(الحجاز للحجازيين) رغم خديعة إبن سعود

مكة الكافرة التي فتحها وأسلمها آل سعود!!

محمد قستي

الحروب الوهابية على الحجاز في الفترة ما بين 1924 ـ 1926 لم تنطلق من مجرد رؤية سياسية أو عسكرية محض، بل يندسّ فيها البعد العقائدي بدرجة عميقة، إن صدقاً وإن كذبا، وهذا لا تعكسه رسائل العلماء الوهابيين وفتاواهم فحسب، بل تفصح عنه بوضوح شديد رسائل عبد العزيز وبياناته أيضاً، بالرغم من كونه أسبغ طابعاً دينياً على حروبه بعد نحو عقد من انطلاق حروبه في نجد 1902 واحتلاله الإحساء سنة 1912.

ولاريب أن المكان ـ الحجاز يستوجب ترتيبات أيديولوجية مختلفة، إضافة إلى التجهيزات العسكرية واللوجستية والبشرية، وهذا ما جعل إبن سعود يعلي من نبرته الدينية مع بدء تجريده الحملات العسكرية الى الحجاز. كان يدرك تماماً حساسية المكان ليس على المستوى المحلي بل والإسلامي العام، فقد بقيت السيادة الدينية على الحجاز مفتوحة لعامة المسلمين، ولذلك كانت محاولات إخضاعه دينياً وسياسياً تتطلب معالجة حاذقة، ترعى حسابات دقيقة لدى المسلمين وردود فعلهم واعتبارات المكان وقدسيته..

من المفارقات اللافتة، أن كل الذين حكموا الحجاز سلماً أو عنوة لم ينطلقوا من رؤية عقدية تكفيرية للمجتمع الحجازي، باستثناء الوهابيين منذ بدء حملاتهم الأولى في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث كانوا ينظرون الى مكة والمدينة بوصفهما مدينتين مشركتين وأهلهما مشركون. هكذا تكشف الرسائل والوفود التي بعث بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى علماء الحجاز حيث تبدو اللغة الرسولية بارزة بصورة ملفتة. وحتى بعد احتلال مكة المكرمة، فقد صعد الغازي السعودي ـ الوهابي المنبر في المسجد الحرام وصار يلقي على من حضر أصول الإعتقاد، ويأمرهم بتجديد الدخول في الإسلام بإعلان الشهادتين والإلتزام بأركان الدين والإبتعاد عن الحرام..

لم تكن الرؤية العقدية مقتصرة على الطبقة الدينية الوهابية، بل أصبحت جزءً من الخطاب السياسي السعودي، فقد اعتبر الملك عبد العزيز أهل مكة مشركين. وقد نقل جون فيلبي الحوار الذي دار بينه وبين عبد العزيز في صيف 1918 ـ 1336هـ قال فيه: إذا قدّمت أنت الإنجليزي إبنتك لي كزوجه سأتزوجها ولا أشترط إلا أن يكون أولادي مســــلمين ولكني لا أتزوج إبنة الشريف ولابنات أهل مكه ولاغيرهم من المسلمين الذي نعتبرهم مشركين..

هذه الرؤية صدرت قبل أن يغزو عبد العزيز الحجاز بست سنوات، ثم جرى تسييلها خلال المعارك الوهابية في الطائف والمدينة ومكة وجدة، حيث أخذت شكلاً دموياً، ولم يتورّع جنود عبد العزيز عن اقتراف مجازر وحشية في (تربه) بالطائف، وأخرجوا السكّان الآمنين من ديارهم، وصادروا مملتكاتهم ثم جاءوا بمعاولهم في مكة يهدمون ويخرّبون ما زعموا بأنها أصنام تعبد من دون الله!

لم يكن استعمال عبد العزيز لفظة (الفتح) بعد غزو الحجاز مجرد هفوة لغوية، إذ يمكن لمن يقرأ الوثائق هنا أن يجد كلمة الفتح تتكرر في بياناته، بل إن التوصيفات التي وردت فيها، وكذلك في كتب مؤرخي الدولة السعودية الأولى (عثمان إبن بشر وحسين بن غنام) حيث يبدؤون رواياتهم عن الغزوات الوهابية بـ (غزا المسلمون..) وأمثالها.

وصف عبد العزيز غزوه للحجاز فتحاً، لما لذلك من دلالات دينية وتاريخية، فما قام به ليس سوى امتثالاً لمملى رسولي يخرج به أهل الحجاز من الظلمات إلى النور، ويعملهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ظلال مبين..هكذا هو التصوير الوهابي السعودي لاحتلال الحجاز!

ولأنه يدرك تماماً ماذا يعني احتلال الحجاز بالنسبة للمسلمين، عمد إلى قضمه بالتدريج وليس دفعة واحدة، ليس لأن المقاومة كانت شديدة فحسب، بل الأهم من ذلك لأن إحتواء ردود الفعل الإسلامية وتمرير الخدعة تطلب خطوات تمهيدية محسوبة بدقة بالغة.

بدأ مخطط القضم بتوجيهه خطاباً الى أهالي جدة مرفقاً مع كتابة إلى القناصل الأجانب، نشرته جريدة (أم القرى) في عددها الأول الصادر في 15 جمادى الأولى 1343هـ/12 ديسمبر 1924م، وجاء في الخطاب (فلا بد أنه بلغكم أن أغلب العالم الإسلامي قد أبدى رغبته وعدم رضاه عن حكم الحجاز بواسطة الحسين وأولاده).

أراد عبد العزيز من هذه الرسالة تهيئة أجواء خطواته القادمة، فهو يقدّم نفسه مخلّصاً للحجاز من حكم الأشراف، ما يلمح إلى أنه جاء فاتحاً ومن هذه حاله يستحيل أن يسلّم الحجاز لمن يراه مشركاً أو فاسد العقيدة، وإن دعوى تسليم مقاليد الحجاز للحجازيين سوى بداية الخديعة.

