حــارة الـبــاب

عبدالله العبادي

أوقفوا هدم مكّة: حارات مكّة يهجّر منها أهلها، بحجة







توسعة المسجد الحرام، لتتحول الى فنادق تدر المليارات على الأمراء وشركائهم من حاشيتهم. تاريخ مكة وتراثها الغابر يتم تدميره أمام أعين المسلمين مثلما فعل الوهابيون ودمروا أكثر من 90% من التراث الإسلامي، بما في ذلك بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتم تحويله الى دورات مياه عامة. منذ سنوات بدأت موجهة من تدمير ما تبقى من التراث المكي، وشملت حاراتها الواحدة تلو الأخرى، ما أطلق صرخة مكية لاتزال اصداؤها تتردد: أوقفوا هدم مكة. من بين الحارات التي تم تدميرها: حارة الباب. هذه نبذة عن الحارة وتاريخها.

حارة الباب، حارة مكيّة عتيقة، كانت تقع غربي المسجد الحرام، يفصلها عن الحارة الأقدم منها المعروفة بحارة الشبيكة. ويبدو أن تاريخ نشأة هذه الحارة يرجع في بدايته الى العهد الذي شهدت فيه مكة بناء التحصينات الحربية، المتمثلة في الأسوار والأبواب، خلال العقد الأخير من القرن السادس الهجري/ أوائل القرن الثالث عشر الميلادي؛ إذ إن المصادر عادة ما تشير الى باب الشبيكة عند تناولها لباب مكة الغربي بالثنية السفلى، تحت جبل قعيقعان من الجهة الجنوبية الغربية؛ مما يشير الى أن حارة الباب إنما نشأت بُعيد تشييد الباب في ذلك العهد. بينما يرى آخرون أن تسمية الحارة جاء متأخراً، في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، أي في العهد العثماني.

كان موقع هذه الحارة قريباً من الباب والسور المحيط به من الجهة الداخلية باتجاه بطن مكة والمسجد الحرام. ثم، بمرور الزمن، ما لبث أن غلب اسم الباب على هذه الحارة حتى غدا علماً لها بين الحارات المكيّة العتيقة.

كانت حدوده هذه الحارة تمتد من الباب الغربي لمكة باتجاه الحرم، قبيل حارة الشبيكة. وفي هذا العصر،ومع كثافة العمران في المنطقة المركزية، يصعب على الباحث رسم خط فاصل دقيق بين الحارتين، وذلك للنسيج العمراني المتصل بينهما، وإن كان أحد الباحثين أشار الى أن حدها جنوباً شارع باب العمرة، وغرباً جبل الكعبة، وشمالاً الطريق الدائري، وأنفاق جبل هندي، وشرقاً قمة جبل هندي، مروراً بطلعة مدرسة عرفات، والتفافاً على زقاق الوشكلي، ثم نزولاً على شارع باب العمرة.

ويبدو أن في هذه الحدود بعض التداخل اوصفي بين حارتي الشبيكة والباب من الجهة الجنوبية خاصة بعد أن أُزيل الجزء الأكبر من الشبيكة فيما سمي بالتوسعة الأولى للمسجد الحرام؛ فشارع باب العمرة هو من حدود الشبيكة. ووفق ما رواه بعض المعمرين، فإن بداية حارة الباب من جهة الشبيكة تبدأ بعد أن تتعدى مدرسة الفلاح باتجاه حارة الباب. وتضم حارة الباب ـ قبل هدمها ـ باب العمرة، والواجهة، والخندريسة، والقبور، وطلعة بقشان، وريع الرسام الذي يقع خارج الباب باتجاه محلة القبة. وداخل الحارة، كما هو متعارف في الحارات المكية، طرق ضيقة عدة منها النافذ، ومنها ما دون ذلك، يُعرف واحدها بالزقاق، وأغلب أزقة حارة الباب سميت بأقدم الأسر سكناً فيها، مثل زقاق الدحلان، وزقاق الفنتيانة. وعرفت الحارة قديماً بمحارق النورة البلدي والتي كانت إحدى المواد الأساسية في بناء البيوت، والتي كانت تجلب من مناجمها من خارج مكة من النوارية بوادي سرف.

اكتسبت حارة الباب أهميتها من أنها كانت معبراً رئيساً لمكة من الجهة الغربية. ومن المعلوم أن الباب شيد على ثنية تمّ تسهيلها وتمهيدها مرات عدة، منها سنة 607هـ/ 1210م. كما أجري للباب بعض الترميمات والإصلاحات في سنة 908هـ/ 1502م. وفي القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، كانت حارة الباب تشكل بداية الطريق العام والرئيس الذي كان يمر بحارات مكة المكرمة ويقطعها، بداية من الجهة الغربية باتجاه الجهة الشمالية، مروراً بشرقي مكة، ليصعد الى المعلاة، مروراً بجنوب وشرقي المسجد الحرام، فاللقشاشية ثم الغزة. كما كانت هذه الحارة تعدّ الطريق الرئيس لمدخل محملي الحج المصري والشامي، وبها كانت تتم عرضات الفرق العسكرية، والإحتفالات بمقدم المحملين. وعبر هذه الحارة كانت تخرج المواطب الرسمية لحاكم مكة لتلقي مناشير التعيين والخلع السلطانية.

