الدوافع والنتائج لتجريد آل سعود والوهابيين الحجاز من آثاره الإسلامية

فكري عبد المطلب

نظر أول: في مركزية الأثر وتابعيه

إذا كانت (الكعبة المشرفة) هي الأثر الديني المركزي، في العقيدة الإسلامية الغراء، على امتداد تاريخها التليد، بوصفها (بيت الله المُحرَّم)(1)، فإن كل أثر ديني أو دنيوي يدور في فلكها يصير - بدوره - ممجداً، ومُكرماً لدى أتباع هذا الدين الحنيف، أكان يتصل بسيرة آل البيت النبوي الشريف، أم كان يشهد على فاعلية الموحدين من أبناء هذا الدين، تخليداً لذكراهم في سجل الذاكرة الجمعية، وأرشيفاً غنياً لكل طالب علم ومعرفة من أبناء كل دين وملة.

وجرياً على هذا التقليد، لم يشهد الزمان الإسلامي، طوال عهود دوله المتعاقبة، وحتى قيام الدولة العثمانية، انتهاكاً صارخاً لذلك التقليد، أو انقلاباً فاضحاً عليه، كي يتوقف عنده المؤرخون بالرصد والتحليل، إلا في حالات نادرة - ارتبطت بمستويات عالية من الاحتقان السياسي الإسلامي - في عهدي الأمويين والعباسيين(2).

ودون ذلك، ظل هذا الأثر - أي (الكعبة) - وتلك الآثار موضعاً للرعاية والإجلال من خاصة المسلمين وعامتهم، إضافة إلى ما استحدثه حكام المسلمين أنفسهم، من آثار عزيزة على نفوسهم حتى اليوم، وباتت مجالاً للتنازع الإسلامي الإسرائيلي إلى اليوم، وفى مقدمتها (المسجد الأقصى) و(قبة الصخرة) في القدس الشريف، حين أمر الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) ببناء المسجد والقبة، واللذان كلفا خزانة الدولة جُل إيراد أو (خراج) مصر لسبع سنوات متصلة، رغم كونه الأضخم من بين كل إيرادات الولايات، الموجهة إلى الخزانة الأموية آنذاك.

وعلى الرغم من أن المبادرة الأموية في هذا الشأن لم تكن ببعيدة عن المرامي السياسية لهذه الدولة، في صراعها مع مناوئيها، من أنصار الخليفة / الشهيد (على بن أبى طالب)، لبسط النفوذ على المقدسات المكية والحجازية، عموماً، بوصفها مصدر الشرعية الأساس بين جموع المسلمين، إلا أن تلك المبادرة حفرت أثراً عميقاً في الوجدان والواقع الإسلامي يندر مقارنته بسواه.

إذ كان لموضع المسجد الأقصى وقبته - ولا يزالا - قداستهما المعلومة، من حيث أولية (القبلة) الإسلامية إلى الأقصى، في عهد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يأمر تابعيه بتحويل قبلتهم إلى البيت الحرام بـ (مكة المكرمة) في وقت مبكر من ذلك الزمان.

وقد حفظت (مكة) على مدى عهودها الإسلامية وحتى عشية قيام الدولة السعودية الأولى (أواخر النصف الأول من القرن الثامن عشر) كل أثر لسيرة النبي وآله وصحبه، ومن والاهم وتبعهم، لأكثر من ألف ومائتي سنة، والتي اشتملت على(3):

* أجزاء من البيت الذي ولد به النبي، بعد تدمير أغلبه على يد أحد الموجات العسكرية.

* مقبرة المعلا، وتضم رفاة العديد من أهل البيت والصحابة، كقبر السيدة (خديجة)، ووالدة النبي (آمنة بنت وهب)، ومثوى (أبي طالب) عم النبي ووالد الخليفة (علي)، وكذا مثوى جدي النبي (عبد المطلب) و(عبد مناف)، بالإضافة إلى ما ضمته هذه المقبرة من رفات المئات، من أهل العلم والدين والتقى والمتصوفة، والأمراء والتجار، وما دون ذلك من عامة المسلمين(4).

* الاسطوانة الرخامية، التي شيدها (عبد الله محمد المهدي)، سنة 67 هـ، لتكون علماً للطريق الذي سلكه النبي، إلى (الصفا)، بعد انتهائه من الطواف كي يقتدي به كل حاج ومعتمر.

* عمود من الرخام، داخل رواق الحرم المكي، من الناحية الجنوبية، والذي شيده (المهدي)- أيضا - بغية توسعة الباب الأوسط من الحرم، بعد أن ضاقت الطرق إلى (الصفا)، ويظهر على العمود نقش بديع من صنع أهل (الكوفة).

