رحلة المغربي أبو سالم العياشي الى الحجاز

عبدالهادي التازي

أبو سالم عبدالله بن محمد بن أبي بكر العياشي، المتوفى سنة 1090هـ/ 1679م، هو من أعيان علماء المغرب من الذين تركوا لهم بصمات بارزة في التاريخ المغربي. وقد حج ثلاث مرات، أعوام 1059هـ، و1064هـ، و 1072هـ/ 1649 و1653 و1661م. وعن الحجة الثالثة ألّف (رحلته) قصد أن تكون ـ الى جانبها الموضوعي ـ ديوان علم، وبذلك طالت حتى استوعبت سفرين... وتعرف بالرحلة الكبرى، وتحمل عنواناً هو (ماء الموائد). وله رحلة تعرف بالرحلة الصغرى، وربما حملت عنوان: (التعريف والإيجاز ببعض ما تدعو الظروف إليه في طريق الحجاز).

هذه الرحلة المغربية كتبها لتلميذه أحمد بن سعيد المجيلدي وهو في بدء طريقه للحج سنة 1068هـ/ 1658م، حيث زوده بإرشاد عن الأمتعة التي يصحبها معه، وعن طريق الحج ومنازله، وعرّفه بمراكز المياه الصالحة، وبالمشتريات النافعة، مع الأعلام الذين يأخذ عنهم، والمزارات التي يقصدها. وقد ترجمها الى اللغة الفرنسية الأستاذ محمد الأخضر.

ولهذه (الرحلة) مخطوطات بالخزانة العامة بالرباط: الأولى تحت رقم 43/ ك، والثانية رقم د 2793، والثالثة رقم 2839، وهناك نسخة رابعة بمكتبة مؤسسة علال الفاسي تحت رقم 467ع 182. أما الرحلة الكبرى، فهي منشورة بالمطبعة بفاس سنة 1316هـ/ 1898ـ1899م، وقد أعادت نشرها، في الرباط بالأوفسيت سنة 1397هـ/1977م، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر. وقد اجتذبت (الرحلة) العياشية اهتمام الأستاذ الفرنسي بابروجير، فترجم قسماً منها الى الفرنسية نشر في مجلة جزائرية.

وتعد رحلة العياشي (ماء الموائد) من أهم الرحلات المغربية وأكثرها انتشاراً؛ لأنها أكثر مادة وتنوعاً، وقد طفق الرحالون من اللاحقين ينقلون عنها من دون أن يرجعوا الى مصادر أخرى أحياناً. ومن هنا نرى أن الإهتمام بها يعدّ اهتماماً بجل الرحلات التي تلتها. لقد فضل أبو سالم عبدالله العياشي أن يقصد مكة أولاً قبل المدينة؛ ثم يقوم بزيارة المدينة ليجاور فيها قبل أن يعود الى مكة مرة أخرى، وبهذا كان له من الوقت ما يكفي ليستوعب الموضوع.

وقد عرفنا من خلال الرحلات الأخرى أن المغاربة عموماً لا يتصورون أن يقوموا بفريضة الحج دون أن يفكروا في زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعدّون ذلك داخلاً في واجبهم، وعلى نحو ما يقولون: (حجّة وزيارة)، بمعنى أن الحجة كاملة.

لنبق مع العياشي بهذه المناسبة، في مكة عند الزيارة التي قام بها في ذي الحجة من سنة 1072هـ/ يوليو عام 1662م. لقد وصل مكة آتياً من ينبع عشية يوم السبت خامس يوم من الشهر المذكور، أول يوم من السمائم (12 يوليو الفلاحي/ 25 يوليو)، وكان العياشي يشتكي من شدة الحر عند الطواف في النهار. ويسجل العياشي أن الركب المصري دخل مكة قبله في اليوم الرابع، والركب الشامي في اليوم السادس؛ ملاحظاً أن أهل هذا الركب عانوا من قطاع الطرق (الحرامية) شدة، حتى أشرفوا على الهلاك! ودفعوا للأعراب مالاً كثيراً نحو مائة ألف بعدما انتهب من ركبهم كثير وقتل أناس. وقد وصل الركبُ العراقي في اليوم الثامن.

اضطر أصحاب العياشي الى النزول وسط المقبرة بالحُجون، إذ لم يجدوا مكاناً غير ذلك، والركب قد ملأت خيامهم السهل والوعر... قبل أن يكتروا منزلاً بقرب باب إبراهيم من صاحبه الشيخ محمد الغدامسي باثني عشر ريالاً تاركين الخباء والربل بالحجون. بعدها أتى العياشي الى المسجد وقد حان الغروب، وكادت تطير من الفرح القلوب، فيقول: (فدخلنا فرحين مستبشرين من باب السلام، وشاهدنا البيت العتيق الذي تزيح أنواره كل ظلام، وقد تدلت أستاره وأشرقت أنواره، وقد شمّر البرقع عن أسافله، حتى لا يكاد الطائف يناله بأنامله، يفعلون ذلك به في أول ما تقدم الوفود، ولا يطلقون الأستار حتى تعود). وهنا جادت قريحة العياشي بأبيات في المعنى ظلت بدورها مرجعاً لمعظم الكتاب من الحجاج:

فكأنه لما بدا متشمّراً

والزائرين به جميعاً أحدقوا

ملك همام ناهض للقاء

من قد زاره ولهم إليه تشوُّقُ

فتبادر الغلمان رفع ذيوله

حتى إذا رجعوا جميعاً أطلقوا

ويقول: (ولما وقعت عليه أبصارنا، وافتضح ما أكنّته من الشوق إليه أسرارنا، اقشعرت جلودنا من هيبته، وذهلت العقول من عظمته، فلم تزد على أن بسملنا وسلمنا وهللنا). ويقبّل العياشي الحجر الأسود، ولم يبال بما ناله من الإزدحام (والمورد العذب كثير الزحام) ويطوف ويقف بالملتزم ويشرب من ماء زمزم، ويخرج لقضاء شعيرة السعي من باب الصفا، ثم يأتى المروة في زحام كثير في السعي؛ لأن المسعى كان من أسواق البلد العظيمة فكان الساعي يتضرر بذلك كثيراً. وهكذا يرفع العياشي عقيرته بالشكوى من وجود هذا السوق في المسعى قائلاً: (ولو قيّض الله الأمراء لمنع الناس من التسوّق في أيام الموسم لكان في ذلك نفع كثير). وسنلاحظ أن هذه الشكوى ظلت حديث الحجاج.

