الأَسْبِلَة والسّقايات في الحجاز

صلاح حمودي

كان بالمدينة المنورة ومكة المكرمة عدد كبير من الأسبلة والسقّايات، أنشأها السلاطين والملوك والأمراء من حكام المسلمين، وغيرهم من الخيّرين من عامة المسلمين في أرجاء الدول الإسلامية المختلفة، خدمة لحجاج بيت الله الحرام وزوار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأسبلة: جمع سبيل؛ ويعرّف السبيل لغوياً بأنه الطريق، وما وضح منه. وكل سبيل اريد به الله سبحانه وتعالى، وهو برّ، فهو داخل في سبيل الله. وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سُلك به طريق التقرّب الى الله تعالى، بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات. والسبيل منشأة مائية أقيمت لتزويد عابري السبيل بمياه الشرب. وبالرغم من أن لفظ السبيل ارتبط بالعديد من أوجه النشاطات الخيرية، مثل المصاحف المُسبلة (ويقال لها اليوم: وقف)، والتوابيت المُسبلة، والسواقي المُسبلة، إلا أن الأبنية التي خصصت لتوفير المياه العذبة لينتفع بها في سقي الناس كل يوم وعلى مدار العام كله، تُعدّ الأبنية الخيرية الوحيدة التي ظل لفظ السبيل ملتصقاً بها، حتى طغى على ما عداه من مصطلحات اُخر. أما السقاية، فقد جاء في تعريفها ما يلي: السّقاء يكون للبن وللماء، والجمع القليل أسقية وأسقيات، والكثير أساق، وسقاية الماء معروفة. والسقاية: موضع السقي. وسقاية الحاج: سقيهم الماء ينبذ فيه الزبيب، وكانت من مآثر قريش.

بئر زمزم، قديماً، أول سقاية في تاريخ مكة

تُعتبر الأسبلة والسقايات مظهراً بارزاً من مظاهر اهتمام المسلمين وعنايتهم بتوفير المياه بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والمشاعر المقدسة. ويعود ذلك الإهتمام بتوفير المياه لسقاية الحاج بمكة المكرمة، لعصور ما قبل الإسلام؛ واستمر عبر العصور التاريخية المختلفة، منذ بداية الدعوة الإسلامية وحتى نهاية الدولة العثمانية، وقيام المملكة السعودية. أما المدينة المنورة فقد ارتبط ظهور الأسبلة والسقايات فيها ببداية التاريخ الإسلامي.

الأسبلة والسقايات بمكة المكرمة

في مكة المكرمة، أصبحت بئر زمزم، منذ أن فجرها الله تعالى لإسماعيل وأمه عليهما السلام، بجوار الكعبة الشريفة، أول سقاية انتفع بها حجاج بيت الله الحرام. وظلت زمزم تؤدي ذلك الدور، الى أن طُمرت، إما غضباً من الله تعالى بسبب بغي جرهم، ولاة الحرم في ذلك الوقت، وأفعالهم، أو بفعل بعض عوامل الطبيعة، كالسيول وغيرها، عبر العصور. وظلت كذلك الى أن بوّأ الله سبحانه وتعالى لعبد المطلب بن هاشم، جدّ النبي صلى الله عليه وسلم، مكانها، فحفرها وأظهر ماءها.

استمر حق سقاية الحاج في يد بني عبدالمطلب يتوارثونه. وعند فتح مكة المكرمة سنة 8هـ/ 629م، ثبّت الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ذلك، وأقرّ عليها عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. ثم تولى أمر السقاية من بعده ابنه عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما. وكان ابن عباس أول من اهتم بنزح ماء بئر زمزم وتنظيفها. ثم توالى الإهتمام بتلك السقاية في العصر العباسي، كما سيأتي ذكره.

العصر الأموي

شهد العصر الأموي ظهور عدة منشآت لتوفير المياه بمكة المكرمة. من ذلك ما عُرف بعيون الخليفة معاوية بن أبي سفيان العشر، وكان لكل عين منها مشرعة. كذلك كانت هناك عدة آبار وبرك بمكة المكرمة في ذلك العصر، منها بئر عكرمة، وبئر الشركاء، وبئر الياقوتة، وبئر عمر، وبئر الصلاصل، وبئر التجار، وبركة الثقبة. وبالرغم من أن هذه المنشآت تندرج تحت مفهوم الآبار والبرك، إلا أن الهدف منها كان توفير مياه الشرب في المشاعر المقدسة؛ فهي تُعتبر مقدمة لظهور السقايات في ذلك العصر.