* المحيط الدائري الأول لـ (الحرم)، والذي كان يضم أقدم آثار توسيعه، بما فيها التوسعة العثمانية والأموية والعباسية، بنقوشها التاريخية المتعددة.

* آثار بيت أم المؤمنين وأولى زوجات النبي، السيدة (خديجة)، والذي ضم الغرف الخاصة بعبادة النبي، واجتماعاته بالصحابة الأوائل، وميلاد كريمته (فاطمة الزهراء) وعقيلة الخليفة (علي بن أبى طالب)، فيما بعد.

كما استمرت (مكة) - إلى ما قبل مائة سنة - أمينة على جغرافيتها الطبيعية والتاريخية، بجبالها وأوديتها وآبارها.. الخ.

بينما حفلت (المدينة المنورة) بآثار لا حصر لها، مثل(5):

* مقابر تضم رفات والد النبي، وأخرى تعرف بـ (البقيع)، تضم رفات الأئمة من آل البيت مثل الإمام (الحسن بن علي بن أبى طالب) و(علي بن الحسين زين العابدين) و(جعفر الصادق)، و(محمد بن على الباقر)، إلى جانب رفات (فاطمة بنت أسد)، والدة الإمام (علي بن أبى طالب) و(إبراهيم) نجل النبي، و(العباس بن عبد المطلب) عم النبي، وعمتاه (عاتكة) و(صفية)، وبناته (زينب) و(أم كلثوم) و(رقية)، ومرضعته (حليمة)، وزوجاته، فضلاً عن رفات مئات الصحابة والصالحين الذين ضمتهم هذه المقبرة.

* الخندق الذي احتفره المسلمون، من حول (المدينة)، استعداداً لغزوة (الخندق) الشهيرة.

* مساجد : (سلمان الفارسي) و(الشمس) و(ذي النفس الزكية) و(المائدة)، وقد شهد الأخير موقعة تلقى النبي وحي سورة المائدة، إلى جانب مسجد (ثنية الوداع) الذي يضم ثنايا النبي التي كسرت أثناء موقعة (أحد).

* بيوت : (بني هاشم).

* سقيفة (بني ساعدة).

وفى حصر آخر، يذكر المؤرخ المصري الشهير (الجبرتي)، في تاريخه - والذي عاصر فترة الدولة السعودية الأولى - أن (سعود الكبير) استولى على سجاد (المسجد النبوي) وقناديله المذهبة، ثم ادعى أنه باعها وصرف حصيلتها على الفقراء (...)، بيد أن باحثا مصريا معاصرا يؤكد أن أتباع (ابن سعود) تناهبوا كنوز المسجد، المحفوظة به، مثل (تاج كسرى)، ملك (فارس) - الذي كان أحد غنائم المسلمين في معركة (القادسية) مع الفرس - وسيف الخليفة العباسي الشهير (هارون الرشيد) (6)، في إطار عمليات التهديم والإهلاك التي أنزلوها بالأضرحة والمقابر الإسلامية، حتى تحولت إلى أطلال تحترق بها نفوس المسلمين حسرة وألما.

ويُعد كتاب (الشرف الأعلى) للمؤرخ المكي (جمال الدين الشيبى) - الذي وضعه في القرن الخامس عشر الميلادي - أحد أبرز المدونات التاريخية، حول الآثار المكية، حتى ذلك الوقت، والذي رسم المؤلف - من خلاله - منهجاً جديداً، مع معاصره (تقي الدين الفاسي)، يقوم على توظيف الكتابات المنقوشة، على شواهد القبور، في عملية التدوين، وجعل المصادر الأدبية الأخرى مساندة لتلك الكتابات، فعُد - بذلك - أحد رواد دارسي الكتابات الإسلامية المنقوشة، على شواهد القبور(7).

وقد عزا (الشيبى) أسباب إقدامه على هذا العمل بالقول:

(فقد خطر لي أن أكتب في هذه الأوراق بعض ما قرأته على القبور بمقبرة مكة المشرفة المسماة بالمعلا، أو ما قدرت عليه، فإن في ذلك تخليد ذكرهم، وأسمائهم، وحفظ وفياتهم، والترحم عليهم وقت الوقوف على ذلك، والاتعاظ بحالهم إلى غير ذلك من الفوائد مثل شعر غريب فيه ذكر الموت، والإشارة إلى الفراق، وذكر التوجه إلى دار التلاق، والله تعالى هو المسئول أن يثبت على ذلك، وأن يجعلنا ممن اتعظ بالموت وأيقن بما هنالك، وسهل عليه سلوك تلك المسائل فهو العليم بجميع الأمور، والمطلع على ما في الصدور سبحانه لا إله إلا هو تقدس وتمجَّد وتعزَّز)(8).

