أعطوا الحجاز للحجازيين من أجل حماية المقدسات

د. رفعت سيد أحمد

لقد كشفت الحرب الأمريكية/ الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أهمية دور علماء الإسلام فى الصراع، انطلاقاً من أن الدين هو ضمير الأمة ومحركها الرئيسى طالما كان المضمون هو رعاية مصالح الأمة، ليس العمل لصالح الحكام المتأمركين، فى هذا السياق، ظهرت فتاوى تستخدم (الإسلام وسلاح الفتاوى) ضد المجاهدين فى لبنان وفلسطين، وهو على نقيض من جوهر دعوة الإسلام الصحيح، وعليه صار من الأهمية بمكان إعادة الاعتبار لدور (مكة) وما يصدر عنها من فتاوى، وما يلعبه علماؤها من دور ديني وسياسي، فى هذا الاطار تأتي دعوة أن يتحرك العلماء وخطباء المساجد بالحجاز لإعادة الاعتبار مجدداً على الإسلام الصحيح، ولن يتم ذلك إلا توليهم مجدداً إمرة الحجاز بمقدساته ومنزلته الكبيرة من مكة والمدينة المنورة، وهي استعادة ضرورية لأمة الإسلام وليس لأهل الحجاز فحسب، وذلك لتخليصها من الفكر الوهابى المتشدد والمعادي بفتاويه المتطرفة لقضايا الأمة الرئيسية وفى مقدمتها قضية (المقاومة)، و(الحريات) و (التقدم السياسي والاقتصادي).

* ان المسئولية فى هذا الدور المنتظر تقع على (العلماء) و(الفقهاء الأحرار) وفى مقدمتهم خطباء المساجد فى الحجاز أرض المقدسات والطهارة والذي ارتبط بأهله تاريخياً الإشراف والرعاية لهذه المقدسات ولكي نفهم خصوصية الحجاز وأهميته، وبالتالى أهمية هذه الدعوة، دعونا نتأمل ما كتبته الكاتبة مي يماني (إبنه وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي يماني ) في كتابها المهم (الحجاز والسعي نحو هوية عربية – دار نشر أي بي تاورس – لندن - 2004):

من خلال التعمق في (الخصوصية الحجازية) نرى أنها ما زالت تحتفظ بطعمها ومذاقها وعوامل اختلافهما، حتى لا نقول افتراقها، عن بقية أجزاء الوطن السعودي (وخاصة نجد حيث السلطة المركزية والحكم)؛ الحجاز ما زال متميزاً عن بقية مناطق السعودية سواء ثقافياً أم اجتماعيا أو دينياً، وذلك رغم مرور ما يزيد عن سبعين عاماً على مشروع الوحدة الذي لملم أجزاء الجزيرة العربية, نجد وعسير والإحساء إضافة إلى الحجاز بالطبع في نطاق دولة واحدة. وللتدليل على (الخصوصية الحجازية) في الإطار العام؛ الحجاز كان وما زال في كثير من جوانبه متصفاً بالتنوع والتعددية والانفتاح على العالم بسبب وجود مكة والمدينة في قلبه إذ أنه بحكم قدسية المكانين استقبل الحجاز وما زال يستقبل ملايين الحجاج من مختلف بقاع الأرض بجنسياتهم وألوانهم وثقافاتهم المختلفة. وعلى مدار القرون كان لأولئك الحجاج أثر دور في تشكيل المزاج والهوية الحجازية التي اتسمت بالانفتاح و(العولمة المحلية) المبكرة. لم يقتصر ذلك الانفتاح والإطلاع على طوائف المسلمين بتقاليدهم ومذاهبهم المتنوعة، بل امتد أيضا إلى غير المسلمين الذين كان يأتي بهم البحر زواراً أو عابري سبيل أو غزاة. أثر ذلك على هدوء في الطباع، وسعة في المعاملة وتسامح في الاختلاف؛ وخاصة التسامح في الاختلاف المذهبي والممارسات الدينية، بما فيها استيعاب التيار الصوفي والروحانيات المختلفة، اصطدمت الخصوصية بالوهابية التي ساندت المشروع السياسي لإبن سعود في توحيد الجزيرة العربية؛ فالمشروع السعودي التوحيدي القادم من نجد لم ينازع الحجاز على الزعامة السياسية فحسب، بل وأيضاً وأكثر أهمية انتزع منه حصرية تمثيل الدين ونوعية التعامل مع الدين نفسه. ومن ثم تهمش التنوع الحجازي المذهبي المتسامح وبرز التطرف الوهابي في الدين والتفسير، كان ذلك بداية اضمحلال سلطة الحجاز وصعود سلط نجد.

