاف في الولايات العثمانية.

وليس من شك في أنه كان لهذا التصرف الذي قام به السعوديون إزاء قوافل الحج الاسلامية أثر سيء في العالم الاسلامي الذي أزعجه استيلاء السعوديون على الحرمين الشريفين)19.

وإذا ما أردنا التعليق على ما ذكره الاستاذ.. فإننا سنقول أن سعوداً لا يخشى عشرات من جنود الأتراك المرافقين للحجاج لحمايتهم من سطو اللصوص.. ثم إذا كان المحمل وما يتبعه من بضع أفراد يدقّون الطبل يعتبر عملهم مخالفاً للدين..

فإن ذلك ليس بمبرر لمنع مئات الألوف من الحجاج، كما أنه ليس حلاً، إذ ان المطلوب توعية الحجاج، ومنع المحمل وحامليه والضاربي الطبل فقط عن أداء الفريضة، أما الباقون فلا عذر لمن منعهم من أداء ذلك.

أما جلال كشك الذي اعتاد على وضع التبريرات لكل أعمال آل سعود السيئة.. فإنه يقول حول المنع الآتي:

(وقد بدأ سعود في مكة البداية الطبيعية، بقبول دخول الجميع في دين الله أفواجاً، وفتح صفحة جديدة لهم، ولكنه أدرك تآمر الشريف وعدم اخلاصه، فخاف كما قال ابن بشر ان يتقوى الشريف بالحج الشامي20، ويدبّر أمراً.. فبادر بمنع هذا الدخول كضرورة أمنية، وأيضاً لما كان يصاحب هذا الحج من مظاهر تستفز مشاعر جنوده..).. والسؤال يبقى: هل أن الضرورة الأمنية تستدعي منع كل المسلمين من الحج؟!

(ومع منع الحج الشامي.. أخذ سعود احتياطاً آخر ـ لاحظ نوعية المفردات المستعملة ـ بإخراج الاتراك من مكة، قال ابن بشر: (أخرج من كان في قصور مكة من عساكر الروم).. وقد رأينا في ما كتبه علي بك دومينغو، أنهم كانوا مسلّحين ومحصّنين، وإذا كان الدخول السعودي فاجأهم وأرهبهم، فلا يستبعد أن يتشجعوا إذا ما رأوا أمير الحج الشامي وجنوده.

وفي مثل هذا الجو كان من الطبيعي أن يغادر مكة، الأجانب الذين لا مصلحة لهم في الحرب المنتظرة، ليتجنبوا الحصار المعتاد حيث لا طعام إلا ـ النار والفار ـ .. حيث وإن ساء جلاؤهم الريحاني بعد قرن وربع.. فسجّله في قائمة أخطاء سعود الكبيرة)21!

بعد هذا يضع كشك عدة تبريرات غير تلك التي ذكرها ضمن الحديث فيقول أن:

(الحج توقف بمزيج من الاجراءات السعودية والعثمانية، وإن كان المنصف لا يحمل السعوديين وحدهم مسؤولية هذا المنع، الا أنهم لم يبذلوا جهداً كافياً لتحطيم هذا الحصار الخطير).22.

وفي موقع آخر يقول:

(إن الوهابيين لم يكونوا هم البادئين بمنع الحج بل العكس هو الصحيح، فإن شريف مكة هو الذي منع أهالي نجد من دخول مكة لأداء فريضة الحج سنة .1784.).23. فهل هذا مسوغ شرعي لأن يقوم سعود بفعل المثل؟!

وهذا كاتب آخر ينحى بالقضية منحى قومياً دنيئاً، يقول أحمد عسّة:

(ولما كان من بين الأهداف الأصلية للدولة السعودية الأولى إقامة دولة عربية ـ اسلامية مستقلة ذات سيادة، لتكون بمثابة النواة لتحرير البلدان العربية من الحكم العثماني، فقد أصدر الأمير سعود تعليماته بإبطال الدعاء للسلطان العثماني في خطب الجمعة، كما أمر بإخراج الأتراك وموظفي الدولة العثمانية، وأقام حاميات عربية (كذا)..).24.

آثار منع الحجاج

يمكننا القول ـ وبكل ثقة ـ أن قرار سعود بمنع المسلمين من أداء فريضة الحج أجهز على البقية الباقية من سمعة الدعوة الوهابية وأتباعها كما ترتب على قرار الحجاز، في الوقت الذي كان فيه الرأي العام يضغط لتخليص الحرمين ليؤدوا الفريضة المباركة.. لذا حين تحركت القوات المصرية نحو مقارعة السعوديين حصلت على مباركة من الرأي العام الاسلامي، وموافقة من قبل أهالي الحجاز وقبائله المتضررين من قرار المنع.. وهذا التوافق أدى الى إسقاط الدولة السعودية الأولى بمباركة المسلمين خارجاً وسكان الحرمين داخلاً.

وعلى هذا أيضاً لا عجب أن أسباب سقوط الدولة السعودية هو منع الحجيج..

يقول كشك: (كان من المستحيل أن يستمر هذا الوضع، فمن ناحية، أهل الحجاز.. او الجزيرة كلها يعيشون على موسم الحج وإيراداته، نهباً (كذا) أو ما يقدمه الحجاج من صدقات وينفقونه خلال إقامتهم، وجيش سعود المواظب على الحج، ليس معه نقود ولذلك يدفع الجند رصاصاً بدلاً من الدراهم صدقة لخدم زمزم).25.