لقي العياشي في مكة المكرمة شيخه العلامة أبا مهدي عيسى بن محمد الثعالبي الجعفري المغربي المجاور الذي خصص له من (رحلته) حيزاً كبيراً كان يستحقه، ولم ينفك ذاكراً له مشيداً به، ويذكر العياشي أنه من وطن الثعالبة، من عمالة الجزائر بإفريقية، وهم ينتسبون الى الإمام جعفر بن أبي طالب. وعلى ذكر شيخه أبي مهدي عيسى نجد من المفيد أن نذكر هنا اسماً لامعاً، وجسراً مهماً من الجسور التي ربطت بين المغرب والحجاز ممن حظي من العياشي كذلك بترجمة واسعة له عريضة، على الرغم من أنه كان على طرفي نقيض من شيخه أبي مهدي، إنه الشيخ ابن سليمان الروداني، وكلاهما صالح الحال ديانة ووفور علم. وقد أجمل العياشي الحديث عنه في ثلاثة أسطر شرحها فيما بعد متوقعاً المصير الذي كان ينتظر العلامة الروداني، قال العياشي:

(ربما عاب كل منهما على الآخر ترك ما عاب عليه فعله، وقد قلتُ للروداني ذات يوم: إن سيدي عيسى يقول: ما أحسن فلاناً لو أنه كف عن غرْبه (جدته) شيئاً وألان جانبه للخلق. فقال لي: وأنا أقول: ما أحسنه وأعلمه لو انقبض عنهم شيئاً وترك مداهنتهم في الحق). ويتطوع العياشي بشرح هذه الجمل والأصداء تصله بالمصير المحزن الذي كان ينتظر العلامة الكبير الروداني.

وكان لا بد أن يعود العياشي الى الإهتمام ببعض العفش الذي تركه في الحُجُون، ليذكر أنه على الرغم من أنهم تركوا معه بعض الأصحاب لحراسته، فإنه يتعرض لهجوم السراق بالليل!! إن هؤلاء السراق يعظم أذاهم في أيام الموسم لقلة الحكم بتهاون الحكام، وإرخاء العنان للسراق في ذلك، وقد قيل: إنهم أي الحكام، يأخذون من السراق جُعلاً على ذلك في أيام المواسم! فإذا جنّ الليل أخرجوه!! وأما في غير الموسم فإن الحكم في تلك البلاد تام، ولا يوجد مثله في بلد من البلاد. والحكم يعتلون في أيام الموسم باختلاط الناس من جميع الآفاق، وتعدّد الحكام والرؤساء؛ إذ لكل ركب حاكم، ويقولون: لو أطلقنا اليد للحكومة على كل سارق ربما وقعنا في بعض خدام أمراء الأركاب، فيؤدي ذلك الى هرج أيام الموسم.

ويعلق العياشي على هذه الحجج بأنها ضعيفة، وأنها لا تبرر انعدام الأمن في أقدس مكان نعته القرآن بأنه مثابة الخائفين ومأمن القاصدين.

وفي اليوم الثامن رحل العياشي ومن معه الى منى حيث نزلوا على مقربة من مسجد الخيف في سفح جبل ثبير، وهناك قضوا ليلهم على ما هو. ويتأكد يوماً عن يوم أن العياشي فقيه متضلع، وأنه مالكي ملتزم، لذلك فإنه يعلق على كل النوازل الفقهية التي تمر من حواليه، ولا يترك شاذة ولا فاذة إلا أعطى فيها رأيه دون ملل وبروح علمية موضوعية أمينة. ومن الطريف أن نجده يستأنس بابن رُشيد والعبدري ومن بعدهما... ويتجلى من خلال هذا أن العياشي كان يعتمد على بعض الرحالين الذين سبقوه لزيارة تلك البقاع.

ارتحل العياشي الى عرفات يوم الأربعاء حيث وقفوا على إبلهم في يوم شديد الحرارة (26 يولوي 1662م) انتهى بنزول أمطار كسرت سورة الحر، وأعقبها نسيم بارد؛ لكن العياشي يؤكد أنه لم يسمع حرفاً واحدا من خطبة الإمام على نحو ما سنقرؤه في بعض الرحلات، وهو الأمر الذي جعلنا نحمد الله اليوم على ظهور المكبرات والشاشات.

يتحرك العياشي من هذا الموضع الى ذاك من عرفات رجاء بركة الواقفين واستمر على ذلك حتى غابت الشمس ونفر في أخريات الناس. ومرة أخرى يحكي أنه لما غاب القمر، وهو بالمزدلفة أخذ السراق يرمونه بالأحجار من الجبل القريب منهم. لكن الله كفاهم شرور هؤلاء اللصوص.

ثم تحرك الى مكة حيث يقوم بالمناسك الى أن يهيء الله له من يحلق له بطريقة شرعية. وهنا يلاحظ أن الحلاقين يكثر عليهم الزحام، فلا يستوعبون الرأس بالحلق ولا يحسنونه... إنهم ـ طلباً للتفرغ للآخرين، واستكثاراً في الأجرة ـ لا يكملون عملهم... وكانت هذه ملاحظة آخرين غير العياشي.

وتمكن العياشي ومن معه من دخول البيت الحرام قبل أن يغلق، وأضاف بإنهم يفتحونه هذا اليوم لتعليق الكسوة الجديدة، ولا ينصب سلّم للدخول، وإنما يدخل من تكلف للصعود بمعين أو بخفة أعضاء. وكانت فرصة له ليصف داخل البيت الحرام بما أعتدنا أن نقرأه في المؤلفات الجارية، وقد أورد رسماً للبيت العتيق في الرحلة مما يؤكد الحس العلمي عند العياشي.