وتذكر الدراسات الحديثة ومنها الكتاب سالف الذكر أنه مع نجاح آل سعود في ضم المناطق الحجازية وعلى رأسها مكة والمدينة وجدة إلى حكمهم بدأت شمس الحجاز المتنوعة بالغروب لصالح أحادية التمثيل والسيادة النجدية المتحالفة مع المذهب الوهابي المتشدد؛ على أن ذلك الغروب لم يكن مودياً إلى اندثار أو موت الهوية الحجازية التي ظلت تشتعل كما كانت وإن يكن بهدوء أو من دون ضجيج.

لكن كيف (صمدت) الهوية الحجازية إلى هذا الوقت وظلت تحافظ على خصوصياتها رغم المحاولات الفوقية للدولة لفرض (سعودة) شاملة تطال كل مناطق المملكة؟

تقول المؤلفة إن تلك الهوية لم تختر لا الصدام المباشر مع السلطة المركزية وحكم آل سعود، ولا التعبير عن نفسها بشكل مباشر أو فج إذ لم يكن لها أية أجندة سياسية ولم تدع إلى فصم الحجاز والعودة بالتاريخ إلى الوراء. هنا، وعند نفي مي يماني الواضح لأي تفسير لكتابها قد يُفهم منه أنها تدعو إلى ذلك، صحيح أن دعوتها لإعادة الاعتبار للهوية الحجازية فيها تحقيق القوة الحقيقية لمشروع التوحد الذي تعيشه السعودية. كما تقول، أي أن الاعتراف بالتنوع وتقديره وعدم محاولة لجمه بقوة السياسة أو قوة المذهب يعطي منعة لأي مشروع توحيدي على عكس ما قد يُظن ظاهراً.

فالمجتمعات برمتها، وليس العربية والإسلامية فحسب، ليست مقدودة على مقاس واحد، بل فيها تنويعات واختلافات وطوائف وتجمعات متباينة، وهذا مما لا يضيرها بالتعريف.

بخلاف ذلك، فإن محاولة قمع الهويات المحلية ومطاردة تعبيراتها الثقافية والاجتماعية والدينية هو المهدد الأكبر للوحدة الوطنية المأمولة؛ فالذي يحدث في هذه الحالات هو أن تلك التعبيرات لا تختفي، ولكنها تغيب عن الواجهة المرئية فيما تظل تعمل في الخلفية الاجتماعية لهذه الشريحة أو تلك.

وهكذا فإن الأشكال المميزة لأية هوية تخلق لنفسها فضاء خاصاً بها وطرائق لتموه على أنماط القسر والرغبة الفوقية الحاكمة بصهر الهويات الفرعية في هوية وطنية أو قومية جامعة.

وهذا في الواقع الممارس تاريخياً لا يقود إلا إلى نتيجة معاكسة لما تريده السلطة الفارضة، أي أنها تعزز خصوصية تلك الهويات بدل أن تخفف من حدتها ؛ وتاريخ القرن العشرين يعج بالأمثلة الساخنة، أبرزها المشروع السوفيتي في تخليق هوية قومية جامعة للمجتمعات المنضوية تحت اتحاده، والمشروع اليوغسلافي الذي قام على فكره مشابهة، وكليهما فشل فشلا ذريعاً، حيث عادت الهويات الوطنية والفرعية إلى الظهور والتعبير عن نفسها بتطرف وحدة جارفة في أكثر الأحيان.

في المقابل كان النجاح حليف الاتحادات الديموقراطية التي لم تكن مهجوسة بجرف الهويات الفرعية والإقليمية بل تركتها على حالها وراهنت على الزمن وتبادل المصالح وحركة المجتمع الذي مع مرور السنين هذب من تلك الهويات وحجمها وبالتالي لم تعد مصدر خطر على الوحدة الوطنية لكن من دون قسر أو قمع، كما في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا.