ومن محاولات الخلفاء الأمويين لإنشاء سقاية تضاهي سقاية العباس ما ذكره الأزرقي، وتتلخص روايته في أن الخليفة سليمان بن عبدالملك بن مروان (96 ـ 101هـ/ 714 ـ 719م) كتب الى عامله على مكة المكرمة آنذاك خالد بن عبدالله القسري: أن أجر لي عيناً تخرج من الثقبة (وهي المتن الشرقي لجبل ثُبير)، من مائها العذب الزلال، حتى يظهر بين زمزم والركن الأسود. فعمل خالد بن عبدالله تلك البركة بحجارة منقوشة طوال، وأحكمها، وأنبط ماءها في ذلك الموضع، ثم شقّ من هذه البركة عيناً تجري الى المسجد الحرام، فأجراها في قصب من رصاص حتى أظهرها من فوارة تسكب في فسقية من رخام بين زمزم والركن والمقام. فلما أن جرت، وظهر ماؤها، أمر القسري بجزر، فنُحرت بمكة، وقسّمت بين الناس. وعمل طعاماً، فدعا إليه الناس. ثم أمر صائحاً، فصاح: الصلاة جامعة. ثم أمر بالمنبر فوضع في وجه الكعبة، فصعد وخاطب الناس قائلاً: أيها الناس، احمدوا الله وادعو لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء العذب الزلال النقاح بعد الماء الملح الأجاج، الماء الذي لا يُشرب إلا صبراً (يعني زمزم). فكان الناس لا يقفون على تلك الفسقية، ولا يكاد أحد يأتيها، وكانوا على شرب ماء زمزم أرغب ما كانوا فيها. فلم تزل تلك البركة على حالها، حتى قدم داود بن علي بن عبدالله ابن عباس أميراً على مكة المكرمة، حين أفضت الخلافة الى العباسيين؛ فكان أول ما فعله أن هدمها ورفع الفسقية وكسرها، وصرف العين الى بركة كانت بباب المسجد، فسرّ الناس بذلك سروراً عظيماً.

العصر العباسي

كانت بداية اهتمام أسرة العباس بسقايته في عهد الخليفة سليمان بن عبدالملك، عندما أقام سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس قبة في الموضع الذي كان يجلس فيه عبدالله بن عباس رضي الله عنه عند بئر زمزم.

وفي عهد الخلافة العباسية، ازداد إهتمام الخلفاء العباسيين بسقاية العباس، فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بفرش أرض مبنى زمزم بالرخام، كما عُمل لها شبك، وجددت قبتها. وفي عهد الخليفة العباسي المهدي ابن المنصور، تم تجديد أبنية البئر وزيد في حفرها، وشهد عهد الخلفاء العباسيين، هارون الرشيد، وأبناءه محمد الأمين، والمعتصم بالله، والواثق بالله، تجديد ابنية سقاية العباس.

وكان ما تم في عهد الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (158 ـ 169هـ/ 775 ـ 785م) لعمارة سقاية العباس، من أميز ما أنجز لتلك السقاية في العصر العباسي. وقد ذكر الفاكهي الصفة التي أصبحت عليها زمزم وحجرتها وحوضها نتيجة لعمارة المهدي لها فقال: (وذرع وجه حجرة زمزم الذي يلي بابها، وهو مما يلي المسعى، إثنا عشر ذراعاً، وتسعة عشر إصبعاً. وذرع الشق الذي يلي المقام عشرة أذرع واثنتا عشرة اصبعاً. وذرع الشق الذي يلي الوادي والصفا ثلاثة عشر ذراعاً وثلاث أصابع. وذرع طول حجرة زمزم من خارج في السماء خمسة أذرع، من ذلك الحجارة ذراعان واثنتا عشرة إصبعاً، عليها الرخام، والساج ذراعان واثنتا عشرة إصبعاً. ويدور في وسط الجدار حوض في جوانب زمزم كلها، طول الحوض في السماء تسع عشرة اصبعاً، وعرضه ثماني عشرة إصبعاً، وطول الجدر من داخل ذراعان، والجدر داخله وخارجه، وبطن الحوض وجدرانه ملبس رخاماً. وعرض الجدر ذراع وأربع أصابع. وعلى الجدر حجرة ساج، من ذلك سقف على الحوض طوله في السماء عشرون إصبعاً. وتحت السقف ستة وثلاثون طاقاً، كانت فيما مضى يؤخذ منها الماء من الحوض، ويتوضأ منها، طول كل طاق عشرون اصبعاً، وعرضه أربع عشرة إصبعاً، منها في الوجه الذي يلي المقام اثنتا عشرة، وفي الوجه الذي يلي الوادي إثنا عشر طاقاً، وحجرة الساج مشبكة).

الحرم المكي من الداخل (1879م)، توضح موقع السقاية وبئر زمزم

بقيت السقاية على هذه الحال حتى عهد الخليفة المعتصم بالله (218 ـ 227هـ/ 833 ـ 841م) عندما كتب الى عمر بن فرج الرّخجي في عمارة المسجد الحرام، فكان مما عمل قبة زمزم، فجعل عليها الفسيفساء، واصبح ذرع سعة باب حجرة زمزم في السماء ثلاثة أذرع، وعرض الباب ذراعان، وهو ساج مشبك. وبطن حجرة زمزم مفروش برخام حول البئر. ومن حد البئر الى عتبة باب الحجرة أربعة أذرع واثنتا عشرة إصبعاً. وذرع تدوير رأس البئر من خارج خمسة عشر ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً، وتدويرها من داخل إثنا عشر ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً. وعلى الحجرة أربع أساطين ساج عليها ملبن ساج مربع فيه إثنتا عشرة بكرة يسقى عليها الماء. وقد كان في حد مؤخر زمزم، الذي يلي الوادي كنيسة ساج يكون فيها قيّم زمزم، يقال: إنها مجلس ابن عباس رضي الله عنه، وفوق الملبن قبة ساج عليها قبة خارجها أخضر، ثم غُيرت بفسيفساء وداخلها أصفر.