يقول العياشي: إن إمعان النظر في داخل البيت الحرام يعتبر من قلّة الأدب. وهو ما قاله بعض من قبله ويردده بعض من بعده. وبعد العودة الى منى والمبيت بها، يخبرنا بأنه من الغد عمرت الاسواق، وكثر الأنفاق، وتزاحم الناس على الشراء رجاء بركة ذلك المكان. وبعد الفراغ من الرمي زار منزل أبناء شيخه تاج الدين، فصادف عندهم شيخه أبا مهدي عيسى الثعالبي، حيث مكث عندهم برهة من الزمان حتى حضر الطعام.

ولأهل مكة، وخصوصاً الأكابر من أهل الوظائف كالعلماء والأمراء والتجار، منازل في منى ينزلونها أيام الموسم. قال: (منزل شيخنا تاج الدين المالكي هنا من أحسن المنازل. وبينما نحن جالسون في مصطبته، إذ مرّ أمير مكة الشريف زيد في موكبه، وله شارة حسنة، ومعه طائفة من الأشراف والجند، كان ذاهباً لرمي الجمار، قد ظلل رأسه بمظلة كبيرة من حرير وكأنها قبة خباء، يحملها فارس بجانبه ويساره وهو في ظلها، والناس يحيونه عن اليمين والشمال، فالعوام يقولون في تحيتهم: نصرك الله يا زيد! والخواص يقولون: السلام عليكم. وهو يرد على كل من حيّاه من وضيع وشريف، ولا يهمل أحداً، ويشير برأسه الى كل من حيّاه؛ وذلك لشدّة تواضعه). ويصف العياشي الشريف زيد بأنه (رجل أسمر اللون، أبيض اللحية، سمح الوجه... أثنى عليه شيخنا أبو مهدي. وهو من أحسن أمراء عصره سياسة وحسن تدبير، ولم تزل الإمارة في أسلافه منذ أعصار متطاولة. وأسلافه هم المشهورون بآل أبي نُمّيّ، وهو بطن في أبي حسن، وإخوانهم بنو حسين لهم إمرة المدينة. وولاية الحجاز الآن بأطرافه، من أطراف اليمن الى أقصى نجد مما يلي البصرة، ثم الى خيبر مما يلي ناحية الشام، ثم الى ينبع، كلها للأمير زيد بن محسن وأسلافه، وليس لبني حسين في ولاية المدينة في هذا الزمان إلا الإسم فقط، وبعض تصرف من تحت يد الأمير زيد، وكان هذا الأمير فيما مضى على معتقد أهل بيته، كاعتقاد الزيدية، ثم رجع الى معتقد أهل السنة، وتمذهب بمذهب الإمام أبي حنيفة).

أسهب العياشي في تقديم الأمير زيد بن محسن الى قراء (رحلته)، ولا سيما أهل المغرب، وهذا ما يؤكد نظريتنا المتلخصة في أن كتابه (تاريخ الحجاز) لا سبيل اليه إلا بالعودة الى المصادر المغربية... وعلى الخصوص الرحلات، وها نحن من الأمير زيد أحد أفراد أسرة أبي نُمي الذي قضى في ولاية مكة أكثر من ثلاثين سنة، ويروي عنه أخباراً غريبة وطريفة لم نقرأها في مصدر من المصادر الأخرى.

ولم يفت العياشي أن يتحدث بدوره، وهو في منى، عن تنافس أهل الشام ومصر في إيقاد المصابيح واتخاذ الخيام. والإكثار من الرمي بالمدافع والبنادق والمحارق المرتفعة في الجو... وكان السلطان زيد يشاركهم على نحو ما يفعلون.

قضى العياشي وصحبه ليلة من أرغد عيش بارد، وأصفى سرور وارد، لولا تشويش السراق عليه برمي الأحجار بعد القمر! إلا أن ذلك، الى جانب ما حصل له من النعيم، ليس بضرر على حد قوله. إن ليالي منى غرر في أوجه الزمان، ومواسم فرح وسرور لأهل الإيمان. وقد تحركت شاعرية العياشي بنظم ميمية في منى:

كل المنى بمنى إذا

ما جئتها تكفي النقم

أكرم به من منزل

فإليه تجتمع الأمم

فيه تشابهت السما

والأرض في داجي الظلم

هذا بأنجمه أضا

ء وذاك بالسمع اضطرم

حيث القباب البيض تلـ !!

ــمع مثل نار على علم!!

وأخذ الناس في الرحيل ما بين متعجل ومتأخر... وقد أثنى على صديقه القديم أمير الركب المغربي محمد بن محمد الحفيان الذي كان يلبي الحاجات والرغبات الى صاحب الفقيه القاضي أحمد الخطيب المراكشي. وهنا لقي الشيخ سليمان ابن الشيخ عبدالعزيز الحبشي من مدينة الأحساء، وعقد معه عقد أخوة في الله.... ويقوم العياشي بوصف مسجد الخيف وصحنه وتجديده ومنقوشاته.

وكفقيه عالم، على ما أسلفنا، فإنه لا يفتأ معلقاً، وهكذا نراه على ما روى عن الشيعة بأن نهر الجنة خاص بهم. يعقب أن النهر لهم ولغيرهم من المسلمين، ويفتخر العياشي بأنه نزل المحصب وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وانتقد الحجاج الذين لا يعرفون هذا الموقع القريب من مكة، والذي كان مستراحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونزل العياشي بالشبيكة ليلة الإثنين 14 ذي الحجة حيث كان ينزل الركب المغربي، الى أن دخل مكة حيث قام بأداء العمرة، وأحرم لها هذه المرة من التنعيم لتعذر الجعرانة من شدة الحر (31 يوليو 1662م). اجتمع العياشي يوم الأربعاء بالشيخ جمال الدين الهندي، بالمدرسة الداودية، جمعه به شيخه وصاحبه الشيخ علي باحاج اليمني، بعدما كان سأله العياشي عمّن هو اليوم في الحرمين أفضل هذه الطائفة النقشبندية.. (دلّني عليه وعلى رجل آخر من أصحاب الشيخ تاج الدين، إلا أن الشيخ جمال الدين أكثر منه عبادة وزهداً ـ لا مال ولا أهل). ويخبرنا العياشي أنه أخذ عن الشيخ جمال الدين طرق السادة النقشبنديين ظهر يوم الأربعاء المذكور، واعداً القراء بأنه قد يتحدث عن هذه الطريقة في المغرب الأقصى. وكان من بين ما سجله العياشي مما أثار فضول الأطباء أنه أصابته الحمى بمكة المكرمة في هذه الأيام شديدة الحر والهواء المختنق، وأشد ما يكون الحر بالحجاز في برج السنبلة والميزان (24 أغسطس) أصابته الحمى فاحتجم، فعافاه الله منها.