وللإنصاف الموضوعي ليست حالة السعودية مشابهة من قريب أو بعيد لحالة الإتحاد السوفيتي أو اليوغسلافي في التوحيد القسري، إذ أن عوامل التوحد السعودي أوسع وأشمل وأعمق بما لا يقارن. لكن ما يُراد الإشارة إليه هنا هو مسألة كيفية التعامل مع الهويات الفرعية وهو تعامل يجب أن لا يحكمه التوتر والقهر ومحاولة التهميش.

الهوية الحجازية لم تكن صدامية

ووفقاً لكتاب (أشراف الحجاز) الصادر عن مركز المقدسات للنشر - بيروت 2006 - للباحث على أبو الخير، فإن ما يشير إليه كتاب مى يمانى من ظواهر وسياسيات لمحو (الحجازية) من الفضاء السعودي، وبفرض أن ما تشير إليه يحدث فعلاً على أرض الواقع، لا يمكن بحال أن يخدم الهوية الوطنية العامة.

فما الفائدة من محاولة تغيير اسم الحجاز إلى (المنطقة الغربية) سوى إثارة (النعرة الحجازية)؟ وماذا يخدم تفادي استخدام اللفظ بحد ذاته في وصف بعض العادات أو أنواع الأكل أو اللباس، فلا يُقال مثلاً هذا الطعام حجازي أو هذه العادة حجازية؟ لكن، لم يؤد ذلك، كما تشير يماني، إلا إلى عودة الهوية الحجازية بشكل أكثر ترسخاً.

وتحاول الكاتبة إثبات ذلك في الفصول التي خصصتها لتقاليد الزواج، وتقاليد الموت والدفن، وتقاليد اللباس، وتقاليد الطعام، وسائر تفاصيل الحياة الاجتماعية.

إضافة لذلك فهي تنظر باهتمام وانتباه إلى دور العوائل الحجازية في الحفاظ على الهوية الحجازية وتعبيراتها المختلفة، بدءاً بالأسماء التي تطلق على المواليد الجدد وحتى أساليب دفن الموتى. والعوائل تلك تتوزع على أكثر من فئة، فمنهم فئة الأشراف أي السادة الهاشميين، وفئة المطوفين، وفئة العلماء، وفئة التجار.

إن الحكم السعودي تعامل مع الحجازيين بإنصاف بادئ الأمر، ذاك أن الحجاز في منشأ الدولة السعودية الحديثة كان مستودع الخبرات الإدارية والاقتصادية مقابل خلو نجد والصحراء من أية معرفة حقيقية بالعصر الحديث.

لكن مع مرور الزمن واتساع التعليم وبروز أجيال (نجدية) مدربة في العقود الأخيرة تمت عملية إزاحة تدريجية للحجازيين بما كرس من شعورهم بالخصوصية والتميز (والتمييز ضدهم أيضاً).

مع ذلك لا تنكر الدراسات الحديثة أن كثيراً من الحجازيين قد أثروا بشكل كبير واستفادوا، كما غيرهم، من عوائد النفط، وأن ما لحق ببعضهم من ترد في الأحوال الاقتصادية منذ النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي يعود في غالبه إلى تراجع عوائد النفط التي أثرت على البلد بشكل عام، ولم يكونوا وحدهم ممن تأثر سلباً بذلك. لكن شبه المساواة الاقتصادية تغيب في ميدان النفوذ السياسي.

هنا ترى تلك الدراسات ومنها دراسة مي اليمانى أن الحجازيين كما غيرهم من غير النجديين، أو حتى من غير الدائرة الضيقة من آل سعود، يعانون من حرمان من المناصب السياسية وتمييز مجحف بحقهم حتى وإن امتازوا بقدرات عالية وكان من بينهم كفاءات رفيعة المستوى.

* لكن ثمة سؤال يظل من دون إجابة له علاقة ببقية مناطق السعودية، مثل عسير والإحساء في المنطقة الشرقية. هل تعاني هذه المناطق أيضاً من أزمة هوية محلية وتشعر بالغبن الذي يشعر به الحجاز كما هو موصوف في فصول العديد من الدراسات المهتمة بالسعودية؟ ليس ثمة تعريج ولو خفيف على تلك المناطق وهذا السؤال بما يترك القارئ من دون إطار عام للمسألة التي يطرحها كتاب اليمانى – على سبيل المثال ـ وتقييم إلى أي مدى منطبقة على البلد بشكل عام بما يقرر مستوى أهميتها أو خطرها ـ أو حتى المبالغة في وصفها.

