المتشددون السعوديون يزيلون تراثهم

تـدمـيـر مـكـة

نشرت صحيفة الايندبندنت البريطانية في الثامن من أغسطس مقالاً للكاتب دانييل هودن تحت عنوان (The Destruction Of Mecca) جاء فيه:

أثار لم يبقى الا أسمها

مكة التاريخية، مهد الاسلام يتم محوها في عملية إنقضاضية غير مسبوقة من قبل المتشددين الدينيين.

إن التاريخ الثري المتعدد الطبقات للمدينة المقدّسة قد زال في الغالب. ويقدّر معهد الخليج ومقرّه في واشنطن أن نسبة 95 بالمئة من المباني القديمة ذات الألف عام قد تمت إزالتها خلال العقدين الاخيرين.

وفي الوقت الحاضر، فإن المكان الحقيقي لمولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يواجه الجرّافات، مع تستّر السلطات الدينية السعودية حيث يملي التفسير المتشدد للاسلام ـ للوهابية ـ إزالة التراث الخاص بهم.

إنها نفس الارثوذكسية الغنية بالنفط التي تضخ الاموال لحركة طالبان، حين تهيئوا لتدمير تمثال بوذا باميان عام 2000. وهو نفس المعتقد الذي عارض بعنف كافة أشكال الوثنية ـ حيث صدرت فتوى بأن يتم دفن ملك السعودية في قبر صحراوي غير مشخّص المعالم.

وقد ذكر مهندس معماري سعودي، سامي عنقاوي، المعروف بكونه متخصصاً في الزخرفة المعمارية للمنطقة، ذكر لصحيفة الايندبندنت بأن حفلة الوداع الاخير لمكة باتت وشيكة:(ما نشهده هو الايام الاخيرة لمكة والمدينة).

وبحسب تصريح الدكتور عنقاوي، الذي كرّس حياته للحفاظ على المدينتين المقدستين، فإن ما يقل عن 20 بناءً فحسب موجوداً الآن ويعود الى فترة حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) أي قبل 1400 سنة، وأن ما بقي منها قد يجرّف في أي وقت. (إنها نهاية تاريخ مكة والمدينة ونهاية مستقبلهم) كما يقول الدكتور عنقاوي.

وتعتبر مكة المكان الأكثر زيارة في العالم. إنها موطن المسجد الحرام، والى جانب المدينة التي تضم قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، تستقبل أربعة ملايين زائراً سنوياً حيث يؤدون فريضة الحج والعمرة.

إن القوة المحرّكة خلف حملة التدمير والتي بدّلت معالم هذه المدن هي الوهابية. وهذه، أي عقيدة الدولة الصارمة للسعودية، قد تم إستيرادها من قبل الزعامات القبلية السعودية حين إحتلت المنطقة ـ أي الحجاز ـ في العشرينيات من القرن الماضي.

إن الدافع وراء التدمير هو الهاجس الوهابي التعصبي من أن المواقع ذات المنفعة الدينية والتاريخية قد تسهم في انتشار الوثنية والشرك، وعبادة آلهات متعددة بصورة متساوية.

إن عبادة الاوثان في السعودية تبقى، من حيث المبدأ على الاقل، تحت طائل عقوبة الاعدام. وذات الحرفيَّة هذه تملي بأن بوسترات الاعلان قد ويجب أن يتم تعديلها. إن الجدران في جدة مزيّنة بإعلانات تحمل صوراً لأشخاص قد تم تغطية عين أو رجل منهم (بناء على حرمة التصوير). إن هذه الاختلالات المبتدعة هي المؤشر الأكثر بروزاً لأرثوذكسية لا تتحمل أي شي قد يفضي الى شيء يقرب من عبادة القبور. ليس هناك من شيء يجب أن يحول بين عبادة المرء لله.

يقول الدكتور عنقاوي بأن (جذر المشكلة هي الوهابية.. فلديهم عقدة كبيرة حول الوثنية وأي شيء يتعلق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ). والآن فإن الوهابيين قد وضعوا نصب أعينهم مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد شهد المكان إعادة تعمير في وقت مبكر من عهد الملك عبد العزيز بن سعود قبل خمسين عاماً حين أقنع المهندس المعماري في مكتبة الحرم الحاكم المطلق بأن يسمح له بأن يحفظ بقايا مكان المولد تحت البناء الجديد. إن هذا التنازل بات الآن تحت التهديد بعد أن وافقت السلطات السعودية على خطط لتطوير المكتبة ببناء جديد والذي قد يؤدي الى طمس الأسس القائمة والبقية التي لا تقدر بثمن من مكان المولد.

معاول الدمار طالت حتى الدمار

الدكتور عنقاوي هو متحدر من عائلة تجارية محترمة في جدة وهو شخصية قيادية في الحجاز، رباط المملكة الذي يضم المدينتين المقدّستين والتي تمتد من الجبال المحاذية لليمين في الجنوب والى الشواطىء الشمالية من البحر الاحمر وحدود الأردن. وقد أسس (الدكتور عنقاوي) مركز أبحاث الحج قبل عقدين للحفاظ على التاريخ الثري لمكة والمدينة، ولكن هذا الجهد أصبح الى حد كبير آزفاً.

يقول ـ الدكتور عنقاوي ـ بأن الجرّفات قد تأتي في أي وقت وأن موضع ولادة النبي (صلى الله عليه وسلم) قد يزول بين عشية وضحاها.

