أئمة الحرمين الشريفين

إبراهيم الأقصم

الإمام هو الذي يقتدى به، والإمامة في اللغة: مصدر أمّ يؤم. قيل: أممت القوم في الصلاة إمامة. وائتم به: اقتدى به. وجمع إمام: أئمة، ويمكن أن يكون أيمّة. قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). والإمامة في اصطلاح الفقهاء تطلق على معنيين: الإمامة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، والإمامة الكبرى وهي الخلافة. وتسمية الإمامة الكبرى مأخوذة من إمامة الصلاة في اتباعه والإقتداء به. ونظراً لأهمية الصلاة فقد اعتبرها الفقهاء من الوظائف التي يجب على السلطان إقامتها، خاصة في المساجد السلطانية كالجوامع والمشاهد الكبيرة، أما المساجد الصغيرة العامة فلا يلزم أن يكون إمام الصلاة معينا من قبل السلطان، ولكن إذا قلد السلطان فيها إماما، كان أحق بالإمامة فيها.

وأئمة الحرمين الشريفين لهم مكانة خاصة تنطلق من مكانة الحرمين في نفوس المسلمين. فالصلاة في مكة والمدينة أجرها مضاعف عن غيرهما من المدن، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام). وذكر أبو هلال العسكري (ت ـ 395هـ/ 1004م) أن أول إمام صلى جماعة في الإسلام هو النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى بمكة المكرمة قبل الهجرة، وكان معه علي بن أبي طالب وجعفر بن عبدالمطلب رضي الله عنهما. وأول مسجد صلى به النبي جماعة ظاهرة بأصحابه هو مسجد قباء.

وتحققت إمامة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية بعد بناء المسجد النبوي، فقد كان أول أعماله بالمدينة، بناء المسجد الذي يعتبر الركيزة الأساسية لبناء المجتمع المسلم. ومن خلال إمامة المسجد مارس عليه الصلاة والسلام جميع الأدوار القيادية، فقد كان القدوة والمعلم والمربي والمفتي والقاضي والقائد. ولم يؤمّ الناس في المسجد النبوي بالمدينة أحد غيره؛ إلا ما حدث حين مرضه حيث أمر أن يؤم الناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه. أما في حالة سفره أو غزواته عليه السلام، فقد كان يوكل هذه المهمة الى الصحابة من أهل العلم والدين؛ فقد خلف في إمامة الصلاة في عامة غزواته عبدالله بن أم مكتوم.

أما أول من أمّ المسلمين في الحرم المكي فهو أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح سنة 8هـ/ 629م، فقد صلى به خمس عشرة ليلة، وقيل: 19 و 17 ليلة. ثم استخلف عليه السلام عليها عتاب بن أسيد للإمارة، ومعاذ بن جبل للإمامة وتعليم الناس. وقيل إن الذي تولى الإمامة هو هبيرة بن شبل وأنه هو أول من صلى بالناس جماعة بمكة بعد الفتح.

وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت من مهام كل خليفة القيام بدور الإمام في الصلاة، أما في حالة سفره أو مرضه، فكان يوكل من ينيبه. وفي عهد عمر رضي الله عنه جمع الناس في صلاة التراويح بالمسجد النبوي على إمام واحد وهو أبي بن كعب، بعد أن كان الصحابة يصلونها فرادى، وكان ذلك في رمضان سنة 14هـ/ 635م. وعندما طعن عمر رضي الله عنه جعل على الصلاة صهيباً الرومي، حتى ينتهي مجلس الشورى من اختيار خليفة. وعندما حوصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، أمر بعض الصحابة بإمامة الناس في الصلاة، مثل علي بن أبي طالب، وابي أمامة، وسهل بن حنيف رضي الله عنهم أجمعين. وعندما تولي الخلافة علي رضي الله عنه، رأى أن المدينة لا تصلح للبقاء بها، وأن الفتن ستعصف بالأمة، فخرج منها الى الكوفة، بعد أن جعل عليها سهل بن حنيف الأنصاري أميراً وإماماً.

أما أئمة المسجد الحرام بمكة في عهد الراشدين، فقد كان الخلفاء يوكلونها الى الأمراء أو الولاة الذين يتولون هذه المهمة، لأنها ضمن أعمالهم ومهامهم. لكن أمر الأئمة بدأ يأخذ طابعاً سياسياً نتيجة للأحداث السياسية التي دارت بين علي ومعاوية. ففي سنة 39هـ/ 659م، كاد يقع قتال بين قثم بن العباس، عامل مكة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين يزيد بن شجرة الرهاوي، الذي بعثه معاوية لنفي عامل علي عنها، ولإقامة الحج، وأخذ البيعة له بمكة. ثم وقع الصلح بينهما، على أن يعتزل كل منهما الصلاة بالناس، ويختار الناس من يصلي بهم، ويحج بهم، فاختاروا شيبة بن عثمان الحجبي، فصلى بهم وحج.

وفي العهد الأموي، كانت وظيفة الإمام توكل الى أمراء المدينة ومكة؛ وفي خلال المدة 64ـ73هـ/ 683 ـ 692م، ثار ابن الزبير على الأمويين وسيطر على مكة، وأمّ الناس بها، بعد أن أخرج والي الأمويين منها؛ ثم سيطر على المدينة المنورة، وجعل واليها من قبله، فكان عامله هو من يؤم الناس في المسجد النبوي.

