المكانة الفقهية للمدينة المنورة

أحمد محمد نور سيف

احتلت المدينة مكانة مرموقة في العهد النبوي بين سائر الأمصار، فقد شهدت فجر التشريع الإسلامي، وحظيت في تاريخه بمرحلة لم يحظ بها مصر من الأمصار. ولئن كانت دعائم العقيدة قد أرسيت بمكة، فقد كانت المدينة المكان الذي اختاره الله لتنزل فيها جلّ أحكامه وكان الصحب الكرام بها هم الذين تولوا تطبيق هذه الأحكام.

ولكي يحبب عليه الصلاة والسلام الوطن الجديد الى نفوس المهاجرين أصحابه بعد أن هجروا الأهل والأوطان، يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ)(1).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض بقعة هي أحب إليّ أن يكون قبري بها منها) ـ ثلاث مرات ـ يعني المدينة(2). ويقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)(3). مع ما جاء في الآثار الكثيرة في فضلها وتقديمها على غيرها(4).

وإن مجتمعاً عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربّى فيه على يديه النواة الأولى لخير أمة أخرجت للناس ـ شيوخ وكهول وشباب ونساء وأطفال ـ لهو مجتمع لا يدانيه أي مجتمع آخر، فقد شاهد هذا المجتمع الوحي، وصاحب الدعوة، ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم في غدواته وروحاته، وفي يسره وعسره، وفي حربه وسلمه. فكان لهذه الملازمة والصحبة آثار نفسية، ومعان إيمانية، وتعلّق روحي يذيب كل مخلفات الماضي، ويطبع النفوس بتلك التعاليم، في فترة وجيزة لم يعهد لها مثيل في التاريخ.

وبهذا امتاز المجتمع المدني عن أي مجتمع آخر ـ طُعّم بتلك اللبنات ـ بأنه مهما بلغ التأثر بتلك العناصر الوافدة عليه، فلا يمكن أن يبلغ ذلك المستوى الذي عاشت على أرضه تلك الدعوة، وسار على أرضها صاحب تلك الدعوة، ونشأ ذلك المجتمع تحت رعايته وعنايته وتوجيهه. فكيف إذا مازج ذلك حبّ وتعلقّ من ذلك الداعي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتلك الأرض وأولئك الناس، الذين عاشوا حوله وقاسموه الآمال والآلام.

يقول ابن تيميه في كتابه (صحّة أصول مذهب أهل المدينة): (معلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة؛ إذ لم يخرج منها احد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنّة، فذهب الى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمّار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم؛ وذهب الى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم؛ وبقي عنده مثل عثمان وعلي بعد الرحمن بن عوف، ومثل أبي بن كعب، ومحمد بن سلمة وزيد بن ثابت وغيرهم. وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل أهل المدينة، فيردونه عن قوله، فيرجع إليهم.

وكان أهل المدينة فيما يعملون: إما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يرجعوا الى قضايا عمر بن الخطاب، ويقال: إن مالكا أخذ جل الموطّأ خ

عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدّث. وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أن قال: كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.

وكان عمر يشاور أكابر الصحابة كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ـ أهل الشورى ـ ولهذا قال الشعبي: انظروا ما قضى به عمر فإنه كان يشاور. ومعلوم أنه ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤلاء، أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه رضي الله عنهم أجمعين. وكان عمر في مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها: هل ترث؟ وأمثال ذلك. فلما قتل عثمان، وحصلت الفتنة والفرقة، وانتقل علي الى العراق، هو وطلحة والزبير، لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب، ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة.

وقد ضعف أمر المدينة لخروج النبوة منها؛ وقوي أمر أهل العراق لحصول علي فيها، لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر. ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة. قال عبيدة السلماني ـ قاضي علي رضي الله عنه ـ: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. ومما يوضّح الأمر في ذلك، أن العلم إما رواية، وإما رأي؛ وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأياً)(5). وهم في مبدأ الشورى يتأسّون بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً كان أكثر مشاورة لأصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم)(6). وذلك امتثالاً منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر)(آل عمران 159).

واحتذى أصحابه هذه القاعدة من بعده، ورأوا في الشورى قوة في الحيطة في الدين، والأخذ بأقرب الأمور الى السنة والآثار فيما يجدّ لهم من أمور، فعُرف هذا المنهج عند الصحابة والتابعين(7). وقد كانوا يرون أن المشورة والرأي يجب أن يصدر منها، فلا يقطع في رأي دون أهل الرأي من أهلها. ولذا حين أراد الفاروق رضي الله عنه في موسم الحج أن يعنف ويزجر من خاض في أمر الخلافة، قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وهم يغلبون على مجلسك، وأخاف ألا ينزلوها على وجهها، وأمهل حتى تقدم دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك، وينزلوها على وجهها)(8).