ووفى العياشي بوعده، فيذكر أنه تلقى الذكر عن طريق السادة النقشبندية، وألبس الخرق الثماني... لقد كان العياشي يستعد للإعتكاف والمجاورة. وهكذا نسجل للتاريخ وجود الطريقة النقشبندنية في المغرب عن طريق الرحالة العياشي الذي ربطها بالطريقة الشاذلية، حيث يستفيض هنا في حديثه حول هذا الموضوع الذي يسلمه الى موضوعات أخرى.

يعود العياشي مرة أخرى ليعتذر عن عدم استيعاب الأماكن الفاضلة التي تزار بمكة، لشدة الحر، واعداً انه سيذكرها عند قيامه بالمجاورة، ومع هذا فإنه يعطي رأيه حول الدار التي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيها، والتي اتخذت مزاراً يجتمع اليها الوفود، وكذا مكان مولد فاطمة في دار خديجة، مختتماً كلامه بما علم من اختلاف الأئمة في القديم والحديث حول مثل هذه الآثار والمشاهد التي لم يرد بها خبر صحيح بمكة والمدينة والقدس، مردداً ايضاً ما ورد عن عبدالله بن عمر انه ارتحل الى المسجد الأقصى، فلما دخله لم يزد على ان صلى ركعتين ودعا ورجع من يومه، ولم يقف الى الصخرة ولا الى غيرها من الآثار والمشاهد مع كثرتها، فلم يتضح من الحديث إلا إتيانه للصلاة به. وهكذا نجد العياش مرة اخرى لا يستسلم للمرويات ما لم يكن لها سند في المصادر الموثوقة.

أخذ الحجاج المغاربة في الرحيل من مكة المكرمة يوم الأحد 20 من ذي الحجة ويسجل العياشي أن اخاه عبدالرحمن تعب في الطريق من شدّة الحر (5 أغسطس)، وكان أخوه هذا هو السبب في قرار العياشي بأن يبقى هناك للمجاورة. يعود أبو سالم العياشي بعد المجاورة في المدينة الى مكة في شهر الصيام، وهكذا خرج من المدينة ضحى يوم الثلاثاء، وهنا أخذ مرة اخرى ينوه بمكة وما تشتمل عليه من مشاهدة البيت والطواف به وأداء المناسك من حج وعمرة وغير ذلك، وأن الأعمال تضاعف بحرم مكة زيادة على حرم المدينة.

ودعه الأحباب حتى ذي الحليفة، وهاله ركوب الشقدف الذي كان وهبه إياه شيخ الأغوات بالمدينة المنورة، لأنه لم يكن يعهد هذا النوع من المركوب.. محمل كبير ما رأيته ـ يقول العياشي ـ إلا في أرض الحجاز، ذو شقين، يوضع كل واحد على جنب البعير، ويقرن بينهما بحبال وثيقة على ظهر البعير ولا بد للراكب في الشقّ من معادلة في الجهة الأخرى مقارناً له في الوزن، ثم يوصل بين الشقين من أعلى بحبال يظلل بغطاء يقي من الحر والبرد، وهو من أشهى المراكب وأهناها، لا سيما لمن له فرش وثيرة ووسادة يتكيء عليها من الجانبين، فإنه لا يكاد يحس بأن الإبل تسير به، وقد رأينا من اعتاد الركوب فيه ينام من أول الليل الى آخره، ولا يستيقظ إلا بإناخة الجمل عند النزول وقد لا يستيقظ.

كان يعادله في الشقدف أخوه عبدالرحمن، ويشرف على المسير مكار كما هو معلوم. إن ظاهرة الهوادج والشقادف ووسائل النقل في الحجاز تحتاج وحدها الى تدوين. يلاحظ العياشي، أن ما يكون معتاداً أيام الموسم من السرقة والنهب والحرابة يختفي في غير الموسم الذي يجتمع فيه الناس والأوباش من كل مكان.

دخل العياشي مكة المكرمة هذه المرة ليلة الأحد 29 من شعبان/ 8 ابريل، وأناخ ومن معه في سوق باب ابراهيم أمام رباط الموفق المعد للمغاربة، وهنا بادر الى دخول المسجد والطواف والسعي بين المروتين. ومن المهم أن نأتي هنا على وصف لشاهد عيان للسيل العظيم الذي أتى على مكة المكرمة في ذلك التاريخ. يتعلق الأمر بما أخبر به العياشي مما جرى في شعبان سنة 1073هـ/ مارس عام 1663م، ونفضل أن نأتي بالنص الكامل لأبي سالم العياشي؛ وذلك لكون المصادر المشرقية لم تستوف الحديث عن الموضوع كما يجب الإستيفاء. يقول العياشي:

(لقد خرّب السيل غالب أسواق مكة وهدّ دوراً كثيرة، وأتلف أموالاً عظيمة، ومات فيه الناس، وهدم دور بعض أرباب الدولة على ما قالوا، ودخل المسجد الحرام، وكان أكثر دخوله من باب الصفا والأبواب الموالية له التي تلي دار الإمارة، وذلك أن السيل المنحدر من أعلى مكة لما قابل دار الإمارة لقيه سيل آخر مثله في العظمة نازل من الوادي الذي وراء جبل الحزْوَة، وخرج قريباً من دار الإمارة، فالتقى السيلان هنالك، وتصادفا وحصر كل منهما الآخر، فانكفأ الماء راجعاً، وقد غفل الناس عن إغلاق الأبواب فدخل المسجد حتى امتلأ كله، وارتفع الماء فيه الى أن ذهب بقناديل المطاف كلها، وما في المسجد من دواريق وبُسُط، وارتفع على قبة المقام، وعلى سطح زمزم الأدنى، وارتفع في البيت سبعة عشر شبراً على ما قال لي من شبر ذلك، وبلغ حلق الباب، وملأ كل البيت وخزانة المسجد، وكان ذلك كله على ما زعموا ساعة زمنية أو أقل).