في بداية احتلال الحجاز، أوحى عبد العزيز للمسلمين بأنه سيعيد الحجاز لأهلها، وهم يختاروا من يحكمهم بل وشكل الحكم التي يرتضون، على أن تكون السيادة للأمم الإسلامية عامة، ثم تغيّر الحال فأصبح هو مجرد مشرف على شؤون الحجاز فيما يترك لسكانه تقرير نظامه الإداري، ثم أصبح حاكماً عليها على أن يعطى لمجلس الشورى المنتخب في الحجاز ولاية عليه، ولما تمكّن من إحكام قبضته على الحجاز بالكامل وتبدّدت مصادر تهديد سلطانه على الحجاز سحب البساط من مجلس الشورى وبدأ في توهيب الحجاز قضائياً وإدارياً وحتى سياسياً.


شعار (الحجاز للحجازيين) صار للنجديين

الوثيقة (1) : نشرت جريدة (أم القرى) في العدد 30، السنة الأولى، الصادر في 2 محرم 1344هـ/24 يوليه 1925م ما نصّه:

بلاغ عام إلى المسلمين

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها

الحمد لله الذي لا إله إلا هو. والصلاة والسلام على رسوله محمد الشفيع المشفع يوم المحشر (وبعد):

فقد تفاوضت أنا والوفد الهندي الموفد من جمعية الخلافة الهندية وجمعية العلماء في المسائل التي يهم المسلمين الإطلاع عليها والوقوف على حقيقة أفكارنا تجاهها.

وكان رائد الجميع الإخلاص في العمل والصراحة في القول والنصح لله ولرسوله وللمسلمين وإني أحمد الله على أن انتهى البحث على اتفاق في جميع المسائل التي دارت المفاوضة فيها.

وإني دحضاً لما يفتريه أعداء الحق ونصراء الباطل، ممن يستغلون التفرقة بين المسلمين ويحاولون أن يطفئوا نور الله بسعيهم الباطل للتمويه على قلوب السذّج من المسلمين الذين يجهلون حقيقة ما نحن عليه، أعلن ما يأتي ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة.

1/ أشكر الشعوب التي وقفت تجاهنا موقف المدافع عن الحق، وأشكر الشعب الهندي خصوصاً على موقفه تجاه العرب وقضيتهم في الوقت الذي اشتغل العرب بالمشاحنات والمخاصمات، ونسوا واجبهم نحو دينهم ووطنهم وإني أشكر أهل الهند لأنهم كانوا أول من لبى الدعوة، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

2/ إني لا أزال عند قولي فيما دعوت العالم الإسلامي إليه من وجوب عقد مؤتمر عام ينظر في الأمور التي تهم سائر المسلمين في الحجاز من إصلاح الطرق وتأمينها وتوفير وسائل الراحة لكل وافد وتسهيل المواصلات بقدر ما يمكن وبذلك نتحمل نحن وإياهم مسؤولية إدارة الحجاز، وستجدد الدعوة لهذا المؤتمر الإسلامي متى مهّدت وسائل المواصلات.

3/ أننا نحافظ على استقلال الحجاز الإستقلال التام محافظتنا على أرواحنا، وإننا لا نسمح أن يكون لغير المسلمين أي نفوذ فيه محافظة على ديننا وشرفنا.

4/ أن الشريعة الإسلامية هي القانون العام الذي يجري العمل على وفقه في البلاد المقدسة وأن السلف الصالح وأئمة المذاهب الأربعة هم قدوتنا في السير على الطريق القويم، وسيكون العلماء المحققون من جميع الأمصار هم المرجع لكل المسائل التي تحتاج إلى تمحيص ونظر ثاقب.

5/ أني أؤكد لكم القول أن المدينة المنورة لا تزال حرماً آمناً لا يصح أن يحدث فيه حدث من قتل أو سلب أو نهب وصونا لشرفها اكتفيت بحصارها على ما في ذلك من طول وقت وخسائر مالية وأني استطيع بحول الله وقوته أن أفتحها في ساعة واحدة ولكني حريص على سلامة البلاد والعباد. وإني مشدد الأوامر على الجنود ألا يهاجموا حرم المدينة بأي صورة ولا يدخلوها حتى يستسلم العدو، وأن ما فيها من المباني والمآثر يكون العمل فيه على ما تقدم في المادة السابقة. إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشا أن تحدّث نفس مسلم بذلك أني أفتديها بنفسي وولدي ومالي ورجالي، وإني لا أجد فرقاً بين ما حرم الله ورسوله من حرم مكة والمدينة، فإنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، كما حرم سيدنا إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وأسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.

حرر في 28 ذي الحجة سنة 1343هـ


في هذه الوثيقة يشير عبد العزيز بطريقة غير مباشرة أن ثمة سخطاً عاماً في العالم الإسلامي يكمن وراء رفض دعوته للاجتماع لمناقشة وضع الحجاز، وهناك من اعتبر الإجتماع مناسبة لإضفاء مشروعية على الاحتلال السعودي الوهابي للحجاز، كما يظهر من دفاعه عن الوهابية ورده على الانتقادات المتصاعدة ضدها في بلدان العالم الإسلامي.

من جهة ثانية، دافع عبد العزيز عن الاتهامات التي وجّهت إليه وأنه لم يرد بحروبه على الحجاز سوى احتلالها، وليس تحريرها وحفظ استقلالها، وهذا يلمح أيضاً الى خلفية قرار رفض للمشاركة في المؤتمر.

تعكس الوثيقة لغة مرنة ومنفتحة وتسامحية تجاه باقي المسلمين، تبرز منها النزعة الاستيعابية المفتعلة، خصوصاً حين يتحدّث عن إدماج المدارس الفقهية الإسلامية كمرجعية تشريعية في الحجاز.

ما تلفت إليه الوثيقة أيضاً، أن تهمة هدم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لاحقت الوهابيين منذ غزوهم للحجاز، وجاءت كتابات الوهابيين اللاحقين مثل (إبراهيم الجبهان، والشيخ ربيع المدخلي وآخرين) لتثبت التهمة، وبالتالي فإن كلام عبد العزيز عن افتدائه القبر بروحه وماله وولده ليس سوى جزء من خديعة كبرى تحدق بالحجاز برمته.