وفي عهد الخليفة الواثق بالله (227 ـ 232هـ/ 841 ـ 846م) تم هدم جميع ذلك وأعيد بناؤه سنة 229هـ/ 843م. فقد ذكر النجم بن فهد أن عمر بن فرج الرخجي هدم بيت الشراب، وهو صفة زمزم، وبنى اسفله بحجارة بيض منقوشة مداخله على عمل الأجنحة الرومية، وبنى أعلاه بآجر، وألبسه رخاماً، وجعل بينه كوى عليها شباك من حديد وابواب ملبسة وفوق الكُنيسة ثلاث قباب صغار، وألبس ذلك كله بالفسيفساء، وجعل في بطنها حوضاً كبيراً من ساج. وفي بطن الحوض حوض من أدم ينبذ فيه الشراب (شراب الزبيب) للحاج أيام الموسم.

العصور اللاحقة

منذ ذلك الوقت وحتى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، لا تتوافر معلومات عما جرى من إعمار لتلك السقاية. وقد ذكر المؤرخ الفاسي وصفاً لسقاية العباس جاء فيه: صفة هذه السقاية الآن بيت مربع في أعلاه قبة كبيرة ساترة لجميعه. والقبّة من آجر معقود بالنورة، وفي أسفل جدرانها، خلا الجنوبي شبابيك من حديد تشرف على المسجد الحرام، في كل جهة شباكان من حديد. وفي جانبها الشمالي من خارجها حوضان من رخام مفردان، وباب السقاية بينهما. وفي هذا البيت بركة تملأ من بئر زمزم يسكب الماء من البئر في خشبة طويلة على صفة الميزاب، متصلة بالجدار الشرقي من حجرة زمزم. ويجري الماء منها الى الجدار المشار إليه، ثم الى قناة تحت الأرض حتى يخرج الى البركة من فوارة في وسطها. وأحدث وقت عُمّرت فيه هذه القبة سنة 807هـ/ 1404م، وسبب عمارتها في تلك السنة أن القبة التي كانت في سقف هذه السقاية أكلت الأرضة بعض الخشب الذي كان فيها، فسقطت.

توالى الإهتمام بسقاية العباس على يد بعض الخلفاء المسلمين، وغيرهم من السلاطين. من ذلك ما ذكره ابن جبير عن أحد الأثرياء من ملوك الأعاجم، وما قام به من تجديد لبناء بئر زمزم. أما في العهد العثماني، فقد اهتم بعض خلفائه بسقاية العباس، وقاموا بترميمها، وإعادة بنائها في أوقات مختلفة من حكمهم.

في سنة 1288هـ/ 1871م، على عهد السلطان العثماني عبدالحميد خان، تم هدم قبة سقاية العباس، لأنها كانت تحجب الرؤية عن الكعبة الشريفة. وفي عهده أيضاً صدر الأمر بهدم سقاية العباس، فهدمت في يوم الجمعة 12 صفر سنة 1300هـ/ 23 ديسمبر 1882م.

وإلى جانب سقاية العباس، كانت بمكة المكرمة عدة سقايات واسبلة. تحدث الفاكهي عنها بقوله: (بمكة في فجاجها وشعابها، من باب المسجد الحرام الى منى ونواحيها، ومسجد التنعيم، نحو من مائة سقاية، منها لأبي أحمد الموفق بالله ثلاث سقايات في ظهر جبل العيرة، ومنها سقايتان لابن أبي الشوارب، ومنها سقاية للحارث بن عيسى أبي غانم، ومنها لأبي سهل محمد بن أحمد سقايتان. ومنها سقاية للسلطان عند مسجد الشجرة، وأخرى عند مسجد عائشة [رضي الله عنها] بالتنعيم. وسائر ذلك للغرباء ولغيرهم من أهل مكة).

أما الفاسي فقد قال عن تلك السقايات: (بمكة وحرمها عدّة سقايات، وتسمى أيضاً السُبل، جمع سبيل، وشهرتها عند الناس بالسبل أكثر. وهي كثيرة إلا أن بعضها صار لا يعرف لخرابه، وبعضها معروف مع الخراب، وكان بمكة سقايات أكثر مما ذكرنا بكثير).

من السقايات التي أنشئت في حوالي منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، في أثناء الخلافة العباسية، السقاية التي بناها بغا الكبير، مولى أمير المؤمنين الخليفة العباسي الواثق بالله، عند البئر التي أعاد حفرها بشعب أبي دب؛ وهو الشعب الذي كان في الجزّارون، ويسمى اليوم (دحلة الجن) وقد غمره العمران يمنة ويسرة، وهو يشرف على مسجد الجن.