وقسم (الشيبي) كتابه إلى قسمين: الأول يحتوي على مسائل متعددة، ومعلومات متنوعة، تشمل التعريف بالموت، واشتقاق لفظه، وذكر القبر، وأسمائه، والأشعار التي تحمل لفظ القبر، ومعانيه المختلفة، وغير ذلك من المسائل والمداخل، التي أطلق على كل منها اسم فائدة، ومنها : كل قتل موت، وإن لم يكن كل موت قتلاً، لو حفر الإنسان له قبراً في حياته، هل يصير أحق به من غيره؟ وما حصل للأنبياء عند الموت من معالجة سكراته، ومن مقاسات شدائده، وفيمن عاش بعد الموت، وفزع الأغنياء (من الموت)، وشهوة الفقراء (له)، وفيما يستحب من رفع القبر شبرا، ولو بالحصى والحجارة ليُعرف، وتجصيصه مكروه، وفى احترام القبر كما لو كان صاحبه فيه حياً، ولا يجوز نبش القبر إلا أن ينمحي (يمَّحى)، ويبلى أثره، ويصير تراباً(9).

كما سلك المؤلف في تناوله لمقابر الشخصيات، التي اختار أسماءها - في الجزء الثاني من كتابه - طريقة منهجية محددة، فبدأ بتحديد مكان الحجر، ونوع الخط الذي كُتب به، وحالته، ثم يورد النص المكتوب على وجه الشاهد، وعلى جانبيه إن وجد، مبتدئاً ذلك بالبسملة، ثم بآية أو أكثر من القرآن الكريم، وأحياناً بصور استهلالية أخرى، من أدعية مأثورة، أو أبيات شعرية، ثم اسم المتوفى مسبوقاً بسلسلة طويلة من الألقاب والكنى، ثم الترحم عليه، وتاريخ وفاته، والصلاة على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وطلب الرحمة لمن ترحم عليه، أي على صاحب الشاهد، ويلي ذلك الترجمة للمتوفى استخرجها من أمهات الكتب التي عنيت بترجمته ذاكراً صفته، ومهنته، والبلد المنسوب إليه، واشتقاق اسم ذلك البلد، وشهرته، ونماذج من شعر المترجم له، إن كان شاعراً، ونثره، إن كان ناثراً، ونماذج مما قيل فيه من شعر المديح، وما يتصل به، وذاكراً المشهورين من أفراد أسرته، أو من القبيلة أو العشيرة، أو البيت المنسوب إليه، كما أن المؤلف الشيبي كثيراً ما يربط تاريخ وفاة المترجم له، أو تاريخ ميلاده، وغير ذلك من التواريخ المتصلة به، بالأحداث المهمة التي تصادفه، أو تتزامن معه، استناداً إلى مصادر جمة كانت متاحة للمؤلف، في زمانه، وبعضها - اليوم - في حكم المفقود، وهنا مكمن الفائدة من هذا الكتاب، القيم المتفرد في موضوعه، وفى المنهج الذي اتبعه فيه مؤلفه، بحسب وصف باحث سعودي معاصر(10).

إذ تضمنت الشواهد - التي استند إليها المؤلف - تنوعاً ثرياً من الصيغ الاستهلالية، التي تستهل بها النصوص المدونة، على بلاطات تلك الشواهد، فبعضها آيات مختارة - بعناية - من القرآن الكريم، وقليل، منها أدعية، مستوحاة من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي، وبعضها من عيون الشعر، الذي يناسب المقام، مثل:

وقد اشتملت أسماء المتوفين الذين يشكلون المادة الرئيسية لها الكتاب على سبيل المثال كل من : داعي أمير المؤمنين اليمنى (أبو حمير سبأ بن أبى السعود بن الزريع بن موسى الكرم الهمذانى)، والدة الملك (اليمنى) (المنتخب)، المسماة (علم أم منصور بن فاتك)، الإمام (زين الدين عبد الغنى السبكى الشافعى، قاضى القضاة بالديار المصرية)، عز الدين بن عمر بن عبد العزيز بن جماعة الكنانى، شيخ الحرمين عفيف الدين أبو الظفر منصور بن أبى الفضل بن سعد البغدادي، إمام المالكية بالحرم الشيخ الفقيه (خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر)، وغيرهم ممن تولوا مشيخة الحرمين، ومسئولية الافتاء باسمهما(12).