إضافة إلى هذا السؤال المركزي ثمة سؤال آخر ومعالجة تحليلية على مستوى مختلف متعلقة بتقدير المشروع التوحيدي السعودي نفسه وأهميته، بعيداً عن الرأي في نظام حكم آل سعود.

فهنا، وفي إطار عربي وإقليمي موسع، يبدو مشروع ابن سعود في توحيد الجزيرة العربية، أو الجزء الأكبر منها، مشروعاً متميزاً قطع الطريق على نشوء دويلات إضافية إلى جانب الدويلات التي نشأت على هوامش الجزيرة العربية في وقت لاحق.

صحيح أن كتاب يماني يقع في ضمن الأدبيات الأنثروبولوجية والهوياتية أكثر وليس كتاباً في التاريخ السياسي, لكن ذلك لا يعذره لتغييبه الإطار الأوسع والذي يقابل عمليه التوحيد بالثمن الذي من الممكن أن تدفعه المناطق المتوحدة، ولو قسراً، خاصة وإن كان ذلك الثمن لا يصل لما دفعته جمهوريات آسيا الوسطي زمن الاتحاد السوفيتي ولا دول ومجتمعات البلقان زمن الاتحاد اليوغسلافي.

خلاصة ما تريد الكاتبة السعودية قوله أن الحجاز يتميز عن باقي مناطق المملكة لأنه بالإضافة إلى كونه مهد الإسلام فهو ملتقى المسلمين من كل بلاد العالم. لذلك لابد من عودة دوره لحماية المقدسات والإشراف عليها مرة آخرى بعد أن استلبه الفكر المتطرف.

ان الدعوة لأهمية دور العلماء الحجازيين فى إعادة الاعتبار لسلاح المقدسات إشرافاً ورعاية، وذلك لمنزلة هذه المنطقة بناسها وعلماءها فى تاريخ الإسلام، إن دور خطباء المساجد والمثقفين الإسلاميين هام، خاصة عندما نعلم تاريخ هذه المنطقة ومنزلتها الكبيرة، فى هذا السياق دعونا نواصل ما ورده كتاب (أشراف الحجاز) للباحث على أبو الخير، والذى يقول أن نقطة التحول الأساسية في تاريخ مملكة الحجاز، تمت في أيلول (سبتمبر) 1932عندما أعلن عبد العزيز آل سعود دمج مملكة الحجاز في مملكته النجدية على الرغم من انه كان قد أعلن في خطاب ألقاه في مكة عن رغبته في إبقاء نوع من الاستقلالية للإشراف الحجازيين وللعلماء والتجار الحجازيين وللهيكلية الإدارية في الحجاز. ومع مرور الزمن، اضمحلت هذه الهيكلية الحجازية الإدارية وأصبحت تحت هيمنة الطغمة النجدية.

رفعت سيد أحمد

وأدت سيطرة آل سعود على الحجاز بالقوة العسكرية إلى نشوء حركات معارضة لدى سكان الحجاز فبعد سقوط جدة بأيدي النجديين تقول الكاتبة مى يمانى فى كتابها (الحجاز والسعى نحو هوية عربية)، تأسست جبهة حماية الحجاز في مصر، كما تأسس حزب التحرير الحجازي الذي يدعو إلى نشوء دولة مستقلة في الحجاز. وقد منع الملك عبد العزيز بن سعود نشاطات أي حزب سياسي في الحجاز وأمر باعتقال أعضائه وهذا الموقف ما زال متبعاً من جانب السلطات الأمنية السعودية حالياً.

وتشير يماني إلى أن الحجازيين كانوا ينظرون إلى أنفسهم (وينظر الناس إليهم) وكأنهم شعب مختار وخصوصاً بسبب روابطهم القوية مع الأماكن الإسلامية المقدسة (مكة والمدينة تقعان في الحجاز) كما أن الحجازيين كانوا منفتحين على العالم ويملكون أجهزة إدارية متطورة نسبيا بالإضافة إلى هوية حضارية خاصة تشمل تقاليد وعادات تنظم شتى أمور الحياة والموت. وقد حاولت مملكة آل سعود النجدية، حسب يماني، القضاء على هذه الهوية الحضارية والعادات المرتبطة بها وأدى ذلك التهميش إلى محاولة الحجازيين تثبيت هويتهم عن طريق التعلق بعاداتهم وتقاليدهم وصاروا يميلون إلى تقوية علاقاتهم بالدول العربية والإسلامية المجاورة على حساب علاقاتهم بالمجموعات النجدية السعودية.