في سنة 302هـ/ 914م، أمر الخليفة العباسي المقتدر بالله (295-320هـ/ 908 ـ 932م) ووالدته شغب، بعمارة سبيل الجوخي. وفي سنة 605هـ/ 1208م، عمّر الملك مظفر الدين، صاحب مدينة اربل، سبيلاً بجوار المسجد الحرام، عند باب بازان. وفي سنة 620هـ/ 1223م عمّر الزنجبيلي سبيلاً نُسب إليه. وهذا السبيل كان بأسفل مكة المكرمة مما يلي التنعيم؛ وكان يقال له (سبيل أبي راشد) لتجديده له سنة 788هـ/ 1386م، ويقال له (سبيل المكين) لتجديده له أيضاً سنة 808هـ/ 1405م. وهي عمارة تجديد، لأن الزنجبيلي توفي قبل ذلك بسبع وثلاثين سنة.

وفي سنة 647هـ/ 1249م، أوقف أبو أحمد عطية بن ظهيرة ابن مرزوق المخزومي سبيلين: أحدهما بأعلى مكة، والآخر بمنى عند الجمرة الوسطى، وجعل الصرف عليهما من وقف له بمزرعة بالجموم.

من الأسبلة التي أنشئت في العصر المملوكي، السبيل الذي أنشأه الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون سنة 759هـ، أو سنة 760هـ/ 1357م، أو 1358م، وذلك بالقرب من باب إبراهيم، أحد أبواب المسجد الحرام الغربية. وكذلك قامت أخته زهراء بنت محمد بن قلاوون بعمارة سبيل بطريق منى عرف بـ (سبيل الست) ويعرف أيضاً بـ (سبيل ابن مزنة). وفي سنة 765/ 1363م انشأت أم الحسين بنت قاضي مكة شهاب الدين الطبري سبيلاً بالمسعى.

سبيل في منطقة المعابدة بمكة

من الأسبلة التي أنشأها أمير مكة عجلان بن رميثة بن أبي نمي (ت 777هـ/ 1375م) سبيل بالمروة. كما شهد أواخر القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي إنشاء مجموعة من الأسبلة بمكة ومنى لعدد من كبار رجال الدولة وفاعلي الخير. من ذلك سبيلان لعطية المطيبيز، كان احدهما بالمروة. وسبيل لكل من: قاسم الزنكي، وابن بعلجد، والقائد سعد الدين جبروة، وابن صنداد، والمعلم عبدالرحمن ابن عقبة المكي، وبنت القاضي عبدالرحمن بن عقبة المكي، والملك المنصور صاحب اليمن، والعفيف الهبي سفير الملك الأشرف صاحب اليمن.

في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، أنشئت مجموعة من الأسبلة؛ منها سبيل أم سليمان المتصوفة، وآخر لعمر الشهاب ركوت المكين. كما أنشأ أمير مكة المكرمة، الشريف حسن بن عجلان، سبيلين: أحدهما بمنى، والآخر برباطه بأعلى مكة المكرمة. وللقاضي زين الدين عبدالباسط، ناظر الجيوش المنصورة، سبيل بالمعلاة.

وفي سنة 817هـ/ 1414م أُنشيء سبيل بالقرب من بئر زمزم نسب الى الملك المؤيد صاحب مصر. وعقب ذلك بسنتين، أنشأ الأمير الحجازي سبيلين بالمعلاة. أحدهما لنفسه، والآخر للقاضي عبدالباسط. وفي سنة 847هـ/ 1443م، أنشئت بمنى ثلاثة أسبلة: أحدها لعبد الغني القباني وشريكه محمد ابن عبدالغني، المعروف بـ (ابن كرسون)، والثاني للتاجر عبدالكريم بن محمد بن أحمد الجدّي، والثالث لفرج الشرابي.

وفي سنة 849هـ/ 1445م، أنشأ شهاب الدين أحمد العاقل سبيلاً ببيت بناه بسوق الجمال بمنى. كما أنشأ موسى بن عبدالسلام الزمزمي سبيلاً بالقرب من سبيل الست بمنى. وفي سنة 850هـ/ 1446م، تم إنشاء سبيلين بمنى: أحدهما في بيت بدر الدين الظاهر، والآخر ببيت أبي بكر الشجري. وفي سنة 854هـ/ 1450م، عمّر بيرم خجا، ناظر المسجد الحرام، سبيلاً بالمعلاة. وفي سنة 874هـ/ 1469م، في عهد السلطان الأشرف قايتباي، تم بناء سبيل ملاصق لمسجد الخيف بمنى. وكان ذلك السبيل من أفخم الأبنية التي عرفتها منطقة منى. وقد قال العز بن فهد عن هذا السبيل: إنه (كان ملاصقاً للمسجد على يمين الداخل من باب المسجد، بواجهة مبنية من الرخام الأصفر المنحوت المحكم العمل، تحته صهريج كبير برسم الماء. وعُمل بالسبيل المذكور طاقات من الرخام، يتناول من الطقات المذكورة الماء المعد للشرب. وبالسبيل أربعة شبابيك كبار من جهاته الأربع. ومفروشة أرض السبيل المذكور بالرخام الأصفر، وبه بيارة يُستقى منها الماء من الصهريج المذكور على حوضه. وبالسبيل المذكور خزانة حاصل لآلات السبيل. وللسبيل بابان، أحدهما من الطريق والآخر من داخل المسجد. واستُجد صهريج خارج المسجد، وبني دبل (اي جدول) كبير له، محكم مبني بالنورة، يتوصل منه الماء الى الصهريج القديم الذي بداخل المسجد).