وفي عام 129هـ/ 746م صلى بالناس أبو حمزة الخارجي الذي ثار على الأمويين وسيطر على مكة، ثم سار الى المدينة في سنة 130هـ، وسيطر عليها مدة ثلاثة أشهر. وكان أبو حمزة الخارجي ينادى بأمير المؤمنين، وكان يؤم الناس بالمدينة ويخطب فيهم، وكان يقول: إن من سرق فهو كافر، ومن زنى فقد كفر. وخلال هذه المدة كان أهل المدينة يصلون وراءه ثم يعيدون صلاتهم. لكن بقاء الخوارج بالمدينة لم يدم طويلاً، حيث هزمهم الأمويون في معركة وادي القرى وقتلوا أبا حمزة في مكة، فعادت إمامة الحرمين اليهم.

ومن أشهر الأئمة في العهد الأموي، إمام المسجد النبوي التابعي الجليل سعيد بن المسيب المخزومي القرشي (ت ـ 94هـ/ 712م) الذي كان من أعلم أهل زمانه، وكان يسمى فقيه الفقهاء. له مواقف صلبة تجاه سياسة بعض بني أمية، وفي ذلك دلالة على أن للأئمة مواقف إيجابية نحو السياسة.

وفي عهد الدولة العباسية التي حكمت في المدة 132-656هـ/ 749-1258م، تأثر وضع الأئمة بالأدوار التي مرت بها؛ فخلال عهود الخلفاء الأقوياء لم تشر المصادر لأي تأثيرات سياسية أو مذهبية في أمر الأئمة، لكن هذه الحقبة تخللتها ثورات ضد العباسيين، خاصة من قبل العلويين، مثل ثورة محمد ذي النفس الزكية سنة 145هـ/ 762م في عهد الخليفة المنصور، إذ تمكن خلالها ذو النفس الزكية من السيطرة على المدينة المنورة وسجن والي العباسيين عليها، ثم سيطر على منبر المدينة، لكن ثورته انتهت بالقضاء عليه وعودة المدينة الى العباسيين.

ويمثل الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة (ت 179هـ/ 795م) أبرز الأئمة الذين ظهروا خلال هذه الحقبة، واليه ينسب المذهب المالكي، وكانت له مواقف متشددة من سياسة بعض خلفاء بني العباس، كالمنصور، في دلالة على أن أئمة الحرمين كانت لهم مواقف حاسمة نحو مخالفات بعض الخلفاء. وعندما خضعت المدينة خلال العهد العباسي لحكم الدويلات المستقلة، كالطولونيين كانت سيطرتهم اسمية لا تتعدى ذكر اسمهم على المنابر مع العباسيين، ولم يتدخلوا في أمر الأئمة. وكذلك كان الحال بالنسبة للإخشيديين.

لكن عندما ظهر الفاطميون على مسرح الأحداث وسيطروا على المغرب العربي، تطلعوا للسيطرة على الحجاز، وتمكنوا من السيطرة على المدينة عن طريق أحد الطالبيين من الفرع الحسيني، حيث قام بطرد الوالي العباسي على المدينة وخطب فيها باسم المعز لدين الله الفاطمي، وكان ذلك في سنة 363هـ/ 973م. وقد أنزلت رايات العباسيين السوداء، ورفع مكانها الرايات البيضاء على الإمارة ومنائر الحرم، وحولت الخطبة للفاطميين في مكة والمدينة فتأثر وضع الأئمة.

تأثر وضع الأئمة بقدوم الفاطميين وسيطرتهم على مكة في أوقات متقطعة وأبرز هذه التأثيرات كان يتمثل في تنامي المذهب الشيعي وازدياد نفوذه. واستحدث الفاطميون على أذان مكة عبارة (حي على خير العمل) لكن هذه العبارة كانت تذكر أحياناً وتلغى أحياناً حسب قوة ونفوذ العباسيين أو الفاطميين. تمكن الأيوبيون من السيطرة على الحجاز والقضاء على الدولة الفاطمية سنة 563/ 1167م، فعادت المدينة الى حوزة العباسيين وأصبح اسم الأيوبيين يذكر في خطبة الجمعة مع الخليفة العباسي. ومن أشهر الأسر التي ظهر منها أئمة الصلاة في مكة خلال العهد الأيوبي هم آل ظهيرة القرشيون، وآل النويري، الى جانب بيت الطبري خلال العهد الفاطمي. أما أبرز الأسر التي ظهر منها أئمة الصلاة بالمدينة المنورة في العهد الفاطمي فهي آل سنان، الأشراف الحسينيون خلال القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.

لكن هناك ظاهرة احدثت بالحرمين تتعلق بالأئمة وهي ظاهرة أئمة المقامات الأربعة تبعاً للمذاهب الفقهية الأربعة. فقد كان لكل مذهب فقهي إمام خاص ومصلون يتبعونه من المذهب نفسه، فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي، وكذا الحنبلي والمالكي، واستمر ذلك من منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي الى منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي. وبالرغم من سلبية هذه الظاهرة إلا أنها أبرزت أئمة كثراً، فزاد التنافس على الإمامة في المذهب الواحد، مما ساهم في زيادة التحصيل العلمي لتولي مناصبها.