وأدى التطور الاقتصادي السريع في المملكة العربية السعودية بين 1950 و1980، حسب يماني، إلى انفتاح اكبر لمنطقة الحجاز إزاء باقي العالم وإزاء الأفكار والفرص التعليمية والتجارية فيه.

أما الآن، تقول يماني بحسرة، فقد تحولت منطقة الحجاز إلى كيان لا هوية له، وقد أزيلت هويتها رغماً عنها من خارطة المملكة العربية السعودية وصارت تسمى الاقليم الغربي؛ وإذا سئل حجازي يسكن في المدن عما يعنيه الحجاز حالياً فإنه سيجيب: الطائف، مكة، جدة والمدينة. أما الحجازي الذي ينتمي إلى القبائل فانه يعرف نفسه بقبيلته أولاً وبحجازيته ثانياً.

وتشير يماني إلى أن الحجازيين يخشون تزويج بناتهم إلى النجديين بسبب ميل النجديين إلى التعامل مع الزوجة والزواج بطريقة مختلفة عن طريقة الحجازيين. فالحجازيون يحترمون دور المرأة على شتى الاصعدة، وخصوصا في العائلات الشريفة ولا يحبذون كثرة الزوجات. وتشير يماني إلى أن تركيز الحجازيين على ممارسة تقاليدهم، كما كانوا يفعلون سابقاً، يؤكد رغبتهم في العودة إلى استقلاليتهم كما كان الوضع خلال الحكم الهاشمي للحجاز وقبل تعرضهم للغزو من جانب آل سعود.

وتؤكد يماني أن عائلة آل الشيخ النجدية وهي من سلالة محمد بن عبد الوهاب الذي أسس الحركة الوهابية وشارك مع الملك عبد العزيز في تأسيس الدولة السعودية، هي الآمر الناهي في الشؤون الدينية في المملكة العربية السعودية حاليا. وتشير المؤلفة إلى انزعاج الحجازيين، وخصوصا النخبة منهم، من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والدينية التي يمارسها آل سعود (مصاهرو السديريين) وآل الشيخ والمجموعات النجدية على حياتهم.

ويميل الحجازيون في المقابل، بحسب رأيها، إلى الرغبة في تقوية علاقاتهم بالشعوب العربية والإسلامية المجاورة، وخصوصا في مصر وسورية واليمن والأردن، و إلى التفاعل مع هذه الشعوب لأن عائلات الإشراف الحجازيين التي يبلغ عددها حوالي الـ 52 فهناك بعض منها يعتبر أنه من سلالة النبي محمد وقبيلة (قريش) شأنهم شأن الهاشميين.

ويضخ الحجازيون الإشراف، حسب يماني، الكثير من أموالهم في جمعيات خيرية تابعة لهم أصبحت ضخمة الحجم والتمويل وزادت في ضخامتها ونفوذها الجمعيات التابعة لآل سعود. وتؤكد يماني أن السلبية إزاء الوجود العسكري الأجنبي على الأراضي السعودية خلال حرب تحرير الكويت في عام 1991، أتى إلى درجة أكبر من القبائل و العوائل النجدية والمجموعات الوهابية المنبثقة منها، فيما كان موقف الحجازيين أكثر واقعية، أي كما كان في الماضي أكثر ايجابية إزاء التعامل مع المسلمين الآخرين، السعوديين وغير السعوديين، والمذاهب الإسلامية المختلفة وغير المسلمين.

وتحاول وزارة الداخلية السعودية، حسب يماني، منع انعقاد المجالس الحجازية التي يتم فيها بحث الأمور العامة، والتي تنعقد في العادة أسبوعيا، وقد تلقى (حسب يماني) بعض الحجازيين تهديدات هاتفية أو عبر الرسائل من هذه الوزارة بالنسبة إلى عقد مثل هذه المجالس. وكان التركيز في هذه التهديدات على كونها تنعقد بشكل مستمر وفي أماكن محددة ذات معنى حضاري وعلى فحوى المواضيع التي تبحث.