بعد عشر سنوات من ذلك، سنة 884هـ/ 1479م، أمر السلطان قايتباي أيضاً ببناء سبيل بالمسعى. وكان أمامه الى جهة القبلة بالمسعى سبيل قيم للقاضي شهاب الدين الطبري، على يمين الذاهب الى المروة، هدمه بمشورة المهندس الذي بنى سبيله، بعلة انه قديم، وهدمه يؤدي الى ظهور عمارة السبيل الجديد.

تميزت الأسبلة في الحجاز بخصائص معمارية تتمثل في مظهر واجهاتها، وتكوينها الداخلي. فبالنسبة للواجهات، فقد كانت على ثلاثة طرز كالآتي:

1/ السبيل ذو الواجهة الواحدة، ويمثله سبيل المدرسة الباسطية بمكة المكرمة.

2/ السبيل ذو الواجهتين، ويوجد في سبيل المدرسة الباسطية بالمدينة المنورة، وسبيل مدرسة قايتباي بمكة المكرمة.

3/ السبيل ذو الأربع الواجهات. وهذا الطراز موجود في الحجاز فقط، ومثاله الوحيد سبيل مسجد الخيف بمكة المكرمة.

أما التكوين الداخلي للسبيل، كما فصّله الحارثي، فيتكون من حجرة التسبيل، وغالباً ما تكون مستطيلة الشكل، ويلحق بها في بعض الأحيان إيوان صغير أو حاصل، لحفظ أدوات السبيل. وتتكون حجرة السبيل من عناصر أساسية هي:

ـ شبابيك التسبيل وهي: الفتحات التي تصل من خلالها أيدي المارة الى كيزان الماء للشرب.

ـ أحواض التسبيل: وهي التي توضع فيها المياه لسقاية المارة، وتعرف في الحجاز بـ (الطاقات).

ـ الشاذروان: يدل على الستارة المنقوشة، وهو عبارة عن دخلة توجد في صدر الجدار الخالي من الشبابيك بالسبيل.

ـ الصهريج: وهو الجزء السفلي من السبيل، ويُحفر في باطن الأرض، ويُبنى بالآجر والخافقي، وهي مادة تمنع تسرب المياه.

أما توفير المياه للصهاريج، فكان يتم في الحجاز عن طريق وسيلتين: بماء المطر المتساقط على سطخ الحرم، أو عن طريق الآبار التي تُحفر بالقرب منه. وبما أن الغرض من السبيل هو توفير الماء للمارة، فقد كان منشؤه غالباً يُوقف عليه عقاراً، أو أراضي زراعية، حتى يتسنّى الصرف منها عليه، وتوفير ما يحتاجه من أفراد للعمل به، وأدوات، ككيزان الشرب، وأدوات التنظيف وغير ذلك.

تنوعت أحجام واشكال الأسبل من مكان الى آخر. فهناك السبيل البسيط الذي يتمثل بقطعة من نحوته من الحجر والمثبّت داخل جدار المنزل بجوار المدخل الرئيسي له، وهي عادة اشترك في تنفيذها معظم سكان المدينة المنورة بشكل عام، وخاصة بالنسبة لسكان المباني التي تقع عند مداخل الأحواش، أو مفترق الأزقة، أو المطلّة على الساحات العامة. ويسمى هذا النوع من الأسبلة بـ (الأسبلة المتصلة) وذلك لاتصالها بالمباني.

وهناك أيضاً أنواع أخرى من الأسبلة وهي الأسبلة المنفصلة. وتتميز هذه الأسبلة بعمارتها وبنائها المستقل. وينتشر هذا النوع من الأسبلة في الغالب خارج السور الأول للمدينة المنورة، ومن أشهرها: سبيل آل هاشم بمنطقة العنبرية، وسبيل وادي العقيق، وسبيل السلطانية الأول. وتُقام هذه الأسبلة في الغالب بجوار الآبار أو يتم استحداث بئر بجوارها كسبيل آل هاشم مثلاً، وذلك لتزويدها بالماء.

