قراءة في كتاب (الشعر في مكة المكرمة والمدينة المنورة)

النهضة الشعرية، عواملها، وأغراضها

القسم الثاني

تجشّم مؤلف كتاب (الشعر في مكة المكرمة والمدينة في القرنين السابع والثامن الهجريين) الدكتور مجدي بن محمد الخواجي عناء البحث في المخزون الشعري لهذه الحقبة التاريخية المهمة بسبب (ضياع كثير من ذلك الشعر وفقدان مجموعة من دواوينه ومصادره)، الامر الذي ألجأه الى استقراء فهارس المكتبات والاطلاع على ما يعينه في دراسته من تراجم ووقائع وأحداث تشير الى ذلك الشعر وتحديد مصادره.

وكان من أهم مصادر الشعر التي إعتمد عليها الباحث فيما يخص دراسته: المصادر التاريخية مثل (إتحاف الورى بأخبار أم القرى) للنجم عمر بن فهد المكي (ت 885هـ)، و(إتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن لمحمد بن علي بن فضل المكي الطبري (ت1173هـ)، وكتب التراجم مثل (الوافي بالوفيات) لصلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي (ت 764هـ)، و(فوات الوفيات والذيل عليها) لمحمد بن شاكر الكتبي (ت 764هـ)، و(العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) لتقي الدين محمد بن أحمد الفاسي (ت 832هـ)، و(الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) للحافظ أحمد بن علي الشهير بإبن حجر العسقلاني (852 هـ)، و(المنهل الصافي) و(المستوفي بعد الوافي) لجمال الدين أبي المحاسن ابن تغري بزدي (874هـ)، و(التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة) لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902هـ)، و(غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام) لعز الدين عبد العزيز بن فهد القرشي (922هـ)، وكتب الرحلات مثل: (ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة الى الحرمين مكة وطيبة) لأبي عبد الله محمد بن عمرو بن رشيد السبتي (ت 721)، ومؤلفات الشعراء مثل (التشويق الى حج البيت العتيق) لجمال الدين محمد بن المحب الطبري (ت 694هـ)، وتاريخ المدينة المنورة المسمى: (نصيحة المشاور وتعزية المجاور) للإمام أبي محمد عبد الله بن محمد بن فرحون المالكي المدني (ت 769هـ)، و(بهجة النفوس والأسرار في تاريخ دار هجرة النبي المختار) لعبد الله بن عبد الملك المرجاني (769هـ)، والمصادر الأدبية مثل (المرور بين العلمين في مفاخرة الحرمين) للشيخ نور الدين علي بن يوسف الزرندي المدني (ت 772هـ)، و(أنوار الربيع في أنواع البديع) لعلي صدر الدين بن معصوم المدني (ت 1120هـ)، ومصادر أخرى ذكرت بعض القصائد واستشهدت ببعض الأبيات أو أوردت بعض المقطوعات لشعراء من مكة والمدينة في القرنين السابع والثامن الهجريين منها كتاب (تعريف ذوي العلا بمن لم يذكره الذهبي من النبلاء) لتقي الدين محمد بن أحمد الفاسي (ت 832هـ) وكتاب (الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرّفة) لنفس المؤلف، وكتاب (سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي) لعبد الملك بن حسين العصامي المكي (1111هـ) وكتاب (الجواهر الثمينة في محاسن المدينة) لمحمد كبريت بن عبد الله الحسيني (ت 1070هـ) وكتاب (الأرج المسكي في التاريخ المكي) لعلي بن عبد القادر الطبري (ت 1070هـ) وغيرها.

الفصل الثاني من الكتاب يخصصه الدكتور الخواجي للبحث في العوامل المؤثرة في الشعر خلال هذين القرنين، حيث رصد سبعة عوامل رئيسية ساهمت في التأثير على كتابة الشعر وطبيعته، ومنها: أولاً، مجاورة الحرمين الشريفين، والتي تعني البقاء في مكة المكرمة أو المدينة المنورة بجوار الحرمين الشريفين حسبما يختار المجاور ويباشر حياته العادية دون مانع وتنتهي بخروجه من هاتين المدينتين أو بوفاته. وحسب الخواجي فقد كان أكثر المجاورين بمكة المكرمة والمدينة المنورة من مصر، وسبب ذلك، على حد المؤلف، هو إشراف المماليك السياسي على الحجاز من جهة وقرب الديار المصرية من الحجاز وسهولة الوصلو اليه من جهة أخرى، كما أن هناك مجاورين من العراق وبلاد الشام، ولكن بنسبة أقل. ويرى الخواجي بأن ما ساعد على حركة المجاورة وازدهارها في تلك الفترة ما عمد إليه بعض الولاة والسلاطين من إنشاء المدارس والأربطة والأوقاف وما أنفقوه على المجاورين وماتوافر في بلاد الحرمين في أحيان كثيرة من إنصاف وعدل وأمن.. وقد حرص كثير من علماء المسلمين على المجاورة في مكة المكرمة أو المدينة المنورة للاستفادة من الجو العلمي آنذاك، فالتقاء المسلمين من المشرق والمغرب مع تعدد ثقافاتهم ومذاهبهم كان فرصة لكل طالب علم مستفيد الى جانب منحهم للاجازات العلمية ونشر علومهم ومعارفهم لتعم الفائدة. وقد كتب ابن عساكر في رده على دعوة بعض الوزراء للتدريس والخروج عن الحرمين فأرسل اليه قائلاً:

يا من دعاني إلى أبوابه كرماً

إني إلى باب بيت الله أدعوكا

ومن حداني إلى تدريس مدرسةٍ

إني الى السعيِ والتطواف أحدوكا

أبيت لله جاراً لا ألوذ بما

شيء سواه وهذا القدر يكفيكا

وأنثني طائفاً من حول كعبتهِ

أرى ملوك الدُّنا عندي مماليكا

ثانياً: المواسم الدينية، حيث تركت الاجواء الدينية التي يعيشها الشاعر في مكة والمدينة من خلال رؤيته للحرمين الشريفين والتقائه بالعباد والزهَّاد، وتأمله في الصور البديعة لقدوم وفود الحجاج والزائرين من كافة أقطار الدنيا، تركت كل هذه تأثيراً على نفسية الشاعر فصدرت عنه بعض المعاني الدينية كالمناجاة والتضرع كما يظهر في قول الشريف أبي نمي:

وكم كربةٍ فرجتها وكشفتها

وقد لم يكن منها سواك مفرجُ

ومن منشبٍ أفلتني منه رحمةً

وقد لم يكن لولاك لي منه مخرجُ

ومن ظلمةِ في الصدرِ مما يُجنِهُ

أتيح لها نورٌ بفضلك أبلجُ

نلحظ أيضاً من إنعكاسات الجو الديني ما تردد من معاني المديح النبوي على ألسنة كثير من الشعراء الذين فاضت قرائحهم وجاشت نفوسهم وأحاسيسهم وهم يرمقون وفود الزوار للحرم النبوي الشريف. فهذا يحي بن يوسف المكي يقول في مطلع مدحة نبوية:

كرِّر بسمعي حديث النازلين قبا

إن كان عهدُك بالأحباب قد قَرُبا

كرر أحاديثهم يوماً على أُذُني

فالقلب مني إلى أهل العقيق صبا

هُمُ الأحبةُ لا أنسى حديثهمُ

كم قد لقيتُ بمصرٍ بعدهم وصبا

أنا الغريبُ الذي أغرى الغرامُ به

ماذا على سادتي أن يرحموا الغُرُبا

لولا الذي شرّف اللهُ الحجاز به

لما سرى الركبُ يطوي البيدَ والكُثُبا

له الرسالةُ والآيات شاهدةٌ

الله أعلى له في الخافقين نبا

فيما ينظم جمال الدين بن المحب الطبري قصيدة رائعة تعكس انبهاره بمنظر الكعبة وقد تزينت في موسم الحج للقادمين فيصف المنظر بقوله:

رُفع الحجابُ لمجتلي الأنوار

فبدت عروس الأُفقِ للنظارِ

وتهتّكت أستارُ مستترِ الهوى

في الحب عند تهتكِ الأستارِ

لله كم قُـدّت قلوبٌ عندما

قدّت لمقصدها عُرى الأزرارِ

الى أن يقول:

نصبت على أم القرى نارُ القرى

فأتى الورى طلباً لتلك النار

ودعا محبيها لها داعي الهوى

فتوثبوا سعياً على الأبصار

ثالثاً: الحركة العلمية والتأليف، فقد إزدهرت الحركة العلمية في الحجاز في القرنين السابع والثامن الهجريين وسعى كثير من العلماء الى الحظوة بالتدريس في الحرمين الشريفين. وقد كان لتلاقي العلماء الاصليين بالمجاورين أثر فاعل في إنتعاش الحركة العلمية والادبية وظهر التأليف في مختلف العلوم وبخاصة الشرعية منها.