كانت حارة الباب على امتداد تاريخها تضم معالم عدة من مساجد ومدارس ودور ورُباطات وآبار. ويعدُّ الباب الذي كان قائماً بين جنبيها، والمكنّاة به، أبرز معالمها. يشير النهروالي (ت ـ 990هـ/ 1582م) الى بقاء جزء من عمارة الباب في عهده ويصفه بأنه كان يتكون من بابين بعقدين، ويضيف: (ثم تهدم شيئاً فشيئاً الى أن لم يبق منه شيء الآن، ولم يبق منه غلا فج بين جبلين متقاربين في المدخل والمخرج).

اشتهرت الحارة بكثرة دور العلم فيها، ومنها ثلاثة كتاتيب ورد ذكرها في (سالنامة الحجاز) المؤرخة بسنة 1301هـ/ 1883م، والمدرسة الأولية التي أسسها الشريف الحسين بن علي، ومدرسة الفلاح، وكانت بدارة آل نصيف بحارة الباب، قبل أن تنتقل الى الشبيكة. ومن أبرز منشآتها التعليمية شهرة: المدرسة الصولتية التي أُنشئت سنة 1292هـ/ 1872م، بزقاق الخندريسة.

وضمت حارة الباب أيضاً العديد من المساجد، وأشهرها المسجد المنسوب للصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه، ويسمى أيضاً مسجد الراية، لما يقال بأن خالداً رضي الله عنه نصب رايته يوم فتح مكة هنالك. وكان بها العديد من الآبار، ذكر منها الكردي بئراً بجوار مسجد الراية، وبئراً عند بيت القمري، وثالثة في زقاق الخندريسة. وبها بازان شيد سنة 1299هـ/ 1881م ليسهل السقيا لأهالي حارة الباب، بعد أن كانوا يعتمدون في سقياهم على بازان باب العمرة.

وضم حي حارة الباب بين جنباته العديد من الدورر والبيوت ذات الطابع العمراني الحجازي، ومن أبرزها الدارة التي كانت سكناً للشريف علي بن الحسين، آخر الملوك الهاشميين في الحجاز، ثم سكنها نائب الملك السعودي في الحجاز آنذاك: الأمير فيصل بن عبدالعزيز. ثم آلت ملكيتها بالشراء الى معالي الشيخ أحمد زكي يماني، الذي أعاد ترميمها حتى صارت دار تحفة معمارية للطراز المعماري المكي، والتي تعدّ أنموذجاً فريداً للعمارة المكية، المميزة بعمارتها الداخلية، وبواجهتها المحلاة بالرواشين الخشبية المحفورة. وقد أزيلت هذه الدار وتم تدميرهافيما عرف بالتوسعة الجديدة قبل عامين 1431هـ/ 2010.

وكان بحارة الباب العديد من الرباطات التي انتشرت فيها خلال العهد العثماني، ومنها: رباط عبدالمعطي مرداد؛ والرابط المعروف برباط برما، من وقف ملك ميماتمار، ورباط دار الإقامة، ورباط الهنود بزقاق الهالوة، ورباط الشريفة فاطمة الجنيد، ورباط فنتيانه بزقاق الخندريسة، ورباط التنق.

وكانت حارة الباب مسكناً للكثير من الأسر المكية المعروفة، ومن أشهرها تلك التي اشتغل أفرادها بالعلم الشرعي، وتولوا مناصب التدريس والقضاء مثل: آل الكتبي، ولهم دكّة معروفة بهم، يتسامر بها رجالات الحارة؛ وآل المحاضر؛ والبار؛ والحداوي؛ والدباغ ـ ومنهم السيد طاهر الدباغ مدير المعارف؛ والحبشي؛ والفدعق؛ وآل عقيل؛ والجفري؛ وآل مجاهد ـ ومنهم أحمد مجاهد وكيل وزارة الحج والأوقاف سابقاً.

وسكن الحارة رموز من المجتمع المكي ممن اشتهروا في مجالات مختلفة، منهم الشيخ عبدالله خياط إمام الحرم المكي؛ والشاعر أحمد ابراهيم غزاوي ـ شاعر الملك ابن سعود؛ والأديب عبدالعزيز الرفاعي، عضور مجلس الشورى سابقاً. وكان بالحارة من بيوت التجارة المشهورة بمكة: الدهلوية وآل العطار، ومنهم النّوارة ـ ومن أشهرهم آل البدري؛ وآل بسيبس، وآل غندورة، وكان منهم عدد ممن تولى العمودية بحارة الباب.

الصفحة السابقة