وهذه المقامات كانت حول الكعبة؛ فالمقام الشافعي كان يلي مقام ابراهيم عليه السلام، وكان هو المذهب السائد على أهل مكة، والمقام الحنفي يلي الحجر، والمقام المالكي يلي دبر الكعبة، والمقام الحنبلي يلي الحجر الأسود. وحيث إن ظاهرة المقامات أنجبت أئمة كثراً؛ فلا بد من القاء الضوء عليها. ذكر بعضهم بأن ظاهرة الصلاة خلف إمام المذهب كانت منتشرة في العالم الإسلامي ثم دخلت بلاد الحرمين نتيجة التعصب والجهل. ويرى الإمام الزركشي (ت 796هـ/ 1393م) أن سبب نشوء تلك الظاهرة في مكة هو ما كان عليه إمام الحرم من بدعة. كما أن أمراء مكة لم يحملوا الناس على مذاهبهم، فعندما امتنع الناس عن إقامة الجماعة مع إمامهم الذي أقاموه، سمحوا للناس في اتخاذ الأئمة لأنفسهم. ويرى المستشرق سنوك الذي اسلم فيما بعد، أن من أسباب نشوء ظاهرة أئمة المقامات الأربعة، وجود الوافدين وتعاظم دورهم من خلال محاولة كل جالية التعصب لمذهبها، ومحاولة كل حاكم من أي بلد في العالم الإسلامي آنذاك، أن يرى مذهب بلاده هو السائد في الحرم المكي.

أما تاريخ نشأة هذه المقامات فإن المصادر لم تقدم تاريخاً يتفق عليه؛ بيد ان الفاسي أكد أن ظاهرة أئمة المقامات الأربعة حدثت في أواخر القرن الخامس الهجري/ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وبالتحديد سنة 497هـ/ 1103م. ويرى احمد السباعي ان ظهور المقامات المتعلقة بالمذاهب الأربعة كان في العهد الفاطمي، لظهور البدع ولظهور المذهب الزيدي، ولكن المقام الحنبلي لم يكن موجوداً آنذاك. ويؤكد الباحث الطاسان أن هذه المقامات ظهرت بالمسجد الحرام في منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وبالنسبة للمقام الحنبلي فإنه لم يكن محل اهتمام الناس آنذاك، ولم يكن منتشرا بمكة. فقد ذكر ابن الجوزي أن مرجان خادم المقتفي العباسي (530ـ555هـ/ 1135 ـ 1160م) كان متعصباً ضد الحنابلة، فقلع مقامهم، وأبطل إمامتهم.

وعلى كل حال، فقد جاء وصف المقامات الأربعة في كتب الرحالة؛ حيث وصف ابن جبير في رحلته عام 578هـ/ 1182م مقامات الأئمة الأربعة السنية، وذكر وجود مذهب خامس للزيدية، وأن أشراف مكة كانوا على مذهب الزيدية، وقد أحدثوا عبارة (حي على خير العمل) في الأذان. ومقام الزيدية كان موجوداً في عهد المماليك، وكان بين الركن اليماني والحجر الأسود، كان يؤمهم فيه إمام زيدي، يدعو لصاحب اليمن بعد صلاة الفجر والمغرب، بدعاء يجهر به. وقد منع مراراً في سنوات 702هـ، و 726هـ، و754هـ.

أما طريقة صلاة الأئمة الأربعة بالحرم المكي، فقد وصفها ابن جبير على النحو التالي: كان أول من يصلي بالنساء من أئمة السنة الشافعي بإزاء مقام ابراهيم؛ ويصلي بعده إمام المالكية قبالة الركن اليماني؛ ويصلي الحنبلي مع صلاة المالكي في آن واحد؛ ثم يصلي الحنفي قبالة الميزاب، وهو أعظم الأئمة أبهة، لأن ملوك الأعاجم كلها كانت على مذهبه.

ابن بطوطة الذي عاصر العهد المملوكي شاهد المالكي والحنبلي يصليان معاً بعد الشافعي، ثم يصلي الحنفي في آخرهم. وشاهد ابن بطوطة حال الناس في صلاة المغرب، فقد كان يصليها الأئمة الأربعة في وقت واحد، فيحصل للمصلين لبس وتخليط بسبب ذلك. وأكد الفاسي ما كان يحدث من تخليط ولبس على المصلين في صلاة المغرب، لأن جميع المذاهب كانوا يصلون في وقت واحد. لذلك أمر السلطان المملوكي فرج بن برقوق الشركسي أن يصلي الناس خلف إمام واحد في صلاة المغرب، وهو مقام الإمام الشافعي، دون بقية المذاهب، وكان ذلك في موسم حج سنة 811هـ/ 1408م، إلا أن ذلك الأمر لم يستمر طويلاً، ذلك أنه في موسم 816هـ/ 1413م عاد الوضع كسابقه بالنسبة لصلاة المغرب، بأمر السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ.