وينقل أيضاً عن الجبرتي قوله:

(وإنما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي وانقطع عن اهل المدينة ومكة ما كان يصل اليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها، خرجوا من أوطانهم بأولادهم، ونسائهم، ولم يمكث الا الذي ليس له إيراد من ذلك وأتوا الى مصر والشام ومنهم من ذهب الى اسلامبول يتشكون من الوهابي ـ يقصد سعود ـ ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين، لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها، من إجراء الأرزاق واتصال الصلات والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء رجال الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك، ويذكرون ان الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر، ونقلها وأخذها، فيرون أخذه لذلك من الكبائر العظام).26.

من جانب آخر يعتقد كشك وغيره من المصادر الحكومية أن منع الحج كارثة على الدولة السعودية، أو لا أقل كان مبرراً جيداً لمهاجمة الدولة وإسقاطها.

جاء في تاريخ الثالث متوسط ما يلي:

(وقد استغل الاتراك منع الأمير سعود الكبير، للحجاج القادمين من بلاد الشام وتركيا وغيرهما من أداء فريضة الحج، لاتباعهم عادات وبدع وتقاليد لا يجيزها الشرع الاسلامي مثل: المحمل والطبل والزمر وغيره، كما استغلوا هدم السعوديين للقباب والمشاهد في مختلف انحاء الجزيرة العربية وخارجها، لاثارة عواطف المسلمين ضد الدعوة الاصلاحية والدولة السعودية..).27. أما الدكتور بكري شيخ أمين فقد ذكر بوضوح أن من أسباب سقوط الدولة السعودية منع الحجاج.. ففي معرض حديثه عن أسباب سقوط الدولة قال:

(كذلك فإن منع المحمل الشامي الذي أدى الى حرمان أفواج الحجاج من الوصول الى الديار المقدّسة ليؤدوا الفريضة المكتوبة، أحنق سكان الحجاز من جهة، إذ منع عنهم وسيلة رزقهم الوحيدة، كما أثار أعداء الدعوة من جهة أخرى على عقيدة ابن عبد الوهاب وأتباعها)28.

الخلاصة:

إن المعارضة للدعوة الوهابية والدولة السعودية ازدادت بقرار منع الحجاج من أداء الفرض، واستمر المنع عدة سنوات الى أن جاءت الحملة المصرية وانتزعت الحجاز ثم اسقطت الدولة السعودية الاولى، بفرحة تامة من المسلمين والقبائل الحجازية، وأهالي الحجاز الذين عانوا أشد الضرر من قرار المنع.


هوامش

1 - عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى، ص 117
2 - المصدر السابق ص 122
3 ـ المصدر السابق ص 123
4 ـ المصدر السابق ص 129
5 ـ المصدر السابق 130
6 ـ المصدر السابق ص 131
7 ـ ابن بشر، تاريخ نجد، ص 122 ـ 123
8 ـ المصدر السابق ص 126، وعبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى، مصدر سابق ص 135
9 ـ يذكر أهالي الحجاز نقلاً عن أجدادهم أن سعود لما دخل عند قبر الرسول رفسه برجله وقال: زعمت أن نجداً قرناً من قرون الشيطان..منها الفتنة واليها تعود.. قم فانظر إليها.. إنها بيضة الاسلام!!
10 ـلمع الشهاب ص 108 ـ 109/، وانظر عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى، ص 136
11 ـ جلال كشك، السعوديون والحل الاسلامي، ص 221
12 ـ المصدر السابق ص 187
13 ـ المصدر السابق ص 222
14 ـ بالطبع لا يوافق، إذ ستصبح المسألة مسألة زعامة وليس إنفاق قيمة ذخائر من أجل أهالي المدينة الفقراء، أو ما ادعاه حول تغليب منفعة عامة على خاصة.. حيث سيكون تغليب الزعامة على المنفعة العامة.. اليس كذلك؟!
15 ـ كشك، السعوديون والحل الاسلامي، مصدر سابق ص 221، 222
16 ـ المصدر السابق ص 221
17 ـ عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى، مصدر سابق ص 136، وانظر ايضاً ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 139 ـ 140
18 ـ عبد الرحيم عبد الرحمن، المصدر السابق ص 205
19 ـ المصدر السابق ص 139
20 ـ ولهذا كان قرار منعه قبل قرار منع المحمل المصري بسنة.. ولكن ما العذر لمنع المحمل المصري والتركي والعراقي وجميع جاج المسلمين؟!
21 ـ جلال كشك، مصدر سابق ص 141
22 ـ المصدر السباق ص 142
23 ـ المصدر السابق ص 161
24 ـ أحمد عسّة، معجزة فوق الرمال، ص 21، 22
25 ـ جلال كشك، مصدر سابق ص 143
26 ـ المصدر السابق ص 175، 176
27 ـ مادة التاريخ للصف الثالث المتوسط، ص 101
28 ـ د. بكري شيخ أمين، الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية، ص 21

الصفحة السابقة