فابن عوف رضي الله عنه يقرر بذلك أموراً عامة وخاصة في أمر الشورى، وينبّه على مكانة المدينة وأهلها من الدين والمعرفة وبخاصة أهل الشورى. وتلقي المشورة من الفاروق محلها مما يؤكد أهمية ما أشار به ابن عوف رضي الله عنه، وهذا النص يلفت الأنظار الى أمور هي:

أولاً: أن أهل المشورة الذين يجب أن يرجع إليهم في أمور الأحكام الشرعية إنما هم أهل الحل والعقد والفقه المكين، ومن هم على التقى والصلاح والإخلاص لله ورسوله، والعلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وبما ورثوه عنه من علم ودراية وفقه. وأعلم كذلك بأحوال الناس، والعرف القائم المعتبر شرعاً، والمصلحة القائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد.

ثانياً: أن المشورة هذه لا يرجع فيها الى رعاع الناس وجهلتهم، لأنهم هم الغالبية العظمى في المحافل، يتبعون كل ناعق، ويروجون لكل فتنة، وهذه الغوغائية تقود الأمة الى البلبلة، لأنها تتبع أهواء متفلتة لا تحتكم الى الشرع.

ثالثاً: أما شؤون الحياة الأخرى التي تتوقف عليها مصالح الأمة، فيستشار من أهلها من يوثق بأمانته وخبرته في كل اختصاص، وبخاصة في الأمور التي تحتاج عند التماس الحكم الشرعي دراية بما يعرفه أهل الإختصاص في كل فن من فنون الحياة، فالإعتماد على مشورتهم في ذلك معين ومسدد لدقة الأحكام وتوافقها مع درء المفاسد وجلب المصالح.

رابعاً: أن المدينة في ذلك العهد كان لها من المكانة العلمية أوفر نصيب من جهة النقل ومدارك العقل، ولذا حين كتب عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان الى عبد الله بن عمر يسألانه المشورة، كتب إليهم: إن كنتما تريدان المشورة فعليكما بدار الهجرة والسنة(9).

خامساً: أن الأمصار الأخرى لم يتحقق لها ما تحقق للمدينة، فقد كان هذا الإرث يتوارثه أهل العلم علماً وعملاً. فكان في المدينة من كبراء الصحابة والتابعين الجم الغفير. وكان من ثمرات هذا الإعداد نخبة من الصحابة والتابعين وأتباعهم أشادوا صرح الفقه المدني، وتميزت بجهودهم معالمه.

أصحاب الفتوى من الصحابة

وكان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا بكر وعمر وعلياً وابن مسعود وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبا موسى الأشعري رضوان الله عليهم أجمعين(10). بل منهم من كان يفتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر(11). وعن الشعبي قال: (كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر وعبد الله وزيد يشبه علمهم بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي وأبي بن كعب والأشعري يشبه علمهم بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض)(12). وكان لكل من هؤلاء ولغيرهم من كبار الصحابة مكانة بوأهم إياها فقه، وعلم، وإحاطة بالسنة، وبأقضية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومدارك لم تتوفر للآخرين. يقول ابن مسعود رضي الله عنه في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو وضع علم عمر في كفة، ووضع علم أحياء العرب في كفة، لرجح بهم علم عمر). ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن كنا لنحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم)(13). ويقول عبد الله بن مسعود في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنا نتحدث أن من أقضى أهل المدينة ابن أبي طالب)(14). أما زيد بن ثابت رضي الله عنه فكان من الراسخين في العلم(15)، وكان عمر يستخلفه في كل سفر، وإذا كثر عليه الخصوم، صرفهم الى زيد، ثم استعمله على القضاء، وفرض له رزقاً(16). وقال علي بن المديني: (لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد له أصحاب يفتون بقوله في الفقه إلا ثلاثة، وذكر فيهم زيد بن ثابت)(17).

وصارت الفتوى بعد عثمان رضي الله عنه الى ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر بن عبد الله. وآخر من كانت له هذه المكانة بالمدينة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الذي عرف بشدّة تتبعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قدوة لهم. قال يحي بن إسحاق: (سألت سعيد بن المسيب عن صوم يوم عرفة، فقال: كان ابن عمر لا يصومه، قلت: هل غيره؟ قال: حسبك به شيخاً)(18).