وثيقة (2): نشرت جريدة (أم القرى) في العدد 39، الصادر في 7 ربيع الأول 1344هـ/25 سبتمبر 1925، نص خطاب العفو العام، الموجّه من السلطان عبد العزيز آل سعود، إلى أهالي مكة، وجاء الخطاب بعنوان (بلاغ سلطاني..عفو عام)، وفيما يلي نص الوثيقة:

إنني منذ دخلت جنودي هذه البلدة المطهرة أمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم. ولما وصلت بنفسي إلى حرم الله هذا أكدت ذلك الأمان وأصدرت عفواً عاماً عن جميع ما كان من أي إنسان كان فيما سلف واليوم أعود وأكرر لكافة الناس أن كل إنسان كان في خدمة الحسين أو تحت طاعته فهو في أمان الله ومغفور له جميع ما تقدم من ذنبه متى عاد لهذا البلد الطاهر وأخلد للراحة والسكون فالبلد بلد الله والأمن أمن الله ولكنني لا لأسمح بوجه من الوجوه أن يقوم بأي دعاية للذين أكثروا في هذه البلاد الفساد، وأننا سنوقع أشد أنواع الجزاء على أي إنسان كان ياتي بأي حركة في ذلك السبيل فمن كان يريد السلامة لنفسه فحباً وكرامة ومن كان يريد السوء فلا يلومن إلاّ نفسه.


في هذه الوثيقة يوجّه عبد العزيز رسالة الى القيادات السياسية التي كانت مع الشريف حسين، مثل الصبان والخطيب وغيرهم والذين جرى استيعاب بعضهم ضمن الجهاز الإداري الحجازي الخاضع لسلطة ابن سعود.

ما يدهش في هذه الوثيقة ً تلك اللهجة الرسولية التي كان يستعملها عبد العزيز، ولم تكن خطاباً مرتجلاً وإنما نص مكتوب ما يعزز القناعة بأن الرجل يتحدث بلغة الفاتح والنبي كقوله (..فهو في أمان الله ومغفور له جميع ما تقدّم من ذنبه..)، فتلك لغة لا تصدر، إن صدرت، الا عن الأنبياء.


(الوثيقة 3): ورد في الصفحة الأولى من جريدة (أم القرى) العدد 45 الصادر في 19 ربيع الثاني 1344هـ/6 نوفمبر 1925، كتاب السلطان ابن سعود، إلى ملوك المسلمين والجمعيات والهيئات الإسلامية وجهه يوم 10 ربيع الآخر سنة 1343 ما يلي نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود

إلى...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فإني أرجو لكم دوام الصحة والعافية وأني لسعيد أن أمد يدي ليدكم ولكل يد عاملة لخير الإسلام والمسلمين، وأني مملوء ثقة أنه بتعاوننا على الخير سيكون المستقبل السعيد لجميع الشعوب الإسلامية.

إني لست من المحبين للحروب وشرورها، وليس لدي شيء أحب من السلم والسكون، والصفاء والهناء، والتفرّغ للإصلاح، ولكن جيراننا الأشراف أجبروني على امتشاق الحسام وخوض غمرات الحرب خمس عشرة سنة لا في سبيل شيء سوى الطمع على ما بأيدينا، فقد صدونا عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد. ودنّسوا البيت الطاهر بكل أنواع الموبقات مما لا يحتمله مسلم. لقد رفعنا علم الجهاد لتطهير بلاد الله الحرام وسائر بلاد الله المقدّسة من هذه العائلة التي لم تترك سبيلاً لحسن التفاهم وحسن النية بما اقترفت من الشرور. وإني والذي نفسي بيده، لم أرد التسلط على الحجاز، ولا تملّكه، وأن الحجاز وديعة في يدي الى الوقت الذي يختار الحجازيون لبلادهم والياً منهم ليكون خاضعاً للعالم الإسلامي تحت إشراف الأمم الإسلامية والشعوب التي أبدت غيرة تذكر في هذا السبيل كأهل الهند وأمثالهم.

إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي، والتي لم نزل نحارب من أجلها مجملة فيما يلي:

1/ أن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق التي لهم في هذه البلاد.

2/ سنجري الاستفتاء التام باختيار حاكم الحجاز تحت إشراف مندوبي العالم الإسلامي ويحدد الوقت اللازم لذلك فيما بعد، وسنسلم الوديعة التي في أيدينا لهذا الحاكم على الأسس الآتية:

1 ـ يجب أن يكون السلطان الأول والمرجع للناس كافة الشريعة الإسلامية المطهرة.

2 ـ حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا يصح لها أن تعلن الحرب على أحد، ويجب أن يوضع لها النظام الذي يمكنها من ذلك.

3 ـ لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أي دولة كانت.

4 ـ لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات اقتصادية مع أي دولة غير إسلامية.

3/ تحديد الحدود الحجازية ووضع النظم المالية والقضائية والإدارية للحجاز موكول للمندوبين المختارية من المم الإسلامية. وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله كل دولة للعالم (الأصل) الإسلامي والعربي. وسيضم لهؤلاء مندوبين (الأصل) من جمعية الخلافة، وجماعة أهل الحديث، وجمعية العلماء في الهند، ومندوبين (الأصل) من قبل الجمعيات والهيئات الإسلامية، التي تمثل المسلمين في الديار التي ليست فيها حكومة إسلامية.

هذا ما نويناه لهذه البلاد، وما سنسير عليه في المستقبل إن شاء الله تعالى. ولي الأمل العظيم، في أن تسرعوا في إرسال مندوبيكم وإخبارنا عن الوقت المناسب لعقد هذا المؤتمر. هذا ما لزم بيانه.