العصر العثماني

قام العثمانيون في أثناء حكمهم للحجاز بتجديد كثير من الأسبلة التي أنشئت من قبل عهدهم، كما أنهم أنشأوا أسبلة جديدة. ففي سنة 1046هـ/ 1636م، قام السلطان العثماني مراد خان بتعمير وإصلاح مجموعة من الأسبلة بمكة المكرمة. وقد كلف بتلك المهمة قاضي مكة المكرمة محمد أفندي المعروف ببندر زاده، واعانه على تنفيذ تلك المهمة الشريف زيد بن محسن بن الحسن، أمير مكة المكرمة آنذاك.

سبيل قديم ملحق بأحد المباني بحارة الأغوات بالمدينة المنورة

أما الأسبلة الجديدة التي أُنشئت في العهد العثماني، فقد ذكر علي الطبري عدداً منها. من ذلك سبيلان أنشئا في عهد السلطان سليمان القانوني (926هـ ـ 974هـ/ 1520م ـ 1566م) أحدهما بجوار سور باب المعلاة، والآخر بالقرب من المروة. كذلك أنشيء سبيل في نهاية سوق المعلاة على يسار الخارج منه الى الأبطح، وسبيل على يمين الصاعد الى الأبطح.

وفي عهد السلطان سليم الثاني، قام الوزير سنان باشا بإنشاء سبيل بالتنعيم، أجرى إليه الماء من بئر بعيدة بواسطة قناة مبنية بينهما بالجص والنورة، وعيّن لذلك خادماً ينقل الماء من البئر ويصبه في القناة. وقامت والدة ولي العهد محمد ابن السلطان مراد ببناء سبيل بطريق العمرة. كما أمر السلطان مراد الثالث أحد خدمه، ويدعى مصطفى جاويش، ببناء سبيل على يسار الخارج من باب الصفا، فتم بناؤه في سنة 995هـ/ 1586م. وفي عهد السلطان محمود خان الثاني (1223 ـ 1255هـ/ 1808 ـ 1839م) أُنشيء سبيل في شمال مكة المكرمة، بقرب مسجد كان مجاوراً لقبر السيدة ميمونة [رضي الله عنها] زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي عهد السلطان عبد المجيد، في سنة 1260هـ/ 1844م، تم إعادة بناء الأسبل الواقعة قرب مسجد العمرة، على حدود حرم مكة المكرمة من الجهة الشمالية. كما تم ترميم الأسبلة الواقعة بالصفا.

واهتمت لجنة عين زبيدة، بعد تاسيسها عام 1295هـ/ 1878م بإنشاء مجموعة من الأسبلة في جميع أحياء مكة المكرمة، من أشهرها سبيل (علي باشا)، والد أمير مكة المكرمة آنذاك. وكان آخر الأسبلة التي أنشئت في العصر العثماني سبيل (البز). وقد أشار نقش وجد على واجهته، الى أن الملك عبدالعزيز أمر بتجديد هذا السبيل في سنة 1363هـ/ 1943م.

وأمر الملك عبدالعزيز في سنة 1361هـ/ 1942م بإنشاء ثلاثة أسبلة في مواقع متفرقة من الطريق بين مكة وجدة، وهي: سبيل أم القرون، وسبيل حداء، وسبيل بئر المقتلة. وقد ذكر أيضاً أن الملك أمر في العام التالي بإنشاء سبيل المعابدة، الكائن أمام مبنى أمانة العاصمة المقدسة بمكة المكرمة. كما أمر بتجديد سبيل بئر أم الجود الذي يرجع تاريخ إنشائه الى أواخر العصر العثماني.

والأسبلة التي أمر الملك عبدالعزيز بإنشائها أو تجديدها داخل المسجد الحرام ثلاثة: الأول بجوار حجرة الأغوات من الجهة الجنوبية لمبنى بئر زمزم. وقد نفذ بأسفل واجهته نص تأسيسي داخل منطقة مستطيلة الشكل، أفقية الوضع، نقش فيها بخط ثلث (أنشأ هذ السبيل الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أدام الله توفيقه سنة 1345هـ). والثاني كان بجوار الأول، ويماثله في الحجم والشكل والزخرفة، فيما عدا النص الكتابي الذي أشير فيه الى تجديد هذا السبيل في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أدام الله توفيقه سنة 1345هـ. أما السبيل الثالث فقد كان يلاصق بئر زمزم على يسار الداخل إليه من الجهة الشرقية. وقد تم تجديد عمارته عام 1346هـ/ 1927.

والى جانب ما أنشأه سلاطين العثمانيين فقد قام بعض الأمراء ومجموعة من فاعلي الخير من المسلمين ببناء عدد من الأسبلة. من ذلك: سبيل يعرف بسبيل الخاصّكية، بجوار مبنى بئر زمزم، وسبيل للأغوات، وسبيل برباط الخاصّكية، وسبيل للخواجا شمس الدين بن الزمن، وسبيل لكاتم السر، وسبيل للآغا بهرام، وسبيل للشريف أبي نمي، وغيرها.

لم يتبق من أسبلة العصر العثماني غير سبيلين هما: السبيل الذي يقع عند نهاية حدود حرم مكة المكرمة من الناحية الغربية وسبيل البئر.