وظهرت نخبة من العلماء التي أخذت مكانتها المرموقة في الحياة الاجتماعية والعلمية والادبية وكان من بين هؤلاء محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري (ت 694هـ) والذي أسهم في الخطابة والتأليف، وعلي بن يوسف الزرندي المدني (ت 772هـ) صاحب كتاب (المرور بين العلمين)، وهو عبارة عن مناظرة أدبية بين مكة والمدينة، وعبد الله بن محمد بن فرحون المدني (769هـ) مؤلف كتاب (نصيحة المشاور وتعزية المجاور)، وغيرهم.

ويلفت الباحث الى أن التأمل في مؤلفات الشعراء في مكة والمدينة في هذين القرنين يدرك مدى توظيف الروح الأدبية فيها، وهي تمثل دون شك إنتعاشاً للحركة الأدبية وكشفاً عن مواهب الأدباء وإبداعاتهم. بكلمات أخرى، أن مؤلفات العلماء في القرنين السابع والثامن الهجريين عكست آثاراً إيجابية على الحركة الشعرية حيث جرى توظيف الشعراء لتلك العلوم والمعارف في أشعارهم فبدت من الناحية الاسلوبية سليمة اللغة، واضحة التراكيب، وزخرت مضامينها بكثير من المعاني الاسلامية والثقافة التاريخية الاصيلة. وقد نجد ذلك جليّاً في الشعر التعليمي الذي شمل مجموعة العلوم الشرعية واللغوية مثلما يلمس عند رضي الدين ابن خليل المكي وقطب الدين القسطلاني وغيرهم.

ونلحظ أيضاً ظهور شعر الاجازات العلمية التي يجيز فيها الشيخ تليمذه بالرواية عنه مجموعة من كتبه أو القراءة عليه على نحو ما نجده في شعر ابن عساكر الدمشقي الذي أجاز مجموعة من العلماء كما في قوله:

أجزتُ الطبري الندبَ ذا المنهج الحسن

كدأب شيوخ العلم في سالف الزمن

روايةَ عني ما يجوزُ لناقلٍ

روايته مما صحيح ومن حَسَن

رابعاً: الرحلات، فقد كانت الرحلات ومازالت مصدراً ثرياً من مصادر المعرفة والاطلاع على أحوال المجتمعات وثقافاتها، فالرحالة وهو يطوي الارض يسجل مشاهداته لمختلف جوانب الحياة. ويذكر الباحث قيمتين عظيمتين للرحلات، إحداهما علمية تتحقق من خلال ما تحتويه معظم الرحلات من معارف تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية، والاخرى قيمة أدبية وتشويقية تتجلى في الاسلوب الادبي الذي تكتب به تلك الرحلات ومستويات الخيال الفني فيها. ويقرر الدكتور الخواجي بأنه لم يشهد قطر من الأقطار رحلات عدة كما شهدتها مكة المكرمة والمدينة المنورة، لدافعين أساسيين لتلك الرحلات وهما: أداء فريضة الحج وزيارة المدينة المنورة، والثاني طلب العلم من منابعه الاصلية من مكة المكرمة والمدينة المنورة والالتقاء بالعلماء من مختلف البقاع. وقد رصد الخواجي مجموعة من الرحلات في القرنين السابع والثامن الهجريين ومن أشهر أولئك الرحالة: أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (ت 614هـ) وكانت له ثلاث رحلات الى المشرق آخرها كان في سنة 601هـ حيث رحل للحجاز طلباً للراحة والسلوان. وفي ذلك يقول:

بسبتة لي سكنٌ في الثرى

وخلٌّ كريمٌ إليها أتى

فلو أستطيع ركبتُ الهوى

فزرتُ بها الحيَّ والميتا

ومنهم علي بن محمد بن علي الرعيني الإشبيلي (ت 666هـ)، ومحمد بن عمر بن رشيد السبتي (ت 721هـ)، ومحمد بن محمد بن علي العبدري (ت 720هـ) والقاسم بن يوسف بن محمد التجيبي (ت 730هـ)، ومحمد بن جابر بن محمد الوادي آشي (ت 749هـ)، ومحمد بن عبد الله بن محمد، الشهير بابن بطوطة (ت 779هـ)، وخالد بن عيسى بن أحمد البلوي (ت 780هـ). وقد نشأ عن هذه الرحلات شعر الحنين والشوق الى مكة والمدينة على نحو قول عبد الصمد بن عساكر الدمشقي:

يا جيرتي بين الحجونِ الى الصَّفا

شوقي إليكم مجملٌ ومفصلُ

وقول علي بن مطرف العمري:

حمامة بطنِ الواديين أبيني

أدينُك في شَرعِ المحبة ديني

حنينُك لا يزدادُ إلا صبابة

كذلك من دونِ الأنامِ حنيني

خامساً: الأحداث السياسية، لم يكن الشعراء في مكة والمدينة بمنأى عن الاوضاع السياسية السائدة في عصرهم وقد رصدوا تلك الاوضاع وتأثيراتها على أحوال البلاد والعباد في أشعارهم، وإن كان الاحساس بالخوف وعدم الانجراف وراء أمير وشريف يحول الى حد كبير دون الافصاح عن مواقف من الاوضاع السياسية السائدة، فقد كان الادب ينتعش في ظل الاستقرار السياسي والرخاء الامني والاجتماعي فيما ينحسر مع الاضطرابات السياسية، وكان بعض الشعراء مناصرين لموقف بعض الأمراء كما يظهر في قصيدة يحيى بن يوسف المكي التي مدح فيها زيد بن أبي نمي مشيداً بملكه لجزيرة (سواكن) بوصفها أحد المرافىء التي يستفيد منها الحجازيون، ويقول في مطلعها:

لك السعادةُ والإقبالُ والنعمُ

فلا يضركَ أعرابٌ ولا عجمُ

ويلحظ في الابيات التالية من القصيدة إشادة بالتطورات التي شملت جوانب عديدة في تلك الجزيرة، حيث يقول:

سواكنُ أنتَ ياذا الجود مالكُها

أحييتَ بالعدلِ من فيها فما ندموا

جَبَرتَهم بعد كسرٍ واعتنيتَ بهم

فالناسُ بالعدلِ فيها كلهم علموا

وفي قصيدة أخرى للشاعر نفسه ينتصر فيها لابن نمي ويحرّضه على أعدائه كونه كفؤاً للسيطرة على زمام الأمور وسط الحالة السياسية المضطربة، يقول:

ماللسكوت إفادةٌ عن كل مَن

أبدت به بينَ الورى أجرامُه

هاقد قدرتَ فلا تكن متوانياً

فالأفعوانُ قويةٌ أسمامُه

لا تحلمنَّ عن العدو تكرما

كم سيد ضرت به أحلامُه

لا تحقرنَّ أخا العداوةِ إنه

كالجمرِ يوشكُ أن يضر ضرامُه

وتعكس هذه الابيات الجيشان العاطفي لدى الشاعر وميوله السياسية القوية نحو الامير ودعوته له لمواجهة خصومه بكل اقتدار وحزم والا يتهاون او يضعف بحجة العفو والصفح أو التحقير من شأن الخصم وقد صاغ الشاعر مواقفه في معاني تتسم بالحماسة من خلال صور أدبية وأساليب فنية مختلتفة.

وقد تدفع الاحداث السياسية ببعض الاشراف للخروج من مكة بما يمثله هذا الخروج من إنكسار نفسي وحزن وأسى على خسارة الارض والاهل، وقد ينذر الشاعر الحجازي قريحته الشعرية للتعبير عن حالة الضياع التي يعيشها شريف أو أمير وقد يتحول الى وسيط في عودته الى البلاد كما فعل الشاعر يحي بن يوسف المكي عندما خرج الشريف مبارك بن عطيفة فيتبعه الشاعر بهذه القصيدة والتي يقول فيها:

خضتَ الصعيدَ ومصراً والبلادَ معاً

وماخشيت ولم يلوي بك الخبرُ

وصرتَ تقتهرُ العربانَ قاطبةً

وقد أطاعكَ حتى الجِنُّ والبشرُ

فسر الى مكةٍ وانزل بساحتها

فأنت بالله رب العرش تنتصرُ

أمثل مكة تسلوها وتتركُها

عجبت منك فعنها كيف تصطبرُ

فإنَّ مصراً ومن فيها بأجمعهم

حتى الحجاز لعزمٍ منك قد شكروا

فليس تركُكَ ملكاً أنت وارثُهُ

رأياً سديداً فماذا أنت تنتظرُ؟

فالشاعر هنا يستحث همّة الشريف للعودة الى مكة واسترجاع ملكه مذّكراً إياه بماضيه العريق وقهره للجيوش وكيف خضعت له البلاد، فكيف من هذه حاله يرضى بالتفريط في ملك شيّده بقوة الرجال وعزيمة الابطال.

سادساً: تشجيع الأمراء والحكام، إن من أهم العوامل المؤثرة في انتعاش الشعر في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرنين السابع والثامن الهجريين على حد الباحث ماكان من هبات الأمراء والأشراف للشعراء وإغداقهم عليهم مما يدل على حظوة الشعراء وماحظي به الشعر من مكانة في قلوب الممدوحين في المجتمع الحجازي.