(وأخبرني صاحبنا الحاج أحمد العجين الطرابلسي ـ وهو عندي ثقة ـ أنه كان في المقام بعد صلاة الظهر واخذ المصحف يقرأ؛ فقرأ عشرة أحزاب بعد صلاة الظهر، فتكلم الرعد، وأنزلت السماء عزاليها... وانهمر المطر كأفواه القرب، فما جاء وقت العصر حتى امتلأ المسجد ماء، ولا قلع المطر، ولم يقدر أحد على الوصول الى البيت بقية ذلك اليوم والليل كله، وفي الغد الى الضحى. ولم يهتد أحد من الناس لموضع البلاليع التي في المسجد المعدة لخروج الماء، حتى جاء السلطان زيد بنفسه ودلهم على أماكنها. فغاص الناس الى مجالها حتى فتحوها وخار الماء ونقص؛ وطاف بعض الناس بالبيت عوماً ممن يحسن السباحة، وكان ذلك أمراً مهولاً لم يعهد الناس مثله منذ أزمان).

(وقد أخبرني من شاهد السيل الذي وقع سنة تسع وثلاثين وألف (1039هـ) أنه لم يبلغ ما بلغ هذا السيل؛ ولكن الله سلم في البيت لوثاقة البنيان وكونه قريب العهد. إلا أنه (أي السيل) زلزل الرخام الذي فرش به البيت من الداخل، وحرّكه حركة باينت بعضه من بعض، فلما غاض الماء بقي المسجد كله ممتلئاً تراباً وطيناً، ولم يمكن للناس الصلاة فيه ولا الطواف إلا بمشقة. أمر السلطان بإغلاق الحوانيت، واجتمع أهل مكة كلهم واجتهدوا في إخراج ما أمكن من التراب والأحجار والطين، وعمل فيه الناس كافة حتى السلطان بنفسه وأولاده وأقاربه).

يخبرنا العياشي أن (السلطان الخاقان الأعظم بعث في تلك السنة مائة ألف دينار ذهباً لتجديد ما يحتاج الى التجديد من معالم الحرمين. وكان المقدم لذلك نائب جدة. فصرفت جملة من ذلك المال في تنظيف المسجد والمسعى وما احتيج الى التنظيف من مشارب الماء التي ملأها السيل، وكان يخدم في المسجد كل يوم ما يقرب من مائة وخمسين رجلاً بالكراء. وأدركنا المسجد ـ يقول العياشي ـ لم ينظف منه إلا المطاف وأماكن قليلة حوله، حتى نظف المسجد كله، ودام العمل على ذلك الى انتهاء رمضان وأكثر شوال، وفعلوا مثل ذلك بما بين المروتين، وأخذوا بعد ذلك في تجديد الصباغات الرائقة والنقوش الرفيعة التي محق السيل اثرها في المقام وقبة زمزم وقباب مقامات الأئمة وغير ذلك على أرفع مما كان، وزيدت في المسجد أشياء عجيبة، وصبغت أعمدة الحديد الدائرة بالمطاف كلها بصبغ أحمر قان، مصقولة، ووضع على كل عمود هلال مذهب أبلغ تذهيب، وزيدت في مصابيح المسجد والمسعى ثلاثمائة مصباح)، الى آخر المعلومات الدقيقة التي أوردها العياشي والتي تسهم ـ كما هو معلوم ـ في التاريخ لهذا المسجد العظيم.

حرص العياشي على ذكر بعض المعالم التي أتلفها السيل، فذكر منها خزانة الكتب التي كانت بالمسجد وتعود الى شيخه أبي مهدي عيسى الثعالبي. وكانت المكتبة تحتوي على نحو ثمانين سفراً، فيها من نفائس الكتب وغرائبها التي لا تكاد توجد في غيرها، والتي كان منها ما هو ملك شيخه أبي مهدي عيسى سالف الذكر، ومنها ما هو من كتب الوقف.

ويلاحظ العياشي أن السيل المذكور بما صحبه من دمار كان من جهة أخرى سبباً في خصب كثير، حيث رخصت الأسعار، وغزرت المياه فوق العادة حتى زمزم قد زال ما فيها من الطغم وغزر ماؤها وارتفع حتى كاد يتناول باليد، وانكسرت صولة الحرّ في هذه السنة بمكة وبشعابها والمسجد وأفنيته لنداوة الأرض.

بعد هذا ينتقل العياشي الى الحديث عن اقتراب أيام موسم الحج، فيتحدث عن البيت الذي حصل عليه من لدن صاحبه القديم الشيخ محمد الغدامسي حول باب الصفا، أقام فيه الى أن خرج من مكة بعد أن كان يقيم في بيوت أخرى يذكر منها بيت الشيخ عبدالرحمن أخي الملا إبراهيم، وكان برباط السلطان قايتباي المشرف على الصفا، وهو رباط مليح واسع، فيه بيوت كثيرة جيدة جامعة لمرافق السكنى. ويعقد العياشي بعد هذا فصلاً خاصاً لشهود رمضان بمكة وما أدراك ما رمضان بمكة، مهملاً ما أورده ابن بطوطة حول الموضوع مما يؤكد أنه لم يقف على تلك (الرحلة). قال العياشي:

(ولما دخل رمضان شمّر الناس عن ساق الجد والإجتهاد في العبادة، ونصبت الأسواق طوال الليل ـ كما هو شأن أهل المشرق في ليالي رمضان ـ فلا تكاد ترى بالمسجد ليلا إلا طائفاً أو تالياً أو مصلياً. وأخذ الناس من أهل مكة والمجاورين في الإعتمار لا سيما ليلة الجمعة، فلا تكاد الطريق تنقطع طوال الليل من التنعيم الى مكة وركباناً ومشاة، رجالاً ونساء وصبياناً، وعبيداً وإماءً. واجتهد أهل الثروة من أهل مكة، فكان لكل واحد منهم مصابح كبير بين يديه، وخصفة (لُبدة) يجلس عليها كل ليلة، ويأتي بنفر يقرؤون عنده من القرآن أجزاءً على المناوبة الى أن تذهب حصة من الليل، ويسقيهم من الأشربة اللذيذة، ويطيبهم. فإذا كانت ليلة الختم احتفل بها أكثر، حتى تكون ليلة العيد، فيعطي كل واحد من القراء كسوة ودراهم).