وتؤكد يماني أن الطبقة التجارية الحجازية كانت في مطلع القرن الماضي أكثر خبرة في التجارة مع باقي دول العالم وامتلكت قدرة في اللغات والاتصالات، وكان وضعها المالي أفضل بكثير من وضع النخبات النجدية، وقد اكتسبت المزيد من الخبرات والمقام الاجتماعي خلال الحكم الهاشمي للحجاز. أما بعد الخمسينيات، فقد تبدل وضع المجموعة التجارية الحجازية وانحدر نحو الأسوأ وانقرضت بعض الوظائف والمؤسسات التي كان الحجازيون يعتزون بها خلال الحكم الهاشمي وخلال الحكم العثماني.

وتحدثت المؤلفة عن وظائف المطوفين بين الحجازيين الذين كانوا يقودون الحجاج إلى أماكن العبادة ويهتمون بأمورهم خلال الحج، وكيف استولت الوزارات السعودية عليها وانتزعتها منهم، واعتبرتها الكاتبة مثلا على تغلغل النفوذ السعودي وقضائه على الهوية الحجازية الاجتماعية والاقتصادية. وأشارت من خلال ذلك إلى استيلاء الدولة السعودية على جميع الموارد المادية الأخرى التي كان الحجازيون وقادتهم يحصلون عليها من مداخيل الحج.

الحجازيون يحمون مقدسات المسلمين

ما ذكرت أن رجال الدين الحجازيين كانوا من خريجي الأزهر في مصر وكانوا يرتبطون بمدارس الفقه الشافعية والحنفية والمالكية. أما علماء نجد الوهابيون فيتبعون المذهب الحنبلي ويفرضونه على باقي المذاهب الفكرية فرضاً وعلى المسلمين الآخرين. وأشارت إلى أن النساء الحجازيات كن على معرفة وثيقة بالقرآن وبالدين، وكن يتناقشن في شؤون الفقه مع العلماء وهو أمر لم يكن موجوداً أبدا لدى النساء النجديات.

وتؤكد يماني مرة أخرى أن رغبة الملك عبد العزيز بن سعود (مؤسس الدولة) في إعطاء الحجازيين ورجال دينهم بعض الاستقلالية في عام 1942 تم التخلي عنها فيما بعد، على الرغم من أن ابنه الملك فيصل بن عبد العزيز بذل جهدا في مجال محاولة تفهم الحاجات الحجازية. والمشكلة حسب مي بدأت عندما تسلم الملك خالد (عام1975) ومن بعده الملك فهد (أي السديريون) الحكم في البلاد وأعادوا سلطة تكاد تكون مطلقة للوهابيين ولممثليهم من آل الشيخ في القطاع الديني في البلاد.

وفي تفسير معمق لتأثير حرب الخليج الأولى في عام 1991 على الوضع الديني والسياسي في المملكة العربية السعودية، تؤكد يماني أن صعود التصلب الإسلامي اتخذ توجهاً خاصا لدى الفئات الوهابية الجديدة وقد قاد إحدى هذه الفئات الشيخان سفر الحولي وسلمان العودة وساهما في انطلاق ما سمي انتفاضة بريدة في عام 1995 حيث تظاهر ما يوازي 10 آلاف شخص ضد السياسات الاميركية والوجود الاميركي العسكري في السعودية وانتقدوا الفساد لدى آل سعود.