نظر ثان : في وحدانية السياسة والمذهب

ولا ريب في أن ذلك الكتاب / الوثيقة يمثل شاهداً حياً على ما كانت تحويه وتمثله أحد أبرز الآثار الإسلامية، بل والإنسانية، وهى (مقبرة المعلا)، الذي جرى تدميرها - هي وغيرها من الآثار، التي أشرنا إليها أعلاه - على يد سدنة الدولة السعودية الأولى (1744م 1818 خم)، والثالثة (1902 - ..)، من أتباع جماعة (ابن عبد الوهاب)، ضمن تحالفهما الممتد إلى اليوم.

وككل حركة دينية مذهبية وشمولية تستقوي بالسلطان السياسي، وككل سلطان سياسي أفلوي يبحث لنفسه عن خطابات أيديولوجية تتيح له فرص التمكين لسلطانه، وجد (ابن عبد الوهاب) غايته عبر سلطان (ابن سعود) ووجد الثاني غايته عبر الأول.

فباسم وحدة الدين لدى الأول، وباسم وحدة الدولة لدى الثاني، أطلق (ابن سعود) يد (ابن عبد الوهاب)، الذي قال (بدوارس القبور والآثار) (13)، بوصفها بدعة وخروجاً على الإسلام، وهي الدعوة التي انتشرت في مرحلة بدأ فيها وكأن الناس خرجوا من صافي إيمانهم بالله، واستبدال الحقائق بالظواهر، لكن سرعان ما انغلقت هذه الدعوة على نفسها، وتحولت من دعوة للإصلاح في عيون مريديها وفى ظرف تاريخي محدد، إلى سلاح ديني بيد أسرة (آل سعود) تشهر الدين في وجه معارضيها السياسيين، وتستخدمه لتبرير استمرارها وحكمها، وكأنها جزء لا يتجزأ من الإسلام (14).

والذين تابعوا مسيرة (الوهابية)، وبخاصة في مرحلة الدولة الثالثة، التي بدأت بـ (عبد العزيز) يستطيعون أن يلمسوا دور الدين في تثبيت حكم الأسرة، أكثر من دور الدين في تثبيت الإيمان (15). إذ حققت قوات (الإخوان الوهابيين) لـ (عبد العزيز) السلطة، ووفرت له أسباب التوسع، وما أن أيقن أنها صارت قوة مستقلة، خطرة، وأثارت له المتاعب مع جواره، حتى ضربها، وأعانه الانجليز على ذلك أي عون(16).

ومع ذلك فقد ظلت عقيدة هؤلاء (الأخوان) تقود السلطة، فعلياً، بعد أن رأت السلطة السعودية في تلك العقيدة عوناً لها وتثبيتاً لحكمها، وإشهاراً لقوتها وعصبية رجالها في وجه خصومها، ولكنها ظلت - كذلك - تمسك بزمام هذه الجماعة، وتروضها، كلما خرجت أو استشرت، كي تُقصر مهمتها على دعم النظام (17)، لا أكثر.

بيد أن اللافت، أن عقيدة الوهابيين شكلت نواة مركزية لتيار (الإسلام السياسي)، وقوبل ما تفرع عنها من حركات أخرى، بالرعاية السعودية والدولية، إلى أن بلغ (الخطاب الوهابي) حدود المؤسسة الأزهرية، وغيرها من مؤسسات العلم الإسلامي، في غير قطر، بعد أن شحب خطابها، ونالته علل الجمود والأحادية الفقهية، حتى صار (الخطاب الوهابي) معزوفة أساسية في خطابات لفرق ومؤسسات متخلفة تعمل ضد كل ما يتصل بالفكر العصري ومنجزات الحضارية، من علوم وفنون، إلى حد (إزالة آثار الإسلام في أرضه الأولى، مُنهية بجهلها، وبقصد من هو خلفها، حُقباً كثيرة من تطور الإسلام ورموزه الغنية) (18)، وهو ما حمل معارض سعودي، في تسعينات القرن المنصرم على وصف ما جرى بأنه (هدم للإسلام) (19)، وإلى اتساع الحملة الإعلامية والسياسية، من جانب المعارضين السعوديين خارج المملكة، لأجل حماية ما تبقى من الآثار الإسلامية في (الحجاز) من الهدم (20)، ودخول صحف غربية، على خط الحملة، والتي تحدثت عن تدمير العمارة الإسلامية ليحل محلها (حضارة الكونكريت) (21)، في عشية إقدام ملك السعودية (فهد بن عبد العزيز) على هدم بيت النبي - ص - ومحو المحيط الداخلي (للحرم المكي)، بما يتضمنه من نقوش وآثار، يمتد عمرها على مائة وألف عام، باسم توسعة الحرم.