أما طريقة صلاة أئمة المقامات في صلاة التراويح، فذكر أن كل إمام من أئمة المذاهب الأربعة كان يصلي بجماعته في المسجد الحرام، ويقرأ في كل ليلة جزءً من القرآن. وأول من كان يختم القرآن من الأئمة الإمام الشافعي، وذلك في لية 27، ويتم إقامة حفل لذلك. وتبدأ الإستعدادات لإقامة ذلك الحفل قبل يومين، بحيث تنتشر المشاعل والشموع في أرجاء الحرم. وفي تلك الليلة يتقدم الإمام الشافعي فيصلي العشاء الآخرة، ثم يصلي التراويح ويبتدئ بقراءة سورة القدر، واليها كان انتهاء قراءة الأئمة الأربعة في الليلة التي قبلها، وفي تلك الساعة كان جميع الأئمة يتوقفون عن الصلاة تعظيماً لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام الشافعي في تسليمتين، ثم يقوم خطيباً مستقبلاً المقام والكعبة المشرفة، فإذا فرغ من ذلك عاد بقية الأئمة الى صلاتهم، وانفض الجمع. أما ختم بقية الأئمة فكان عادة ليلة التاسع والعشرين من رمضان، ويلقي كل منهم بعد الختم خطبة، ويكون اول المختتمين في تلك الليلة الإمام المالكي، ثم يقام احتفال أقل من احتفال الشافعية ثم يتلوه بقية الأئمة.

بالإضافة لإمامة الصلاة، فقد كان لبعض أئمة المقام وظائف أخرى، حيث كانت للإمام المالكي وظيفة خاصة به، وهي الإشارة للحجاج بالإنصراف من عرفات يوم الوقفة، بعد أن يتحقق من غروب الشمس. استمرت ظاهرة أئمة المقامات لعقود طويلة فقد أشار ابن ظهيرة (ت 986هـ/ 1578م) الى أن تعدد الجماعات في المسجد بقي على عهد المماليك الشركسية، في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، ثم الغي، ثم أعيد العمل به مرة أخرى. كما استمرت هذه الظاهرة في العهد العثماني، بل زاد التنافس بين الأئمة في أيهم أولى بالتقدم، وخاصة بين الشافعي والحنفي، فتارة كان يتقدم الشافعي، وأخرى الحنفي. ولما رأى السلطان العثماني سليمان خان هذا التنافس بين الحنفية والشافعية، جعل الأمر لعلماء مكة، واقتضى رايهم بأن يتقدم في صلاة المغرب الحنفي، وعند التشهد يدخل الإمام الشافعي. وأما الإمامان الآخران (المالكي والحنبلي) فلا يصليان المغرب أئمة، وكان ذلك سنة 931هـ/ 1524م. اما في صلاة الظهر والعصر والعشاء، فيتقدم الإمام الحنفي، ثم الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي. وفي صلاة الصبح فيتقدم الشافعي ثم المالكي ثم الحنبلي ثم الحنفي.

استمرت ظاهرة أئمة المقامات حتى عام 1218هـ/ 1803 حين سيطر السعوديون على الحجاز، فألغوا المقامات وأمر الحاكم سعود بن عبدالعزيز أن تكون الصلاة خلف إمام واحد [من مذهبه الوهابي] وفعل ذات الأمر سنة 1220هـ/ 1805 حين سيطر على المدينة المنورة وفرض مذهبه عليها، الى ان جاءت قوات محمد علي باشا فهزمت السعوديين وطردتهم من الحجاز فعادت ظاهرة أئمة المقامات، واستمرت حتى سقوط مكة عام 1924 على يد الحكم السعودي، حيث فرض أئمة من المذهب الرسمي المنتصر.

ذات المقامات أزيلت في أوقات لاحقة، فقد أزيل المقام الحنبلي ليلة الثلاثاء 21/8/1377هـ/ 1957م، ثم ازيل المقام المالكي في الليلة التالية، والمقام الحنفي في 8/10/1377هـ، وأما المقام الشافعي فقد تأخرت ازالته حتى تم بناء بئر زمزم سنة 1383هـ/ 1963م. يلاحظ هنا أن المماليك اعتنوا بالمقامات الأربعة، إلا أنهم زادوا في عنايتهم بالمقام الحنفي وأئمته. وسار العثمانيون على خطى المماليك في تعصبهم للمذهب الحنفي، فجعلوه مذهبهم الرسمي، وبالغوا في تجديد مقام الحنفية بمكة المكرمة وعمارته وتشييده مما زاد من مكانة أئمته.

وانتقلت ظاهرة أئمة المقامات الى المدينة المنورة، بعد أن ظل المسجد النبوي الشريف بإمام شافعي واحد يصلي بالناس في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالروضة المطهرة معظم السنة، حتى سنة 860هـ/ 1455م، حيث أضيف لأتباع المذهب الحنفي في المدينة إمام، هو الجمالي محمد بن إبراهيم الحنفي. لكن المذهب الحنفي كان موجوداً بالمدينة قبل ذلك. وقد حاول الأمير طوغان شيخ الأحمدي، أحد المقربين للسلطنة المملوكية احداث محراب للجمال الحنفي في عهد الأشرف إينال (857-865هـ/ 1453-1460م) لكنه وجد معارضة شديدة من أعيان المدينة. ثم اعاد الكرة بعد ذلك ونجح في استصدار المراسيم بانشائه، واصبح الإمام الحنفي يصلي بالأحناف الصلوات الخمس عقب انصراف الإمام الشافعي، إلا صلاة التراويح فإنهما كان يصليان معاً.

ويرجع سبب ظهور محراب آخر بالمدينة، ما أحدثه الإمام من بدع، مما جعل الناس يبحثون عن إمام آخر، والمحراب الحنفي اهتم به المماليك لإعلاء مذهبهم، كما لقي من التجديد والإهتمام الكثير في عهد الدولة العثمانية حيث نقل الى موضعه الحالي الذي عرف فيما بعد باسم (المحراب السليماني) الذي لايزال موجوداً الى الآن على يمين المنبر الشريف وبمحاذاته.