الأسبلة والسقايات بالمدينة المنورة

فيما يتعلق بالأسبلة والسقايات في المدينة المنورة، وتحديداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نقل ابن النجار والمرجاني والسمهودي عن ابن زبالة قوله: (كان في صحن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة سقاية الى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة 199هـ، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة، وهي أول من أحدث ذلك. ومنها ثلاث سقايات ليزيد البربري، مولى أمير المؤمنين المهدي بن المنصور. ومنها سقاية لأبي البختري وهب بن وهب، الذي كان أميراً على المدينة المنورة في أثناء خلافة هارون الرشيد، ومنها سقاية لشجن (أو سحر) أم ولد هارون الرشيد أمير المؤمنين، وسقاية لسلسبيل، أم ولد جعفر بن أبي جعفر. وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه).

وذكر السمهودي أنه كان بالمسجد النبوي الشريف بركة كبيرة مبنية بالآجر والجض والخشب، ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها، يأتي من العين ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج، وبقية السنة تكون فارغة، عملها (أي تلك السقاية) بعض أمراء الشام واسمه شامة (او أسامة) وفق رواية السمهودي. وعملت الجهة أم الخليفة العباسي الناصر لدين الله، في مؤخر المسجد، سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئراً وفتحت لها باباً الى المسجد في الحائط الذي يلي الشام، وهي تفتح في أيام الموسم أيضاً. وكان بناء تلك السقاية قد تم في سنة 590هـ/ 1193م. وقال عنها السمهودي: (وليس في شمالي المسجد اليوم باب إلا باب سقاية عمرتها ام الإمام الناصر لدين الله العباسي).

فسّر السمهودي قول ابن زبالة السابق على النحو التالي: (الذي يظهر من كلام ابن زبالة أنه أراد بالسقايات ما يجعل لأجل الشرب، وظاهر ما ذكره ابن النجار: أن المراد بذلك ما يعمل للوضوء. وذكره لما عملته أم الخليفة الناصر لدين الله صريح في ذلك. فإنه يعني بذلك: الميضأة التي بابها في حائط المسجد الشامي، وكان لها باب آخر من خارج، سدّ قديماً وهو ظاهر فيما يلي المسجد من المغرب. وقوله: (فيها عدة بيوت)، أي: عدد الأخيلة التي بها. وقوله: (فأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه) الظاهر أنه يريد السقاية التي كانت للشرب بوسط المسجد).

ويمضي السمهودي في روايته قائلاً: (أما البركة التي ذكرها ابن النجار، فإنها مذكورة في كلام المطري، واقتضى كلامه نسبتها لابن أبي الهيجاء؛ فإنه ذكر أن ابن ابي الهيجاء، في حدود 560هـ/ 1164م، أمد منها شعبة وأوصلها الى الرحبة التي عند المسجد من جهة باب السلام، يعني: سوق المدينة اليوم. وكان قد جعل منها شعبة صغيرة تدخل الى صحن المسجد، وجعل لها منهلاً بدرج عليه عقدٌ يخرج الماء إليه من فوارة يتوضأ منها من يحتاج اليه. فحصل بذلك انتهاك حرمة المسجد الشريف من كشف العورات والإستنجاء في المسجد، فسدّت لذلك). وأضاف السمهودي الى ذلك قوله: (وقد رأيت آثار درجها في غربي النخيل التي بصحن المسجد قريباً منها. وليس بالمسجد اليوم شيء من السقايات إلا ما يُحمل إليه من الدوارق المسبّلة فيشربها الناس في أوقات مخصوصة. إلا أن خزانة الخدام لا يزال بها ماء لأجل شربهم).

سبيل عادلة سلطانة في المدينة المنورة

تحدث ابن فرحون أيضاً، وتبعه السمهودي، عن سقاية كانت في وسط المسجد يحمل اليها الماء من العين، بناها شيخ الخدام في ذلك الوقت، أي شيخ خدام المسجد النبوي الشريف، وأوقف عليها أوقافاً من ماله. وكانت متقدمة على النخل، تقديرها خمسة عشر ذراعاً في مثلها. وجعل في وسطها مصرفاً للماء مرخّماً، ونصب فيها مواجير للماء وأزياراً ودوارق وأكواباً وحجرها بالخشب والحديد وجعل لها غلقاً من حديد. واستمرت السنين العديدة فكثر الشر فيها والتزاحم عندها، وصار يدخلها من يتوضأ فيها، وربما يزيل عنه فيها الأذى من استقرب المدى. ثم تعدّى الحال في شرها الى أن تضورب عليها بالسلاح، وطلب الخدام شريفاً أساء الى أهل الحرم، فسلّ سيفه على الناس، وغُلّقت الأبواب، واحتمى بالسكين حتى جاءت رسل الأمير فأخرجوه، وذلك كله بسبب السقاية ومن فيها. فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها، أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي والشيخ ظهير الدين.