وكان أحد اسلاف الملك فهد قد سبقه في النيل من أغلب هذه الآثار، بمساندة أتباعه من الوهابيين، إلا أن الدولة العثمانية أعادت تعمير وتشييد ما جرى هدمه في (مكة) و(المدينة)، ومنها (الأضرحة) والمساجد، بعد تدمير دولة (ابن سعود) في العام 1818م، على يد الحاكم العثماني لـ (مصر)، آنذاك (محمد علي).

وكما أدت توسعات الأب (عبد العزيز) لـ (الحرم) في عشرينات القرن الفائت إلى اختلاط النشاط التجاري بالنشاط الروحي حتى ضاق الحجاج ذرعاً به، أدت توسعات شبله الملك فهد، في تسعينات نفس القرن، إلى تجريد (الحرم) من تاريخه الحضاري المسلم، والتضييق على الحجيج، في ضوء الحوادث الدامية المتتالية، طوال السنوات التي تلت هذا التوسع، وحتى اليوم، بحيث صارت تلك التوسعات - بقديمها وجديدها - عملاً عشوائياً ومنهكاً لقاصدي فريضة الحج، ناهيك عن طمس الخصوصية التاريخية والثقافية لـ (مكة) و(بيتها المحرم)، على نحو ما فصلته باحثة سعودية معاصرة (22)، خلال الاحتفال باختيار (مكة)، عاصمة ثقافية في العام 2005.

وكما أدى عدوان الأب (عبد العزيز) ومناصريه من الأخوان الوهابيين على الآثار الإسلامية المكرمة، في ذلك الوقت، إلى استنكار جمهرة المسلمين في مختلف الأقطار، وإقدام الحكومات على إعلان الاحتجاج الرسمي، مثل (مصر) - التي امتنعت عن إرسال الحجاج - بينما أقامت (إيران) مراسم الحداد، ووجه مسلمو (الهند) برقيات الاحتجاج (23).. أدى عدوان الملك فهد، المدعوم من نفس فئة مناصري أبيه، إلى استياء إسلامي واسع النطاق، وإن وقع في ظل أغلبية من الحكومات الإسلامية الصامتة! هذه المرة.

وكانت النتيجة في عهد (عبد العزيز) أن فرض كل من مؤتمري (مكة) عام 1926، و(الرياض) عام 1927، المذهب الوهابي - إن جاز وصفه بذلك - على أتباع المذاهب الأخرى، وعبر حملات إعلامية وتثقيفية وضغوط إرهابية قمعية وإغراءات وتطميعات مادية، مما خلق حالة من العداء المذهبي والتعصب الطائفي المقيت، لا شبيه له في أي بلد إسلامي آخر (24)، بينما جرى استغلال موسم الحج للترويج لذلك المذهب، عبر طبع الكتب التي تبشر به، وتندد بالمخالفين له، إلى أن تمكن الخطاب الوهابي (من احتكار مواسم الحج، وبعد أن حالت السلطة السعودية بين شيوخ المسلمين من أتباع المذاهب الأخرى، وبين بسط رؤاهم خلال هذه المواسم، بينما لم يكف المرشدون الوهابيون عن تحريم الاقتراب من ضريح النبي - بناء على فتوى ابن تيمية المثيرة للجدل.

نظر ثالث : في شيوع الخطاب الوهابي

وكان من نتيجة ذلك، في عهود خلفاء (عبد العزيز) - وخاصة منذ الطفرة الهائلة في أسعار النفط، في السبعينات، من القرن الماضي - أن شاع الخطاب الوهابي وتمدد في طول وعرض العالم الإسلامي، ووجد موالوه ومناصروه المنظمون، بين عامة الناس وخاصتهم، من حركات باسم إسلام سياسي ودعاة تقليديون في رداءات مستجدة، ودعاة مستحدثون في رداءات مُقلدة، ولسان الجميع ينطق بقطعية التحريم الإسلامي للفنون، بقديمها وحديثها، كأحد الثمار المرة لـخطاب الوهابيين ومسلكهم المناوئ للآثار الإسلامية، التي تقع في قلب الأصيل الإبداعي في فنون العمارة، حتى بات كل ما ينتمي إلى هذا الفن، من نحت وصور مجسمة، أمراً مستنكراً، استناداً إلى مفهومها المبكر، في الدعوة الإسلامية إلى التوحيد، بين وثنيي شبه جزيرة العرب، وهو أمر يطمس أربعة عشر قرناً من الزمان الإسلامي، حضارة وعلماً وإيماناً، ويرتد بها إلى سابق عهده الأول، حيث (الفئة المؤمنة) بين الوسط الوثني، ولكن، هذه المرة بين (الفئة الوهابية)، ومن والاها، والفضاء الإسلامي، المتعدد المذاهب والمشارب والأنظار، ليصير الأمر إلى أحادية مذهبية وهابية متجبرة، تعادى كل من لا يواليها، بعد أن جردته من الانتساب إلى أصل الدين، الذي جردته - بدوره - من آثاره، بوصفها - ويا للمفارقة - معادية لهذا الدين، إلى حد إقرار مفتي مصر الراهن علي جمعة بهذه المشروعية المصطنعة (25)، بعد أن كانت حركة (طالبان) في (أفغانستان) قد أقدمت - قبل سنوات - على تدمير تماثيل (بوذا)، في أراضيها، رغم كل الوساطات الإسلامية والدولية لثنيها عن ذلك الفعل.