الطبقة الأولى من فقهاء التابعين

وتربى على يد هؤلاء كبار التابعين من الفقهاء السبعة وغيرهم. وعرف من هؤلاء التابعين من تخصص في الوقوف على قضايا اولئك الصحب، والإحاطة بمروياتهم، فقيل: (ليس أحد أعلم بكل ما قضى به عمر وعثمان من سعيد بن المسيب)(19)، وكان يقال: (إن ابن المسيب راوية عمر)(20) لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته(21)، وقال عن نفسه: (ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر منّي). قال مسعر: (وأحسبه قال: وعثمان وعلي)(22). وكان أعلم الناس بحديث عائشة عروة وعمرة والقاسم(23). وقبيصة كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت(24). واحتيج إليهم في عهد الصحابة، فقد تصدر البعض للإفتاء وأصحاب رسول الله أحياء(25) هؤلاء وغيرهم ممن عرف بالفقهاء السبعة، كانت تدور عليهم الفتوى(26) ومن كبرائهم: سعيد بن المسيب (15-94هـ/ 636-712م). كان سعيد أعلم من بالمدينة، فعن عمر بن ميمون قال: (قدمت المدينة، فسألت عن أعلم أهل المدينة، فدفعت الى سعيد بن المسيب). ويقول قتادة: (ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه). وطاف مكحول بالأرض كلها في طلب العلم، فما لقي أعلم منه. وكان الحسن إذا أشكل عليه شيء كتب الى سعيد بن المسيب. ولسعة علمه بالسنّة يقول ابن المديني: (إذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك به)(27). وكان عمر بن عبد العزيز لا يقضي قضاءً حتى يسأله(28).

الطبقة الثانية من فقهاء التابعين

وعن هذه الطبقة أخذ مالك الفقه، وعلى يديهم تعلم وتفقه، وقد شاركت هذه الطبقة الطبقة الأولى وعاصرتها، وأخذت عن بعض الصحابة لكن جلّ ما أخذته كان عن الطبقة الأولى. وأخذت مكانتها في المجتمع المدني في الربع الأخير من القرن الأول حتى بداية الربع الثاني من القرن الثاني، حيث بدأت مكانة مالك في الظهور تأخذ مكانها وتقوى، حتى غطت على مكانة الآخرين من بقية الشيوخ والأقران المعاصرين.

ويصور لنا جانباً من حركة انتقال هذه الثروة الفقهية عبر مشيخة علماء المدينة، حميد بن الأسود، وعلي بن المديني. يقول حميد: (كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، وبعده عبد الله بن عمر)(29). ويقول ابن المديني: (وأصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه إثنا عشر رجلاً ـ فذكرهم)(30). ولم يكن بعد هؤلاء بالمدينة أعلم بهم من ابن شهاب، ويحي بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن عبد الله بن الأشج، ثم لم يكن أحد أعلم بهؤلاء بمذهبهم من مالك بن أنس(31).

والشيوخ من هذه الطبقة كثيرون، والمبرزون منهم، والذين كانت لهم مكانة في الحديث أو الفقة أو الفتوى بصفة خاصة، أجلهم: ابن شهاب الزهري (51-124هـ/ 671-741م): وكان آية في الحفظ ووعي ما سمع، فما استودع قلبه علماً فنسيه، وما استعاد حديثاً قط، وما شك في حديث، بل حديثاً واحداً، سأل صاحبه عنه، فإذا هو كما حفظ(32). كما كان شديد التتبع للآثار وجمعها. قال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم: (قلت لأبي: بم فاقكم ابن شهاب؟ فقال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يلقى في المجلس كهلاً إلا ساءله، ولا شاباً إلا ساءله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يلقى شاباً إلاّ ساءله ولا كهلاً ولا عجوزاً ولا كهلة إلا ساءله، حتى يحاول ربات الحجال). وقال أبو الزناد: (كنا نكتب الحلال والحرام، وكان الزهري يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس)(33). وعن الليث قال: (ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري). ويقول عنه عمر بن عبد العزيز: (لم يبق أحد أعلم بسنّة ماضية من الزهري)(34). قال معمر: (وإن الحسن وضرباءه لأحياء يومئذ)(35).