ملحوظة:

أرسل هذا الكتاب إلى: جلالة ملك مصر، جلالة ملك الأفغان، رئيس الجمهورية التركية، جلالة شاه إيران، جلالة ملك العراق، الأمير عبد الكريم (الخطابي) أمير الريف (في المغرب)، صاحب السيادة الإمام يحيي (حميد الدين إمام اليمن)، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، رئيس جمعية الخلافة في بومباي، جمعية الحديث في أمرتسر (بالهند)، جمعية العلماء في الهند، صاحب الدولة باي تونس، رئيس حكومة طرابلس الغرب، الشيخ بدر الدين الحسيني، الشيخ بهجت البيطار في دمشق، النظارة الدينية المركزية في بلدة أورفا من بلاد روسيا، القاضي مصطفى شرشلي في بلدة تيزي أوزو بالجزائر، رئيس شركة إسلام في بلدة جو كجاكارتا من بلد جاوه، الشركة المحمدية في جاوه.


يبدي عبد العزيز في هذا الخطاب الموجّه الى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية مرونة مفتعلة، حين يؤكد على شعار (الحجاز للحجازيين)، بما يمليه من خطوات تؤكد على حق سكان الحجاز على إدارة شؤون بلادهم ـ الحجاز. غير أن عبد العزيز لم يترك ذلك الشعار مفتوحاً، دون أن يربطه بقيود تفضي في نهاية المطاف الى خضوع السلطة والحكم في الحجاز له وحده، حين ثبّت موضوع الاستفتاء لاختيار حاكم في الحجاز. يلزم الإشارة هنا إلى أن عبد العزيز يوجّه خطابه ولمّا يسقط الحجاز بالكامل عسكرياً، ولذلك لم يكن من السهولة بمكان إعلان الحجاز إمارة سعودية وهابية قبل أن يستكمل مخططه الاحتلالي. وسنلحظ أن مرونة ابن سعود تزول تدريجياً كلما نجح في قضم المزيد من الأراضي الحجازية، فيما ينكث بوعوده للحجازيين وللعالم الإسلامي بتسليم الوديعة لحاكم من أهل الحجاز، الذي لم يظهر قط، وإنما عنى بالحاكم نفسه أو من ينوب عنه من أبنائه، وهذا أيضاً مقتضى (الفتح الوهابي) للحجاز.


(وثيقة 4): نشرت جريدة (أم القرى) في عددها 52 الصادر في 11 جمادى الثانية 1344هـ/27 ديسمبر 1925م، بلاغاً عاماً، من السلطان عبد العزيز إلى أهل الحجاز، مايلي نصّه:

بسم الله الرحمن الرحيم

بلاغ عام

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود إلى إخواننا أهل الحجاز سلمهم الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد:

فإني احمد الله إليكم وحده الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأهنئكم وأهنىء نفسي بما منّ الله علينا وعليكم من هذا الفتح، الذي أزال الله به الشر، وحقن دماء المسلمين، وحفظ اموالكم، وأرجو من الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه، ومتبعي هداه.

إخواني: تفهمون أني بذلت جهدي وما تحت يدي في تخليص الحجاز لراحة أهله وأمن الوافدين إليه: طاعة لأمر الله، قال جل من قائل: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)، وقال تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).

ولقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن ساد السكون والأمن في الحجاز من أقصاه إلى أقصاه، وبعد هذه المدة الطويلة التي ذاق الناس فيها مُر الحياة وأتعابها.

ولمّا منّ الله بما منّ، من هذا الفتح السلمي الذي كنا نتنظره ونتوخاه، أعلنت العفو العام عن جميع الجرائم السياسية في البلاد. وأمّا الأخرى فقد أحلت أمرها للقضاء الشرعي لينظر فيها بما تقتضيه المصلحة الشرعية في العفو.

وإني أبشّركم ـ بحول الله وقوته ـ أن بلد الله الحرام في إقبال وخير وأمن وراحة، وإنني إن شاء الله تعالى سأبذل جهدي، فيما يؤمن البلاد المقدّسة، ويجلب الراحة والإطمئنان لها.

لقد مضى يوم القول، ووصلنا إلى يوم البدء والعمل، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، واتّباع مرضاته، والحث على طاعته، فإنه من تمسّك بالله كفاه، ومن عاداه ـ والعياذ بالله ـ باء بالخيبة والخسران. إن لكم علينا حقوقاً، ولنا عليكم حقوقاً. فمن حقوقكم علينا النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم وأعراضكم وأموالكم إلا بحق الشريعة. وحقنا عليكم المناصحة، والمسلم مرآة أخيه. فمن رأى منكم منكراً في أمر دينه أو دنياه فليناصحه فيه. فإن كان في الدين، فالمرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن كان في أمر الدنيا، فالعدل مبذول إن شاء الله للجميع على السواء.

إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة. وإني أحذر الجميع من نزغات الشياطين والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار. فإني لا أراعي في هذا الباب صغيراً ولا كبيراً. وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره.

هذا ما يتعلق بأمر اليوم الحاضر، وأمّا مستقبل البلد، فلا بد لتقريره من مؤتمر يشترك المسلمون جميعاً فيه مع أهل الحجاز، لينظروا في مستقبل الحجاز ومصالحها.

وإني أسأل الله أن يعيننا جميعاً ويوفقنا لما فيه الخير والسداد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تحريراً بجدة في 8 جمادى الثانية سنة 1344هـ

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود


بدأت لغة الفتح تبرز في بيانات عبد العزيز، وتصاعدت معها النبرة الدينية والمهمة الرسولية، فهو اليوم لا يتحدث بلغة الغازي العسكري، وإنما بلغة الفاتح الذي يحمل معه رسالة دينية، ويريد تطهير الحجاز من الأصنام والأوثان، وهاهو يستعمل لغة التهويل الديني وينذر باسم السماء بعقوبات لأهل الأرض من العاصين الذي يخالفون أوامره. الأهم من ذلك، أن عبد العزيز لا يقدّم نفسه كمستودع على الحجاز، بل أصبح يتحدث بلغة الحاكم الذي يريد فرض الأمن والنظام والحقوق المفروضة على سكان الحجاز، ويحذر من الخروج عليه (فإني لا أراعي في هذا الباب صغيراً ولا كبيراً. وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره).