ويضيف العياشي، بأنه يُبالغ في ليلة الختم برمضان في تنظيف مقامات الأئمة الأربعة التي نجد لها في كل مقام إماماً يصلي بصلاته جماعة كبيرة من أهل مذهبه، ويؤتى بشموع كبار هائلة ترفع على حسَك عظيمة راقية. ويحضر الختم من في المسجد، ويخلع على الإمام بعد الفراغ خلعة من عند السلطان، ويُعطى فتوحاً زائداً على الخلعة، وأول من يختم الشافعية ليلة إحدى وعشرين، والمالكية ليلة خمس وعشرين، والحنفية ليلة سبع وعشرين. والعادة أنه كلما فتحت الكعبة يوماً للرجال، فُتحت في غده لدخول النساء، ولا يقرب ساحة البيت يوم دخول النساء أحد من الرجال، كفعل النساء يوم دخول الرجال.

وتابع العياشي: ولما كان يوم الأربعاء يوم الفطر، بكر الناس لأخذ مواضعهم للصلاة في المسجد، وخطب الإمام خطبة بليعة وأطالها، ولما وصل الى ذكر شريف مكة والدعاء له قام أحد أصحاب الأمير وخلع عليه الخلعة وهو يخطب. ويلاحظ العياشي أنه بعد عملية الخلع يتتابع الناس أفواجاً للخروج من غير أن ينتظروا فراغ الخطبة ولا كذلك دعاء الخطيب، لقد كان قصدهم فقط هو مشاهدة الخلع على الخطيب.

بعدها قصد العياشي شيخه المعروف أبا مهدي في منزله للتهنئة، وكذا لتلقي الحديث بالسماع في يوم الفطر، وهذا ما حققه؛ إذ نقرأ سنده بذلك في (الرحلة) قبل أن يعود الى بيته ليكتشف أن شيخه عبدالرحمن المكناسي المقيم بالطائف أوصى أصحابه بمكة أن يتفقدوا أبا سالم العياشي في يوم العيد بطعام فاخر.

بعد هذا يقوم العياشي بذكر الأماكن التي ينبغي أن تزار بمكة المعظمة ونواحيها في انتظار موسم الحج في تلك السنة. وهنا نراه يذكر غار جبل ثور الذي زاره في 8 شوال، ووصفه على نحو ما وصفه سابقوه الذين كانون يجمعون على أنه الغار الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ثم زار العياشي مدينة جدة لأنه كان يتوفر على رغبة قوية في معرفة أرض الحجاز ورؤية ما بها غير الحرمين الشريفين، على حد قوله، وهناك في جدة زار المكان الذي يحتضن قبر أمنا حواء على ما يقول الإخباريون (ابن خلكان مثلاً). وقد رحل اليها بعد عصر 13 شوال وكان يوم جمعة، وذلك على ظهر حمار من حمير الحجاز التي لم يرع أسرع ولا أوطأ مركباً منها، وهم يتغالبون في ثمن الحمير، فقد بلغ ثمنه مئة دينار ذهباً. ويضيف: ونحن في المغرب نضرب المثل بحمير جدة في السرعة وخفة الحركة.

والطريف أن العياشي يحدد المسافة الى جدة بعدد المقاهي المنتشرة على طول الطريق، فيقول أنها ثمان مقاهي. ويضيف عن جدة: (إنها تمتد على ساحل البحر الأحمر المزود بالمدافع... وفي مرساها سفن كثيرة مختلفة الأحجام، وغالبها معمول بالشريط (النباتي) من المسد، وليس فيها مسمار... وأسواق البلد ممتدة مع جانب البحر، وغالبها أخصاص واسعة، وقد اتخذوا في القهاوي اسرّة منسوجة بشريط المسد بطريقة محكمة). ويتحدث العياشي عن المسجد الكبير بجدة فيصفه بأنه من أجمل المساجد، وأن فيه أعمدة من السياج تخالها رخاماً أحمر، قيل: إنها جلبت من كنيسة بالحبشة عندما افتتحها المسلمون. وهناك في جدة تعرّف الى مفتي الشافعية الشيخ عبدالقادر، قال: (وليس عنده من العلم والرواية ما يرغب في أخذه). لكنه لقي مفتي الحنفية الشيخ مصطفى الذي كان على العكس من الأول، ذا مشاركة في العلوم. كما تحدث عن أديب من أدباء المدينة يعرف بالشيخ محمد مخبر. وقد أقام العياشي في جدة ثلاثة أيام ينتظر سفن مصر علّها تحمل إليه أخبار بلاد المغرب، وعاد الى مكة بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 14 شوال ليصل مع أذان فجر اليوم التالي.

ولا ينس العياشي تتبع الحديث عن آثار السيل الذي قدم وصفاً له، وبخاصة ما يتصل بالبيت العتيق، وهنا يذكر أنه لما عاد من جدة وجد العمال قد شرعوا في تجديد السقف الأعلى للبيت، وذلك أن للبيت سقفين بينهما مقدار ذراعين ونصف أو ثلاثة، صيانة للبيت من وصول شيء من التغير بنزول ماء أو غيره، فإن احتاج أحد السقفين الى تبديل كان الآخر عوناً له.