صلة مالك بآثار هذه المدرسة

كان مالك بن أنس أعلم أهل المدينة بتلك الثروة العلمية، حديثاً وفقهاً. يقول ابن المديني: (نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة: - فذكرهم ـ ثم صار علم هؤلاء الستة الى أصحاب الأصناف ممن صنف، ولأهل المدينة مالك)(36). ويقول: (أخذ عن زيد بن ثابت ممن كانوا يفتون بفتواه إثنا عشر رجلاً ممن لقيه منهم، ومن لم يلقه، فذكر الفقهاء السبعة وسالم بن عبد الله، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وقبيصة بن ذؤيب، وأبان بن عثمان، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ونافع بن جبير بن مطعم)(37). ثم قال: (ولم يكن بالمدينة بعد هؤلاء أعلم بهم من بن شهاب، ويحي بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن عبد الله بن الأشج، ثم لم يكن أحد أعلمهم بهؤلاء بمذهبهم من مالك بن أنس(38).

قيام مالك بهذه المدرسة أصولاً وقواعد: قال ابن تيمية: (لا ريب عند أحد أن مالكاً رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأياً، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه. كان له من المكانة عند أهل الإسلام ـ الخاص منهم والعام ـ ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفاً وسبعمائة أو نحوها، وهؤلاء هم الذين اتصل الى الخطيب حديثهم. ولما سئل الإمام أحمد عن حديث مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم، رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم. وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة، وقد روي عن غير واحد، كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك.

ومن تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة، وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما. والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة، إما موافق وإما منازع. فالموافق لهم عضد ونصير، والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم. وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدوداً من أئمة العلم. وذلك لعلمهم أن مالكاً هو القائم بمذهب أهل المدينة، وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار. فإن موطأه مشحون إما بحديث أهل المدينة وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة، إما قديماً وإما حديثاً. وأما مسألة يتنازع فيها أهل المدينة وغيرهم، فيختار فيها قولاً ويقول: هذا أحسن ما سمعت)(39).

ما اعتمده في مناهج الإستدلال: واعتمد في تأسيس مناهج الإستدلال على فقه هذه المدرسة وأصولها، فكانت قواعد مذهبه هي:

أولاً: الكتاب والسنة، واعتمد في السنة ما كان منها مسنداً أو مرسل ثقات، وكان لإمامته في نقد الرجال أثر في دقة الإختيار.

ثانيا: إختياره أقضية عمر رضي الله عنه(40)، وذلك لأن رأيه كان موافقاً للوحي والتنزيل غالباً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أنه شرب اللبن، وأعطى عمر فضلة، وعبره بالعلم(41). ولهذا السبب في أغلب الأحيان كان يحصل الإجماع من الصحابة على قضايا عمر.

ثالثاً: اختياره فتاوى ابن عمر وعمله، وذلك لأن أكابر الصحابة شهدوا له بالإستقامة وتفوقه على سائر الصحابة الذين بقوا بعد الفتنة في هذا الأمر. قال حذيفة: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم توفي، وما منا أحد إلا وتغير عما كان عليه، إلا عمر، وعبد الله بن عمر). وقال مالك: (قال ابن شهاب: لا تعدلن عن رأي ابن عمر، فإنه قام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة، فلم يخف عليه شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه). وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما رأينا ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر). هذه الآثار وغيرها أخرجها الحاكم(42). ومما يدل على استقامة ابن عمر عدم مداخلته في الفتن فإنه بايع علياً رضي الله عنه بشرط ألا يقاتل مسلماً، ورضي علي كرم الله وجهه بهذا الشرط ومن أجل ذلك تخلّف ابن عمر عن حروبه. قال نافع: (إن ابن عمر دخل الكعبة، فسمعته يقول في السجدة: قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلاّ خوفك).

رابعاً: اعتماده فتاوى سائر الصحابة.

خامساً: اختياره فتاوى فقهاء التابعين بالمدينة. أما اختياره لذلك، فلأنها روح البلاد وقلب الأمصار وكان العلماء يأتونها زماناً بعد زمان ويعرضون آراءهم على أهلها، ولأنه كانت عندهم علوم منقحة لا توجد عند غيرهم وشيوخ مالك كلهم من أهل المدينة إلا ستة(43).