وبذلك تجاوز (الخطاب الوهابي) فضاءه المكاني إلى فضاء مترامي الأطراف، ليرتد بمواليه الكُثر إلى روح (الاعتصام بالقديم التي تتشبث بآلية جامدة للذاكرة، وتقلص الحياة إلى أشكالها البدائية) (26).

ويبدو أن اشتعال الخصومة بين الإبداع والتعلق بالقديم الموهوم - بفعل هذا الخطاب - داخل العالم الإسلامي قد تزامن مع ما آل إليه من إحباط وعجز عن إعادة البناء، منذ عقود، ومع زحف أنماط الحياة الريعية والاستهلاكية، بسطوتها على الأفراد والجماعات، حتى استلب ما لديهم من بداهات الأشياء ومنطق الأمور، فصاروا كيانات صماء، عاجزة، لا تدرى من أمرها ومن أمر ذاكرتها الإسلامية المتواترة شيئاً، وفى مقدمتها (القرآن الكريم)، نفسه، الذي يستخدم أساليب التصوير الفني، كما يذهب الكاتب الإسلامي (سيد قطب) وهو تصوير يجري عبر طرق تشمل التشخيص بواسطة التخييل والتجسيم، لذا يخلع (القرآن) - أحيانا - الحياة على الأشياء الجامدة، ويلجأ - أحياناً أخرى - إلى الصور الحسية والحركية، للتعبير عن حالة من الحالات، أو معنى من المعاني، إلى جانب دور الإيقاع الموسيقى في (القرآن)، وهو متعدد المعاني، ويتساوق مع الجو النفسي، ليؤدى وظيفة أساسية في البيان، حيث لا يرد المعنى الفعلي العام في القرآن، بطريقة تقريرية، بل يتوهج بصورة متعددة، لتشع في نفس القارئ إحساساً وتأثيراً، يتغلغل إلى كل جنبات الكيان والوجدان، فيرهف ويرق(27): (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع) (83 - المائدة).

نظر رابع : في أصول التطور العقائدي

نحن - إذن - بصدد إيمانين متعارضين يعكسهما قول (سيد قطب) الآنف الذكر وأقوال (الوهابيين) وذلك فيما يتصل بالنظر الإسلامي إلى دور الإبداع الفني في تثبيت الإيمان، من عدمه. وتبدو أقوال (قطب)، السابقة، قريبة - إلى حد كبير - من العلوم التي اختصت بدرس التطور العقائدي للإيمان، حيث ينقل أحد الاختصاصيين الفرنسيين في هذا المجال، وهو(شار جنييبرت)، عن (أوجست ساباتييه) قوله : (إن استيقاظ المشاعر يسبق في حياتنا دائماً استيقاظ الفكر)، ذلك أن الدين - كما يقول جنييبيرت - يُحس ويعاش، قبل أن يكون فكراً، ولهذا ليست العقائدية هي التي تنظم الإيمان وتحكمه، بل إن الإيمان هو الذي تتولد عنه العقائد (28). ويضيف: (نعلم أن كثيراً من العقائد تتولد أثناء صراعات الإيمان، وأنها، من بعض الوجوه تحمل طابع الإمكان، وأنها تحبس نفسها، إن صح التعبير، في الصيغ التي تمليها الظروف) (29).