وقد أوردت كتب التاريخ والتراجم أمثلة عديدة على تلك الهبات التي نالها الشعراء من لدن الممدوحين، كما في ترجمة الشريف أبي نمي الحسني من أنه (يرغب الى الأدب وسماعه، وله الاجازات السنية للشعراء الوافدين عليه بإطلاق الخيل الأصائل في مقابلة القصائد).

ويومىء الباحث الى أن هذه الاشارة تعكس جانبين: الاول يتعلق بحب الممدوحين للعشر ورغبتهم في الاستماع اليه، والثاني اكرام الشعراء بالعطايا التي تستنهض في الشعراء مواهبهم الشعرية وتحرك وفاءهم الانساني لأولئك الممدوحين. ففي قصيدة للشاعر الجمال محمد بن حسن بن العليف (815هـ) يمدح فيها الشريف عنان بن مغامس الحسني المكي (ت 805هـ) يقول فيها:

بروجٌ زاهراتٌ أو مغاني

لأقمارٍ من البيضِ الحسانِ

تمايل للحساب بها علينا

قطوفٌ من فواكهها دواني

ونجني من ثمار الوصلِ فيها

ثماراً ليس يجنيهن جاني

فلما أنهى الشاعر قصيدته وهبه الشريف إعطية بثلاثين ألف درهم جزاء على ذلك، ونقل عن الامير شهاب الدين أحمد بن عجلان (788هـ) أنه مدحه جماعة من الشعراء بقصائد حسنة كثيرة، وكان يجزيهم بالعطايا الجزيلة. v

سابعاً: مؤثرات أخرى، ينبّه الباحث الى أن هناك عوامل أخرى تركت أثراً على الحركة الشعرية في هذه الفترة ومنها: ظهور المكتبات في مكة والمدينة، حيث إهتمّ السلاطين والأمراء وعلماء الحرمين الشريفين والمجاورين وغيرهم بالكتب ووقفها لنشر العلم والمعرفة ونشأت خزائن الكتب في أنحاء متفرقة من الحرم المكي الشريف. ونقل عن أبن بطوطة في رحلته أن قبة الشراب كانت تخزن فيها المصاحف الكريمة والكتب، حفاظاً على سلامتها من التلف، كما أن هناك حزائن للمصاحف والكتب الخاصة بالمسجد النبوي الشريف التي أوقفها مجموعة من السلاطين والعلماء، مثلما فعل سلطان بلاد فارس شاه شجاع ابن محمد بن المظفر اليزدي (ت 787هـ) وإبراهيم السلماني (ت 755هـ) والذي أوقف كتباً نفيسة بالمسجد النبوي.

ومنها أيضاً انتشار الاربطة في مكة بنشاطها التعليمي ووجود العديد من الكتب المهمة فيها، مثل رباط ربيع الخوزي، فقد أوقف عبد الله بن أبي بكر المعروف بالكردي (ت 785هـ) كتباً كثيرة جعل مقرها رباط ربيع، وأوقف محمد بن جمال الدين الهروي الناسخ (ت 796هـ) كتباً في الحديث والفقه وجعل مقرها في رباط الخوزي، إضافة الى خزائن الكتب في المدارس، حيث إعتنى بها السلاطين والأمراء بدرجة كبيرة، وأوقفوا عليها كثيراً من المؤلفات العلمية في فنون مختلفة، منها ما أوقفه الامير شرف الدين إقبال بن عبد الله الشرابي سنة 641هـ، من الكتب على مدرسته المجاورة لباب السلام من الحرم المكي. ومنها أيضاً انتشار الاربطة في مكة بنشاطها التعليمي ووجود العديد من الكتب المهمة فيها، مثل رباط ربيع الخوزي، فقد أوقف عبد الله بن أبي بكر المعروف بالكردي (ت 785هـ) كتباً كثيرة جعل مقرها رباط ربيع، وأوقف محمد بن جمال الدين الهروي الناسخ (ت 796هـ) كتباً في الحديث والفقه وجعل مقرها في رباط الخوزي، إضافة الى خزائن الكتب في المدارس، حيث إعتنى بها السلاطين والأمراء بدرجة كبيرة، وأوقفوا عليها كثيراً من المؤلفات العلمية في فنون مختلفة، منها ما أوقفه الامير شرف الدين إقبال بن عبد الله الشرابي سنة 641هـ، من الكتب على مدرسته المجاورة لباب السلام من الحرم المكي.

وكذا الحال في المدينة المنورة حيث عني المجاورون بالمدرسة الشهابية، وأوقفوا عليها كتباً ومؤلفات عديدة كمحمد بن فرحون بن محمد بن فرحون (ت 721هـ) ويحي بن زكريا الحوراني (ت 721هـ) الذي أوقف خزانة كتب بالمدرسة نفسها وغيرهم.