ثمة مهمة إبراهيمية يتقمصمّها عبد العزيز في إدارة شؤون الحج، الذي سيكون أحد المصادر الكبرى لمداخيل دولته، ولابد حينئذ من تأمين طرق الحج كشرط لتأمين الشريان الحيوي لاقتصاد دولته.


وثيقة (5) نشرت جريدة (أم القرى) في عددها 54 الصادر في 23 جمادى الثانية 1344هـ/8 يناير 1926 بلاغاً عاماً من السلطان عبد العزيز مايلي نصّه:

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونشكره، ونصلى ونسلم على خير أنبيائه وأشرف مخلوقاته سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،

أمّا بعد فلقد بلغ القاصي والداني ما كان من أمر الحسين وأولاده وأمرنا إلى أن اضطررنا لامتشاق الحسام دفاعاً عن أرواحنا وأوطاننا ودفاعاً عن حرمات الله ومحارمه. ولقد بذلت النفس والنفيس في سبيل تطهير هذه الديار المقدّسة إلى أن يسر الله الكريم بفضله فتح البلاد واستتباب الأمن فيها. ولقد كانت عزيمتي منذ باشرت العمل في هذه الديار أن أنزل على حكم العالم الإسلامي ـ وأهل الحجاز ركن منه ـ في مستقبل هذه الديار المقدّسة. ولقد أذعت الدعوة للمسلمين عامة غير مرة أدعوهم لعقد مؤتمر إسلامي يقرر في مصير الحجاز ما يرى فيه المصلحة، ثم عززت ذلك بدعوة عامة وخاصة، فأرسلت كتاباً للحكومات والشعوب الإسلامية في 10 ربيع الثاني سنة 1344، وقد نشر ذلك الكتاب في سائر صحف العالم، ومضى عليه ما يزيد عن الشهرين لم أتلق على دعوتي جواباً من أحد، ما عدا جمعية الخلافة في الهند فإنها ـ بارك الله فيها ـ عملت وتعمل كل مافي وسعها لراحة الحجاز وهنائه.

ولما انتهى الأمر في الحجاز إلى هذه النتيجة التي نحمد الله عليها جاءني أهل الحجاز جماعات ووحداناً يطلبون مني أن أمنحهم حريتهم، التي وعدتهم بها في تقرير مصيرهم فلم يسعني أمام طلباتكم المتكررة إلا أن أمنحهم هذه الحرية، ليقرروا في شأن بلادهم ما يشتهون بعد ما ظهر من العالم الإسلامي هذا الصد والإعراض عن مثل هذه القضية الهامة (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب).

22 جمادى الثانية 1344

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود


يستعيد عبد العزيز في هذا البلاغ لغة الفاتح، حيث يضع حروبه ضد الشريف حسين في إطار ديني، فيما تتكشف حقيقة ردود الفعل السلبية من دعوته لعقد مؤتمر إسلامي لتقرير مصير الحجاز، فقد كان الموقف الإسلامي سلبياً بعد أن أماط ابن سعود اللثام عن أهدافه الحقيقية من غزو الحجاز. فلم تنطل الخدعة على زعماء الدول الإسلامية، الأمر الذي دفعه لتوظيفها لصالحه بكونه ألقى العذر على من رفض الدعوة.

يلحظ أيضاً تشويه متعمد من ابن سعود لموقف أهالي الحجاز، حين زعم بأنه منحهم الحرية في تقرير مصير بلادهم، بل وجد في صدود زعماء البلدان الإسلامية فرصة مناسبة لاستكمال مهمة الاحتلال وإحكام القبضة على مقاليد وشؤون الحجاز.


(وثيقة 6): نشرت جريدة (أم القرى) العدد 55، الصادر في 30 جمادى الثانية 1344هـ/ 15 يناير 1926، أول بيان لسلطان نجد، بعد بيعته ملكاً على الحجاز

موجه إلى معتمدي الحكومات الأجنبية في جدة

بلاغ ملكي إلى الحكومات المتحاربة

بفضل الله وبنعمته قد أجمع أهل الحجاز وبايعونا بالملك على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله والخلفاء الراشدين من بعده، وتأسيس حكم شوري يكون شأن الحجاز فيه للحجازيين. وقد استعنا بالله وتوكلنا عليه وقبلنا هذه البيعة، مستمدين التوفيق والمعونة من الله تعالى. وقد أصبح لقبنا (جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها). وسنقوم بتوطيد الأمن والراحة والرخاء، وجلب السعادة والهناء لسكان هذه الديار، ولجميع الوافدين من الحجاج والقصّاد. وسنعمل كل ما من شأنه أن يحقق رغائب العالم الإسلامي، ويقر أعينهم في إدارة هذه البلاد المقدسة.

نسأله تعالى أن يعيننا على حمل أعباء هذا الأمر والله ولي التوفيق

ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها

عبد العزيز


بدا واضحاً في هذه الوثيقة أن عبد العزيز قد استكمل فصول خديعة الإحتلال تحت شعارات نبيلة، فقد تبخّرت وعوده بتطبيق (الحجاز للحجازيين)، وتفويض أمر الحجاز لحاكم منتخب. لم تحصل البيعة له دون حملة تهويل واسعة النطاق، فصارت بيعة قهرية زعم بأنها جاءت إجماعية. وما يلفت أن اللهجة الدينية تخفّفت بدرجة لافتة، فلم نعد نرى تلك اللغة العقدية الصارمة والجازمة، بل إن إسباغ عبد العزيز لقب ملك، وليس خليفة، أو حتى سلطان يشي بنزوع تسلطي شديد. فبينما اختار ابن سعود أن يكون مجرد سلطان في نجد وملحقاتها، قرر أن ينفرد بلقلب ملك على الحجاز، وكأن هذه المنطقة تعني له شيئاً أكبر من مجرد سلطة، بل ملك أبدي، يراد دمجه في شعار (ملك الآباء والأجداد)، وبالتالي فإن ما يعطيه لأهل الحجاز يحسب إحساناً منه وليس واجباً عليه أو حقاً مشروعاً لأهل الحجاز. أراد أيضاً القول بأن تأسيس المملكة يبدأ من الحجاز، وبالتالي فإن نجاح مشروعه السياسي يتوقف على سيطرته على منطقة الحجاز الذي منه يستتب الأمن في عموم المناطق الأخرى.