كان هناك أيضاً العديد من الأسبلة الواقعة خارج ساحة المسجد النبوي الشريف. ويرجّح أن معظمها تم بناؤه في العهد العثماني من بعض السلاطين والأمراء وفاعلي الخير. وهذه الأسبلة، كما جاء ذكرها في (رسائل تاريخ المدينة) على النحو التالي:

سبيل المناخة باشرع العينية عند بيت أحمد بك أميرآلاي. وسبيل عن بيت جعفر الكاتب. وهناك سبيل عند مسجد المصلى، ينسب لسليم بك الماينجي. وقرب المسجد النبوي الشريف، عند بيت إمام المسجد، كان يوجد سبيل.

ومن تلك الأسبلة ايضاً: سبيل قراقول الخالدية (أي سجن الخالدية) وسبيل باب المصري، وسبيل قراقول باب الصغير. وفي بيت السر ايلية، عند مسكن ذي النون آغا، كان يوجد سبيل. وهناك سبيل بيت الخليفي، وسبيل آخر داخل المدينة عند وكالة الشريف الشدقمي بن شاهين. أما سبيل عادلة سلطان، بنت السلطان محمود خان، فقد كان عند باب الشامي، وبجانب ذلك السبيل باب الحارة الجديدة المعروفة بـ (السلطانية).

وفي حارة الخرّازين كان هناك سبيل في بيت البرهان، مسكن مفتي الأحناف. وآخر عند باب السلام تحت الموقتخانة. وسبيل آخر في ماكان يعرف بـ (ديار العشرة). وبجوار بيت إمام مسجد الجمعة، عند بئر أريس، عند رباط العجم كان السبيل المعروف بسبيل الشهيد نور الدين؛ وهو نور الدين زنكي، حاكم الدولة الزنكية المعروف.

ومن الأسبلة التي كانت خارج المسجد النبوي الشريف أيضاً: سبيل عند باب الرحمة، وسبيل عند باب الجمعة، وسبيل بجوار زاوية السمان، وسبيل سنان باشا، والي مصر في عهد السلطان سليم الثاني، كان يقع الى جانب القنطرة المعروفة بـ (كوبري سنان باشا). وكان من وراء ذلك السبيل بركة كبيرة عميقة تملأ من العين الزرقاء في أيام ازدحام الحجاج، وتسمى ببركة المصري.

كذلك كان هناك سبيل داود باشا، والي مصر في المدة بين 954 ـ 956هـ/ 1538 ـ 1549م، وكان هذا السبيل يقع شرق مشهد النفس الزكية، محمد بن عبدالله بن الحسن العلوي، بمنزلة الحاج الشامي قديماً.

سبيل آخر يسمى سبيل السيدة فاطمة، لبعض الملوك، وكان عند باب المصري. وكان لذلك السبيل وقف يأتيه من مصر في كل عام. ومن الأسبلة التي كانت بعيدة نسبياً عن المسجد النبوي الشريف، سبيل كانت فيه بركه لميراد (أي مورد) حيوانات الحج الشامي، والحج العقيلي في الموسم. وهذا السبيل من مسقفات الحرم، وكان في عهدة شيخ الخطباء أحمد أسعد أفندي، وكيل فراشة السلطان.

إن كثيراً من الأسبلة التي تم إنشاؤها في العصر العثماني، سواء داخل المسجد النبوي الشريف او بالقرب من أبوابه، لم يعد لها وجود في العهد المتأخر من حكم العثمانيين. فبعض الرحالة الذين زاروا المدينة المنورة في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، مثل أوليا جلبي، لم يذكر منها غير عدد قليل، من ذلك ثلاثة أماكن كانت داخل القلعة بها صنابير مياه ينزل اليها بحوالي عشرين او ثلاثين درجة من درجات السلالم الحجرية، وتصلها المياه من عين الزرقاء التي تصل الى المدينة، وهي من خيرات السلطان سليمان. كذلك خارج باب المصري كان هناك سبيل الآغا، وهو من الأسبلة التي شاهدها الرحالة التركي أوليا جلبي في الربع الأخير من القرن 11هـ/ 17م. وعلى ناصية كبدي (خاصكي سلطان) كان هناك سبيل آغادار السعادة، كما ذكر جلبي أن بضاحية المدينة التي تقع قبالة القلعة كان هناك سبيل ماء ملحق بكل خان أو مدرسة، وتجلب مياهها من ماء (عين الزرقاء).

البرزنجي الذي ألف كتابه عن المدينة المنورة في نهاية القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، ذكر أيضاً عدداً قليلاً من الأسبلة. من ذلك الحنفية التي أنشأها السلطان عبد المجيد خان بجوار باب الرحمة، قبل عمارته للمسجد النبوي الشريف، والسبيل الذي يقابلها وقد بناه السلطان أحمد خان.

يتضح مما ذكر أن عدد الأسبلة التي كانت بالمدينة المنورة، أقل من تلك التي كانت في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وكان عدد منها موجوداً داخل المسجد النبوي الشريف، أو بالقرب منه، ثم أزيلت في أوقات لاحقة.

الصفحة السابقة