خلال العهد العثماني كان اتباع المذهب المالكي والشافعي والحنفي يؤدون الشعائر في المسجد النبوي الشريف في ثلاث جماعات بالتناوب. فكان إمام الشافعية وأتباعه يصلون أولاً خمسة فروض في المحراب النبوي، وذلك من صلاة الظهر حتى صلاة الصبح في اليوم التالي، ثم يعود الإمام الشافعي للمحراب السليماني لأداء فروض ذلك اليوم، ويقوم إمام الحنفية في اليوم نفسه بأداء الفروض المذكورة في المحراب النبوي. أما في صلاة المغرب فقد كان الإمام الحنفي يتقدم لكراهة تأخير المغرب في مذهبه. أما أتباع المذهب المالكي، فقد انفردوا بالصلاة في المحراب العثماني معظم أيام السنة، ما عدا أيام المواسم، حيث ينتقل أئمة الأحناف الى الصلاة فيه لكثرة الوافدين من أتباع مذهبهم، ويعود أئمة المالكية الى المحراب السليماني، بينما يبقى الشافعية ملازمين للصلاة في المحراب النبوي حتى ينتهي الموسم. لكن تقدم الشافعية لم يستمر طويلاً، فقد تقدم الأحناف على الشافعية في عهد السلطان العثماني محمود الثاني سنة 1229هـ/ 1813م)، إلا في صلاة الصبح، حيث كان يتقدم الشافعي ثم المالكي ثم الحنفي. أما صلاة التراويح بالمسجد النبوي آنذاك، فقد كان عدد الجماعات داخل المسجد يصل أحياناً الى خمسين جماعة.

في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي (أواخر العهد العثماني) كان هناك عدة أئمة في صلاة التراويح: فهناك إمام للحاكم وحاشيته، وإمام للأغوات، وإمام لرئيس العسكر، وإمام للقاضي وكتّابه وأعوانه، وإمام للمفتي، وإمام للنساء، وإمام للعوائل، وقد وصل الأمر في صلاة التراويح الى أن بعض الأسر كانت تقيم لها جماعة خاصة بالمسجد النبوي. أما صلاة العيدين بالمسجد النبوي، فقد كان على النحو التالي: يختم المالكي ليلة خمس وعشرين من رمضان، ويختم الشافعي ليلة سبع وعشرين، والحنفي يختم ليلة تسع وعشرين، وهذا الترتيب كان خاصاً بالمسجد النبوي.

وللعلماء مواقف عديدة إزاء ظاهرة أئمة المقامات الأربعة؛ فقد أنكروا هذا العمل بسبب ما أحدثه من بلبلة. ففي سنة 550هـ/ 1155م، أفتى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب المالكي، بمنع الصلاة لأئمة متعددة وجماعات مرتبة بالحرم، وعدم جوازها على مذاهب الفقهاء الأربعة. إلا أن بعض الناس استفتى بعض علماء الإسكندرية من المالكية، فأفتوا بخلاف ما ذكره ابن الحباب المالكي. ولكن ابن الحباب ردّ على فتاويهم ونقل إنكار جماعة من العلماء الشافعية والحنفية والمالكية الذين حضروا موسم حج عام 551هـ/ 1156م، حيث أنكر جماعة من علماء الشافعية والحنفية والمالكية صلاة الأئمة الأربعة في صلاة المغرب في وقت واحد. وقد عدّ الفاسي (ت 832هـ/ 1428م) الذي عاصر هذه المقامات الأربعة أن تعدد الجماعات في المسجد الحرام بدعة وضلال، وأن العلماء قديماً وحديثاً أنكروها.

لكن ظاهرة تعدد أئمة المقامات لم تحجب ما لقيه الأئمة من العناية والإهتمام باختيارهم. فدولة المماليك رتبت للأئمة تراتيب ادارية في غاية الأهمية. ففي مكة المكرمة كان جميعة أئمة المقامات يعينون من قبل السلطان، ولا يمارسون عملهم إلا بعد قراءة مرسوم تعيينهم في المسجد الحرام، وبحضور جمع من أعيان مكة. أما في حالة وفاة أحد ائمة المقامات، فكان لقاضي مكة أن يعين أحداً مكانه حتى يرد أمر السلطان، إما بإقراره أو بتعيين غيره. وكان لشريف مكة الحق في منع الإمام المنصّب من قبل القاضي من أداء عمله وتعيين غيره. وكل ذلك يكون في المدة التي تسبق وصول قرار السلطان الى مكة بتعيين إمام مكان الإمام المتوفى. فمتى وصل قرار السلطان بطل قرار كل من الشريف والقاضي.

وكانت العادة أن يفوض السلطان قاضي القضاة الشافعي بمصر بتسمية الشخص المطلوب تعيينه لمنصب الإمامة بأحد المقامات بالمسجد الحرام، فيصل الى مكة مرسوم السلطان وتفويض من القاضي الشافعي بمصر للإمام المعين. وأحياناً تتدخل في تعيين الأئمة الوساطة ومساندة الوجهاء، وقد يعود التعيين لهذه الوظيفة لرغبة السلطان، لا للشروط التي يجب أن تتوافر في الإمام. بل إن هذه الوظيفة قد تتوارثها أسر معينة في الأبناء والإخوة، كما نجد أحياناً أن السلطان يعين ابناً رضيعاً للإمام المتوفى في وظيفة والده، على أن يقوم أحد أقاربه بمهام الوظيفة حتى يبلغ الصغير. ومن الأمور التي كان يُعتنى بها في تعيين الأئمة أنه لا يعين في وظيفة الإمامة شخص أمرد، ولو كان كفئاً للوظيفة.