وقد ألقت السلطات السعودية القبض على قادة هذه الانتفاضة ثم أفرجت عنهم في عام 1998. وبعد ذلك قررت فتح المجال أمام جهات أخرى مقربة من الدولة لطرح القضايا التي طرحتها هذه المجموعات. وهذا الأمر، حسب يماني، زاد في قوة موقع آل الشيخ ونفوذهم في الدولة، إذ وفروا المزيد من الدعم الديني لمواقف الدولة السعودية السياسية ووثقوا العلاقة بين الوهابيين وآل سعود بدفاعهم عن الأمة الإسلامية ولكن هذا الأمر أدى إلى تعزيز دور وزارة الشؤون الإسلامية وجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي بالفعل شرطة المطاوعة وزاد من عمليات القمع التي مارسها على المواطنين، كما دعم هذا التوجه العلماء المسلمون المتخرجون من الجامعات السعودية الدينية، وتخلت الدولة السعودية عن الرغبة في التعاون مع العلماء الحجازيين وتحولت أكثر فأكثر نحو العلماء الوهابيين وأعادت إنشاء منصب المفتي الاكبر بعد حرب الخليج متيحة المجال لبعض الفتاوى التي تناسبها وفاتحة الباب أمام الوهابيين لمحاربة ما يسمونه البدع في الإسلام وحملات التطهير المرتبطة بها ضد أي تفسير للإسلام يتناقض مع تفسيرها أو ضد الشيعة والصوفيين .

على أية حال يمكن القول أن هناك ضرورة أن تجري الدولة السعودية الحالية حواراً جدياً مع الحجازيين والمعارضين والفئات الأخرى في المجتمع السعودي لان الحوار الذي يجريه الملك السعودي عبد الله لا يعتبر حواراً لأنه يملي آراءه على الذين يتحاور معهم وينتظر منهم أن يبدلوا مواقفهم وإذا لم يندموا واستمروا في مطالبتهم بالتعددية والديمقراطية فان بعضا منهم يزج به في السجن، و هذا الموقف نابع من النفوذ الكبير لوزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز على شؤون الدولة ومجموعة السبعة اخوة من السديريين الذين لا يرغبون في أي تبديل في الأوضاع ويفضلون استمرار ممارسة القمع ضد السعوديين الذين يختلفون معهم.

لقد دعا بعض المعارضين السعوديين وبينهم حجازيون إلى الإصلاح في السعودية وأخذوا مطالبهم وقدموها إلى الملك عبد الله، واستمع إليهم وأملى عليهم موقفه وتوقع أن يندموا ويتوبوا، والذين لم يتراجعوا عن مواقفهم ألقي بهم في السجن، وبعد ذلك طرحت فكرة الحوار الوطني بين الفئات الدينية المختلفة ولكن السلطة الدينية التابعة للدولة لم تعطِ هذا الحوار أي شرعية واستمرت في شن الهجومات ضد الحجازيين لأنهم يمارسون طقوسا يحتفلون خلالها بعيد المولد النبوي، وصدرت 31 فتوى من رجال دين وهابيين يحرمون فيها هذه الممارسات ويهاجمون الحجازيين الذين يتمسكون بممارستها واتهمهم المطاوعة بالكفر حتى أنهم لحقوا بهم إلى القبور في بعض المناسبات لمراقبة عمليات الدفن والمراسم المتبعة هناك.

ان هذه الطريقة في التعامل مع الفئات الدينية والاجتماعية المختلفة غير مقبولة في أي عرف والتعامل السيئ مع الحجازيين ما هو إلا مثل على التعامل القمعي مع الفئات السعودية الأخرى.

* وبعد ..

ان جوهر ما نطالب به فى هذه المقالات هو ضرورة إعادة الحجاز للحجازيين أى أهمية عودة العلماء من الأشراف وآل البيت، ومن غير الموظفين لدى السلطات السعودية ضرورة عودتهم لرعاية موسمى الحج والعمرة والإشراف على المقدسات الحجازية (مكة والمدينة) وبما يتطلبه هذا من امتلاكهم لحق الافتاء وحق إبداء الرأى المستقل فى قضايا الأمة، بعيداً عن التشدد الذى يسود الآن تلك الفتاوى بفعل الفكر السلفى المتطرف، إننا نطالب بأن يتولى أمره هذه الأماكن المقدسة علماء من كافة المذاهب الإسلامية المقدرة والمعترف بها (من السنة والشيعة وغيرهم) وبعدم انفراد فريق من المتخلفين عقلياً وعقائدياً بأمرة الرعاية والافتاء فى مقدسات المسلمين، من عينة ابن جبرين وقبله ابن باز، إننا نطالب بإعادة الاعتبار لـ (مكة) وكل الحجاز كرمز لأمة الإسلام وليس لفريق من الناس، كما هو الحال اليوم فمن لهذه الدعوة؟.

صحيفة الوطن الاسبوعية ـ كاليفورنيا

الصفحة السابقة