صيغة (العقيدة الوهابية) هي - إذا - بنت ظروفها التي تواءمت مع الجو العقلي والأخلاقي الذي تحتم عليها أن تحيا فيه، وهى أجواء البادية (النجدية)، بوحشتها وقسوتها وجفاءها، مقارنة بأجواء (الحجاز) المدنية الباذخة، وفسيفساءها الإبداعي والثقافي والحضاري، وهو وسط لا تجد فيه هذه العقيدة أي ارتباط لها به، حيث يرفضها الحس المشترك، وحينئذ فإنها تتجمد، غير أنه يمكنها، ولفترة محدودة، أن تتعزى بتصور أنها قادرة، وحدها، على الصمود ومجابهة كل شيىء، وهو تماسك يصفه (جنييبيرت) بأنه تماسك مهيب، لكنه غير مُجدٍ، إذ تكون عوامل الموت قد تسربت إليها، وليس مهماً، بعد ذلك، تقدير الوقت اللازم لاختفاء آخر مظاهر الحياة في جسدها الخامد، ولا معرفة الساعة التي يختفي فيها آخر رجل يستمد منها شجاعته وعزاءه وآماله (30). وهو أمر يلحظه المراقب لمأزق (الخطاب الوهابي)، كما يتبدى داخل المملكة، عبر حملات السلطات السعودية، أمنياً وإعلامياً، ضد العناصر والأفكار الوهابية، أو خارجها، عبر ما يسمى الحملة العالمية ضد الإرهاب. وبخلاف تلك العالمية، لا تمثل الحملات السعودية جديداً في هذا الشأن، حيث استهدفت كسابقتها الاحتواء لا الانقلاب على (الوهابية).

بيد أن العقائد المتهالكة والمحطمة - كـ (الوهابية)، بعد انهيار الدولة السعودية الأولى، أو بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 - لا يكون مصيرها العدم، لأن الفكر الإنساني الذي أوجدها لا يتحلل من تبعاتها، تحللاً تاماً، إنه سرعان ما يتناولها مرة أخرى، ويدخل عليها بعض التعديلات، ثم يسلكها في نظام جديد، ويدخلها - بذلك - ضمن بناء ديني آخر (31)، وهو ما تسرب إلى بعض أوجه الخطاب الأزهري التقليدي، وذلك فيما يتصل بمشروعية الفنون، أو حدود الحرية التي تقف عندها، وهو الغطاء الذي كان يخفى إما خطيئة الصمت، أو ذنوب التواطؤ على الجُرم السعودي - الوهابي تجاه الآثار الإسلامية في (الحجاز)، والتي يظل الحفاظ عليها جزءاً عزيزا - ليس فقط - من الإيمان الإسلامي، بل من تراث الإبداعية الإنسانية، شاء الكارهون لها أو نددوا.

وإذا نظرنا إلى الذين يستريبون من الفن بذرائع دينية، لألفينا الكثير منهم يرتعدون - فرقاً - من حرية التفسير والاجتهاد، ويتجمدون عند الحرف، خشية ما تؤدى إليه الحرية من تحطيم عالمهم المستقر، الذي يجدون فيه الأمن والنفوذ، فكأنهم يمثلون فرقة من (الكهنوتية الشمولية) - إن أبيح ذلك التعبير - تشغب على كل من يحاول الإفلات من سطوة تفسيراتهم الجامدة، أو ممن يجعلون من الدين أداة بطش وترويع ليستمدوا منه سلطانه، أو ممن يخشون على أنفسهم من الفتنة والتفكير، فيسمرون أقدامهم حيث تقف عقولهم، ويتدثرون بما يحجبها عن التأثر بأية مشاعر أو أفكار، أو ممن اتخموا في شبابهم بالآثام والخطايا، ثم يحاولون التكفير عما اقترفوه باتخاذ مواقف متطرفة من مهنهم السابقة، أو ماضيهم القديم، أو ممن تسطحت عقولهم، بفعل الجهل، بكل شيء، وضمرت تجاربهم، فلا يسيغون إلا ما يتملق جهلهم وضيق أفقهم (32).

ولا ريب في أن حال هؤلاء أو أولئك يتعارض مع دور العمل الفني الذي يتميز بشحذ قدرات الإنسان على إنتاج أشكال جديدة، دون أن يكون منافساً لغيره من المجالات، فيهدى أصحاب المجالات الأخرى، من خلال تلك الأشكال الجديدة إلى اكتشاف الينابيع النضاحة للحياة، والإمكانات الثرة للوجود، ويلفتهم إلى قدراتهم الواعدة لإعادة النظر وتعديل المسار، تمهيداً للتقدم في مجالاتهم خطوات أبعد وأفضل (33).

أما ما يخالف ذلك من فنون هابطة أو رديئة فإنها لا تدرج ضمن معايير الفن، التي تبرز (فاعلية الإنسان في كل مجالاتها، على الأرض المحايدة للسديم المتجانس (34)، ومن ذلك عمارة الفن الإسلامي، في قديمها وحديثها، التي نالت - ولا تزال - من التعريض، الكثير على يد (آل سعود) والوهابيون ومن والاهم في العالم الإسلامي.