ونظراً لكثرة المتنافسين على وظيفة الإمامة، كان السلطان يعين أكثر من إمام لكل مقام، على أن يتقاسموا راتب الوظيفة بينهم. وكثيراً ما تحدث مشكلات بين الأئمة المشتركين. ولحل مثل هذه المشكلات كان يعقد مجلس، يحضره قائد الحامية المملوكية والقاضي الشافعي وغيره من الأعيان، فتحسم المشكلة لأحد الطرفين، أو يختار شخص آخر. وخلال تدارس المشكلة كان الأئمة المتنازعون يمنعون عن العمل، ويعين شخص آخر يقوم به حتى تحل مشكلتهم. ولم يكن الإمام يعزل إلا بقرار سلطاني يقرأ في المسجد الحرام أمام جمع من الأعيان. وللإمام أن يجعل له نائباً وعادة يكون ولده أو أخاه أو قريبه. كما كان للإمام الحق في أن يتنازل عن حقه في الإمامة إذا كان له شريك فيها. وفي الغالب كان التنازل لمرض أو لعجز عن القيام بواجبات الوظيفة ويكون المتنازل له هو ابنه أو قريبه، وأحياناً يكون النائب من غير أسرة الإمام.

وإذا كان في وظيفة الإمامة عدة شركاء فإنهم غالباً ما كانوا يتفقون على إقامة نائب واحد لهم جميعاً. وإذا مات أحد المشتركين في منصب الإمامة، فإن أولاده يخلفونه في نصيبه في الوظيفة، ويدخلون شركاء مع بقية الشركاء. وبالنسبة لرواتب الأئمة، فقد ذكر المؤرخ الفاسي أنه كان يصل للأئمة المعينين رسمياً من قبل السلطان راتب غير محدد. لكن وثيقة الأشرف شعبان، التي كتبت في عام 777هـ/ 1375م، حددت راتب الإمام السنوي بأربعمائة درهم، وهو ما يعادل ثلاثة وثلاثين وثلث درهم شهرياً، كما تضمنت الوثيقة تعيين أربعة أئمة في الحرم المكي لإمامة الصلوات الخمس. كما أن الأئمة كانت تأتيهم أموال من خارج مكة عن طريق الصدقات القادمة من المغرب والهند واليمن. وفي معظم الأحيان كان الإمام يتفق مع نائبه في نصيبه من مرتب الإمامة، فأحياناً يتفقان على الثلث وأحياناً تبلغ الى حد النصف.

وكان علماء مكة يدربون أبناءهم بعد حفظهم القرآن الكريم على إمامة المصلين في صلاة التراويح بأحد المقامات ويكون ذلك تطوعاً. وكان لأئمة المقامات في المسجد الحرام مكانة مميزة عند أهل مكة، فهم عادة يحضرون في جميع المناسبات الدينية، كما أنهم يشاركون في المجالس التي تعرض فيها بعض المشكلات التي تحدث في مكة لتدارسها وإيجاد الحلول المناسبة لها.

وكانت تأتي بعض الأئمة الهدايا الكثيرة من أتباع مذهبهم من الحجاج كما تأتيهم الهدايا من حكام وأمراء بعض الدول الإسلامية الأخرى. وكان بعضهم يتولى إمامة المساجد الثلاثة بمكة والمدينة وبيت المقدس، ومن هؤلاء عبدالقادر بن عبداللطيف السراج الحسني الفاسي الأصل، المكي الحنبلي (ت 898هـ/ 1492م) فكان عليه أن يكون موجوداً في عام واحد خلال أوقات معينة في هذه الأماكن، أي لا تكون إمامته في وقت واحد. كذلك ممن تولوا إمامة المساجد الثلاثة، المجد أبو محمد عبدالله بن محمد بن محمد بن أبي بكر الطبري (ت 691هـ/ 1291م).

وكان هناك أئمة غير رسميين يعينون من قبل شريف مكة. وهؤلاء لم تكن رواتبهم من السلطان. وفي المقابل كان هناك عدد من الأئمة يؤمنون الناس في صلاة التراويح تطوّعاً. ووظيفة إمام الصلاة في الحرم المكي كانت تتداخل معها أحياناً عدة وظائف، مثل الخطابة والقضاء والتدريس وغيرها. كما يحدث أحياناً تداخل بين وظيفة افمام ووظيفة الخطيب، فقد كانت هناك صلوات لا يؤديها الإمام أحياناً فيؤديها الخطيب، مثل صلاة الكسوف، أو الخسوف، أو صلاة الإستسقاء. ومثال ذلك ما فعله الخطيب ابو اليمن محمد بن علي النويري سنة 832هـ/ 1428م، عندما صلى بالناس صلاة الإستسقاء. فعند وصوله المسجد الحرام وضع له المنبر بأرض المطاف فصعده وخطب ووعظ الناس. وعندما خسف القمر في ليلة الثلاثاء 14 جمادى الأولى من سنة 924هـ/ 1518م صلى بالناس صلاة الخسوف الخطيب الأصيل شرف الدين يحي بن الخطيب فخر الدين أبي بكر ابن الخطيب جمال الدين محمد النويري المكي. كذلك صلى الخطيب يحي النويري صلاة الكسوف وخطب بعد ذلك خطبة في ضحى 18 جمادى الأولى من السنة نفسها حين كسفت الشمس. وفي سنة 933هـ/ 1526م، صلى بالناس الخطيب وجيه الدين النويري العقيلي صلاة الغائب على سلطان الهند مظفر شاه.