(وثيقة 7): نشرت جريدة (أم القرى) في عددها 71 الصادر في 7 ذي القعدة 1344هـ/14 مايو 1926، أول بلاغ رسمي يصدره عبد العزيز بعد فرض سيطرته على الحجاز وفيما يلي نصّه:

بلاغ رسمي

الدعوة لانتخاب المجالس الاستشارية

امتثالاً لأمر الله تعالى في استشارة أهل الرأي والخبرة، والرجوع إلى آرائهم فيما يهم من الأمور ورعاية لحقوق الأمة وأداء للأمانة التي حملنا إياها، أمرنا بما هو آت:

1/ يؤلف مجلس استشاري في كل من مكة والمدينة وجدة وينبع والطائف للنظر في المسائل العامة المحلية. وتكون هذه المجالس بالانتخاب بدرجة واحدة.

2/ يؤلف مجلس مكة من عشر أعضاء سوى الرئيس الذي تختاره الحكومة، ومجلس المدينة من ستة أنفار سوى الرئيس، ومجلس ينبع من أربعة أعضاء سوى الرئيس، ومجلس الطائف من أربعة أعضاء سوى الرئيس.

3/ يؤلف مجلس عام يدعى (بمجلس الشورى العام) ينتخب أعضاؤه من قبل المجالس الاستشارية المحلية ويؤلف أعضاؤه من ثلاثة عشر عضواً، أربعة من مكة وإثنان من المدينة، وإثنان من جدة، وآخرين من ينبع، وواحد من الطائف، وثلاثة من رؤساء العشائر.

4/ الذين لهم حق الإنتخاب هم طوائف العلماء وأعيان البلاد والتجار ورؤساء الحرف والمهن.

الأعضاء المنتخبون يجب أن تتوفر فيهم الشروط الآتية وهي:

1/ إجادة القراءة والكتابة، وحسن السيرة، وعدم صدور أحكام مخلة بالدين والشرف.

2/ مدة عضوية هذه المجالس سنة واحدة.

على نائبنا العام القيام بتنفيذ أمرنا هذا

ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها عبد العزيز


مجلس الشورى في الحجاز ليس سوى النسّخة المزوّرة لوعد إبن سعود بمنح الحجازيين حق تقرير المصير، وكما طار وعد الإستقلال كان مقدّراً ومقرراً للمجلس أن يؤول الى المصير نفسه. ببساطة، لأن عبد العزيز أراد من المجلس شرعنة سلطته، واحتواء حركة الإحتجاج ورموزها ضمن إطار رسمي أريد له أن يكون جزء من مرحلة انتقالية يتم فيه ترسيخ أركان السلطة. وفي كل الأحوال، صار المجلس مجرد الحلقة ما قبل الأخيرة لمصادرة الحجاز واحتلاله التام.


(وثيقة 8): نشرت جريدة (أم القرى) في عددها 75 الصادر في 30 ذي القعدة 1344هـ/11 يونيه 1926م، خطابالملك عبد العزيز الإفتتاحي للمؤتمر الإسلامي الأول هذا نصّه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فإني أحييكم وأرحب بكم وأشكر لكم الدعوة إلى هذا المؤتمر.

أيها المسلمون الغيورون! لعل اجتماعكم هذا في شكله وفي موضوعه أول اجتماع في تاريخ الإسلام ونسأله تعالى أن يكون سنة حسنة تتكرر في كل عام، عملاً بقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وبإطلاق قوله عز وجل (وأتمروا بينكم بمعروف).

إنكم تعلمون أنه لم يكن في العصور الماضية أدنى قيمة لما يسمى في عرف هذا العصر بالرأي العام الإسلامي، ولا بالرأي العام المحلي، بحيث يرجع إليه الحكام للتشاور فيما يجب من الإصلاح في عهد الإسلام. ومشرق نوره الذي عم الأنام وقد تولى أمر الحجاز دول كثيرة كان من خلفائها وسلاطينها من عنوا ضرباً من العناية ببعض شؤونه. ومنهم من أراد أن يحس فأساء بجهله. ومنهم من لم يعدل بامره البتة. فتركوا الأمراء المتولين لإدارته بالفعل يلحدون في الحرم، ويفسدون في الأرض، ويظلمون السكان والحجاج ما شاءت مطامعهم وأهواؤهم.

وقد تفاقم البغي والعدوان بعد زوال سيادة الدولة العثماينة عن هذه البلد وخلوص امرها إلى الشريف حسين بن علي آخر اولئك الأمراء، فاضطرب العالم الإسلامي كله من استبداده وظلمه، ومن عجز عن توطيد الأمن في البلاد، ومن جعلها تحت السيطرة الأجنبية غير الإسلامية، كما هو منصوص في مقررات نهضته الرسمية، وفيما نشره في جريدة القبلة. ولدينا مما ترك في أوراقه الخاصة بخطة ما هو أجل مما ذكر على جعل نفسه عاملاً موظفاً لبعض الدول الأجنبية.

وقد كنا معشر النجديين جيران الحجاز عرضة لبغيه وإيذائه لنا في ديننا ودنيانا من رمى بالكفر، ومنع من أداء فريضة الحج وإغراء لبعض رعايانا بالخروج علينا، وغير ذلك مما لا يحل لبسطه في هذا الحطاب فلما بلغ السيل الزبى وثبت بالتشاور بين أهل الحل والعقد عندنا أنه يجب علينا شرعاً إنقاذ مهد الإسلام من بغيه وظلمه وعزمنا على ذلك وتوكلنا على الله في تنفيذه، وبذلنا أموالنا وأنفسنا في سبيله، فأيدنا الله بنصره، وطهرنا البلاد المقدّسة من بغيه وبني ولده، كطما عاهدنا الله ووعدنا المسلمين.