هوامش ومصادر

1 - القرآن الكريم، سورة (إبراهيم)، الآية (17).
2 - انظر في ذلك المصادر التاريخية القديمة والحديثة حول واقعة محاصرة (الكعبة) وضربها بالمنجنيق، حتى تصدعت جدرانها، من جانب الجيش، الذي قاده (الحجاج بن يوسف الثقفى)، بأمر من الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان)، وما ترتب على ذلك من انتهاك حرمتها، وقتل (ابن الزبير) - الذي كان قد لاذ بحرمها - إلى حد التمثيل بجثته، في باحتها (!) ثم نزع (الحجر الأسود)، من مكانه المهيب، بأركان (الكعبة)، على يد أخر القادة العسكريين لدولة (القرامطة)، وهو (أبو طاهر القرمطى)، في عهد العباسيين، وذلك قبل أن تشهد (الكعبة)، بعد نحو ألف سنة واقعة انتهاك حرمتها، وتحويل باحتها إلى ساحة حرب، بين قوات الأمن والجيش السعودي والمعتصمين بـ (البيت المحرم)، بقيادة (جهيمان العتيبى)، عام 1979، ولمزيد من التفصيل انظر كتاب : رفعت سيد أحمد - رسائل جهيمان العتيبى: قائد المقتحمين للبيت الحرام، مكتبة مدبولى، القاهرة 2004، وكذلك بحث : على أبو الخير - تدويل الأراضي المقدسة في الحجاز: بين التأويل السياسي والتنزيل الديني، مركز يافا للدراسات والنشر، القاهرة 2006.
3 - الغادرى، نهاد - مجلة (سوراقيا)، لندن، 6 يوليو 1992، ع 464، نقلاً عن مجلة الجزيرة العربية، لندن، يوليو 1992، ع 18.
4 - الشيبى، محمد بن على، الشرق الأعلى في ذكرى قبور مقبرة باب المعلا، مخطوطة (مكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة المنورة، رقم 129 تاريخ، ص 32.
5 - الغادرى، نهاد، مصدر سابق.
6 - انظر: على أبو الخير، بحث سبق الإشارة إليه.
7 - الزيلعى، أحمد بن عمر، فصلية جذور، جدة، ع 20، ج20، مج 9، ص23.
8 - الشيبى، محمد بن على، مصدر سابق، ص1.
9 - الزيلعى، أحمد بن عمر، مصدر سابق، ص 32، ص 33.
10 - نفسه، ص 34، ص 35، ص 36.
11 - نفسه، ص 36، ص 37.
12 - نفسه، ص 39، ص 40، ص 41.
13 - الغادرى، نهاد - مصدر سبق ذكره.
14 - نفسه.
15 - نفسه.
16 - نفسه.
17 - نفسه، ص 18.
18 - نفسه.
19 - نفسه، ص 17.
20 - انظر: مجلة الجزيرة العربية، مصدر سبق ذكره، ص 16.
21 - انظر: الديلى تلغراف البريطانية، لندن، ع 6 يوليو 1992.
22 - انظر: نواب، عواطف بنت محمد يوسف، فى بحثها المعنون : (مكة المكرمة بين التاريخ والواقع) ، مصدر سابق، ص 23، ص 54ـ 56، حيث تشير إلى أن الشعاب المتفرعة من وادي (إبراهيم)، الذي يحيط بـ (مكة) مثل شعاب (عامر) و(بني هاشم)، أو (سوق الليل) قد اندثرت، بفعل توسعة ساحات (الحرم)، بينما جرى شق شعب (أجياد الكبير والصغير) بالأنفاق، وما اقترن بذلك من توسع في بناء الفنادق والأبراج الضخمة.
23 - انظر: على أبو الخير، مصدر سابق.
24 - انظر: الصفار، حسن موسى - افتتاحية مجلة الجزيرة العربية، لندن، سبتمبر 1992، ع 20، ص6.
25 - راجع في هذا الشأن الفتوى رقم (68)، التي أصدرها مفتى الديار المصرية (د. علي جمعة) بتحريم اقتناء التماثيل، والتي تتعارض مع فتاوى واجتهادات إسلامية شهيرة، كتلك التي أعلنها شيخ الأزهر الإمام (محمد عبده)، قبل أكثر من مائة سنة، على شيوع (الخطاب الوهابي).
26 - قنصوة، صلاح - الدين والفكر والسياسة، مكتبة دار الكلمة، القاهرة 2003، غير محدد رقم الطبعة، ص77.
27 - نفسه، ص104.
28 - انظر : جنييبيرت، شارل - تطور العقائد - ترجمة وتقديم وتعليق : د. محمد محمد حسانين، القاهرة 1991، طبعة خاصة، ص227.
29 - نفسه.
30 - نفسه، ص 26ـ 27.
31 - نفسه، ص27.
32 - قنصوة، صلاح - مصدر سابق، ص105، بتصرف.
33 - نفسه، ص104.
34 - نفسه، ص 103.


الصفحة السابقة