ولقد ظهر بعد ذلك السيل شبه أثر قطران فكشف عن ذلك فوجد في بعض خشبات السقف الأعلى مآكل بسبب الأرضة (السوسة) لطول العهد، فاقتضى نظر الخاصة تجديد السقف كله، فشرعوا في ذلك يوم الإثنين الثالث عشر من شوال، على ما يذكره العياشي، بتفصيل دقيق بما في ذلك وصفه للآلات والسلالم التي ساعدت على وصول المواد الى السطح من جهة الحِجْر، وبما في ذلك جلب خشب الساج من جدة. ويحكي شاهد عيان أنه هو ذاته أسهم في عمليات سطح البيت العتيق بمساعدة الحاج سليمان، وهو من الصعيد المصري.

وقد كان من المزارات التي وصلها العياشي في مكة الجبل المشرف على المحصب يمين الذاهب من مكة الى منى. ومن المزارات غار حراء المشهور أمره، والذي نزلت فيه أول سورة من القرآن الكريم (اقرأ) وهو على ثلاثة أميال من مكة، وقد زاره العياشي في إحدى ليالي ذي القعدة. ومن المزارات الجعرانة وهو موضع بين مكة والطائف، وبين الجعرانة وبين مكة ثمانية عشر ميلاً، ومنها كانت عمرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، وهي التي اعتمر العياشي فيها في حجته الأولى، مع أن أهل مكة في حينها كانوا يعتمرون من التنعيم. ومن مزارات مكة يذكر العياشي دار الأرقم، و (المودّع) حيث يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع منه أهل مكة لما أراد الخروج الى المدينة بعد حجة الوداع، وقريب منه رباط ينسب الى الشيخ الجيلاني. ومن المزارات جبل أبي قبيس، ومقابر الحجون، وقبة الشريف أبي طالب، غير غافل عن التعليق والتعقيب حول ما روي عنها.

ويذكر العياشي من المزارات التي زارها جوار مكة ما كان في مدينة الطائف التي تحتوي على الكثير منها، في صدرها ضريح عبدالله بن عباس ترجمان القرآن، وهو يوجد الى جانب المسجد الأعظم. قصد العياشي الطائف ليلة الثلاثاء 19 ذي القعدة واستغرب تغير أحوال الطقس عند الجبل ونزول درجة الحرارة حيث شعر بالبرد بعد أن كان يشكو أول النهار من شدة الحر. وقدّم العياشي الطائف على أنها قصور تحيط بها جنات من نخيل قليل وأعناب كثيرة وفواكه مما يشتهون؛ وتحدث عن المسجد الأعظم، وهناك على باب المسجد التقى استاذ المجودين الشيخ عبدالعزيز بن حسن بن عيسى التواتي، تلميذ الشيخ عبدالواحد بن عاشر، تعرف عليه بواسطة السيد عمر المدني وهو من متفقهة المدينة؛ وقد اغتنم العياشي تلك الفرصة فسمع من الشيخ التواتي المسلسل بسورة الصف، حيث سلم التواتي نص الإجازة للعياشي بضريح عبدالله بن عباس الملاصق للمسجد كما قال.

أيضاً لقي العياشي في الطائف السيد عبدالرحمن المكناسي الذي كان يسكن بأعلى البلد، وكان العياشي قد تعرّف عليه بمكة؛ وبتلك المناسبة حرر العياشي مذكرة له حول هذا اللقاء تحمل تاريخ عشية الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة 1073هـ/ 1662م.

وبعد أن يعدد العياشي مزارات الطائف، يذكر أنه عاد الى مكة محرماً بعمرة من قرن الثعالب الذي هو ميقات أهل نجد، حيث وجد مكة قد غصّت بالوفود التي ترد اليها من كل فج عميق. وفي انتظار الحديث عن موسم الحج يذكر لنا بعض من لقيه من أهل مكة أيام المجاورة، وفي صدر هؤلاء مفتي الشافعية وإمام المقام وشيخه زين العابدين الطبري الحسيني، كما يذكر شيخه المعروف، الذي استفاد منه معظم علمه ومروياته، أبا محمد عيسى بن محمد الثعالبي الجعفري الذي أعطاه النصيب الأوفر من الحديث راوياً عن كتابه (كنز الرواة)، مبرراً ذلك التكرار بالرغبة في تكثير الفائدة. والى جانب هذا ذكر بعضاً ممن أخذوا عنه هو، كأبي علي حسن العجيمي المكي الحنفي، وكذا الفقيه قاضي المالكية بمكة الشيخ أحمد تاج الدين المالكي، إمام مقام المالكية.

بعد هذا يعود العياشي الى الكتب، فخصص فصلاً للحديث عما عثر عليه بمكة من كتب. ويذكر من ذلك (رحلة) الشيخ المحدث محمد بن رُشيد السبتي، رأى فيها عدة أجزاء بمكتبة شيخه ابي مهدي عيسى، وكانت في وقف المغاربة برباط الموفق وعليها خط ابن رُشيد وخط تلميذه عبدالمهيمن الحضرمي. ومما رآه بمكة كتاب (إتحاف الورى بأخبار ام القرى) للشيخ نجم الدين عمر ابن فهد، الذي يذكر أنه انتقى منه أشياء وضعها في كتاب رحلته.

ويعود العياشي الى الحديث عن مكة المكرمة عندما استهل شهر ذي الحجة. فقد تهيّأ أهل مكة للخروج، وخرج غالب أهلها حتى العوائق وذوات الخدور ـ على حد تعبيره ـ وبالغوا في انتقاء الفرش والمواكب المزينة ولذيذ الأطعمة كما هي عادتهم، وخرج غالبهم الى عرفات في اليوم السادس، ليقيموا بها السابع والثامن، وتكون لهم بها سوق عظيمة حافلة لا يرى مثلها. وأضاف العياشي بأن بعض الحجاج أحرموا أول الشهر، وغالب الأفاقين من قبل ذلك بقوا على إحرامهم لأنهم احرموا بالحج، وغالب الناس إنما يحرمون يوم خروجهم. أما العياشي فقد أحرم ليلة الجمعة السابع من الشهر قارناً، ونوى الإعتكاف في تلك الليلة ويومها، فجمع ـ كما يقول ـ بين حج واعتكاف وصوم. وأقام العياشي بمكة الى ضحى اليوم الثامن، حيث خرج منها مع اصحابه راجلين وجعلها حجة (صعلوكية) على حد تعبيره، من دون دواب، يحملون زادهم على ظهورهم، ووصلوا الى منى ظهراً، ونزلوا بمسجد الخيف مختلطين بالفقراء، وقضوا بالمسجد ليلة مباركة، فلما كان الغد خرجوا قرب بزوغ الشمس ذاهبين الى عرفات، ولم يصلوا الى نمرة حتى اشتدّ الحرّ، وهناك (وجدنا الماء كثيراً في أبواب المسجد. سبّله بعض أرباب الدولة، يبعث روايا حتى إذا فرغت بعث بغيرها، لا يمنع منها شارب ولا متطهر، الى أن صلى الناس وذهبوا الى الموقف، وكان شيخنا أبو مهدي نازلاً في رواق مظلل لبعض أصحابنا التونسيين).