وقد كنا معشر النجديين جيران الحجاز عرضة لبغيه وإيذائه لنا في ديننا ودنيانا من رمى بالكفر، ومنع من أداء فريضة الحج وإغراء لبعض رعايانا بالخروج علينا، وغير ذلك مما لا يحل لبسطه في هذا الحطاب فلما بلغ السيل الزبى وثبت بالتشاور بين أهل الحل والعقد عندنا أنه يجب علينا شرعاً إنقاذ مهد الإسلام من بغيه وظلمه وعزمنا على ذلك وتوكلنا على الله في تنفيذه، وبذلنا أموالنا وأنفسنا في سبيله، فأيدنا الله بنصره، وطهرنا البلاد المقدّسة من بغيه وبني ولده، كطما عاهدنا الله ووعدنا المسلمين.

أيها الإخوان: إنكم تشاهدون بأعينكم وتسمعون بآذانكم ممن سبقكم إلى هذه الديار للحج والزيارة أن الأمن العام في جميع بلاد الحجاز حتى بين الحرمين الشريفين بدرجة الكمال التي لم يعرف مثلها ولا يقرب منها منذ قرون كثيرة، بل لا يوجد ما يفوقها في أرقى ممالك الدنيا نظاماً وقوة ولله الفضل والمنة: ففي بحبوحة هذا الأمن، والحرية التي لا تنفيذ إلا بأحكام الشرع، أدعكم إلى الائتمار والتشاور في كل ما ترون من مصالح الحجاز الدينية والعمرانية والنظم التي يطمئن بها العالم الإسلامي بإقامة شرع الله والتزام أحكامه وآداب دينه في مهد الإسلام ومهبط الوحي، وتطهيره من البدع والخرافات، والفواحش والمنكرات، التي كانت فاشية فيه بدون نكير، وباستقلاله المطلق وسلامته من كل نفوذ أجنبي.

أدعوكم إلى تدارك كل ما قصر فيه من قبلنا من المسلمين بتركهم وطن دينهم الذي بزغ منه نور الهدى والعرفان، في ظلمات حالكة من الجهل وفساد الأخلاق والآداب، أدعكم إلى النظر في كل وسيلة لجعل حرم الله وحرم رسوله أرقى معاهدة العلوم علماً وعرفاناً، وخير معاهدة التربية تهذيباً وأدباً، وأكمل بلاد الله صحة ونظافة، وأولى البلاد الإسلامية بإحياء دعوة الإسلام.

كل شيء في هذه البلاد يحتاج إلى الإصلاح. وحكومته وأهله في أشد الحاجة إلى مساعدة العالم الإسلامي لهما على هذا الإصلاح، لأن فيه من يعلم ما لا يعلمون، ويقدر على ما لا يقدرون.

أيها المؤتمرون الكرام، أنكم أحرار اليوم في مؤتمركم هذا. ولا تقيدكم حكومة البلاد بشيء وراء ما يقيدكم به دينكم من التزام أحكامه، إلا بشيء واحد سلبي وهو عدم الخوض في السياسة الدولية، وما بين بعض الشعوب الإسلامية وحكوماتها من خلاف فإن هذا من المصالح الموضعية الخاصة بتلك الشعوب.

إن المسلمين قد أهلكهم التفرّق في المذاهب والمشارب، فأتمروا في التأليف بينهم والتعاون على مصالحهم ومنافعهم العامة المشتركة، وعدم جعل اختلاف المذاهب والأجناس سبباً للعداوة بينهم (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وكذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).

وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لإقامة دينه الحق، وخدمة حرمه وحرم رسوله صلوات الله وسلامه عليه، والتأليف بين جماعة المسلمين، والحمد لله رب العالمين

26 ذي القعدة سنة 1344


يبدأ عبد العزيز رسالته برسم صورة القائد الإسلامي الذي جاء بمعجزة نادرة الحدوث في تاريخ المسلمين. وعلى خلفية هذا التصوير، تقرر أن يعقد المؤتمر الإسلامي وقد أغلق عبد العزيز الأبواب على الحجاز، ولم يعد هناك ما يخافه أو التنازل عنه، فالمؤتمر يعقد وقد أصبح ملكاً، فتحت سقف سلطانه يتم التباحث في الشؤون الحجازية. لم يكن سوى مناسبة بروتوكولية عادية، أراد منها عبد العزيز مباركة قادة الدول الإسلامية لحكمه في الحجاز، ولذلك جاء خطابه الافتتاحي تعبيراً عن موقعه كملك على هذه المنطقة، وليس قسيماً أو شريكاً مع بقية قادة المسلمين، دع عنك تخويل الحجازيين أنفسهم بالحديث عن مصير بلادهم. أصبح ابن سعود في هذا المؤتمر يملي جدول أعماله، ويطالب المشاركين بما يجب تداوله وما لا يجوز الاقتراب منه، وهاهو يستعرض منجزاته السياسية والأمنية في الحجاز، كما يستعرض سياسات قادمة ينوي رسمها وتطبيقها فيه. لم يعد يكترث لانتقادات المسلمين ولا تقديم تطمينات لهم بشأن تهديم قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو إزالة آثار الرسالة من المدينتين المقدّستين، فذلك بات (شأناً داخلياً) محض لا يجوز للآخرين التعرّض له أو إثارته. وبالتالي فالحجاز لم يعد للحجازيين، بل تحوّل للسعوديين الوهابيين!


(وثيقة 9): نشرت جريدة (أم القرى) في العدد 80 الصادر في 25 ذي الحجة 1344هـ/9 يوليه 1926م بياناً من الملك عبد العزيز إلى المؤتمر الإسلامي هذا نصّه:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

أيها الإخوان:

لا أريد أن أتداخل في أعمالكم ولا أقيد حرية المؤتمر في البحث كما وعدت بذلك في خطاب الإفتتاح، ولكني ألفت نظركم الكريم إلى بعض الأمور بصفتي زعيماً من زعماء الإسلام الذين ألقيت إليهم مقاليد أمور هذه البلاد.