وليس العنقاوي وحده الذي يحمل بداخله هذا القلق. فقد نشر معهد الخليج، وهو تجمع أخباري مستقل، ما يمكن وصفه بفتوى، صادرة عن هيئة كبار العلماء في السعودية عام 1994 ينص على أن بقاء المواقع التاريخية (قد يؤدي الى الشرك والوثنية). وذكر علي الاحمد، مدير مؤسسة عرفت سابقاً بإسم المعهد السعودي، بأن (تدمير المعالم الاسلامية في الحجاز هو الأضخم في التاريخ، وهو أسوأ من تدنيس المصحف الشريف).

إن معظم المباني يواجه نفس المصير مثل بيت علي العريضي، من أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي تم تشخيصه واكتشافه من قبل الدكتور العنقاوي. وبعد اكتشافه، أمر الملك فهد بتجريف القبر قبل أن يصبح موقعاً للزيارة. يقول الدكتور عنقاوي (إن الجرّفات موجودة هناك وإنها بحاجة الى ساعتين فحسب لتدمير كلّ شي. ليس لديها حساسية حيال التاريخ. إنها تحفر أسفل الاساس الصخري ومن ثم تُسكب الخلطة الاسمنتية فيها).

والشيء ذاته لفت إنتباه البروفسور اللبناني كمال صليبي، حيث أشار الى أن إحدى القرى اليهودية الموجودة فيما يعرف الآن بالمملكة العربية السعودية كانت موقعاً لمشاهد من الانجيل، حفّزت على إرسال الجرّافات، وقد تم تدمير كافة الآثار.  

إن هذا النمط المثير للاحباط من الاكتشاف والتدمير ساق الدكتور عنقاوي وزملائه للمحافظة على سريّة عدد من المواقع في المدن المقدّسة والتي قد يعود تاريخها الى زمان النبي إبراهيم عليه السلام.

لقد كان البيت السعودي الحاكم ملتزماً بالوهابية منذ أن وقّع المصلح الديني محمد بن عبد الوهاب معاهدة مع محمد بن سعود عام 1744. إن الاتحاد بين آل سعود والمتعصبين المحاربين الوهابيين أصبح أساس الدولة الحديثة. فالبيت السعودي يتسلم الثروة والسلطة فيما يحصل والعلماء المتشددون على دعم الدولة التي تمكّنهم في العقود اللاحقة لنشر الايديولوجية الوهابية عبر العالم.

ما يميّز زي المتعصبين الدينين أنهم أصبحوا معماريين تجاريين وهم حريصون على ملء الفراغ التاريخي الناجم عن التدميرات مع مردودات عالية ومربحة.

يقول الدكتور عنقاوي (أن الرجل الذي صنع بيده تاريخ مكه قد إندثر والآن فإن مكة التي خلقها الله تندثر أيضاً.. إن المشاريع التي ستأتي ستقوم بإنهائها تاريخياً ومعمارياً وبيئياً) على حد وصفه.

ومع زيادة عدد الحجاج سنوياً حيث يتوقع تضاعفهم خمس مرات ليصلوا الى 20 مليون في السنوات القادمة مع تخفيف السلطات السعودية من القيود المفروضة على الدخول، فإن المكاتب العقارية ستجد فرصة للحصول على مال لقاء الطلب العالي على السكن.

وحسب تصريح مدير لشركة عقارية سعودية رئيسية لوكالة رويترز (إن البنية التحتية في هذه اللحظة لا يمكنها أن تسدّ الحاجة. وأن ثمة حاجة ملحّة لفنادق وشقق وخدمات جديدة).

أهكذا يحفض تراث الاسلام؟

وبالرغم من وجود ما يقرب من 13 مليار دولار نقداً تتدفق حالياً في مكة، فإن المشككين السعوديين ينبذون مجادلة المعماريين. وحسب السيد أحمد (إن خدمة الحجاج ليست هي الهدف الحقيقي) ويضيف (إذا كانوا مهتّمون بالحجاج، كان عليهم بناء سكة حديد بين جدة ومكة وبين مكة والمدينة. إنهم يزيلون كل معلم تاريخي ليس سعودياً ـ وهابياً، ويستغلون الموقع الرئيسي لكسب المال) حسب قوله.

إن من أهم المشاريع الجديدة المهيمنة هي جبل عمر والذي سيتميز ببرجين فندقيين يضم 50 طابقاً وسبع مجمعات شققية تحتوي على 35 طابقاً، وتقع جميعها على مرمى حجر من المسجد الحرام.

يقول الدكتور عنقاوي (يجب أن تكون مكة إنعكاساً للتنوع الثقافي للعالم الاسلامي، وليس الى موقف إسمنتي للسيارات)

وفيما دفعت مقترحات لمشاريع إعمارية عالية الكلفة في القدس العالم للاحتجاج، وأن تدمير طالبان لبوذا باميان قد أّدين من قبل اليونيسيف، فإن الجرافات النشطة في مكة نادراً ما أثارت همسة إحتجاج.

يقول الدكتور عنقاوي (إن البيت الذي تلقّى فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلام ربه قد إندثر ولا أحد يعير إهتماماً لذلك.. لا أريد مشاكل، إن ما أريده فحسب إيقاف ذلك).

الصفحة السابقة