على أنه بعض الأئمة لم يسلم من أذى الحكام أو شرّ الولاة، خاصة ما كان يدور من نزاعات بين الأشراف. فعلى سبيل المثال، قام الشريف قتادة صاحب مكة بقتل إمام الحنفية، وإمام الشافعية سنة 609هـ/ 1212م.

ومن مظاهر اهتمام المماليك بأئمة المسجد النبوي أنهم أضفوا لهم ترتيبات وتنظيمات جديدة. ففي بداية عهدهم كان أئمة المسجد من آل سنان بن عبدالوهاب بن نميلة من الأشراف الحسينيين، من أتباع المذهب الشيعي، حكام المدينة، ولم يكن لأهل السنة حينها خطيب ولا إمام. كان أهل السنة يمتنعون عن الصلاة خلف الإمام الشيعي، حيث إنهم كانوا يصلون خلف أئمتهم من اهل السنّة، مما حدا بالدولة المملوكية التدخل وأخذ الخطابة من آل سنان سنة 682هـ/ 1283م، وإسنادها الى أهل السنّة، وبقيت الإمام بأيدي الأشراف الحسينيين.

وقد أجّل المماليك رد الإمامة الى أهل السنّة مدة من الزمن، ثم قاموا بردها تدريجيا؛ حيث كان السلطان المملوكي بمصر يرسل من يقيم لأهل السنة الإمامة والخطابة مع ركب الحجاج في كل سنة، ويمكث حوالي نصف العام، ثم يعود لمصر، ثم يليها غيره في نصف العام المتبقي، مما عرض أئمة السنة للأذى من الأشراف وأتباعهم الشيعة الإمامية حينذاك.

السلطان المملوكي محمد بن قلاوون أضاف للإمام في عهده أمر القضاء. وأكد ابن بطوطة عند زيارته للمدينة المنورة سنة 726هـ/ 1335م اجتماع الوظيفتين لرجل واحد. وكان يغلب على من يتولى أمر الإمامة والخطابة والقضاء من أهل السنة في ذلك الوقت، أن يكون من أتباع المذهب الشافعي. وفي سنة 775هـ/ 1373م ولي القاضي محب الدين بن أبي الفضل النويري قضاء المدينة والخطابة والإمامة في المسجد النبوي الشريف. ويلاحظ أن الأئمة بالمسجد النبوي كانوا يقومون بالخطابة أيضاً، خلافاً لما كانت عليه الحال في المسجد الحرام بمكة. تجدر الإشارة الى أن جميع التعيينات التي تأتي الى المسجد النبوي والمتعلقة بالإمامة، تأخذ طابع المراسيم التي تقرأ في جميع كبير من الناس خاصة في موسم الحج.

وظيفة إمامة المسجد النبوي في العصر المملوكي شابها التنافس غير الشريف، والكراهية، والمذهبية، وتأثرت بالسياسة، وقد كانت تُعطى أحياناً لم يسعى لدى السلطان في مصر بالبذل والجاه. وأبرز ما تميز به الأئمة في عهد المماليك أنهم قضوا على ما ابتدعه أئمة الشيعة الإمامية بالمسجد النبوي في عهد آل سنان الحسينيين، حيث منعوا سب الصحابة، وأبطلوا نكاح المتعة، وصلاة النصف من شعبان، وغيرها.

وكان اللباس الرسمي لمن يلي الإمامة والخطابة في العهد المملوكي السواد، فالثوب أسود، والعمامة سوداء، والطيلسان أسود. كما أضاف المماليك على ما اشترطه الفقهاء في عموم الأئمة، ضمن شروط الإمامة بالمسجد النبوي، أن يكون الإمام على معرفة تامة بعلم القراءات وعلم الفرائض. وعندما سقطت دولة المماليك على يد العثمانيين سنة 923هـ/ 1516م، استحدثت وظائف عديدة تتعلق بالإمامة والخطابة.

ففي العهد العثماني كان أئمة المسجد النبوي مستقلين عن الخطابة بادئ الأمر، لكن بعض الوجهاء بالمدينة تمكنوا من الجمع بينهما، واستحدث العثمانيون منصب نقيب الأئمة، وهو أقل مكانة من وظيفة شيخ الحرم. أما شيخ الخطباء فقد كان يشرف على الإمامة والخطابة، وكان يشترط لهذا المنصب أن يكون قد مارس العمل بهما وحصل على خبرة كافية. واهتم العثمانيون بالوظائف المتعلقة بالإمامة والخطابة في المسجد النبوي الشريف، كالمجمّر، والمرقى، والمبلغ، وحامل العلم، وفارش سجادة المحراب النبوي. وقدمت الدولة العثمانية رواتب مجزية للأئمة، خاصة في رمضان.