سادساً: لم يكن اعتماد مالك في تأصيل قواعد مذهبه على أقوال السابقين وفتاواهم مجردة، بل لاحظ الأصول التي سار عليها المجتهدون في الفقه المدني ومن هذه الأصول الذرائع، وعمل أهل المدينة(44). فتراه يلحظ باب الذرائع، ويتوسع فيه، ويعلل الأحكام به. كما جعل من عمل أهل المدينة أصلاً يعتمد عليه فيقول في باب ما لا يجوز من السلف: (الأمر المجتمع عليه عندنا، أن من استسلف شيئاً من الحيوان بصفة وتحلية معلومة فإنه لا بأس بذلك، وعليه أن يرد مثله، إلا ما كان من الولائد، فإنه يخاف في ذلك الذريعة الى إحلال ما لا يحل، فلا يصلح. وتفسير ما كره من ذلك، أن يستسلف الرجل الجارية فيصيبها ما بدا له، ثم يردها الى صاحبها، فذلك لا يصلح ولا يحل، ولم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، ولا يرخصون فيه لأحد)(45). فتراه يبني الحكم على إجماع أهل المدينة ويعلله بالذريعة(46).

هذان الأصلان وغيرهما مما استخرجه علماء مذهب مالك من فروعه التي نقلت عنه، ووجدوا أن هذه الفروع متفرعة عن تلك الأصول لأنها كانت القواعد التي يسير عليها في استنباطه. ولا يعني كون الإمام لم يذكرها مبوبة مدللاً عليها، مفرداً بالتأليف، أنها لم تكن موجودة، أو لم يعتمد عليها من قبله، فهي ككل علم من العلوم، توجد أصوله وقواعده مفرقة مبثوثة بين العلماء، ثم يأتي منهم من يدونها ويرتبها ويدلل على كل فرع منها. وهذا هو الذي فعله الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) حيث دون الأصول ورتبها واحتج لكل نوع منها، ولا يعني ذلك أنه هو الذي وضع تلك الأصول أو أنه ابتدعها من عنده. ولو كان الأمر كذلك، لما رد بعض هذه الأصول وناظر فيها، واحتج على من أخذ بها لو لم تكن أصولاً معروفة مطروقة. فقد رد الإستحسان ورد على مالك اعتباره إجماع أهل المدينة، كما تحاشى القول بالذريعة وأقام لنفسه مذهباً مستقلاً، كان ثمرة من ثمرات هذه المدرسة.

ولمكانة المدينة الروحية والعلمية، وقيام دعائم الدولة الإسلامية بها، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بها، وما توارثه أبناؤهم وأحفادهم من شرف الزمان وقرب المكان أثر في ارتباط هذا الفقه بالعمل المشاهد المتواتر، والذي كانت له ثمرة كبيرة في تمييز هذا المذهب وقيام مالك ونشره، مما جعله مذهباً يحتكم إليه في دور القضاء في حياة صاحبه، حيث قامت به دولة الأندلس، وأفريقية، بما لم يتهيأ لغيره من المذاهب الأخرى. واستطاع فقهاؤه بما ورثوه من رواية وعمل وأصول متنوعة أن يسايروا ركب الحضارة ويمدوها بما تحتاج إليه فيما يعرض لحياة الناس من نوازل.

وهكذا لاقى مذهبه ومذهب الأئمة الثلاثة رضوان الله عليهم إقبالاً وقبولاً واستطاعوا أن يقدموا للأمة الإسلامية وللأمم الأخرى أعظم ثروة فقهية(47)، قام عليها صرح الحضارة الإسلامية بما لم يعرف تاريخ الأمم والشعوب.


الهوامش:

(1) مالك بن أنس الأصبحي، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، جـ2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1370هـ = 1951م)، 462.

(2) أحمد بن محمد العسقلاني بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تصحيح محب الدين الخطيب، كتاب فضائل المدينة، جـ4 (بيروت: دار المعرفة)، 70.

(3) ابن حجر، المرجع السابق، 4/69.

(4) ابن حجر، المرجع السابق، 4/62

(5) تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، صحة أصول فقه أهل المدينة، نشر: زكريا علي يوسف (مطبعة الإمام) ، 28 وما بعدها.

(6) أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، جـ 10 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1410هـ ـ 1990)، 109.

(7) البيهقي، المرجع السابق، 114، 115؛ أبو عبد الله محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، مصورة عن طبعة ليدن بهولندا، جـ 2/2 (طهران: منشورات مؤسسة النصر)، 100.

(8) ابن حجر، مرجع سابق، كتاب الإعتصام، 16.

(9) القاضي عياض بن موسى بن عياض البستي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، جـ 1 (المغرب: مطبعة الشمال الأفريقي، 1382هـ = 1965)، 39.