وتابع: (ولما زالت الشمس وجمعنا الظهرين ذهبنا الى الموقف في حر شديد ما رايته طوال عمري، وبلغ مني الجهد غاية، وتذكرت حرّ القيامة؛ وكنتُ أنظر يميناً وشمالاً وتحملت أشد ما يكون من التعب ومعاناة الحر الشديد، لا سيما بعد أن دخلنا مزدحم الناس وانضغاطهم، وامتزاج حرارة أنفاس الحيوانات بحرارة الشمس، وثوران غبار الأقدام على الرؤوس حتى لا يكاد الإنسان يشك أنها نار لظى). كان ذلك يوم 15 يوليو 1663م. ويضيف: (الى أن وصلنا الى موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وما كنّا نعرفه قبل هذه السنة، وبعث معنا شيخنا أبو مهدي رجلاً دلنا عليه، وهو تحت موقف الإمام اليوم في أصل الجبل على صخرات مفترشة وبني على تلك الصخرات محوط شبه مسجد، فوقفت به ساعة فغلبت، ثم جلست الى أن فات وقت العصر وقضيت المعهود من الدعاء والإستغفار والتكبير والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم).

خرج العياشي عن مزدحم الناس وحاول أن يحصل على هدْي لأنه كان يتمتع بالحج والعمرة مقترنين، فلم يستطع وتأخر الى أن قام بذلك في مكة، ولم يزل بقية يومه يدعو ويكبر. ولما كن قرب الإصفرار نفرت محامل الأمراء والجند ذهب معهم حُطمة الناس، وتلك عادتهم لا ينتظرون الغروب في الموقف (وما نفرنا نحن إلا بعد الغروب وإقبال الليل. فلم نصل الى مزدلفة حتى قاسينا من التعب ما لا نزيد عليه، وجمعنا العشاءين، وصعدنا الى جبل قزح وبتنا عليه تنحيا عن مواطئ الأقدام؛ وبتنا حتى أصبحنا ووقفنا بالمشعر الحرام، ثم سرنا رويداً نجرّ الأقدام على الأرض جرّا، فما وصلنا مسجد الخيف حتى اشتدّ الحرّ وخفت أن أجلس للإستراحة فأُغلب عن رمي جمرة العقبة، فذهبت على ما بي حتى رميت الجمرة فرجعت).

ويبدو أن العياشي أخذ ينهار مع توالي التعب في ذلك الحرّ الشديد (16 يوليو) حيث نجده يقول بلغة العصر الحاضر: إنه تعرّض لضربة شمس. لقد قال بإسلوبه الخاص: (رجعتُ من رمي العقبة، وبمجرد جلوسي ثار عليّ قيء وتدويخ، حتى كدتُ أن يُغشى عليّ، فبقيت طيلة يومين لا أنتفع بنفسي، ويئست من طواف الإفاضة في تلك الأيام، وحلقت رأسي، وأخّرتُ الإفاضة الى أن رجعنا من منى). ولما شعر العياشي ببعض الراحة خرج لزيارة بعض الأماكن التي تزار بمنى، فذكر المسجد أولاً لأنه منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في القبة التي توجد وسط الصحن، والتي يصفها العياشي بأنها مثمنة الشكل. ثم زار (غار المرسلات) المذكور عند الرحالة الآخرين، ومسجد النحر، الذي دلّه عليه شيخه أبو مهدي، ومسجد العقبة، وقال أنه ذهب ومن معه فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب، ودخل مكة بعد العشاء (حيث وجدنا المسجد الحرام غاصّاً بأهله لا تكاد تجد فيه مجلس رجل واحد) وقد أخّر العياشي الطواف والسعي الى آخر الليل عندما خفّ الزحام... ولما قضينا تفثنا وفرغنا من نسكنا أخذنا في الأهبة للرحيل، وعزمنا على الخروج مع القوافل التي تذهب الى المدينة قبل خروج الإركاب).

ولم يتردد العياشي في الحملة على المكاري الذي تعاقد معه قائلاً: (واكترينا من عند أناس من عرب الحجاز ليس لهم دين ولا مروءة، كلما عقدنا معهم عقداً حلّوه، ولكم أبرمنا أمراً نقضوه طلباً للزيادة في الكراء بعد شدّ الأحمال على الجمال). كان خروج العياشي من مكة ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وكان قد طاف طواف الوداع وقت العصر، ومر بمنزل شيخه أبي مهدي فودّعه، ورافقه صاحبه أبو علي حسن العجيمي الى ذي طوى عندما التحق هناك بالرواحل. وقد كانت لحظات الوداع جدّ مؤثرة كما يحكيها العياشي. والى جانب هذا يحكي أن الرفقة لم يكن بها أحد من أبناء جنسه، فضاقت عليه الأرض بما رحبت، لاسيما مع القلق الذي كان يعانيه من المكارين الذين قالوا له: إن أمتعتكم ثقيلة فإما أن تزيدوا في الكراء وإما نطرح لكم أمتعتكم أرضاً، حيث اضطر العياشي الى الزيادة، وهكذا أصبح ثمن الكراء من مكة الى المدينة أزيد مما اكترى الناس به من مكة الى مصر.

الصفحة السابقة