إن الدعوة التي وجهتها إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وشعوبهم والتي عليها أوفدت الحكومات والشعوب ممثليها تنحصر في إسعاد هذه البلاد وإنهاضها من كبوتها، وجعلها في المستوى اللائق بكرامة المسلمين دينياً وعلمياً واقتصادياً. ولقد كنت انتظر من حضرتكم كما ينتظر إخوانكم المسلمون في كل مكان أن تخطوا خطوات واسعة في هذا السبيل، ولكن يظهر أننا نحاول القيام بكل شيء في أول مؤتمر إسلامي، وأخشى أن حرصنا على القيام بكل شيء، يجعلنا نفقد كل شيء، وأفضل شيء التدرج في السير فرب عجلة وهبت ريثا

أيها الإخوان:

إني وإن لم أحضر مجلسكم، واقف على مباحثكم بالتفصيل، فإني على اتصال دائم روحي بكم، ويهمني جداً أن تنجحوا حتى تبرهنوا للعالم أن المسلمين أهل للحياة، وأنهم يجب أن يأخذوا قسطهم من الحياة في هذا الوجود، وأن دينهم لا يحول دون رقيهم، وإن اختلفوا في الآراء والأفكار، فهم أمام المصلحة العامة كتلة واحدة لا تنفذ إليهم الأغراض والأهواء.

أيها الأخوان:

إني لا أريد علواً في الأرض ولا فساداً ولكن أريد الرجوع بالمسلمين إلى عهدهم الأول عهد السعادة والقوة عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، لا شيء يجمع القلوب ويوحّدها سوى جعل أهوائنا تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بقعة في الأرض تصلح لهذا الغرس سوى هذه البقعة الطاهرة، التي منها بزغ شمس الإسلام، ولذا فإني أرى أن تكون الكلمة العليا، والرأي النافذ لجميع العلماء المحققين، الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، وإن جميع البلدان الإسلامية مملوءة بالعلماء أولي البصيرة والخبرة، فلترسل كل أمة منهم جماعة ليقوموا بالوعظ والإرشاد وتقرير ما يجب تقريره في هذه البلاد.

كلنا يعلم أن هذه البلاد ينقصها شيء عظيم من الإصلاح ديناً ودنيا، فشاركونا في ذلك نشكركم، ويشتد ساعدنا بكم. أما تركنا نسير وحدنا والوقوف موقف الناقد العاذل، فذلك لا يليق بالأخوة الإٌسلامية التي تربطنا جميعاً.

أيها الإخوان:

إننا لا نكره أحداً على اعتناق مذهب معين، أو السير في طريق معين في الدين، فذلك موكول أمره لعلماء الدين وحملة الشريعة، ولكني لا أقبل بحال من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات، التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطرة السليمة. لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين او يثيروا فتنة عمياء بين المسلمين وخير لنا أن ننظر إلى صالح المسلمين ونترك هذه الأمور الجزئية للعلماء فهم أحرص منا على ذلك.

أيها الأخوان:

أرجو أن لا تضيع الفرصة الباقية قبل أن تستفيد البلاد المقدسة منكم، حتى يجيء الحج القادم وقد شعر المسلمون الوافدون أنكم قمتم بواجبكم نحو هذه البلاد. وبهذه المناسبة أقدّم لكم خطتنا السياسية لهذه البلاد لترشدونا إن أخطأنا وتؤيدونا إن أصبنا:

إننا لا نقبل أي تدخل أجنبي في هذه البلاد الطاهرة أياً كان نوعه.

إننا لا نقبل امتيازاً لأحد على أحد، بل جميع الوافدين لهذه البلاد يجب أن يخضعوا للشريعة الإسلامية.

إن بلاد الحجاز يجب أن يوضع لها نظام حيادي خاص لا تحارب، ولا تُحارب. ويجب أن يضمن بعد الحياد جميع الحكومات الإسلامية المستقلة.

النظر في مسائل الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأقطار الإسلامية، ووجوه صرفها، وانتفاع البلاد المقدّسة منها.

هذا ما أحببت تقديمه إليكم، والله يتولانا وإياكم برعايته، ويوفقنا جميعاً لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

في 21 ذي الحجة سنة 1344هـ


في خطابه الثاني للمؤتمر، بدت لهجة عبد العزيز أشد صرامة وحزماً، بالرغم من أنه أدرك في مرحلة مبكّرة بأن قادة الدول الإسلامية لن يحضروا المؤتمر، لأن في ذلك إعترافاً غير مباشر بشرعية احتلاله للحجاز. قرر الغياب عن المؤتمر، وكان ذلك دليلاً كافياً على عدم جديّة عبد العزيز بموضوع المؤتمر كما زعم قبل استكمال مراحل احتلال الحجاز.

وهنا يمزج عبد العزيز بين بعدين سلطوي ورسولي، بزعم العودة بالمسلمين إلى العصور الأولى للإسلام، بما يشير إلى موقف عقدي من المجتمعات الإسلامية القائمة، كونها منحرفة عن خط الإسلام النقي، ولذلك اعتبر الحجاز، بزعمه، منطلقاً لحركة تديين واسعة النطاق، على طريقة المسلمين الأوائل.

لفتت الوثيقة أيضاً الى أن عبد العزيز بدا حاسماً في معارضة تدخل أي دولة أخرى في الشؤون الحجازية، والتي جمعها تحت عنوان (تدخل أجنبي)، بعد ان كان يعرّف الأجنبي من غير المسلمين، ولم يكن القصد به الدول الأوروبية وغيرها في خطابه الثاني، بل كان يشير إلى الدول الإسلامية بدرجة أساسية، كما يفهم من تنظيم الموارد المالية في الحجاز (الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأفطار الإسلامية)، ووجوه صرفها، إذ لم يعد منذاك للدول الإسلامية أن تقرر مصارف الأموال المرسلة الى الحجاز، ولا السيطرة عليها، بل ستكون جزءً من ماليات الدولة السعودية.



الصفحة السابقة