(10) ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/110

(11) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المفاضلة بين الصحابة، تحقيق سعيد الأفغاني، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1989)، 239.

(12) أبو خيثمة زهير بن حرب النسائي، العلم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني (دمشق: المطبعة العمومية، 1385هـ)، 94؛ ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/110.

(13) ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/110؛ النسائي، مرجع سابق، 60-61.

(14) ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/110

(15) ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/116

(16) أبو زيد عمر بن زيد عبيدة بن شبة، كتاب تاريخ المدينة المنورة، تحقيق فهيم محمود شلتوت، جـ2 (المدينة المنورة: على نفقة حبيب محمود أحمد لوجه الله تعالى، د. ت) 693.

(17) علي بن عبد الله بن جعفر المديني، العلل، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، ط2 (بيروت: المكتب الإسلامي، 1980) 42.

(18) ابن سعد، مرجع سابق، 2/2/116؛ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك: مناقب ابن عمر، مصور عن الطبعة الأولى، جـ3 (الهند: دائرة المعارف العثمانية، 1344هـ) 559.

(19) ابن سعد المرجع السابق، 2/2/129

(20) ابن سعد المرجع السابق، 2/2/130

(21) ابن سعد المرجع السابق، 2/2/89

(22) ابن سعد المرجع السابق، 2/2/128

(23) أحمد بن محمد العسقلاني بن حجر، تهذيب التهذيب، مصور عن الطبعة الأولى، جـ7 (بيروت: دار صادر) 128.

(24)ابن حجر، مرجع سابق، جـ5، 89.

(25) ابن سعد المرجع السابق، جـ5، 104

(26) ابن حجر، مرجع سابق، جـ7، 24.

(27) ابن حجر، مرجع سابق، جـ7، 84-86

(28) ابن سعد المرجع السابق، جزء 5، 90

(29) القاضي البستي، مرجع سابق، جـ1، 7.

(30) بلغ المعدودون ثلاثة عشر رجلاً.

(31) ابن المديني، مرجع سابق، 44-45

(32) أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، تذكرة الحفاظ، ط4، مصورة عن الطبعة الأولى (بيروت: دار إحياء التراث العربي) 111. هذا ربما كان كما يعتقد، وإلا فقد نسي ما حدث به سليمان بن موسى، وقال لابن جريج حيث سأله: (لا أعرفه).

(33) ابن حجر، مرجع سابق، جـ0، 448-449

(34) الذهبي، مرجع سابق، 109.

(35) ابن حجر، مرجع سابق، جـ 9، 449.

(36) ابن المديني، مرجع سابق، 37؛ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، مقدمة الجرح والتعديل ( الهند: دائرة المعارف العثمانية، 1371هـ) 17، 31.

(37) ابن المديني، مرجع سابق، 44-45

(38) ابن المديني، مرجع سابق، 45؛ الرازي، مرجع سابق، 22.

(39) ابن تيمية، مرجع سابق، 53-62.

(40) لا يرد على اختياره أقضية عمر مخالفته له في بعض المسائل، لأنها إذا قيست بما أخذ به كانت قضايا معدودة، وغالباً ما خالفه فيها معه الجمهور. أحمد نور سيف، مرجع سابق، حجج المعترضين على العمل ـ حجج الشافعي ـ 369.

(41) ابن حجر، فتح الباري، مرجع سابق، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، جـ7، 32.

(42) النيسابوري، مرجع سابق، جـ3، 557 وما بعدها.

(43) شاه ولي الله الدهلوي، المسوى من أحاديث الموطأ: المقدمة، تحقيق: أحمد بن عبد الرحيم (مكة: المطبعة السلفية، 1351هـ) 30-32.

(44) بلغت هذه الأصول عند مالك سبعة عشر أصلاً. حسن بن محمد مشاط، الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، تحقيق: عبد الوهاب ابن ابراهيم أبو سليمان (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1990) 115

(45) الدهلوي، مرجع سابق، جـ 2، 682-683

(46) الذريعة معناها: الوسيلة وسد الذريعة: رفعها، وكل وسيلة حكمها بما تفضي إليه من حل أو حرمة. أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، الفروق، جـ 2 (بيروت: مصورة عالم الكتب) 33.

(47) أورد السيد عبد الله حسين في كتابه المقارانات التشريعة ما يثبت أن معظم مواد القانون الفرنسي مقتبسة من الفقه المالكي.

* البحث منشور في مجلة (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة) العدد التجريبي 2002م.

الصفحة السابقة