ومما يعاب على التراتيب الإدارية المتعلقة بالأئمة في العهد العثماني، نظام التوريث في الإمامة لأكثر من شخص، وهو أمر له مساوئه، مما حرم أهل الكفاءات العلمية من الوصول للإمامة. لكن يلاحظ تميز الأئمة الأحناف عن بقية المذاهب الأخرى؛ فكانوا الأكثر عدداً، وقد ارتفع عددهم في عام 1206هـ/ 1791م الى خمسة وعشرين إماماً، بينما انخفض عدد أئمة الشافعية الى اثني عشر إماماً، وبذلك أصبح عدد الأئمة 37 إماماً كما دونه أيوب باشا (ت 1290هـ/ 1890م).

أما أبرز الأسر التي ظهر منها أئمة وخطباء بمكة المكرمة في العهد العثماني: آل ميرداد، وآل العجيمي، وآل خوقير، وآل الريس، وآل الكتبي، وآل شطا، وآل عبدالشكور، وآل الزواوي، وآل الكردي، وآل الحريري، وآل جمل الليل، وآل المغني، وآل كمال، وآل المالكي، وآل ابن حميد، وآل صديق، وآل القلعي، وآل الفقيه، وآل دحلان، وآل الحبشي.

في حين كانت أبرز الأسر التي ظهر منها أئمة وخطباء بالمدينة المنورة في العهد العثماني خلال القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، فهم: أسرة الأركلي، وأسرة الأزهري، وأسرة البرزنجي، وأسرة الجامي، وأسرة الحجار، وأسرة الخياري، وأسرة السمهودي.

وأئمة الحرمين في العهد السعودي لم تعد لهم صلة بنظام المقامات، فبعد السيطرة على الحجاز من قبل الملك عبدالعزيز سنة 1343هـ/ 1924م ألغى المقامات، وقام بتعيين الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ (أحد حفدة محمد بن عبدالوهاب صاحب الدعوة في نجد) إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام، ثم أسند اليه رئاسة القضاء وفوضه في اختيار الأئمة والمدرسين. وكان يقوم بالإمامة علماء من أهل البلاد أو من المجاورين بالحرمين من غير أهلها على اختلاف مذاهبهم، ولم تعد حكراً على اسرة معينة. ومن خلال استعراض قائمة الأئمة الذين قاموا بإمامة الحرمين في العهد السعودي، لوحظ أن البيوت التي توارثت الامامة في العهدين المملوكي والعثماني، لم يستمر لها حق التوريث، إذ كان اختيار الأئمة يتم بتزكية علماء نجد للإمام. وقد اسس الملك عبدالعزيز ادارة خاصة بالمسجد الحرام سميت (مجلس ادارة الحرم). وفي عام 1385هـ/ 1965م تم انشاء الرئاسة العامة للإشراف الديني بالمسجد الحرام، وكان يرأسها الشيخ عبدالله بن حميد، واستمرت الإدارة حتى عام 1398هـ/ 1977م، حيث تم احداث (إدارة الحرمين الشريفين) ثم سميت في السنة نفسها (الرئاسة العامة لشؤون الحرمين) وفي عام 1407هـ/ 1986م عدل الإسم الى (الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي).

ومن أبرز مهام الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي: تعيين الأئمة [ومعظمهم على المذهب الرسمي] ووضع الشروط المناسبة لذلك وتنظيم أمر الصلاة، وعمل جدول خاص لكل إمام، والفريضة التي يصليها، وعمل جدول خاص بالخطابة أيضاً، ويتم هذا الأمر بالتنسيق، على أن يكون لكل إمام بديل احتياط. ومكافآتهم مقطوعة، تقدر بثمانية آلاف ريال شهرياً، لأنهم غالباً يكونون في وظائف رسمية. لكن هناك مكافآت سنوية موسمية تقدم لهم في الأعياد أو في غيرها من المناسبات.

ومعظم الأئمة في العهد السعودي كانوا يعملون في سلك القضاء، فقد أورد الشيخ عبدالله بن زاحم، إمام المسجد النبوي، في كتابه (قضاة المدينة) مجموعة من القضاة الذين تولوا إمامة الحرمين مثل الشيخ أحمد كماخي (ت 1351هـ/ 1932م) والشيخ محمد نور كتبي (ت 1420هـ/ 1981م) والشيخ عبدالعزيز بن صالح وغيرهم. كما عرف عن كثير من أئمة الحرم المكي أنهم ممن عمل في القضاء مثل الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ (ت 1378هـ/ 1958م) والذي رأس القضاء بمكة، والشيخ سعود الشريم وغيرهم. وأول من تولى الإمامة في العهد السعودي بالمسجد النبوي هو الشيخ الحميد بردعان.

العديد ممن قاموا بإمامة الحرمين في بداية العهد السعودي كانوا من خارج البلاد السعودية [وكلهم على المذهب الرسمي]. فمن مصر استقطب الملك عبدالعزيز الشيخ محمد بن عبدالرزاق حمزة وكان إمام وخطيب المسجد النبوي بالمدينة؛ والشيخ عبدالظاهر أبو السمح الذي استدعاه الملك عبدالعزيز وجعله إماماً وخطيباً للمسجد الحرام الى أن توفي عام 1370هـ/ 1950م، وكذلك الشيخ عبدالمهيمن بن محمد ابو السمح، وكان إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام عام 1369هـ/ 1949م.

الصفحة السابقة