لقد شكّلت المكتبات عاملاً مؤثراً في الشعر، حيث يستمد الشعراء منها معارف وعلوم ينهلون منها لاثراء ثقافتهم الادبية والعلمية ويتضح ذلك في أفكار ومعاني الشعراء.

موضوعات الشعر

يرصد الباحث من خلال قراءة السجل الشعري في تلك الحقبة موضوعات الشعر السائدة ويحددها في: المديح والغزل والمديح النبوي والاخوانيات والحنين والشوق والوصف والرثاء والهجاء والشعر التعليمي وموضوعات أخرى.

ويذكر الباحث بأن المديح يأتي في مقدمة الأغراض الشعرية، كما هو شأنه في العصور الأدبية السابقة، ويمثل ثلاثة أرباع ما استطاع الوقوف عليه من الشعر في هذه الفترة، فمعظم الشعراء كادوا يصرفون شعرهم كله في فن المديح. ويرجع الباحث سيطرة المديح وتفوقه الى: كثرة الولاة والحكام الذين تعاقبوا على حكم مكة المكرمة والمدينة المنورة في هذين القرنين مع نبوغ بعضهم في الشعر وتذوقهم له وإجزالهم العطايا للشعراء، الى جانب التكسب وطلب النوال من قبل الشعراء أنفسهم، مما دفع كثيراً منهم الى شعر المديح والوقوف على أعتاب الممدوحين رغبة في العطاء. السبب الآخر الذي ساعد على إنتشار المديح هو كثرة الاحداث السياسية وتقلبها في فترات متلاحقة وبصورة متكررة، مما جعل الشعراء يقفون وراء ممدوحيهم بالاشادة والثناء وذكر شجاعتهم وبسالتهم ونحو ذلك. وقد حاول الشعراء أن يخلعوا على ممدوحيهم صفات الإمرة والقيادة وحسن الرعاية والولاية، وأن يشيدوا بسماتهم الشخصية والنفسية والجسمية. فها هو الشاعر موفق الدين الحنديدي يمدح الشريف حميضة بن أبي نمي بقصيدة مطلعها:

قدحَ الوجدُ في فؤادي زنادا

منع الجفنَ أن يذوقَ الرُّقَادَا

ثم أعقب ذلك بإسباغ السمات الشخصية على ممدوحه بما يليق بكل ذي ملك وأمرة، من مثل قوله:

ملكٌ من قتادة ملك الأر

ض نصالاً مشحوذة وصعادا

رجلٌ سالمَ المسالم في اللـ

ـه وفي الله للمعادين عادى

حسنُ الصمتِ ليس يحسن أن تسـ

ـمعَ إلا في مثله الإنشادا

قصيدة أخرى في المدح نظمها حمزة بن أبي بكر في الشريف سند بن رميثة سجّل فيها بعض مزاياه من نسبه الأصيل وحسن زعامته وهمته، وتوقه الى معالي الأمور، والاشادة بشجاعته وتجسيد كرمه في صور متتابعة وأساليب مختلتفة، يقول فيها:

هو القيلُ وابن القيلِ سلطانُ مكة

وحامي حماها بالحُسامِ المهنَّدِ

وصفوةُ آل المصطفى طودُ فخرهم

وباني عُلاهم فوقَ نسرٍ وفَرقدِ

بنى ما بنى قِدماً أبوه رميثةٌ

وشاد الذي قد شادَ من كُلِّ سؤدد

وشَنَّ عتاقَ الخيلِ شُعثاً ضوامراً

وأفنى عليها كُلُ طاغٍ ومعتد

فروَّى صفاحَ البيضِ من مهج العدَا

وسمر القَنَا مهما اعتلى ظهر أجرد

وأبيضُ طلق الوجه يهتزُّ للندى

ويجدي إذا شحَّ الحيا كل مجتد

كريمٌ حليمٌ ماجدٌ وابنُ ماجدٍ

ظريفٌ شريفٌ سَيِّدٌ وابنُ سيد

أشَمٌّ طويلُ الباعِ ندبٌ مهذَّبٌ

أغرٌّ رحيبُ الصدرِ ضخمُ المقلد

فدوحتُه بين الورى خيرُ دوحةٍ

ومَحتِدّه بين الورى خيرُ محتد

وهناك الغزل كأهم أغراض الشعر التي تناولها شعراء مكة والمدينة في هذين القرنين الهجريين، والمتأمل في شعر الغزل في هذه الفترة يجد أن الشعراء تطرقوا لجملة عديدة من معانيه الحسيّة والمعنوية فصوروا مشاعرهم وأحساسيهم العاطفية تجاه المرأة وعبروا عن تجاربهم الوجدانية في مجال الحب ووصف المحبوبة، وما يستبع ذلك من آلام الشوق والصبابة وكمد الفراق واللوعة وحرارة الصد والهجر ونحوها. وقد ورد الغزل تارة في قصائد مستقلة أو مقطوعات أو مقدمات تقليدية خالية من البذاءة والفحش ولا تكاد تقف فيه على معنى ينبو عن الذوق أو يخدش الحياء الا فيما ندر مع مراعاة النواحي الاسلوبية والموضوعية. فقد كتب يحي بن يوسف المكي قصيدة في الغزل يقول فيها:

حاشى الفؤادُ بغيركم أن يعلَقَا

يا نازلينَ المنحنى والأبرَقا

خلفتموني في هواكم ضائعاً

قلبي وجسمي بالفراق تمزقا

والنفسُ يومَ وداعكم ودعتُها

لولا تعللها بساعاتِ اللُّقا

يا نازحينَ وفي فؤادي منهمُ

نارٌ تكادُ بها الحشى أن تحرقا

البينُ أقلقني وعَذَّب مهجتي

لولاكمُ ياسادتي ما أقلقا

أصبوا الى وادي العقيق وحاجرٍ

وأهيمُ إن ذكر المحصبُ والنُّقَا

وهناك المديح النبوي كأحد أهم أغراض الشعر في هذه الفترة والذي يعبر عن العواطف الدينية المتعلقة بشخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتصوير ملامح تلك الشخصية الكريمة وشمائلها الطيبة. وقد شارك شعراء مكة المكرمة والمدينة في شعر المديح النبوي بقصائد مستقلة أو مقطوعات منفردة والتي تحدثوا فيها عن فضائل المصطفى وشمائله وأظهروا فيها محبتهم له وتشوقهم الى زيارة مسجده وحنينهم الى القرب منه.

فقد كتب عبد الصمد بن عساكر:

بين نعمانَ منزلٌ وكساب

جادت السحب رسمه بانسكاب

ثم يفيض بعد ذلك في حديثه عن لوعة الابتعاد عن أرض طيبة الطيبة ويقول مخاطباً نفسه:

كيف جانبتَها وأنتَ محبٌ

هل مُحِبٌ رأيتَه ذا اجتنابِ

فاحمد اللهَ إذ بطيبةَ طابت

أنت ثاوٍ فكنت طاب بن طابِ

بين قبرٍ ومنبر، أنت فيها

غادياً رائحاً بلا إغبابِ

في رياضٍ من جَنَّة الخلد تمشي

في مَمَرٍّ من رسمها وذهابِ

جارُ خيرِ الأنام والمصطفى الهَـا

دي إلى الله والكريم النصابِ

أفضل المرسلين حقاً بلا شكٍ

وخير الورى بغيرِ ارتيابِ

مخلص من شوائب وحظوظٍ

وكرامِ الأرحامِ والأصلابِ

وفي قصيدة للشاعر يحي بن يوسف المكي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيها مآثره وفضائله ويشيد بنوره العظيم كما في قوله:

أنوارُهُ منها الدياجي أشرقت

وله من الشكر ألفُ راوٍ والثَّنا

فله الفضائلُ والمآثر والعلى

وله المفاخرُ والمحامدُ والثنا

من أنقذ الله الأنام بجاهه

فبه إلى كُلِّ البرية أحسنا

فله الرسالةُ والمقامُ وذكرُه

يُحيي القلوبَ وبِرُّهُ قد عمّنا

وهناك من اغراض الشعر ما راج في هذه الفترة وهو المعروف بالاخوانيات حيث يتبادل الشعراء قصائد تعكس عمق العلاقات الاجتماعية بين الشعراء أنفسهم، وقد جاء معظم هذا اللون على هيئة مقطوعات شعرية يسجل فيها الواحد منهم عواطفه الانسانية تجاه إخوانه وأصدقائه. كما في مقطوعة لعبد الصمد بن عساكر التي أشاد فيها بروح الاخوة الصادقة تجاه إخوانه الآخرين، حيث يقول:

ولي على سفح الصَّفا جيرةٌ

قلبي إليهم لم يزل شَيقا

إخوانُ صدقٍ أخلصوا ودهم

غصن التصافي بينهم أورقا

عهدي بهم مذ نفروا من منى

عسى بجمع جمع من فُرِّقا

فسائل الأحياء عن حيهم

أأنجد أم أشأم أم أعرقا

تعرفت من قبل تعريفنا

أرواحنا فاشتاقت الملتقى

أشتاقهم حباً وقد أصبحوا

منا إلينا في الهوى أشوقا

وهناك الحنين والشوق كموضوع بارز من الموضوعات الشعرية القديم قدم الشعر نفسه، وخصوصاً الحنين الى مسقط الرأس والأهل والوطن والخلاّن. فهاهو عبد الصمد بن عساكر يفصح عن حنينه الجارف الى بلاد الحرمين الشريفين وقد تعّلقت بهما روحه، فيقول:

أرقت لومض مبتسم

أضاء لنا دجى الظلم

فبت به سليم هوى

لجيران بذي سلم

ثم يقول:

بمكة لي قديم هوى

علقت به من القدم

فأمسي نحوها أبداً

على خبب وفي أمم

وطيبة طاب مربعها

فعنها قط لا ترم

إذا ما عَنَّ لي شجنٌ

فمن حرمٍ الى حرم

أزور أحبة كرموا

كلفت على النوى بهم

وأسعى في زيارتهم

برأسي لا على قدمي

وهناك الوصف كفن من الفنون القديمة التي عرفها الشعر العربي بل هو عمود الشعر وعماده، بل إن كل أغراض الشعر وصف، فالمدح وصف نبل الرجل وفضله والنسيب وصف النساء، والرثاء وصف محاسن الميت..

ومن الاغراض الشعرية أيضاً الرثاء، حيث ينفس الشاعر عن مكنونات نفسه ودخائلها الحزينة تجاه من فقد في هذه الحياة من الاحبة والخلاّن. ويلفت الباحث الانتباه الى أن هذا الغرض لم يحظ بعناية كبيرة لدى الشعراء، بل قلة القصائد المنظومة فيه كما يقول الباحث وندرتها تكاد تكون ظاهرة واضحة في مصادر الشعر الادبية والتاريخية ويعود ذلك لارتباطه بالمعنى السياسي الذي عانت منه الحركة الادبية والثقافية. ولم يجد الخواجي من التراث الشعري في تلك الحقبة سوى قصيدتين وردتا في رثاء القاضي نجم الدين الطبري إحداهما لابن مسكِّن المكي والثانية للحسن بن الزين المكي.

وهناك الهجاء من الأغراض الشعرية السائدة منذ القدم، وهو عكس المديح ويقول قدامة بن جعفر عن الهجاء بأنه (قديم قدم عاطفة البغض والغضب والميل الفطري الى نقد النقائص والعيوب). وشأنه شأن الرثاء، فقد كان هناك إهتمام ضئيل بشعر الهجاء وقد نظمت قصائد قليلة فيه.

وهناك الشعر التعليمي، كأحد أغراض الشعر ويراد به ما يصطنعه الشعراء من العلماء لنظم أنواع شتى من العلوم وتقييدها. وقد نظم شعراء مكة والمدينة في هذا اللون من الشعر واتخذوا ذلك طرائق متعددها منها ماكن التركيز فيه على نظم المعارف والفنون وبعضها عمد الى الترغيب في العلوم وبيان مكانتها وفضلها والحث عليها والدعوة الى فهمها وتعلمها، وقد يستعمل أيضاً في بيان الاحكام الشرعية أو الاركان والمواقيت في الحج كما يشير الى ذلك رضي الدين ابن خليل المكي:

إن الحليفة للمدينة محرم

ويلملم يمن وشام جحفة

عرف العراق ثم نجد قرنها

هذي المواقيت الشريفة جمة

فحليفة عشر وجحفة أربع

ومراحل التالي اثنتان ريحة

وفي مقام آخر من الشعر التعليمي نجد قطب الدين القسطلاني يرغب طلابه الى علم الحديث، فيقول:

علمُ الحديث مفيدٌ كل مكرمة

فادأب فديتك ياذا الجد والأدب

واعكف على الدرس ليلاً إن أردت علا

فالعلم يعلي دني الأصل في الرتب

وقد أفرد الخواجي فصلاً كاملاً للدراسة الفنية، تناول فيها بناء القصيدة ومعاني الافكار الواردة فيها وهكذا الاخيلة والصور والالفاظ والتراكيب وألأوزان والقوافي.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، خصّص الخواجي الحديث فيه للتعريف بسيرة أبرز أعلام الشعر في مكة والمدينة في القرنين السابع والثامن الهجريين مثل محب الدين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري المكي وموفق الدين علي بن محمد الحنديدي ويحيى بن يوسف بن محمد المكي، فيما سلّط بعض الضوء في نهاية الكتاب حول آراء النقاد القدامي والمحدثين في الشعر.

الصفحة السابقة